30 نوفمبر 2010

منزل يليق بالضيوف (خلف علي الخلف)

إلى خلف علي الخلف 

انا وحيد الضلوع، آخر الأضلاع، بقايا مستطيل قتل أهله في عملية انتحارية.. أو مربع سرقوا بقية أضلاعه. أنا الهمزة المنسية في آخر السطر، الهمزة التي على النبرة [ ويخطئ الصحفيون السفلة في كتابتها..]
اختبئ [ أحياناً] بين النون وأبنائها، واحياناً بين السين والسماء، وفي أحيان [ أخرى] أمحو آثاري كي لايتبعني أحد.
أنا من يشتري الماء ليسقي الأموات. الذي يخطئ بالحساب[ دوماً] ولايعرف على وجه اليقين ان واحد زائد واحد يساوي واحد أم اثنين ؟
أخبئ في دفتر أيامي ممحاة لأمحو بها الذكريات، وأرسم على وجه من احب كوخاً وأسكن فيه .
في المساءات البطيئة انادم الريح وأشرب معها البيرة في " سبيت فاير" تلك الريح التي تتسلل من شقوق النافذة الوحيدة أو الباب الوحيد مثلي؛ وحينما أخرج من البار، أدس يدي في جيبي لأحصي مابقي من خسارات.
أعود إلى ماأسميته " منزل يليق بالضيوف" في شارع الاسكندر الأكبر، لأفتح نافذتي التي تطل على مقبرة
وعادة أخاطب القبور:
لو كنت في " بوركينا فاسو" أو حتى" فولتا العليا" ربما نصبوا لي تمثالاً في إحدى الساحات؛
لكن حظي البائس جعلني أولد في أمة من العظماء! لم يصل الدور إلى أي من هؤلاء [ العظماء] الذين في المقابر، لتُنصب لهم تماثيل. أو تسمى شوارع بأسمائهم..لذلك عليّ أن أشتري قبراً من الآن
فالموت أصبح كثيراً.

من ديوان ( قصائد بفردة حذاء واحدة)
صادر عن لولو برس 2009

22 نوفمبر 2010

الخ... طعام صلاة حب

[طعام، صلاة، حب].. بهارات صالحة لتذوق الحياة
لست من النوع الذي تستهويه العناوين (الطنانة)، ينطبق هذا على الدعايات المغرية، والعبارات الإعلانية التي تُكتب على بعض الأغلفة متباهية بأنها الأكثر مبيعاً، فالانتشار بفعل الأغلبية ليس الأفضل بالضرورة. لكن بطريقة ما، دُفعت لشراء رواية [طعام، صلاة ، حب ] للكاتبة اليزابيث جيلبرت، والتي بيع منها أكثر من 4 ملايين نسخة حول العالم، كما تحولت إلى فيلم قامت ببطولته جوليا روبيرتس ذات القوام الرشيق، إضافة لظهور الكاتبة في حلقة من برنامج أوبرا وينفري الأشهر، والمفضل عندي. رواية اليزابيث جيلبرت التي ترجمت من قبل مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، ونشرتها دار العربية للعلوم ناشرون، حازت على كل تلك الشهرة وذاك الاهتمام، بل وطبعت على غلافها الأخير شهادات خاطفة لشخصيات لامعة بعضها أعرفه كهيلاري كلينتون، وميغ رايان، وبعضها لا أعرفه، لكني وضعت اسمه على غوغل كطوