04 ديسمبر 2009

بعض عيوبها: تمام التلاوي


مِنْ بينِ مَنْ أحببتُهُنَّ اخترتُ رِقَّتَها لأنساهُنَّ.
أجملُ ما بضحكتِها السنونو.
كلّما ليلاً هَمَتْ أمطارُهُنَّ على خدودي,
شرّدَتْني الذكرياتُ وهدّدَتْ رأسي الوساوسُ,
فالْتجأتُ لبابِها..




بعضُ عُيوبِها

تمام التلاوي


إنْ قلتُ: وردَ منالَ,
أعني أنّ شاعرةً بعُمرِ الوردِ
تسكنُ في طريقِ الوردِ
ملءَ الطابقِ الورديِّ مِنْ قلبي,
وأعني أنَّ ماءَ الوردِ قَطْرُ دموعِها ما إنْ تراني واقفاً في بابِها.
هيَ بينَ مَنْ أحببتُهُنَّ طريقتي في الموتِ حُبّاً كلّما أسْلَمتُ روحي مرّةً بسريرِها.
وهيَ التي إنْ قلتُ: ليلَ منالَ, أعني أنني خبّأتُ وجهي في ضَفَائرِها.
وإنْ قلتُ: اكتمالَ منالَ,
أعني أنَّ نَحّاتاً تألَّمَ عندما مرّتْ مصادفةً,
ورسّاماً تعذّبَ عندما الْتفتَتْ مصادفةً,
وأعني شاعراً كسَرَ المحابرَ بعدَ قامتِها.

تعرّتْ مرّةً..
فعلمتُ كمْ كذبتْ عليّ الأخرياتُ بشأنِ تأريخِ الأنوثةِ.
واستحمَّتْ مرّةً..
فرأيتُ كيفَ الماءُ يصبحُ خمْرةً, وشربتُ حتّى مَنْ رآني ظَنَّ أنّي ثعلبٌ بيْنَ الكرومِ.
ومرّةً وقفَتْ بنافذةِ الصباحِ لكيْ تجفِّفَ شعرَها بالضوءِ,
فازدحمتْ شُموسٌ لا تُعَدُّ أمامَها, وتصادمتْ في الأفْقِ آلافُ الكواكبِ..
صدّقوني لا أبالغُ, فالبلاغةُ ليس تبلُغُها,
ولكنّي أقولُ وحسبُ
بعضَ عُيوبِها.

عُشّاقُها هُمْ مَنْ رأوها,
ربّما مِنْ أجْلِ ذا خبّأتُها عنْ والدي.

مِنْ بينِ مَنْ أحببتُهُنَّ اخترتُ رِقَّتَها لأنساهُنَّ.
أجملُ ما بضحكتِها السنونو.
كلّما ليلاً هَمَتْ أمطارُهُنَّ على خدودي,
شرّدَتْني الذكرياتُ وهدّدَتْ رأسي الوساوسُ,
فالْتجأتُ لبابِها..
كمْ أدخلتْني بعدما طالَ الضياعُ,
ودفَّأتْني عندما اشتدَّ الشتاءُ,
وأطعمَتْني بينما عُشّاقُها حولي جِيَاعٌ.

لا انتظارَ لها
سوى إصغائِها بينَ المرايا لارتطامِ حُطامِ روحي فوقَ عتْبَتِها,
وتعلمُ أنّني إنْ جئتُ لا أشكو اشتياقاتي لرِقَّتِها
ولكنْ قسوةَ الطرقاتِ أشكو..

واقفاً في بابِها هذا المساءَ
أُعيدُ توزيعَ النِّصَالِ على جراحاتي
ليكتسبَ الأنينُ أناقةَ الجنرالِ بعدَ النصرِ,
لكنْ كلّما هِيَ مرَّرَتْ يدَها على قلبي
تُحِسُّ بنُدبةٍ أخرى
فأزدادُ انكساراً..

ليسَ ما بيني وبينَ منالَ مِنْ سِرٍّ إذنْ
إلاّ الذي أفْضَتْ إليهِ قُبلتي الأولى على فمِها.
أعودُ لبابِها وأدُقُّ لهفتَها بدمعي كلّما خذلتْنِيَ امرأةٌ..
أُبرِّرُ رعشتي بالبرْدِ,
والبَللَ الذي يعلو القصائدَ بالمطرْ,
وإذا أرادتْ أنْ أُفسِّرَ حُمرَةً تعلو قميصي,
قلتُ: رُمَّانٌ,
فإنْ هِيَ صدَّقَتْ ما قلتُ,
كذَّبَني الشّجرْ.

الآنَ كيفَ –بربِّ هذا الليلِ- أشرحُ هذهِ الحُمّى؟
"دقَقتُ البابَ حتى" سبَّني الجيرانُ واتَّفقَتْ على تِيهي الشوارعُ.
بعدُ لمْ أسمعْ خُطاها
أوْ أنينَ المقبضِ السّكرانِ في يدِها النبيذِ.
وقيلَ لي: رحلَتْ,
وقيلَ: تزوّجَتْ..
ولمَحتُ نجماتٍ تضاءَلَ ضوءُها
ورسائلَ احترقَتْ.. وجدراناً بكَتْ.

مِنْ بينِ مَنْ أحببتُهُنَّ
اخترتُ وردَكِ
كيْ أُعِيدَ إلى فرَاديسِ القصيدةِ
ما المعاني بدَّدَتْهُ مِنَ الحنينِ.
فأينَ غيَّبَكِ الغيَابُ
وما الذي قطَعَ الطريقَ على الأغاني والوتَرْ؟.
لاشيءَ
–قالَ الوردُ-
أخَّرَني المطرْ..


* اللوحة للفنانة تغريد البقشي

22 نوفمبر 2009

تصحيح خطأ الموت/ دعد حداد

مكتنزة سمراء
بثوب كثوب ملكات الغجر
في أول خيوط الفجر الشتوي
ثقيل
وعاتم
بلون الرصاص
ممزوجا بالوجوه الحجرية
هبطت من الدرج اللولبي
بثقل الأربعين
حزناً
وحزناً
رفعت يدها السمراء من الكم الأسود
أحدهم يتأمل الخاتم الملون في إصبعها الأسمر المكتنز.
وضعت موسيقى في علبة الموسيقى
لكن الموسيقى.. لم تأت
هزتها قليلاً
شجرة الموسيقى الزئبقية
ابتسم الحضور
وعلق أحدهم بطراوة
مكتنزة سمراء
تهبط الآن درجا لولبيا آخر
في عيون المزروعين بموائد مزينة بقطع الحوت
المشوية والموءودة
تتوسل مرة ثانية بنقود
كي تسير الآلة
كي تصدح الموسيقى
والسعادة.
وحيدة هي هذه اللحظة
أكثر من أي وقت.
والموسيقى لا تأتي
صعدت الدرج اللولبي
وأنّ الخشب تحت قدميها الثقيلين
بإباء الملكات الوحيدات
شدت قامتها
كجذع شجرة مقطوع
ورفعت رأسها نحو السقف الأبيض بلطف
وابتسمت.
ثم..
غابت
في غرفة ستائرها قرمزية
وهواؤها بلون الرصاص
الذي خضب قلبها الطفلي
مخترقا الستائر الحمراء
وثقب أول خيوط الفجر الغجري
ملوحا بمنديل عرسها المبلل
وهي تنتظر..
في ساعات الغجر
تصحيح خطأ الموت

19 نوفمبر 2009

اطلاق الترجمة الأولى لـ ريتسوس من اليونانية الى العربية في متحف كافافيس

في متحف كافافيس بالاسكندرية أقامت الجمعية اليونانية في الاسكندرية اليوم الخميس 19-11- 2009 احتفالية بمناسبة مرور مائة عام على ولادة ريتسوس، حضرها جمهور سكندري من عرب ويونان مقيمين في الاسكندرية ممن غص بهم بيت كافافيس.


الاحتفالية قدمها مانولي مارانغوليس رئيس الجمعية اليونانية بالاسكندرية وتضمنت كلمة للشاعر المصري رفعت سلام تحدث فيها عن تأثر بعض الشعراء العرب بريتسوس؛ ثم تلا ذلك قراءة من أشعار ريتسوس التي ترجمها رفعت سلام من الانكليزية قرأها كل من الشعراء سامي اسماعيل ومنتصرعبد الموجود ثم قراءة لبعض قصائد سلام المترجمة الى اليونانية تلاها قراءة تلك القصائد بالعربية من الشاعر نفسه.

بعد ذلك قدم رئيس الجمعية اليونانية الترجمة الجديدة لريتسوس الصادرة عن دار جدار بعنوان « جيران العالم » والتي قام بها المترجم خالد رؤوف مشيراً إلى أنها الترجمة الأولى لريتسوس من اليونانية الى العربية مباشرة ومخاطباً الحضور أن هذه الترجمة صدرت اليوم. وقدم المترجم الذي قرأ مقدمة ترجمته متحدثا فيها عن منهجه في الترجمة؛ الذي توخى فيه أن يكون مخلصاً لأفكار ومعاني الشاعر، محاولاً نقل اسلوبية ريتسوس نفسها؛ في الكتابة الشعرية، الى العربية متوخياً أن تولّد استجابة مشابهة في ذهن قارئ النص المُترجَم لتلك الموجودة في ذهن القارئ من اللغة الأصلية.

منهيا كلمته بتقديم ناشر جدار خلف علي الخلف الذي تحدث بإيجاز عن الترجمة شاكرا المترجم بقصيدة ريتسوس «كلمة شكر».

قرأ بعدها اثنان من المشاركين (عربية – ويوناني سكندري) مقتطفات من قصيدة روميوسيني باليونانية، وأكمل قرائتها مانولي مارانغوليس؛ بعد ذلك تناوب على قرائتها بالعربية الشاعر خلف علي الخلف والمترجم خالد رؤوف من ترجمته الصادرة حديثا. ثم قرأت سيدتان يونانيتان قصيدة المراثي باليونانية وقرأتها أميمية عبد الشافي وايمان عبد الحميد بالعربية من ترجمة خالد رؤوف.

وفي ختام الاحتفالية استمع الحضور الى صوت ريتسوس يقرأ قصائد من شعره. واختتمت الاحتفالية يتوقيع المترجم خالد روؤف على نسخ من كتابه الجديد

13 نوفمبر 2009

خالد.. خسارة الايام


ميَّزته تلك الضحكة التي كان يصر عليها في كتاباته، لسعة من حس ساخر، صادمة وخادعة، تضحكك والمفترض بها أن تبكيك؛ محملاً بتلك الروح جاء كتابه الأخير «هارب من الإعراب»، وأظنه من أجود ما كتب، بدأه بإهداء وفي إلى أستاذه وصديقه سعيد تقي الدين، ومقال عنه ألقاه في احتفالية بمرور مئة عام على ميلاد سعيد ألقاه في جمعية متخرجي الجامعة الأميركية يختم المقال بقوله: «واليوم أقول لكم.. مازلت ناطراً سعيد».. وحسبي أنهما يلتقيان الآن روحان ترويان المقالب؛ سعيد بالبروتيل والشحاطة والسيجارة، وخالد القطمة خلف مكتبه في دار سعاد الصباح، وعلى بابه علقت تلك اليافطة، «أنا أكتب إذن أنا موجود». كان يعلم بأن مكانه كمدير عام دار سعاد الصباح لا يفي بطاقته وقدراته الصحافية، لذلك عاد بعد توقف طويل لغوايتها، وصار يكتب افتتاحية جريدة النهار، ومن تابعها تلك الفترة، يلمس نباهة حسه الصحفي، ومتابعته التي لم تفتر، وأدواته التي امتلكها بمهارة الحواة.. وذلك لأنه في الحقيقة لم يتوقف عن الكتابة في الشأن العام يوماً، كان يقول لي إن مقالات بأكملها، حول مواضيع الساعة، وكل ما يقلقه يكتبه ذهنياً من الحرف الأول حتى نقطة السطر الأخير قبل أن ينام.. ولكنه نادرا ما ينشر.
ومن موقعه خلف المكتب، كما عرفته أول مرة، بقي خالد شيخاً للصحافيين ومآلهم، يزورونه، ويعقدون عنده جلساتهم، ويأخذون بمشورته، ويطلبون مساعدته.. ولا يتهرب إلا من ثقلاء الظل، فهم كما يقول ناقلو عدوى، ورأس الحكمة توخّي الحذر..! وكي يبقيني بقربه كصديقة كان عليّ أن أتفهم مزاجه أولاً، والأهم أن أستوعب قفشاته الطائرة..
عام كامل مضى على رحيل خالد القطمة. قرر بهدوء أن يدير ظهره لصور معلقة على حائط مكتبه، تروي سيرة أيامه الحافلة بالحزب والسياسة ومعارك الشباب ومغامراته وأصدقائه الذين رحلوا، والذين بقوا. نبهه الطبيب ليخفف وزنه، ولاحقته زوجته نور بملاحظاتها الصحية، فكان يطلب من محمد طبق الخس، ويوفر لبعض الوقت فقط، أنفاس السيجارة.. ثم يشعلها.. فقد أتم بربع ساعة كاملة نضاله ضدها، لم يكن مريضاً مطيعاً، تماماً كما لم يكن طالباً مسالماً في الجامعة الأميركية في بيروت، فقد دخل السجن بتهمة انتمائه الحزبي للقوميين السوريين، هواه الدائم حتى آخر أيام حياته.. كان وافر الحيوية، ضاجاً بالحياة حتى وهو يقاوم الشيخوخة والمرض.. وجل ما ظهر عليه من اختلاف، ميله للصمت، ولم يكن كذلك!
لم أجرؤ على زيارة مقر دار سعاد الصباح بعد وفاته، الغياب يفزعني، إلى أن مررت قبل أسابيع، وندمت.. الموت لا يورثنا إلا الحزن الذي يستيقظ بكامله دون أن نحسب حسبته، غرفته مازالت خالية وكأنها بانتظاره.. وسمعت صوته مرحباً.. قلت له: كن سعيدا حيث أنت. بالنسبة لي سيكون من الصعب ملء مكانه، ليس لأنه مختلف فحسب، بل لأنه ما من أحد يشبهه..

11 نوفمبر 2009

سأذهب الى أرض أخرى( خلف علي الخلف)

إلى كافافيس



كلُّ من يحدق في البعيد.. سيبحث عن مدينة أخرى. الإسكندرية لم تعد كما تركتها، بحرها الآن عجوز مصاب بالزهايمر، لم يعد قادراً على استقبال المراكب، بل لم يعد قادراً على تذكر أيامه حتى. لم يعد أحد يبحر من الإسكندرية يا كافافي، ولم تعد روحها تتجول في الطرقات بشعرها الطويل وبناطيلها الضيقة.. لقد سكنت العشوائيات، وعلى الدوام تلبس القفازات كي لا تصافح أحداً ..


المدينة التي نسيت البحر وأدارت وجهها للصحراء منذ وقت طويل؛ لم يعد على شواطئها نساء يغسلن بشرتهن بالضوء القادم من الأقاصي. ليلها يأتي باكراً لينام بحذائه على بسط مهترئة.. لقد خدعتنا يا كافافي؛ غررت بنا، فجئنا متلمسين خطاك.. لم نجد بحرا ولا سراويل معلقة على الشرفات.. ولم نجد أثراً لك في المدينة.!جئنا لنصافح أيامك ونبني على أطرافها بيتاً تسكنه الريح، جئنا نبحث عن مدينة أخرى مسكونين بحلم إيثاكا.. وجدنا أياما ميتة، في المساءات نجلس على حافة قبورها نتسلى بالنظر اليها وهي تمضي.


المدينة التي أصبحت باردة اكثر من قدرة جسد عار على التحمل؛ المدينة التي لم تعد تزورنا في ليلها الأحلام ؛المدينة التي لم تعد انثى؛


لن ندع الشيخوخة تدركنا فيها منتظرين البرابرة.









28 أكتوبر 2009

ستبقى القبل خرساء







لا تؤمن بنسوية الأدب وتصدر روايتها بعد قرن
سوزان خواتمي: ستبقى القبل خرساء

حوار: محمد هشام المغربي
جريدة القبس

منذ أن اقترفت الكتابة ذنباً شهياً كانت بدايتها، تلك الصبية الحلبية، أن فازت عام 1993 بجائزة سعاد الصباح عن «رسالة إلى شهيد»، و عام 2002 حصلت على جائزة البتاني في الرقة للقصة القصيرة. والحكايات نهر يسيل.

• أسميت مدونتك «شبابيك الغربة»، صفي لنا المشهد من شباك غربتك؟
ـــ من مدونتي أطل على نفسي المشتتة في المكان، إنها حالة من التعبير الحر، أو طريقة آمنة للقفز في الهواء، أقتل بها حالة الانتظار الحادة حين يعصف الحنين.. هي شبابيك لتواصل متبادل: أشخبط ، أحكي ، ألعب، أبكي ، وأحتفظ بحالات قلقي داخل ذاكرة الشبكة العنكبوتية ،مثل لقطات فوتوغرافية لغربتي .. المدونة بشكل عام حالة فريدة من الحرية، بعيداً عن أي سلطة.

• هل حقا قلت. «كل شيء عن الحب»؟
ـــ ما من عاقل يستطيع أن يقول كل شيء عن أي شيء، إلا المدّعي..! أحاول أن أحيط بملامح الحب، فما بين لحظتي الولادة والموت هناك فرصة لأن يعيش بنا الحب ونعيشه، وأقصد هنا فهمي للحب كطاقة على العطاء، وفي قصة «كل شيء عن الحب» التي تحمل المجموعة اسمها، أعبر عن أقصى حالات الحب، كما أرصدها من وجهة نظري، والحقيقة أني تعمدت اختيار هذا العنوان الملتبس المغري جداً والمنفر جداً، وقد صحّ توقعي، فالبعض اشترى الكتاب لأنه أراد أن يعرف كل شيء عن الحب ، والبعض امتنع عن شرائه للسبب المعاكس، فهناك من ينظر إلى الحب باعتباره عيباً، فكيف إن كان كل شيء عنه!
• يقال إن هذا العصر عصر الرواية ــ طبعا في مقابل الشعر ــ فما موقع القصة القصيرة في نظرك؟
ـــ بالنسبة إليّ ككائن يتعلق بالأشياء والأشخاص والأماكن، تعلقت بهذا الفن الجميل، فالعشرة بيننا طويلة وتمتد إلى أربع مجموعات قصصية.. القصة القصيرة لماحة، سريعة الإيقاع، مختزلة في المشاعر، عميقة في التأثير، وأيضاً متعددة الدلالات على رغم قصرها بما لايتعدى القليل من الصفحات ، وهو أمر حيوي لمن يهوى التلميح عن التصريح، والمواربة عن اليقين، ليستطيع أن يصل إلى معناه الخاص كقارئ .. إضافة إلى أنها تناسب إيقاع الحياة السريع، ليس بالنسبة إلى القارئ (المستعجل) فحسب، بل إلى الكاتب أيضاً، وأعترف بأني منذ سنة كاملة مضت أدرجت فكرة كتابة الرواية ضمن برامجي المستقبلية، ويبدو أن سنيناً أخرى ستمضي قبل أن تتحول إلى أوراق جاهزة للنشر، وعلى هذا الأساس، تخيل ــ على سبيل المثال ــ كم سأحتاج من العمر لأنشر روايتين أو أكثر قليلاً..!

• كيف ترين المشهد السردي في الكويت بمستوييه الروائي والقصصي خصوصا في ظل ظهور الجيل الجديد؟
ــ أنا من أشد المعجبات بالجيل الجديد الذي ظهر أخيرا ضمن المشهد الثقافي الكويتي، إنه جيل متميز وواع، وإن كنت آخذ عليه بعض الانتقادات والملاحظات، متمنية عليه أن لايضيق الخناق على أنفاسه، وينفتح على كل التجارب، ويوسع نطاق المنافسة الإيجابية، فلا يكتفي بإنجازه الداخلي الضيق.. ولا يحول المنافسة الشريفة إلى عداء لايفيد أحداً.. وأخيراً ألا يقتله الغرور فكلنا يعرف أنه مقبرة العظماء..

• هل القصاصة أو الروائية الكويتية تؤدي دورها والتزامها تجاه قضاياها الخاصة في نظرك؟
ــ لا أظن أن الكاتبة ــ الأنثى في أي مكان من عالمنا العربي استطاعت أن تعبر عن نفسها بالحرية المرجوة، إما تحرجاً من المواضيع المطروحة أو تخوفاً من النتائج. الكتابة وعلى الرغم من أنها شكل من أشكال التعبير عن الذات ، فهي لا تنفصل عن التأثر بالسلوك الاجتماعي والثقافي العام، وتخضع لاحتكامات مرحلتها وثقافة زمانها، مايجعلها جزءا من القضايا الجمعية العامة.. ونجد التمايز واضحاً حين نقارن الكتابات الشابة بالكتابات السابقة من خلال المواضيع المطروحة وجرأة الآراء والمناخ العام المغاير بكل تأكيد.. فحيثما كانت الكتابة فإنها تعبير عن قضية ورأي.

• في ظاهرة شبابية نلاحظ ميل الأعم لكثرة الإصدارات، ما رأيك في ذلك؟
ـــ الاندفاع الذي يقترن بمرحلة الشباب يجعلهم راضين عن قدراتهم الكتابية بما يكفي لدفعها إلى النشر، إضافة إلى عامل الوفرة المادية، لكن من جهة أخرى أنا لاأرى ضرراً من سعي أي من الكتاب الشباب المتحمس للنشر، ففي النهاية هذا يعني اصراره والتزامه في اختيار هذا الطريق، وكلنا يعلم أن المنافع لم تعد مغرية، ولم تعد الكتابة تأخذ حقها من الشهرة إلا ما قل، وفي النهاية تبقى النتيجة في مرحلة مابعد النشر، وهي المعيار الحقيقي لجدوى كل تلك الكتابات..
• تكتبين عن المرأة ، فما موقفك من نسوية الأدب؟
ـــ المصطلح بصيغته الحالية يفترض أن هناك جوهراً محدداً ومفروضاً يميز بينها وبين كتابة الرجل، وهي فكرة غير منطقية، إذ يتحقق الابداع ضمن سياقاته وسماته ومكوناته التي ترتكن إلى اللغة والمخيلة والتنوع وغيرها.. ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالسمة الجنسانية للكاتب، وكون الكتابة صادرة عن امرأة لايعني بالضرورة اشتراطات ذهنية مسبقة، كما أنها لاتحدد مجالات معينة للكتابة، وهي لاتتجه إلى القارئة الأنثى بالضرورة، كما هي الحال في ما ينتج تحت مسمى أدب الأطفال على سبيل المثال.

• إلى متى ستظل «القبل خرساء»؟
ـــ مامن موعد معين، لكنه ليس قريباً بالتأكيد، مادام المسكوت عنه يتزايد مع التزايد المستمر لهوس القمع والمحاكمات الفكرية. وفي الوقت الحالي يرتهن الكاتب مرغماً إلى حسابات تخضع لمنطق السلطوية، ولأن حرية أي كاتب أو كاتبة مازالت حرية منقوصة فلا مجال أمامه أو أمامها سوى اعتماد اسلوب التورية والتلميح لا التصريح، مما يجعل الحركة الادبية مقيدة ومشروطة بحدود التابوهات الثلاثة المعروفة.

• في قصصك لا نلمس ظهورا للمحكية والدارجة، فهل هذه مجرد مصادفة أم موقف؟
ــ في العموم الحوارات قليلة في قصصي، أعاني من مشكلة شعوري بأن المكان ضمن القصة القصيرة لايتسع للاعتماد على أكثر من تكنيك كتابي، الحوارات ان لم تكن لغاية في حد ذاتها فهي عبء على القصة، ولا اعتراض عندي على استخدام اللغة المحكية الدارجة بدرجتها العليا، تلك التي هي مابين الفصحى والعامية، كي أضمن وصول المعنى للقارئ أيا كانت جغرافية مكانه..

• بناء الحبكة يتسم بالطول في معظم قصصك، فأين أنت من الاختزال ولغة اللقطة في القصة؟
ـــ لا أوافقك في هذا، فأنا لجوجة في الكتابة، أحيانا تجرني اللغة التي أستهويها، وأجاهدها ، فأنجح حيناًً وأفشل حيناً، وفيما عدا الجملة اللغوية فأنا أسعى إلى هدفي لأني ــ كما أسلفت ــ لجوجة بطبعي، وينعكس هذا على كتاباتي وعلى اسلوب حياتي..

• في عناوين قصصك تميلين إلى صيغة مكررة وهي المضاف والمضاف إليه، ألا تولين تنوع صيغ العنوان أهمية لديك؟
ـــ يتعبني اختيار عناوين قصصي أكثر من كتابة القصة بأكملها، أتخوف من العنوان كونه العتبة الأولى للنص، وغالبا ما أترك قصتي دون مسمى وقتاً طويلاً، وأؤجلها حتى لحظة النشر الأخيرة.. لكني أعترف أني لست بارعة في هذه المسألة.

• ما رأيك في تجربة القصة القصيرة جدا وهل فكرت في خوضها، خصوصا في ظل ريادة السرد السوري في هذا المجال؟
ـــ لست من المتحمسات لهذا النوع الكتابي الذي نشأ في سوريا كتجارب أولى جديدة ومستجدة على الانواع الأدبية، أشعر أنه فن بخيل جداً، ويكاد لايعلق بي شيء من اللقطة ــ القصة، وهو رأيي الشخصي على أي حال.

• ما هو جديدك؟
ـــ رواية ستصدر قريبا بعد قرن من الزمن.. ربما!.

اصداراتها
1. ذاكرة من ورق - إصدار دار سعاد الصباح، عام 1999
2. كل شيء عن الحب - إصدار دار سعاد الصباح، عام 2001
3. فسيفساء امرأة - إصدار اتحاد الكتاب العرب، عام 2004.
4. قبلة خرساء - صوت يصعد شجر الحكاية - إصدار دار قدمس، عام 2007.

لاامانع الخوض في الجسد









القاصّة سوزان خواتمي:
لا أمانع الخوض في الجسد حين تتطلّب القصة ذلك
حوار ادم يوسف


جريدة الجريدة الكويتية

أصدرت القاصة السورية سوزان خواتمي أربع مجموعات قصصية، أبرزها «قبلة خرساء»، الكتاب الذي حظي بإشادة صحافية وقراءات متعددة. في حديثها إلى «الجريدة» توضح خواتمي أن الخوض في الجسد أمر لا يعيب الكتابة إذا كان في سياقه القصصي السليم بعيداً عن الإثارة، موضحة أنها تعيش حنيناً جارفاً إلى المكان الأول في حياتها (مدينة حلب) متتبعة ملامح الوجوه وانفعالات الإنسان في أي بقعة أخرى تقصدها من العالم.

نلت جائزة سعاد الصباح عام 1993، ماذا أحدثت في نفسك؟

منعطف بعينه، بغض النظر عن الظروف الأخرى المحيطة، قادر على أن يحول أسلوب حياتك ومصيرك. بالتأكيد أثّرت جائزة سعاد الصباح فيّ بشكل مباشر وإيجابي، إضافة إلى البهجة التي أدخلتها إلى قلبي. فللجائزة دعمها المعنوي، ما جعلني أحدد هدفاً لم يكن واضحاً أمامي سابقاً. الإبداع رمال متحركة، بلا يقين، خصوصاً حين تأتي عن طريق الهواية، من غير أي تأكيد معرفي. تحصيلي الجامعي هو العلوم الطبيعية، وإن لم أكمل مشواري فيها، وتبقى الدراسة العلمية مجالاً بعيداً عن الكتابة، وجائزة الصباح حددت يقيني كي أبدأ المشوار.

«قبلة خرساء» كتابك الأبرز ضمن مجموعاتك القصصية، هل ثمة ظروف معينة واكبت كتابة قصصه؟

ستضحك إن عرفت أن التعجل كان الظرف الذي أحاط بالنشر. عندما سمعت عن إعلان «دار قدمس»، وعلى رغم أنني لم أكن قد أنتهيت تماماً من المجموعة، رأيتها فرصة سانحة للنشر، خصوصاً أنني لا أملك الحماسة ولا الخبرة ولا الرغبة في الخوض في مسألة النشر الخاص... وفعلاً تخليت عن طريقتي السلحفاتية في الكتابة، بعد الإضافة والمراجعة والحذف، وأعددت مخطط المجموعة، وتم اختيارها ضمن سلسلة صدرت لكاتبات من العالم.

كان لاهتمام مدير الدار زياد منى ودقته الكثير من الفضل كي تخرج المجموعة بالشكل الأمثل طباعياً، وإن عانيت في ما بعد من مشكلة التوزيع، فمجموعتي المطبوعة في دمشق لم تصل إلى حلب... تخيل!

أشاد بعض النقاد بتقنيات الكتابة لديك، خصوصاً بالنسبة إلى الخاتمة التي تأتي مفاجأة وغير متوقعة، هل تحددين آلية معينة للسرد القصصي قبل البدء بالكتابة.

ما من خطة مسبقة تحكم لحظة الكتابة لأن السياقات تحظى بأمزجتها، والقصة لا تبدأ عندي وتنتهي في جلسة واحدة. التغيير يجعلني أصل إلى منطقة مختلفة عما بدأت، لا سيما في ما يتعلّق بالخاتمة المفاجئة، ربما كي أضلل القارئ، وأبعده عن شروطه المسبقة. إن استطعت التقاط لحظة الدهشة، لن أتاخر، والخاتمة غير المتوقعة تكون سبباً في إعادة القراءة، وملاحظة التفاصيل التي لم يتم الانتباه إليها ربما لأن الحياة بمجملها تحكمها الصدف غير المتوقعة.

يحوي «قبلة خرساء» شخصيات نسائية، بعضها مكسور الجناح، وبعضها قوي بأنوثته وإغوائه، لماذا المرأة تحديداً؟

لا أتهرب من تعاطفي المستمر مع قضايا النساء، شئت أم أبيت أنا ككاتبة أكثر فهماً لطبيعة المرأة، لانفعالاتها وتناقضاتها، للضغوط التي تعايشها، لأنماط تفكيرها، وشخصيتها. المرأة كائن أكثر تعقيداً من الرجل، وهي حاضرة في قصصي لأنني ما زلت على قناعة بأن مجتمعاتنا لم تنصفها، فغبن كبير يقع عليها، يقننها ضمن إطارات محددة أقل بكثير مما تستحق. أحب للحياة أن تكون عادلة مع إناثها، لذا لا أفعل شيئاً سوى أنني أكتب المرأة بخيرها وشرها.

تسترسلين في وصف المكان، الأزقة الملتوية، الباعة المتجولون، وزحام الشارع، هل هو الحنين إلى حلب مسقط رأسك؟

نعم، جداً. أملك عطباً في قلبي اسمه الحنين، إلى درجة أنني لم استطع بناء ذاكرة مكانية غنية في مكان آخر مثل حلب. حتى في الدول التي زرتها وأحببتها، تركز التقاطاتي البصرية على الناس والانفعالات، وتهمل تماماً جغرافية المكان وتفاصيله. الحنين حالة شجن تتشبث بي لتسحبني عنوة إلى توصيف مدينتي الأجمل، حتى بعد أن شاخت، وفقدت الكثير من فتنتها وبهائها.

هل أثر عملك في الصحافة على عملك الابداعي، خصوصاً أنك انضممت إلى هذا العالم منذ فترة قصيرة؟

نعم أثر بشكل كبير، خصوصاً أن العمل الصحافي لا يتحدد بمواعيد منتظمة. الكتابة الخاصة أيضاً مزاجية، ويصعب علي برمجتها. منجزي الإبداعي لم يكن غزيراً في الأصل، لكن «يا محلاه» مقارنة بحجم ما أكتبه اليوم! تضطرني المهنة إلى إعطاء الكتابة الصحافية الأولوية على حساب تأجيل فكرة رائعة تجول في مخيلتي، التي غالباً ما تتبخر أو تفتر حماستي تجاهها، على رغم ذلك أجد الصحافة المهنة الأكثر التصاقاً باهتماماتي الأدبية، وإن لم أحبها بعد.

هل تفكرين بالانتقال إلى الكتابة الروائية؟

نعم، كثيراً. أعمل على مشروع رواية راهناً، ربما هي تجربة استثنائية في الكتابة المشتركة مع أحد الأصدقاء. طبعاً ثمة مشاكل وعوائق كثيرة، إن لم تغلبنا، سأكون سعيدة بأن يرى هذا العمل النور قريبًا، إضافة إلى رواية قصيرة، آمل أن أنجز شيئاً منها خلال إجازتي المقبلة. قد يبدو غريباً أن أخبرك أن أغلب قراءاتي، وأنا قارئة نهمة جداً، يأتي في مجال الرواية، أكثر من أي نمط كتابي آخر.

«الحق يقال، لم يأخذني عنوة، سألني ما رأيك؟.. فسكت. بعدها تتالت الأمور، كما لو أنها تحدث لغيري». هل المقطع المشار باب للحكاية عبر الجسد؟

بطلة «قبلة خرساء» المأخوذ منها هذا المقطع، لا تشعر بجسدها، إلى درجة أنك تتعاطف معها حتى وهي تستثمره. على كل لا أمانع الخوض في هذا المجال حين تتطلب القصة ذلك.. فالجسد إحدى أكثر المناطق التباساً، وفي الوقت نفسه أعترض من حيث المبدأ على الخوض في هذه المنطقة لأجل لفت نظر الإعلام، وبغية الانتشار. الكتابة اختياري الأحب، وأرفض التعامل معها بمحدودية الإثارة كهدف بحد ذاته.

إلى أي حد يمكننا توظيف الجسد في الكتابة القصصية؟

التوظيف الجيد لآليات القصة يصنع قصة متميزة، سواء اعتمدت في موضوعها على الجسد أم على غيره. ثمة مشكلة تخصنا كمجتمع شرقي، ينوء تحت ثقل أعرافه وتقاليده ومفاهيمه، إذ نرى أن الجسد منطقة ألغام خطرة. لست جريئة إلى درجة تجاوز كل شيء، وقلب الطاولة، وهي «على فكرة» ليست ميزة، ولا ادعاء أخلاقي من أي نوع، على العكس تماماً. لكنني لا أعجز عن ابتكار إسلوب خاص على مستوى اللغة والموضوع والصورة، مستوى لا يخدش ولا يصدم، وفي الوقت نفسه لا يتجاهل أبداً هذا الجانب الجسدي من ذواتنا...

06 أكتوبر 2009

مسلسل زمن العار.. دراما واقعية تحكي هوية المجتمع ووجدانه



ت
حظى المسلسلات السورية بنسبة متزايدة من المتابعة، خاصة بعد ان تخلصت من عقدة البطولة المطلقة، والشخصية التي (خرطها الخراط وقلب مات)، وحين نضيف إلى ذلك الخبرة، التقنيات الحديثة، ورفع سقف حجم الإنتاج، نصل إلى عدد لابأس به من أعمال متكاملة ومميزة أو قريبة من ذلك. لا تستخف بعقلية المشاهد،. ولا تملأ ساعات التلفزة ببث غث. ونسقط من حسبة الأعمال هذه التي تتسول فكرة الحارة الشامية، ومسلسلات الخلطة السحرية في التباهي بأكبر عدد من الجميلات. أحد المسلسلات الجادة والتي تستحق المتابعة في هذا الموسم الرمضاني بحيث لايفوتك مشهد ولو قصير هو (زمن العار) الذي يقدم من خلال شبكة علاقات اجتماعية بين عائلتين،قصة بثينة الفتاة التي تسيرها أقدارها فتفني سنوات عمرها، على حساب تحصيلها العلمي، لتقوم على خدمة امها واسرتها. بثينة تقع في غواية جميل زوج صديقتها، وتؤدي علاقة زواجها السري به إلى حمل، لكن كشف هذه الفضيحة أمام عائلتها، يضطرها إلى الهرب، فمفهوم العار جراء مافعلته هو الامر الوحيد المتفق عليه، والذي يستوجب الانتقام، أما الرشوة والكذب، والخيانة، والفساد، وكل الممارسات السلبية التي يمارسها من حولها، فهي لاتشكل مفهوماً لعار مخجل..!

فكرة العار الجماعي

المسلسل يسعى إلى الخروج من مفهوم العار الضيق والمحدود بشرف المرأة المرتبط بمفهوم عود الكبريت، والذي يغفل كل الحرائق الاخلاقية الاخرى، موضحاً تلك التناقضات المؤذية، فأخو بثينة موظف مرتشٍ ومع ذلك هو يسعى لغسل شرف أخته!. كما يطرح المسلسل فكرة الفساد الذي يتعلق بالظروف الاقتصادية المتدنية، وماطرأ على مجتمعاتنا من انخفاض مستوى العلاقات الانسانية وتفشي الانانية والمصالح الشخصية على حساب أي شيء آخر. إن اختلال التقسيم الطبقي للمجتمع السوري، وزوال الطبقة الوسطى التي كان يشكلها في العادة الموظفون على حساب وسائل الثراء الفاحش والفقر المدقع، وتنامي المناطق السكنية العشوائية كل ذلك أدى إلى اختلال القيم المتعارف عليها في جيل اتكالي.. رافض للقيم..لامبال.. يقدم مصلحته على الاعتبارات الاخرى.. هذه الواقعية السوداء لم تخل من بعض الشخصيات التي تحاول الحفاظ على شرطها الانساني، لكنها تبدو منهكة، وضعيفة، وليست ذات تأثير مجد.

سلافة معمار أداء يحسب لها

لابد من الإشادة بالممثلة سلافة معمار التي برعت في أداء دورها، وكأن الكاميرا تكتشفها من جديد، كفتاة مأزومة ومحاصرة، وتحسب لها عدا طاقتها في التمثيل المقنع، ظهورها بحسب ما تقتضيه الشخصية بدون مكياج ( وهذا أمر صار نادراً بين ممثلات لن يتمكن اي مشهد من تخريب تسريحة شعرهن أو تشويه حمرة شفاههن). سلافة معمار كانت تبكي وتصرخ وتعاني وتنظف دون أن يعنيها إلا صدقية مقنعة وصلت بها إلى اقصى حالات الجمال المطلوب من ممثلة درامية بمستوى عال من الموهبة والفنية. يتخلل الخط الدرامي الاساس في المسلسل شخصيات أخرى تحاول التعايش لكنها تبدو عاجزة قليلة الحيلة، في مواجهة أزمات وظروف تتضخم مثل كرة ثلج، والتي تجعل من الحياة نقمة لانعمة، كبائع الكتب المستعملة على ارصفة دمشق ويقوم بالدور الممثل بسام كوسا بالاقتدار والتميز الذين عرف بها.

دراما الواقع تحكي هوية المجتمع ووجدانه، فتبدو ساحرة بتأثيرها على المتابع الذي يتفاعل مع مشاهد تحاكي عوالمه، صحيح انها توجع القلب وقد تفرطه، وصحيح انها لا تقدم حلولاً، لكن هذا النبش بكل تلك الحساسية يكشف الزيف، وهذا اضعف الايمان.

عمل متكامل

زمن العار سيناريو مشترك بين الكاتبين حسين سامي يوسف ونجيب نصير، وقد تعرض كما تناقلت الصحف إلى نقد حول عنوانه الفج، عن ذلك يقول حسين سامي يوسف في حوار له مع جريدة الراية: «ربما صار لزاماً علينا وبعد كل القهر الذي نعيشه أن نطرح أفكارنا بشكل مباشر وصريح، فكيفما تلفتنا حولنا رأينا العارمحيطاً بنا، وهكذا وصلنا إلى وضع هذا العنوان. كانت لدينا عناوين أخرى مثل (المدينة الفاضلة) لكن هذا العنوان المقلوب هو أيضاً مباشر ولا يمت بصلة للعار الذي نتحدث عنه فاستقررنا على عنوان «العار» ثم أضافت الشركة المنتجة كلمة «زمن» العنوان شيء مهم في العمل ويعطي المتلقي فكرة عن العمل، لكن الأهم هو العمل ذاته ومضمون المادة المقدمة فيه». زمن العار من اخراج رشا شربتجي ابنة هشام شربتجي والتي تميزت بتوجهها المناصر لقضايا النساء، وسبق لها أن اخرجت عددا من الاعمال اللافتة مثل مسلسل «غزلان في غابة الذئاب»، و«يوم ممطر اخر»، كما خاضت غمار تجربة مصرية عندما أخرجت مسلسل «شرف فتح الباب».. وترى أن الامتياز الأساس للعمل يكمن في انطوائه على «قليل من الأحداث وكثير من الأحاسيس، كثير من الألم». يعزز ذلك الحوار المتمكن كي يصل بنا كمشاهدين إلى أقصى حالات التأثر والانتباه.

يشارك في مسلسل العار الذي يتم عرضه على عدة قنوات تلفزيونية نخبة من النجوم السوريين منهم الفنانون بسام كوسا، تيم حسن، سلافة معمار، مكسيم خليل، خالد تاجا، منى واصف، نضال سيجري، سمر سامي، ثناء دبسي، سليم صبري، ديمة بياعة، كندا حنا، قمر خلف وآخرون. والمسلسل من إنتاج شركة «عاج للإنتاج والتوزيع الفني».

في الدراما التلفزيونية: تصحو الممثلات من النوم بماكياجهن كاملاً





لا أحد يدري على وجه الدقة كيف أصبح شهر رمضان شهر تكدس المسلسلات، وبرامج المنوعات، وبرامج الترفيه والكاميرا الخفية، وبرامج الدعاة الجدد والقدامى.. أيّاً كان ذوقك التلفزيوي أو «المسلسلاتي» أراهن بأنك ستجد ضالتك، وباعتبارك صائماً عزيزي الصائم، فقبل الإفطار لن تدقق في الجودة، أما بعد الإفطار فستسترخي قليلاً ولن تدقق في الجودة أيضاً، ولا في الأخطاء والعثرات، فـ «جماعة» الدراما يعرفون ذلك؛ فلذلك هم أيضاً لا يدققون في أعمالهم كثيراً، ويراهنون على أن الأمور ستمر بسلام مع الأعزاء المشاهدين الصائمين؛ لذلك تجد أن كما هائلا من «الدرامات» يحشر بحلقاته الثلاثين طوال الشهر الفضيل، مستخدمين كل صيغ فن الارضاء، والإخفاء، والتضليل، لشد الجماهير إلى متابعة مُحكمة، وبالتالي شد (جماهير) الاعلانات التي تصل في رمضان إلى اعلى أسعارها، تبعا لوقت البث ولضخامة المسلسل وعدد المتابعين المتوقعين.. لا يمنع كل هذا بالطبع من وجود نصوص بارعة بجانب «أختها» المتدهورة، ولا يمنع من وجود اداء راق بجانب الآخر المبتذل، هناك أيضاً تصوير ناجح وثانٍ مما يمكن أن يسمى (هات الكاميرا والحقني) ومع تعدد المستويات وتنوع القنوات وخلطة المسلسلات الدرامية بكل اطيافها وجنسياتها، ولاننا من الجماهير المتابعة تابعنا ومالم نتابعه استمعنا الى تعليقات حوله، فعرفت كما عرفت غالب النساء من المحيط الى الخليج أن موضة هذه السنة هي احمر الشفاه بلون داكن وقانٍ.. هذه المعلومة الاستراتيجية في عالم التجميل وضحتها تماماً شفاه معظم ممثلات هذا الموسم الرمضاني، لاحظوا كاريس بشار وغادة عبد الرزاق و...

كان الملفت للنظر حقاً اهتمام الممثلات جميعهن تقريبا برسم الماكياج كاملا على وجوههن سواء كان ذلك من متطلبات الشخصية أم لا.. لم تستطع الا القلائل منهن المجازفة بسمعتهن الحسنة ضمن شروط الجمال القاسية على الشاشة، وشروط الاداء الدرامي الذي لن يتهاون مع من لن تحتفظ بصورتها صبية او متصابية، فبدَون يشبهن نسخة مقلدة من السيدة باربي بعد أن كبرت وشاخت.. بالطبع العمر ليس عيباً لكن الجهل به أمر مؤرق لنا فقط، في الطرف الاخر من العالم تتعامل النجمات مع الواقع ببساطة وتكتب لهن ادوار في منتهى الروعة .. أما عندنا فحتى الجميلات لايقفن امام الكاميرا دقيقة واحدة وهن بلا ماكياج، الممثلة السورية قمر خلف في مسلسل (طريق النحل) تمثل دور فلاحة في ضيعة، تعاني من موت زوجها ومن ضغوط الحياة، والبؤس، وتلال من المشاكل، لكنها لم تنس في اي من اللقطات حمرة شفتيها ولا حواجبها المزججة، ولا كحلها البليغ.. في مقطع مبالغ فيه ايضاً للفنانة صباح الجزائري ظهرت بحجاب الصلاة تزعق وهي تؤكد انها ستخرج الفرنسيين، لكنها كانت بكامل تبرجها، بكحل واضح وشفاه مرسومة، على الرغم من أن الحوادث تقع في الاربعينيات من القرن الماضي، وقد تغاضى المخرج والمنتج والمصور عن ذلك.. في مسلسل (صبايا) تظهر كمشة من صبايا الدراما السورية بنسخ مكررة عن بعضهن البعض، وماكياج لاينقص ولا يبهت ليلا أو نهارا.. صاحيات أو نائمات.. غاضبات أو سعيدات..!

بالطبع السيرة ستكون اوسع واشد وضوحا في المسلسلات الخليجية؛ أحدها (هوامير الصحراء) بفاتنته ميساء المغربي التي جعلت من الدراما معرضا شخصيا للملابس والحلي والماكياج .. وهذا مباح مادام المسلسل يتحدث عن الاثرياء.. لكن المقطع الذي يستفز الاعصاب كان مشهدا لها وهي في البيت بثوب سهرة وحذاء (كشخة) يزيد عن 15 سم، وحين تنهض غاضبة ومحتدة، تتراقص فوق حذائها فتحسب انها ستقع من فوقه.. «الله جميل يحب الجمال» هذا صحيح، اما المبالغة فهي امر آخر يحتاج الى نقد. والخروج عن « صورة» الشخصية في العمل الى الصورة التي تحبها الممثلة لنفسها ، يجعلنا نقول اننا نشاهد أعمالاً لمخرجين آخر زمن.. ولا عتب على الممثلات..!

29 سبتمبر 2009

ناس وأماكن: ضيوف الذاكرة على شاطئ المتوسط ( خلف علي الخلف)

[حين نعتاد الرحيل مرة تصبح كل الأمكنة زبدا نطفو عليه ونميل كلما مالت بنا الريح...]


بالأمس شب حريق في ذاكرتي، أحرق كل الذكريات القريبة، بعد أن هدأت النار. تلمستُ رماد الذكريات الجديدة، قال صوت بعيد للذكريات القديمة اقتربي! رأيتها. قلت للاصدقاء [الريامي، الافندي، خالد] أراها عند خط الأفق لا شكل لها، ولا استطيع أن أشم رائحتها، ولست قادرا على لمسها. هناك.. مثل سفن بعيدة تطلب إذناً بالرسو، وليس لديّ ميناء.. كان علينا أمام الهجرات الكثيرة والمتجددة والتي تشكل ذكريات جديدة أن نحذف من «هارد الذاكرة» بعض الذكريات القديمة التي انمحت ملامحها من الشمس المعلقة عليها منذ سنين..


في نوبات بهجة، ومع ذكريات جديدة؛ قلنا ما نفع هذه الذكريات التي لم يعد لها ملامح، فحذفناها.. منها من كان عنيداً، لم يقبل المحو! هذه هي التي كنت احس أنها على بابي ككلب باسط ذراعيه ويهز ذيله بهدوء، يطلب شيئا، أو بقايا شيء لم أعرف ماهو! لم يكن يطلب خبزاً ! كان ذلك واضحا من نظراته.. لو كان كذلك لرميت له رغيفاً يابساً هو ما بقي من الروح أو العمر.. لكنها ما كانت تطلب خبزاً. الخبز الساخن هو غذاء الأحلام، وليس الذكريات، كما يرى ريتسوس.

الأماكن وجوه. الأماكن بشر.. الذكريات انتابتني كموجات حمى [هكذا وصف مهند الحالة فيما بعد] بدأت اشعر بوخز في خاصرتي، هذا دائما يحدث عندما تقف على بابي الذكريات العصية على المحو، ليس وخزاً متوهماً؛ بل حقيقياً. ألمٌ حقيقيٌ.. حينما اتجاهله طويلاً ترافقه شهقة! شهقة مزعجة، أُصبِح أشهق بشكل متواتر.. تنتابني هذه الشهقة عادة في آخر الليل عندما اجلس وحيدا..

- أي المدن تريد أن تعود اليها؛ قلت لخالد ؟.


قال أو قلت لم أعد اذكر.. أن هناك مدنا تشعر أنك لم تنته منها، تشعر أنك يجب أن تعود لها.. لكنه بالتأكيد هو من قال: كاليفورنيا.. له فيها بقايا روح من حبيبة غادرت الدنيا... بالتأكيد أنا من قال: لم يعد لدي مدينة أريد العودة لها.. أقف على شاطئ الاسكندرية انتظر سفنا غامضة ينزل منها اناس أعرفهم، هذا حلم يقظة متجدد يداهمني كلما مشيت بمحاذاة شاطئها وحيدا..لذلك لم أعد أحب المشي على شاطئها. قلت في نوبة غامضة: ربما الكويت.. لم اشبع منها.. صمتُ طويلا مفكرأ بالمدن التي مررت بها؛ أحب المنامة، لكن ليس بما يكفي لكي تلح عليّ بالعودة اليها.. ولم أذكر غرفتي في الرياض التي قضيت فيها عشر سنوات، لأن صديقي غيرّ ملامحها بعد أن رحلتْ. عندما زرتها لاحقا لم اتعرف إليها، ولم تعنيني أبداً، تذكرتها فقط، حينما اعتقلوا رأفت غانم.. بحثت عن صورة له.. فوجدتها، كان في غرفتي. يجلس على كرسي خيزران، وخلفه بلوزة برتقالية لي، شابكاً يديه فوق رأسه..


الرياض تبتعد رويداً.. رويداً تخفتُ من الذاكرة، بقيّ أصدقاء قليلون، لكني أتذكرهم في المقهى فقط.. ولم تأت حلب أبداً.. أبداً. قلت: إن حلب تخبو، أحس أني افتقدتها الى الابد، وأزعم أني لو عدت لها ما عرفتني أو عرفتها. المدن أيضا تكبر. وتهرم. وتنسى.. ولم أتذكر أثينا لم تستطع أن تزاحم الأطياف الأخرى لتطل برأسها


بالامس سردت سريعا هجراتي لخالد كي يعرف عم أتحدث؛ قلت له: نشأتُ غريباً، وانا الآن هنا غريبٌ معي ابني الذي أصبح شاباً يكرر سيرتي. هنا في الاسكندرية، أحس أني أعيش في مدينة ليست مدينتي الاصلية، لكني سكنتها منذ زمن بعيد .. لكن كل اصدقائي واهلي و... غادروها وبقيت وحيداً. وكي أوصل الفكرة له قلت: مثل يوناني مسن مازال في هذه المدينة..هل قرأت «مئة عام من العزلة»؟ أحس أني في تلك المدينة بعد أن أقفرت.


قرأت له مقطعاً لنيرودا أيضا [ترى أحزن الذي ينتظر دائماً؛ أكبر من حزن الذي ما انتظر أحداً؟]
نام خالد في الثالثة والنصف، أو أكثر، لم أعد أذكر، أنا أيضا آويت الى فراشي بينما كانت الذكريات تهوم في داخلي، أو فوقي، لم اعد اذكر مكانها بالضبط، لم تكن حشوداً، كانت متفرقة كأني الزجاج في حوض اسماك والذكريات الاسماك السابحة، بعد كل هنيهة تنقرني ذكرى بأنفها..


على المسنجر قالت جاكي بعد أن شرحت لها الحالة التي أنا فيها: أي من هذه الذكريات تريد؟ قلت لها: ذكريات الطفولة.
قالت: يالله!.. أعرف تماما عم تتحدث، لو استطيع أن اضمك. غفوت على جملة جاكي هذه. في الصباح لم يكن الحنينُ قد غادرني تماما، لكن مهند نبشه بطلب «حين نعتاد الرحيل مرة» قال انه يريد تعديل الجملة الى «زمنا نطفوا عليه»..
كانت ايضا جاكي، لذلك تذكرت أن أشكرها على تعاطفها مع حالتي بالأمس. اعطتني رابطاً لما كتبته عن «بيتي الصغير الذي في كندا..» بعد أن قرأتها وجدت شيئا يشبه حالتي، الاماكن نفسها الحكايات نفسها، اللعب نفسها، والضباب نفسه.. قلتُ لها تماماً.. تماماً ذلك ما أحسه.


الاشياء تبتعد والرؤية لم تعد تساعدنا على أن نبصرها بوضوح، نركب مشاهد متقطعة متداخلة، من أزمنة متفرقة وأمكنة كذلك، برهافة نركبها لتشكل حنيناً غامضاً فاقداً للزمن، فاقدا للمكان.. أحس منذ الأمس أن شريطاً سينمائياً صامتاً يمر بسرعة كبيرة مستعرضاً صوراً من حياتي. هناك وجوه بلا ملامح، يريد الحنين أن يلامسها. لم يعد هناك من الوجوه العتيقة أحد واضح؛ هل هرمت الذاكرة باكراً، ولم تعد تتذكر إلا الوجوه القريبة؟ أظن ذلك، والدليل أن وجه «السيدة البيضاء» التي أحبها واضحاً.. هو الشيء الوحيد الذي ما زال واضحاً، وهي تصر على الغياب، رغم معاناتها مع الحنين مثلي، أعرف هذا لأني كنت اسندها عندما تميل بنا الريح.. الزمن ليس بعداً واحداً في ذاكرتنا، فهناك ذكريات قريبة تغيب بينما يحضر أبعد منها في خيط الزمن الذي تشده الذاكرة، كأنها تنتشل به غرقى.. قلت لخالد هذا. مهند يوافق على مقولة «الحنين إلى لا أحد» ويعتبر أن ذلك صورة واضحة لا تحتاج لشرح!! يضيف: المكان والزمان والرفقة هي من تجعل للذكرى معنى! لم تعد تجتمع هذه في الذاكرة فأصبح الأمر نوبات حمى.

مهند الذي في دبي؛ المدينة التي يقول عنها إنه لم يستطع بناء ذاكرة فيها سرد لي حكاية: منذ اسبوع توفي زوج خالتي، وهذا الرجل كان بمثابة خالي، اعرفه اكثر مما اعرف خالي. ذكرياتنا معا كثيرة، وكلها مزيج من السياسة والعرق.. تصور حين وصلني الخبر؛ لم استطع تذكر جلسة واحدة بتفاصيلها، أريد فقط تذكر تلك التفاصيل الصغيرة والحميمية.. أنا غير قادر.. أنت تحس بألم في الخاصرة، أنا أعاني من نوبات حمى.. منذ شهر لم أنم كما يجب.. في الليل تصبح الأمكنة والأزمنة مزيجاً من الخيالات، كان في بدايته ممتعاً.. الآن صار مرهقاً ومزعجاً.
جاكي قالت لي: أنت تهاجر الى الآخرين، وهذا سبب الحالة التي أنت فيها، هاجر الى داخلك، انظر له جيداً.
- لكن داخلي فارغ يا جاكي
- ليس صحيحا؛ نحن فقط لم نتعلم أن نراه جيدا. انشغلنا بمحيطنا ونسينا داخلنا. عندما تنظر إليه بروية، ستهدأ روحك، ستقودك الى هدوء تتسرب منه اشياء لم تكن تتخيلها.
كان وجه «السيدة البيضاء» يحضرُ يكنس الذكريات من أمام بابي، وينهر البعيدة منها «يلا روحو بعيد.. ماذا تريدون منه.. حرام عليكم.. اتركوه..». بالامس كانت تجلس على كرسي بعيد، تبكي، لم تصلها يدي لأمسح دمعها. ولا أدري لماذا كانت تذكّر الذكريات مع أنها مؤنثة، ربما لأن ذكريات الأنثى مذكّر!
الافندي غادر في منتصف الليل فجأة! قال انه سيذهب للسعودية الآن.. دهشنا! قلت له محاولا تبديد الدهشة: أحد يروح ع السعودية الآن.. يا رجل اجلس.. لكنه اصر.. وتركناه. لا ادري ما الذي جعله يفعل ذلك. بعد أن غادرنا الريامي بقينا أنا وخالد فدخلت الذكريات من الباب الذي غادروا منه، كان حضورهم يسد الباب بوجهها..
هل ترغب في مغادرة هذه المدينة؟ أظن مهند من سألني:
قلت لا.. لا.. اعتقد، ان احساسنا هذا سيكون في اي مدينة اخرى. هذا الرحيل الذي حوّلنا الى متلقين غير متفاعلين مع اي شيء، الغى كوننا جزء من السيرورة وحولنا الى لحظات غير مدونة..
قال: قاسي هيك كتير!!
رددت بيقين نبي: لا.. هذا ما أصبحنا عليه.. أي محاولة لتغير المشهد ستكون فقط نوع من الماكياج. التغيير الحقيقي هو تغيير السيناريو ولكن هذا غير وارد في حالة ذواتنا المبددة، وفي حالة أرواح موهنة لم تعد تقوى على المشي.

من الذكريات التي داهمتني مشهد غير مكتمل لروحي، وهي حافية تعبر جسراً! بالكاد تعرفت عليها.. تغيرت كثيراً، تلبس أشياء غريبة، لم اتبين من ملامح وجهها سوى التجاعيد وعينين غائرتين بعيدتين ليست لهما نظرة محددة.
منذ الساعة الثالثة فجر أمس، حتى الآن السادسة عصراً، وفيروز تعيد أغنية واحدة «يا مرسال المراسيل» كلما أردت تغييرها «قلبي لا يطاوعني».
بعد أن غادر الأفندي والريامي ونام خالد بقيت وحيداً مع الذكريات التي اقتربت؛ رغم ذلك لم تتضح ملامحها. تعاركت مع أحدها، وأثناء عراكنا بدأ أنفها ينزف. أجلستها مكاني على الكرسي، ورششت على وجهها الذي بلا ملامح الماء، ونظفت آثار الدم بمنديل «مطرز شوي على الداير» ومحاك عليه اسم لم استطع قراءته. كنت أشعر بالذنب لما فعلت، فالذكريات ضيوف يجب أن نغفر لها اخطاءها لأنها في بيتنا. قبل أن اعتذر لها، كانت الذكرى قد اختفت، وما تبقى بقع دم على ارض الغرفة!


23 سبتمبر 2009

شهرزاد الحكاية الجديدة: عمارة كلامية أساسها الإيجاز والمحو..( الناقد عزت عمر)


سوزان التي نعرفها؛ تعرّفنا إليها في (الكشكول)*، هذا الحيّز الذي فتح لنا نافذة حميمة على أبناء الوطن وعلى من سكن هذا الوطن في قلوبهم.. نحن الذين كنا كالأيتام على مأدبة الإعلام الثقافي الرسميّ، توزّعنا في المغتربات الجسدية والروحية، وراح كلّ واحد يحفر في حيّزه الذي انوجد فيه؛ هكذا كمياه عذبة نقية أو كواحة ظليلة اكتفت بعابيرها، على أمل أن يتذكّر هؤلاء العابرون في الهجير عذوبة الماء الأولى فيعودوا ليستأنسوا بالمكان وظلّه وثمره ومائه..


هكذا هي سوزان التي ولدت ذات يوم في مدينة حلب الشهباء شمال سوريا كما، تعرف نفسها، سافرت إلى الكويت لتكون هناك واحة وظلاً ونبعاً فائضاً بالخير والخيرات، كالأم السورية الأولى؛ أو كنسخة إضافية من آلهة الينبوع؛ دأبها أن ينهمر الماء من تلك الجرة التي تمسكها بإحكام بكلتا يديها، ليشرب الظامئون، وليقولوا فيما بعد، مررنا هنا ذات يوم..


ولسوزان كما نعلم مجموعتان قصصيتان ضمّت إحداهنّ فيما أظنّ 35 قصة وهي بصدد نشر الثالثة بالإضافة إلى نشاطها الثقافي المتنوّع وحياتها العائلية والاجتماعية في الكويت والمنتديات الأدبية. وإن عنى هذا بشيء، فإنما يعني أنها ذلك النبع المتفجّر الدلالات الذي حكينا عنه للتوّ..


ليست تتوفر لديّ كتب سوزان، ولذلك فإنني قمت بعجالة بانتقاء 9 قصص مما نشرته في الكشكول أو في موقعها، وأنا لا أعرف إن كانت هذه القصص تعبّر على هذا النحو أو ذاك عن تجربتها القصصية أم أنها سوف تنظلم نقدياً بهذا الانتقاء شبه العبثي، ولكنها التجربة وما تحمله من صدق في النوايا، وكلنا نخطئ ونصيب، بتعبير رومان رولان، فعذراً.


القصص المختارة هي: "1 الموت الأخير، 2 الفالس الوردي، 3 أحدنا كان يرتعش، 4 ما زالوا يغادرون، 5 كلّ شيء عن الحبّ، 6 كادت خطواتنا أن تلتقي، 7 فسيفساء امرأة، 8 تمارين رياضية، 9 يحدث دائماً."


من خلال قراءة هذه القصص التسع للقاصة سوزان خواتمي، يمكننا تلمّس معالمها الفكرية الأولى كشخصية شهرزادية، تسعى عبر يوتوبيا السرد الجميل لإزاحة الليل الذي استوطن النفس الإنسانية، والمقاربة هنا بينها وبين شهرزاد مهمّة جداً من ناحيتي عالم السرد ككتابة في فضاء متخيّل، والتوجّه الفائض بإنسانيته عبر هذه الكتابة النابعة من ذات شاعرية شفّافة تدرك جيداً معنى أن تغشى الظلمة النفوس. وبذلك فإن هذه القصص، ربّما تبصّرنا بأنوات سوزان المضمرة، سواء في كلّ قصّة على حدة، أو في أناها كأنثى تنتمي إلى هذا الحيز الفني الكاشف لمضمرها، بالرغم من اقتصادها وسعيها دائماً إلى المحو؛ مكتفية بما يمكن لدلالاتها واستعاراتها وتناصاتها أن تتفاعل في ذات قارئها. وهذا الكلام فيما إذا أردنا تأكيده فنياً، فإنه بإمكاننا القول أن قصص سوزان ربّما تنتهك البنية الفنية للحكاية الشهرزداية، بأن تحذف استهلالاتها وفائضها العجائبي، لتبدأ من لحظة الفعل الواقعي لشخوص من لحم ودم، ربّما تعرّفنا إليهم ذات يوم، بحيث يشعر القارئ بأن ثمة كلاماً قيل سابقاً، وعليه أن يتمثّله أو يتخيّله منذ لحظة دخوله المشهد المتحرّك كما في هذا الاستهلال: "المسافة التي قطعتها طويلة ومتعبة، ولكنها وصلت أخيراً، تنهدت بارتياح. لا زال المكان على حاله، كما تركته بالضبط، رغم كلّ الوقت الذي مضى. ثلاث سنوات، وليست فترة طويلة جداً ولا قصيرة تماماً.." فهذا الاستهلال المشهدي كما نلحظ يقتضي استكمالاً واستفهاماً عن الغياب، وبالتالي سيكون بمثابة المحفّز السردي الذي سيمكّن الساردة من فتح الأطر الحكائية لهذه الكينونة المتعبة.


ومن اقتصاديات سوزان في الاستهلال أيضاً هي أن تضع نقطاً (....) في بداية الكلام كإشارة أن ثمة محواً مقصوداً تمّ، وهذا بدوره يستوجب من الساردة إضاءة جانب منه عبر السفر إلى ماض قريب، أو بعيد نسبياً. " .... تستعد الأرض لابتلاع شمسها ، فتمتد الظلال ، ترسم فوق رخام الأرضية النظيفة خيالاً شاحباً ، لامرأة ينحني ظهرها قليلاً فوق شغلها الصوفي ، تحرك ذراعيها النشطتين المطويتين إلى جانبيها بانتظام متواتر . إنها " أم أيمن " أمي في مثل هذا الوقت ما بين العصر والمغرب ، تكون قد أنجزت كل أعمالها ، وعليها أن تستريح ، لكن قيلولة الظهيرة ما عادت تناسبها منذ أن ارتبك النوم فوق جفنها العاصي ."(كل شيء عن الحبّ).


وهكذا ما بين السفر والإياب في زمن تجريدي توجّه الساردة أحداث حكايتها، ولتبني متنها السرديّ بعمارة كلامية أساسها الإيجاز، بالرغم من كثير من التفاصيل التي يلتمسها القارئ في قراءته، وهي تفاصيل محببة وسنتعرض لها في حينه. وما اصطلحنا عليه ب "الإيجاز" هو في الحقيقة أسلوب وطريقة متّبعة في سرد القصة سواء من خلال التهيئة بالحوافز، أو بالوصف، أو بالتفاصيل، لأننا بتنا ندرك جميعاً أن القصة لا تتحدد بمضمونها، وإنما بالشكل والطريقة التي تقدّم، وبما يجترحه السارد من وسائل وحيل تقنية لكي يوصل هذه القصّة إلى متلقّيها، بتعبير حميد لحمداني في كتابه المهم "بنية النصّ السردي".


ومن هنا فإننا قد لا نقع في قصص سوزان خواتمي على مضامين كبيرة، وممارسات نفسية معقدة، ولا على أفعال عجائبية، بمقدار ما نقع على لقطات فيديو إنسانية وغنية، أجادت في تلوينها بأسلوبية حديثة أساسها الاقتصاد الكلامي أو الإيجاز كما أسلفنا، وإلى ذلك فإن هذه اللقطات غالباً ما تستعرض وضعاً إنسانياً محدداً، لنتعاطف مع أطروحته أو لنتأمل دلالاته كما في هذا المشهد البسيط الذي تمّ بين الأم وابنتها:


"ما بك؟ ألم تعرفيني؟ أنا أمك.. أمك.


فتردّ ابنتها ببرود: أأنت هي؟ حسبتك مت.


تقول المرأة وقد آلمها وقع الكلمة: صحيح.. لكني حاولت المستحيل حتى أعود.. ذلك اليوم، أقصد يوم متّ، كنت شاحبة ومتألمة بكيت فوقي كثيراً، بللتني دموعك، لم تمر علي لحظة هناء واحدة، كان صراخك في أذني يقضّ مضجعي.."


فهذا الحوار بين الأمّ، وبين ابنتها الوحيدة التي ظلّت برعاية الأب، يعكس جانباً من معاناة المرأة المطلّقة في بلادنا، حيث تحرم من مشاهدة أبنائها كعقاب متفّق عليه اجتماعياً، وعلى نحو من العنف اللاإنساني تجاه الأمومة. ونحن في القصة لن نلتمس حتى ولو تعليقاً واحداً يخصّ هذا التحليل من قبل الساردة، حيث إن الحوار بين الفتاة والأم كان في دلالاته يدفع نحو هذه الوجّهة، هذا فيما إذا استثنينا عنوان القصّة "الموت الأخير" وعبارة "يوم متّ" العابرة الناضحة بدلالتها إلى أن الطلاق = الموت في مجتمع دخل طور المدنية منذ ألفي عام. وتأكيداً على ذلك سيقول لها زوجها عندما رآها قادمة من "الموت" لتطمئن على ابنة تركتها: لقد كبرت! وبما أن الغياب كان لمدة سنوات ثلاث فقط، فعلى القارئ أن يتخيل معاناة هذا النموذج الإنساني في مجتمع ظالم، لم يتمكّن حتى الآن من التفكير بحلّ هذه المشكلة كما يجب. ولن نذهب بعيداً في السوسويولوجيا، فمقامها ليس هنا، ولكن قصص سوزان تتوغّل عميقاً في الذات المظلمة، لتنقل إلينا كلّ حين حالة من تلك الحالات، حتى ولو كان الأمر على حساب الفنيات بانحيازها إلى الأنوثة والأسرة أحياناً، أو بالتدخل على حساب الفنيات لتدفع بأناها الساردة نحو وجّهة غير محايدة كما في "الفالس الورديّ" التي انبنت على لحظة سردية منحازة سلفاً للطرف الأنثوي، بدليل استخدام الساردة لضمير الخطاب "ك" المؤسس على تعال مقصود لإدانة الزوج قبل محاكمته، وكأن الساردة هنا تماهت مع الزوجة وباتا واحداً، الأمر الذي أدى إلى إلغاء حضور الزوجة كشخصية فالساردة تتكلم بلسانها، وجلّ ما عرفناه عنها كان عن طريق هذه الساردة المتعاطفة معها. وهذا الأمر برأينا يعبّر عن خلل يقع فيه الكثير من القصاصين نظراً لتعاطفهم مع شخصياتهم ليتأثر البناء بدوره بهذا الاختيار السردي: " آخر مرة رأيت غمازتيها منذ مالا تذكر .. وكان ثالثكما حديث مقطوع .. وأنفاس نرجيلة تعدها لك ثم تنسحب ..تبرعم شوقٌ صغير مدغدغاً مَوات حواسك ، تشرب فنجان شايك .تتقلب قليلاً فوق فراشك ، غداً في المحكمة ينتهي كل شيء .. تنام على الجنب الذي يريحك."


ومن جانب ثان فإن القصّة ذاتها تحتفي بالتفاصيل الصغيرة، وهذه التفاصيل هي أجمل ما في قصص سوزان، سواء كانت تفاصيل ترقيشية بلاغية، أو كمحفّزات تشويقية، وهي في عمومها تعبّر عن أسلوب بارع في التقاط المدهش والجميل والمفارق والتعبير عنها بلغة لها خصوصيتها السوزانية بكلّ تأكيد، والمتتبع لحكاية الساردة التي سافرت بنا إلى البدايات الوردية للمشترك الزوجي، سوف يلتمس عبر هذا السفر الكثير من التفاصيل التي يمكن تصنيفها في حساب الشعرية وإضافة جمالية تتوخّى التناغم مع العناصر الفنية الأخرى لاستكمال القصّة على النحو الذي من شأنه أن يمنح هذه القصّة مشروعية أن تكون قصّة فنية وحديثة: "غاصت غمازةٌ ضاحكة في خدها، وقفز قلبك عالياً، التفت البائع وابتسم في وجهيكما، كانت أسنانه سوداء. كان فعل ماض، عند زاوية الانكسار شفة مقلوبة. تهجسُ بالفكرة. نهضتَ فجأة، و قررتَ أن تنام وبين كتفيكما مسافة سنوات من الانكسار، لتنتصب في الحلم حقولٌ عطشى وأشجارٌ ظمآنة. منذ أن تحول شأنكما الخاص إلى شأن عام واللغط والتساؤلات تحشرك في أضيق المواقع."


وإذا كانت القصتان السابقتان قد تناولتا موضوعة الطلاق أو الافتراق من زاوية رؤية مختلفة سردياً، فإن قصّة "كادت خطواتنا أن تلتقي" ربّما تعاين جانباً نموذجياً نمطياً ينهض على الصدفة لبناء الحكاية، صدفة اللقاء، تجاوب البطلين، وسعيهما للزواج، تدخّل الأم ليحصل الافتراق، ولكن ما بين نقطة اللقاء والافتراق أفقياً، ثمة مساحة من الرومانسية الجميلة تستغلها الساردة بأسلوبها العذب وعلى نحو ذكي لإضاءة لحظة الحبّ التي ينبغي أن تعاش كما يجب بين حبيبين.


أما عمودياً فإنه إذا كان تاريخ الذكورة حافلاً بقصص وأد الحبّ، فإن الأمومة هنا ستسعى على نحو غامض إلى وأد الحبّ من خلال تمثيلها لدور الذكورة الغائبة. وربّما هي ذات الأم التي تعرّفنا إليها في قصّة "كلّ شيء عن الحبّ" أو "أحدنا كان يرتعش" وأعتقد أن هذا الجانب يحتاج إلى وقفة إضافية منا، لتبيّن سبب تمثّل الأنوثة دور الذكورة التقليدي عندما يكون غائباً، وهل لذلك علاقة بما يمكن تسميته بالحرص على "مؤسسة الأسرة" ونظام التوريث الذي ظلّ متماسكاً منذ ذلك اليوم الذي رفض فيه جلجامش نداء عشتار لممارسة اللذة على حساب النظام الطبيعي[1]، بل ربّما هو مسعى من قبل القاصة لمواجهة ما يسمى بالقيم النسوية الجديدة التي لها من يسوّقها في الوسط الأدبي والثقافي، بالدعوة إلى التحرر الجنسي وممارسة اللذة وغير. والراصد لشخصية أم أيمن في القصّة سيتلمّس ذلك:


" أمي قارة حنان جفت، تقرح جفناها، وتساقطت مع الأيام التي مرت أهدابها، فيما مضى لم تكن كذلك كانت مليحة هدباء، وكانت قوية البنية، لطالما حملت السجاد الثقيل، ونقلت قطع الأثاث دون أن تطلب المساعدة، وكانت متينة أقرب في قوامها إلى السمنة. كم تغيرت! نحل عودها، واختفت ابتسامتها، وصمتت شفتاها، إلا بما يجعل الحياة تسير. مرت بها عواصف كثيرة لم تكسرها، استطاعت أن تجعل قاماتنا تنمو نحن أولادها الثلاثة، في زمن حوى كل شيء إلا الطمأنينة، لم أجدها يوماً تشكو، لم يهدها موت أبي، ولا هجرة "أختي" وحيدتها إلى كندا ، كما هدها غياب صالح " أخي الصغير ".


ولا أظنّ أن ثمة غموضاً يستدعي التحليل في هذا المجتزأ، لأن أم أيمن في هذه القصّة تشبه كلّ الشبه الجدة "وهّوب" في رواية وليد إخلاصي "زهرة الصندل" وكلتاهما تدركان أهمية مؤسسة الأسرة والحرص على سلامة أفرادها وسلامة المجتمع، سيما أن الذي غاب كان قد التحى وغاب في مجهول خياراته محدودة جداً بالعودة سالماً.


وربّما قصّتها "فسيفساء امرأة" ستتناول الموضوعة ذاتها ولكن من وجهة سردية معاكسة، لامرأة نسيت نفسها في أحد المستوصفات كممرضة حتى دخلت الستين، لتكتشف فيما بعد أنها صارت ستينية وأن العمر سرقها، فتعمل القاصة على تفتيت كثافة هذه اللحظة بفتح عدة أطر سردية، فسافرت بنا إلى ماضي الشخصية وأيام الطفولة، إلى الحبّ وأيامه، ثمّ الزواج والإنجاب ووفاة الزوج مبكّراً، والعودة من جديد إلى تذكّر ذاتها المنسية من خلال استهلال يعبّر عن ذلك:


"جاء وقت الحب ..


إنها صفقة جديدة مع الحياة ..


كل ما مضى كان لأخرى وعلي أن أحاول من جديد .."


ونحن في هذه العجالة إذا كنا تجاوزنا بعض القصص أو بعض الأفكار التي يمكن مناقشتها، فإنه ربّما نعمل على استكمالها فيما بعد، ولكننا إلى ذلك بودنا أن نقف ختاماً عند قصّتها المعبّرة "يحدث دائماً" التي كانت نشرتها في الكشكول منذ مدة، وهي تؤرّخ لحياة كرسي اكتشف فضائله الآخرون فالتصقوا به، والتي يمكن تصنيفها في حيّز الأدب الساخر المفعم باحتجاج نبيل على ما تؤول عليه علاقة الإنسان بالكرسي، والمفارق في هذه القصّة أن الكرسي ذاته سيكون الراوي المتماهي بمرويّه، وسيحكي عن هذه تجربته مع أولئك الجالسين عليه:


قبل أن يكتشف فضائلي الآخرون ، كنت مجرد نكرة ، كان وجودي كعدمه، لا يزيد ولا ينقص، بل أكثر، أشيع ذات وقت أن الزهد بي فضيلة، خشي القوم بعض إثمي فعفوا عني .


تغيرت المفاهيم وتغير حظي مع إحدى دورات الزمن التي لا تبقي وضعاً على حاله، انقلب -باسماً لي- وجه المجن ، فطن بي بعضهم فسوقوني كإحدى الضرورات صوراً وألواناً وشعارات. صرت طموح هذا العصر، أي ذهول !!


كفرقعة الوسطى مع الإبهام .. هكذا .. تغيرت الأحوال


صرت بين ليلة وضحاها اختراعا إنسانيا مدهشا ،


...


وكما الناس نختلف " نحن الكراسي " بأصولنا وفروعنا ، بأنواعنا وأحجامنا


، وبالأماكن الشتى التي نتوضع فيها، إلا أننا جميعاً على السواء ، ذوو راحة وعميم إفادة .


والعلاقة بيننا وبين الجالس علينا .. علاقة تبادلية ، أخذ وعطاء ، نُمنح فنعطي المزيد ، فحين تضيف إلى قاعدتنا حشوة طرية من قطن أو ريش النعام تقي بها عجيزتك من صلابة قد تزعجك ..


ستنسى دون أدنى ريب – واعذر يقيني - منذ متى وأنت مسمر في مكانك ؟.






عزت عمر


________________________________________


[1] مروراً بعصرنا الحديث وتبوّأ جملة من النساء مراكز قيادية كمارجريت تاتشر، وتانسو تشيللر وأرويو وغيرهنّ، اللاتي بحكم مناصبهنّ الخطيرة واظبن على ممارسة النظام المؤسسي نفسه، وربّما بحرص أكثر من الذكور أنفسهم، وهو أمر يدفعنا للاستنتاج بأن هذا الحرص على مؤسسة الأسرة ووحدة المجتمع، إنما هو حرص حضاري قديم قدم الوعي البشري ذاته، آثر على الدوام الحفاظ على التفوّق الثقافي المدني على الطبيعة المتّسمة بالفوضى واللاعقلانية، إنه باختصار حرص متجذّر في اللاوعي الجمعي، وإمكانية اختراقه والعودة إلى زمن الطبيعة الأولى باتت مستحيلة.


* كشكول: ملتقى أدبي، اجتماعي لمجموعة بريدية ضمت العديد من الاصدقاء السوريين  










21 سبتمبر 2009

سوزان خواتمي وكهف الانوثة.. عن مجموعة فسيفساء امرأة ( صبري رسول)

مقدمة صامتة



الهم النسوي من أبرز ملامح قصص " فسيفساء امرأة " تجلى ذلك في طول القصص وعرضها متمثلاًَ في اهتمام المرأة في شؤنها اليومية والتفاصيل الحياتية الدقيقة (.جمالها ورشاقتها ،علاقاتها مع ألأخرين :أب .أخ . زوج. ألخ ).....


إضافة ألى هموم المرأة في حياتها العامة ككائن اجتماعي وركن من أركان المجتمع العام ، فالأنوثة كهف مغلق لاتتعرض جوانبه لضرب الشمس ، وهموم الكتابة تبقى أسيرة هذا الكهف اللطيف على امتداد 145 صفحة من القطع المتوسط من إصدارات اتحاد الكتاب العرب .ففي قصة (فسيفساء امرأة ) التي تحمل المجموعة تصوغ سوزان حياة كاملة في قصة قصيرة :ميلاد ،زواج ،أرملة ،كهل .لاأظن أن تقسيم القصة إلى عناوين فرعية مثل مســرحية ذات فصول متعددة قد أضافت فنية جديدة : (سرد الطفولة ؛محاولة حب ؛شهية حياة ؛ ميلاد طارىء )وتسرد بمرارة وألم فشل ألحصول على حياة " بنفسجية " . أكاد أبكي .فلا نحن عثرنا على مغارة علي بابا ..ولا نحن اكتشفنا كلمة السر ،ولا نحن في بال الأربعين حرامي "ص105 .






في مستهل القصة تواجه هذه الجمل " وفي خاتمة القصة يتساءل " أختي حنان :في الزمن الجهنمي ..ما الذي تفعله هنا ؟ص122 .عبارةالاستهلال و الخاتمة تختصران الزمن السردي وتربطان حكايتين متشابهتين على سطح يتخطيان المستحيل بحثا عن لذة الحب . لكن الزمن كعنصر سردي أوضح ما يكون في تجلياته المتماهية مع المكان في قصة "حين ضحكت أخيراً " ، فعبارة واحدة تتكرر في مستهل القصة وخاتمتها لكن القارئ لايفهم ما تعنيه العبارة ألأولى إلابعد قراءة النص والوصول الى خاتمة القصة فيختزل الزمن بين تكرارة العبارة في المرة ألأولى و الثانية .






حداثة الخطاب القصصي






نصوص (فسيفساء امرأة ) تندرج تحت مفهوم "الخطاب القصصي الجديد من حيث التقنيات السردية المستخدمة في فضاء متواتر يتصالح فيه المتلقي والنص والكاتبة . ثمة تماسك سردي على المستوى الدلالي والنصي ، مما يجعل بنية النص غير قابلة للتجزئة والتبعثر ففي قصة (كاني أعرفها ) في وقت غير مناسب من حر ألخليج الصيفي ,يحاول الراوي في القصة الوصول الى موعده الغرامي مع حبيبته لأنهما متورطان (بلهفة الحب يتبادلان سراًبعيدا عن أصحاء الحالة ) ص 188 .


في هذه النص يتحدث الراوي عن علاقته بها وعن حلمه بتبادل القبل وعن دلالها وتمنعها وعن قوانين المرور و الذين يقطعون الشارع لكن يبقى الخيط السردي لامعاً في أجزاء النص وتبقى مفاجأة النهاية


ذات دلالة قوية حيث يرى أخته تدخل المقهى في ذات الوقت الجهنمي .فتقنية السرد تنجح باستغلال العامل الزمني هنا.






علاقة المرأة بزوجها من الأفكار الطاغية في النصوص ، تكون أحياناً الفكرة الرئيسية في النص مثل قصة (حين ضحكت أخيراً ، فانتازيا الحب ،فسيفساء الحب ، كأني أعرفها ) . وتكون أحياناً ، فكرة تمر كغمامة على سبيل التذكير ، مثل : ( جدران ونافذة ، أحدنا كان يرتعش . ) . ففي قصة ( حين ضحكت أخيرا ) نجد سوزان تختزل سوء العلاقة بين الزوجين في جملة عبثية متمردة ( غياب الأجساد أكثر قسوة من حضورها الكاذب ) ص55. ويأتي الطلاق (بيسر شديد ، الكلمة جاهزة على طرف السان سرعان ما نطقها كمن يتخلص من زفرة . ) ص54 .


سوزان خواتمي تجيد سرد الوقائع اليومية , بسخرية لاذعة فهي لا ترحم النص بـ( بهارات ) لاذعة وهي سمة تتكرر في نصوص المجموعة كما في قصة (ربطة العنق ) .(أخته مازالت في الرحم تتقرب المجيئ..وطلبات البيت كقبعة الحاوي دائما هنالك جديد )ص58 .


على طول شاطئ السرد يبقى هم ألأنوثة طاغياً يترك ارتعاشا بالخوف لدى المتلقي لان الأ نثى في النصوص تمد ضفافا ًألى حيث ألاخر دون أن تحصد توافقا على ثمرة البردي المتمايلة .



جماليات العنوان






أغلب العناوين في المجموعة يتألف من كلمتين (مضاف ومضاف إليه ) استخدمت اثني عشرعنواناً وهذا الرقم يشكل نصف قصصص المجموعة وبدلالات مختلفة زمانية ومكانية وبالصيغة النحوية (مضاف ومضاف إليه )وكأنها تبحث عن مسند قوي تستند إليه تحاول ان تبدأ بقوة العنوان مثل (طرق الدهشة , عصفور الغفلة , فانتازيا الحب , ..........الخ ) .


ومعروف نحيوياً إن المضاف اسم نكرة يستمد معرفته بإضافته إلى اسم معرف . ففي عنوان (طرق الدهشة ) جاءت الكلمة الأولى بصيغة الجمع لتطلق عقال الدلالة الى أقصى المدى ، وكأن هذه العبارة تفتح أفقاً كبيراً للتنفس بعد لحظة انحباس قاسية . وفي العنوان الثاني (عصفور الغفلة )تم اسناد المحسوس إلى المجرد ، الكائن الملموس إلى المعنوي المجرد , الطائر الجميل الى المعنى الذي يفقد فيه المرء صوابه ,والعنوان ذاته تركيب يمنح للقارئ الفرصة الأخيرة للتنفس تركيب (مذكر , مؤنث . جامد ، مشتق . خاص ، عام . كائن نابض بالحياة .اسم ذو معنى . ) .


أماا لعنوان الأخير الذي يمكن الوقوف عنده هو عنوان المجموعة (فسيفساء امرأة ) جاءت العبارة باسناد نكرة (فسيفساء )إلى اسم نكرة (امرأة ) والتركيب يقوي المجاز الدلالي ذات السلطة الواسعة لغوياً ، وكلمة (فسيفساء ) تشكل فضاء لامتناهياً من التنوع اللوني والجمالي ، تتكثف فيه حياة الأنثى بكل تنوعها وحالاتها ومراحلها . فالمرأة ما هي طيف مدهش , غنى هذا الطيف في غنى السخصيات التي تقدمه لأن هذا الطيف مزيج جمالي هائل ومتنوع , تقابله حياة متعددة الألوان وكثيرة الخيبات والآلام , وهذه الأفكار هي المعادل الموضوعي – فنياً – لرؤية إشكالية تشكل جزءاً اساسياً لحياة يعالجها الكاتبة , وبالتالي فهذا العنوان هو المحور ((اللولبي )) لمجمل موضوعات المجموعة التي لم تستطع سوزان التحرر من طغيانها ( كهف الأنوثة ) ، و كأن الحياة ليس فيها مواضيع أخرى غير هذا الحيز الضيق من الهم الإنساني .


(أحلى حكايات الحب , تلك التي تبدأ مباغتة )ص116 . هذه العبارة هي التي تفرض الفكرة التي يجب معالجتها فنياً. أخيرا يمكن القول أن جمالية العنوان وبروز اللغة المجازية فيها ,والتركيب ذات الدلالات المتعددة جاءت من الانزياح اللغوي ذات البعد الفكري . وتلك من تقنيات القصة الفنية الحديثة .


20 سبتمبر 2009

مرات ( خلف علي الخلف )

وجهك عصافير الصبح

عيونك ندى هربان من ليل..
ومن اسمعك
أحس الفجر شباك.. ينطرني
مدري منو
أنطر خيوط الشمس وانسى:
عجب صليت الفجر ؟!
تليت سورة ضحكتك!
ولّا جمعت العمر
سجدة وحدة
وسجادتي وجهك
خلص الفجر
والشمس عليت بالسما
ونسيت روحي عـ الفجر
تنطر عصافيرك
وتسألني:
عجب ليش ما مر الصبح ؟!


2
مرة شفت الليل مايل
ومرة شفتو يضحك وبيّن سن الذهب
ومرة شفتو يلعب بروحو
والدنيا عتمة
ومرة خذاني لاول الصبح
شربنا سوالف.. وغنينا سوا:
وِلَكْ ياضو
ياطفل غافي بجوف الليل
تعال.. وهات الزمن وياك
شكَد نطرتك أنا والليل
وانت تتحجج
مرة تقول امي الشمس
لسا ما صحيت
ومسكرة علي الباب
ومرة تقول البرد واكَف على بابي
ومرة تقول أخاف من المشي بالليل
وكل مرة تتركنا أنا والليل
ننطر لتالي الليل
ويطفينا السُكر
وما نشوفك
مدري دلال
مدري تحس عيوني من تشوف الضو تبچي
وانت ما تحب الدمع
مدري ما تعرف الوكَت
اشلون يمضي وانت تنطر
مدري لانك عمرك ما نطرت احد
ولك ياضو
لو تدري شـكَد يـبچـي الليل
امن اغنيلك


3
مرة
والمطر يهذي إعلى وجهي
شفتك تلعب ببالي
حسيتك طفل ضايع
كَتلك: زغيرون.. روحي من عمرك
العب وياها لمن تجي امك
ضحكت
كَتلي آنة مو تايه
آنة لمسة تركها الحب
إعلى وجهك
مرات تحسبني مطر
مرات تحسبني عطر
مرات تحسبني طفل يلعب ضيع طريـكَ البيت
مرات تحسبني عمر تايه
بس من اضحك
تعرفني: ابن عينك


4


ياحلم
تاخذني لبساتين الشمس
ومرات اعطش
ويا كثر ميّكْ ياحلم
مرات اجوع
ترضعني فجر أبيض
مرات ابكي
احسك تنهر دموعي
وتقلي:
ترى دمعك يجفلني
ومرات... اصحى من نومي
و.. تضيع!
وِلَكْ يانوم: ظل جنبي
شيفيد الصحو
غير اضيع ها الحلم


5


مرة.. بين الصحو والنوم
كنت أحاول أستلف
لو من خيالي.. وجه حبي
اندكَ بابي
بين الكسل والشوكَ فتحت الباب
ولّا البرد يرجف
ويطكَ سن بسن
يكَلي:
أمي تسلم عليك وتقلك
يلتقى عدكم شوية دِفَا؟

07 سبتمبر 2009

نوافذ مخبأة في جيبي


لاشيء يتبادر إلى الذهنِ إذا ما توقف المصعدُ بي، أو إذا ما استعصت الرغبات، أو إذا ما نمتُ، ولم أحلمْ بشيء.. غير أني امرأةٌ رماديةٌ، تعصِبُ قلبَها بالضمادات، وتقلّبُ احتمالاتِ الحزنِ على وجوهه.. فلا تتعثر إلا برحيل السفن. مازالت الأرواحُ الأبعد تسكنُ طرفَ الحكاية.. ومازالت الأيامُ مهددةً بلا غد.. وكنتُ قد أقسمتُ عليكَ أن تتذكرَ حدائقي المعطوبة.. وما بذلتُ من قلقٍ كي أرسمَ في السماء شمساً لا تغيب.. كم مرةً عانيتُ من اكتئابِ الغروبِ، من لطخ اللونِ، من طعم الشحوبِ..؟ كم مرةً خذلتني المرافئُ، ولمْ تكتملْ فوق جسدي دائرة ..؟ بلا مشهد تسهرُ المدنُ، وخُطانا خَطايانا الثقيلة، غرقنا وخاننا الاتجاه، وما رحمتنا من شتاتِها الجهات.. كنتَ هناك .. وكنتُ هناك، حيث الكلامُ خجولاً نام في النسيان، وحيث اللغةُ باليةً سكنتْ دمي .. نغلق هواتفنا، نصم آذاننا، فلا نسمع ولا نحكي .. نملأ شرفاتِ المساءِ بالغائبين.. والندمُ سيرتُنا الأولى.. حكينا أو صمتنا سواء. مالحة جروحنا.. مقاعدنا.. ظلالنا... عتبنا أيضا يسيلُ.. البردُ شاسعٌ، لكن.. هناك متسعٌ كافٍ من الوقتِ لأذكركَ بفداحتي، وعناوينِ الريحِ، والشاماتِ الأزلية فوق جلدي، وصررِ الصبرِ، ومواعيد مهشمةٍ، وأنخابِ العمرِ في أعقاب الكؤوس، وجدران لم تحفظْنا، والعناق منسياً في المرايا.. وحيدةٌ اليومَ، وحيدةٌ غداً، وظلي ينسَّل مني كأبخرةِ آخرِ الحبِ، يتبعُكَ يمضي.. قد أغادرُ.. وقد تغادرُ، ولن يتذكرَ العابرُ منازلَ السقوفِ العاليةِ، وحنيناً يطقطقُ في المدفئةِ. خذلتْنا السلالمُ، والأبوابُ المقفلةُ في وجهِ الصباحاتِ، وشرفاتِ الوقتِ المؤجلِ. وأنا ماعدتُ أعرفُ ماذا سأفعلُ بالنوافذِ التي خبأتُها في جيبي..؟ ياعتب المحبةِ.. لأوقاتٍ لاتتذكر الفرحَ الطارئَ، والوخزَ اللذيذَ، وضحكتي الخضراءَ مثلَ حقول.. يلزمُني أن يصغرَ الكونُ بعضَ الشيء، أن يدنو الضوء من المساء بعضَ الشيء ، أن ألكزَ ساعدَك كي يضمني.. يلزمني أن أثرثرك حتى آخر الشوق، أن أحبك منذ ملايين السنين، أن أتحججَ بأن اسمك لاينسى، كي نبدأ الدائرةَ من جديد؛ حيلة ذهابٍ يعود، وخطى تعرفُ تماماً كيف يكون انتظار مطر الفصول.‏

23 أغسطس 2009

سماء لكل المدن: مجموعة ليندا حسين القصصية

"سماء واحدة لكل المدن» نصوص مفتوحة على المعاني
القاصة ليندا حسين تحتفي بالتفاصيل الصغيرة وتغوص في خبايا النفس وهواجسها



مما لاشك فيه أن العنوان كعتبة أولى يلعب دورا أساسياً في رغبتنا في تعميق المعرفة بالكتاب، خصوصا إن لم يكن القارئ قد أقام علاقة اتصالية سابقة مع الكاتب، تمنحه تصورا ما عن مستوى الكتابة.. العتبة الثانية تأتي مع الإهداء الذي يحفزنا بطريقته على تكوين انطباع ما فضولي ربما حول الجهة التي سيذهب إليها؛ بعدهما تتتالى لعبة الشد والجذب فيما نقرأه من نصوص الكتاب، وما بين سطوره، وبذلك يتحقق للكاتب/ الكاتبة النجاح من عدمه... من هذا المدخل تطل علينا القاصة السورية ليندا حسين المقيمـة في ألمانيا بمجموعتها الأولى «سماء واحدة لكل المدن»، فالعنوان ينطوي على كم من الشعر، وكم من الغموض، وكم من احتمالات التأويل، ثم تأتي التقاطة الإهداء المتميزة، بعدها تسوقنا القاصة في دهشات متتالية إلى مواضيعها التي تتناول انكسارات الحب، وهواجس الغربة، تصوغها بعبارات الألم، كما لو كانت المعاناة رديفا للإنسان وحياته، أو لعل المجموعة ليست إلا قصة واحدة، بمخرجات متنوعة، لروح تسعى إلى راحتها، ولو من خلال ثقب في السماء..! والقاصة في نصوصها المفتوحة على التجريب تحتفي بالتفاصيل الصغيرة لحالات شعورية من ألم وغربة وعجز وانكسار، وتغوص في خبايا النفس وهواجسها لتجعلنا ننساق نحو مناخاتها التي أرادتها في مجموعتها الصادرة حديثاً عن دار أزمنة- عمّان، منبئة بذلك عن موهبة تصدر نفسها بثقة منذ الإصدار الأول، الذي تضمن 12 قصة ضمن 60 صفحة من القطع المتوسط.. إطلالة محسومةجاء الإهداء إلى « على الأرجح « .. و « ربما» وكأنه احتفال بالـ (لا يقين) الذي سيؤرجحنا بقلقه في أغلب قصص المجموعة، قلق تتغير مفرداته، وتتباين سلوكياته، ليصبح نتاجا للحب المهزوم، وللحظة الانكسار والغربة والمعاناة التي يعاني منها الانسان المأزوم، وهو شعور لايضع قدميه على الأرض، ولا ينحاز إلى المتوقع، إنه: «ربما.. وعلى الأرجح..» وإذا كان كارل يونغ يرى أن «الفن ليس تعبيرا فرديا، بل هو تعبير جمعي، وبالتحديد هو تعبير عن المخزون اللاشعوري للذات الجماعية، ما يعني أن دلالة النتاج الفني ينبغي أن تلتمس في رغبات الجماعة ولاشعورها، لا في رغبات الذات الفردية..» ويضيف يونغ أن «العمل الفني يشبه الحلم» ومن ثم فرغم ما قد يبدو في هذا العمل من وضوح وبساطة فهو تماما كالحلم حتى عندما يكون واضحا فإن لغته إشارية رمزية، ولذا يجب الاحتراس من كل محاولة لتبسيط العمل الفني وإنجاز فهم تعليلي له, ولعل في هاتين الإشارتين ما يقود القارئ إلى فهم وتفهم (حالة) نصوص ليندا حسين التي تنفتح على أجواء أوسع وأكثر رحابة من معانيها المباشرة، ولاتتقيد في سردها بمقدمة وحدث وخاتمة.. وإذا كان كل نص يجبر القارئ على مقاربة معينة يفرضها سياقه؛ فإن هذه المجموعة تفرض مقاربة تتحدد بتناول كل قصة على حدة لنطل على مضامينها باختصار في مواضيع النصوص:سماء واحدة لكل المدن القصة الأولى والتي حملت المجموعة عنوانها، تتطرق إلى فكرة التأقلم مع ما يستجد تبعاً لظروفنا، فنكون أمام خيارين، إما المجاراة لتستمر الحياة، أو أن نبقى في العزلة سجناء الماضي.. المكان ليس دمشق بحد ذاتها كمدينة، بل هي الالفة مع المكان والحلول المناسبة لصنعها.رائحة دمشقهنا تسترسل الذات الراوية في مونولوجها الداخلي، فرائحة دمشق تختلط برائحة الحب والأرق والكتابة (الرجل الوحيد الذي سأحبه للنهاية)، ويتوزع الحدث ضمن مقاطع منفصلة، تستخدم فيها القاصة آليات سردية مختلفة، بما فيها الحوار والاستذكار، القطع والوصل، فنعايش برد تلك الشابة (البطلة)، وتعبها وغربتها ودوارها، وحبيبها الهارب، ودمشق وموظف الأمن في تلك البلاد الباردة، والذي للمفارقة يشاركها حواسها الشاردة، فهو أيضا محض غريب، وكل ما يبقى وعود بنزف دائم..أونوالقصة/ المشهد وتحدث أثناء لعبة ورق، ومع احتمالات الربح والخسارة، هناك وطأة الانتظار، والأفكار الشاردة بتوقع مكالمة لا تأتي، خليط من المشاعر وتناقضاتها لتحتوي كل شيء: الشوق والغيرة والعتب والتذكر والتخيل .. وكلها رهينة لعبة حظ أو رنين اتصال ..!أول طقوس الحنينكأننا أمام بجماليون، والسؤال المحير: هل الوهم أبقى من الحقيقة، وهل كان على المرأة أن تبقى داخل اللوحة كي «لاتموت غداً» ..؟وهذه القصة تنسج علاقة خاصة مع المتلقي تبعا لحمولاته الذهنية، إنها لا تترك مسافة للحياد لمن يحمل ذاكرة مشابهة، وستقوده الى «حب» هذا النص؛ الذي ربط بمهارة بين «عبارة الحلاج» التي تبقى، وبين الحب الذي ما ان يولد حتى يكتب أول حرف في نهايته... ما خلفه الرجل الذي كان حبيبيتتكرر في المجموعة فكرة الحب كقضية خاسرة، يقيض لها أن تنتهي « كحكايا لا تكتمل». في هذه القصة يظهر الحبيب/ هو « سالم» الذي يبدو من اختيار اسمه معافى مقابل /هي» الأرملة»، والموت في هذه القصة لا يعني واقعة بيولوجية بقدر ما يتعلق بغياب الحبيب، وإن أية محاولة لاحقة لاستمرار الحياة ليست إلا محض وهم. ويقود هذا النص الى تفسير ذاتي للموت عبر تخصيصه وجعله شأنا يتعلق بالطريقة التي ينظر فيها كل منا إلى الموت..كل هذا الغبارهنا يحضر الرجل بصفاته، فـ سالم (مرة أخرى) لا يملك سوى «يدين يضعهما في جيبي بنطلونه الجينز وعينين تصلانه بهذا العالم» ، وهي « انثى تعج بالنحل» وكلاهما مسمر في مكانه، في محاولة لكتابة سيناريو فيلم يعيدان به خلق العالم من جديد، لكن الغبار يحيط كل شيء، والنحل يكف عن الدوران، فأزمنة الحكايا المدهشة ليست إلا كذبة أخرى..يحدث في العتمةالعنوان يستحضر ما يحدث في الخفاء، فيه اشارات مبطنة لخطاب ايروتيكي ، فهناك حالة لايتم الافصاح عنها تستدعي أجواء العتمة والانغلاق والوحدة على رغم أنها «الظهيرة» التي تنقضي ما بين قطع الخيط وانفراط خرزاته التي تشبه ضربة سكين تمزق الجلد، ومابين الخوف والشعور بالندم، ومن ثم اعادة الكرة.أقدام حافيةفي رمزية ساخرة، وعبارات فطنة ترصد هذه القصة اسكافيا حافي القدمين، وهو المالك الوحيد للحقيقة، يرى العالم من ثقب جورب، و يقرر أن الحذاء الوطني هو وحدة قياس الأمور كلها، ولكنه يختفي مطالباً الجميع برمي أحذيتهم وشراء أخرى جديدة، فالاصلاح ما عاد مجدياً !..علي رطلقصة ساخرة أخرى، توحي بأجواء قصص تشيخوف، وتصور النجومية التي حلت بعلي رطل الفلاح البسيط جراء لحظة واحدة ظهر بها على شاشة التلفزيون، يتحول بعدها إلى نجم ساطع، يتابعه الجيران والمعارف ويفخرون به، حتى صارت المسافة إلى بيته هي مقياس المسافة في الحارة.. الكراسي قصة تعتمد الرمزية في إسقاطها السياسي حول التمسك بالسلطة، وإقصاء الآخر.الرجل السيئ في لوحة الموزاييك.قصة تفلسف الفارق بين الحقيقة والوهم، والنظرة إلى الأشياء، لتسقط هذا على دمشق المدينة، واختلاف مشاهدها مع اختلاف مواقعنا منها، وأجد أنها قصة لم توفق حقاً في الوصول إلى معناها، على الأقل بالنسبة لي كقارئة.أوسع من نافذتيفي التقاط ذكي لتفاصيل تبدو غير مهمة توصلنا القاصة عبر تراكيب مفعمة بالإحساس إلى فكرة تسرب الملل إلى الحب، والاستمرار في التظاهر بأننا بخير، وبأن شيئاً لم يحدث.في الخاتمةلا يمكن تجاهل الأسلوب كأحد خصوصيات الكاتبة، فالذات الراوية تستخدم ضمير المتكلم غالباً، وقد تفوق اهتمام الكاتبة بعنصر اللغة على غيره من عناصر السرد الأخرى، ما جعل اللغة وبالتالي الاسلوب سمة تميز المجموعة..سماء واحدة لكل المدن، مجموعة من القصص تبحث عن قارئ فطن ليكملها.. قصص قدر لراويتها أن تضعها أمامنا كمواضيع تتفتح معانيها بعد كل قراءة على لغز جديد يحتاج إلى برهة إضافية من الوقت، كي نصوغ أفكارنا الخاصة حيالها.. إنها قصص غير محسومة، ولكنها بالتأكيد بارعة الذكاء.
سوزان خواتمي

04 أغسطس 2009

هذا بكائي/ وضحى المسجن

لم يعلمه أحدٌ أن يكون أنيقاً
يجيء إذا ما دعت حاجةً ما ضروريةً للبكاء
وليس له أبوان عطوفان يعنيهما أن يهىء أحلامه للموسيقى
و أحزانه لابتكار مزيدٍ من الشِعر
يتيمٌ كزهرةِ دوار شمسٍ
يشاكسني لوتجاهلته وذهبتُ إلى النوم
يرواغ حزني بأكواب قهوته
لأسند رأسي على كتفيه ..
و أبكي .
وأنا أحبّ
وكلما أحببتُ أبكي
داخلي مكسور
مثلُ قصيدةٍ
أعني حنيني شاردٌ
موبوء..
ملتبسٌ
يفيض على حدود الحُبّ
شحاذٌ ..
ذكيٌ مرةً
وغبي مراتٍ
يمد يديه للطيف الـ يمر بضفتي حلم
يليلٍ تائه
لظلِ
لذكرى
لحبٍ ميتٍ
مسكين ..
ليس له فكاكٌ من خرافاتي
تورّمَ جفنه بالدمع
أوقد لي أصابع شمعه ومضيت
ليس يدلني أحدٌ
عميتُ
لفرط ما أحببتُ حباً طيباً / أعمى...
عميتُ.

03 أغسطس 2009

كان ينقصنا حاضر: محمود درويش

لنذهب كما نحن : سيدة حرة
وصديقا وفيا ، لنذهب معا
في طريقين مختلفين
لنذهب كما نحن
متحدين ومنفصلين ، ولا شيء
يوجعنا لا طلاق الحمام
ولا البرد بين اليدين
ولا الريح حول الكنيسة توجعنا ...
لم يكن كافيا ما تفتح
من شجر اللوز
فابتسمي يزهر اللوز أكثر
بين فراشات
غمازتين . وعما قليل يكون لنا
حاضر آخر إن نظرت وراءك
لن تبصري غير منفى
وراءك : غرفة نومك ،
صفصافة الساحة ،
النهر خلف مباني الزجاج ،
ومقهى مواعيدنا ...
كلها ، كلها تستعد لتصبح منفى ،
إذا فلنكن طيبين ! لنذهب
كما نحن : إنسانة حرة
وصديقا وفيا لناياتها ،
لم يكن عمرنا كافيا لنشيخ معا
ونسير إلى السينما متعبين
ونشهد خاتمة الحرب بين أثينا وجاراتها
ونرى حفلة السلم ما بين روما وقرطاج عما قليل .
فعما قليل ستنتقل الطير من زمن نحو آخر ،
هل كان هذا الطريق هباء على شكل معنى ،
وسار بنا سفرا عابرا بين أسطورتين فلا بد منه ،
ولا بد منا غريبا يرى نفسه في مرايا غريبته ؟
" لا، ليس هذا طريقي إلى جسدي "
لا حلول ثقافية لهموم وجودية "
أينما كنت كانت سمائي حقيقية "
من أنا لأعيد لك الشمس
والقمر السابقين
فلنكن طيبين ...
لنذهب ، كما نحن : عاشقة حرة
وشاعرها .
لم يكن كافيا ما تساقط من ثلج كانون أول ،
فابتسمي يندف الثلج قطنا على صلوات المسيحي ،
عما قليل نعود إلى غدنا ،
خلفنا ،
حيث كنا هناك صغيرين في أول الحب ،
نلعب قصة روميو وجولييت
كي نتعلم معجم شكسبير ...
طار الفراش من النوم مثل سراب
سلام سريع يكللنا نجمتين
ويقتلنا في الصراع على الاسم ما بين نافذتين
لنذهب ،إذا ولنكن طيبين لنذهب ،
كما نحن : إنسانة حرة وصديقا وفيا ،
لنذهب كما نحن .
جئنا مع الريح من بابل
ونسير إلى بابل ...
لم يكن سفري كافيا
ليصير الصنوبر في أثري لفظة
لمديح المكان الجنوبي
نحن هنا طيبون .
شمالية ريحنا ،
والأغاني جنوبية
هل أنا أنت أخرى وأنت أنا آخر ؟
" ليس هذا طريقي إلى أرض حريتي
ليس هذا طريقي إلى جسدي وأنا ،
لن أكون "أنا"
مرتين
وقد حل أمس محل غدي
وانقسمت إلى آمرأتين
فلا أنا شرقية ولا أنا غربية ،
ولا أنا زيتونة ظللت آيتين
لنذهب ، إذا .
" لا حلول جماعية لهواجس شخصية
لم يكن كافيا أن نكون معا
لنكون معا ...
كان ينقصنا حاضر
لنرى أين نحن. لنذهب كما نحن ،
إنسانة حرة
وصديقا قديما
لنذهب معا في طريقين مختلفين
لنذهب معا ،
ولنكن طيبين ....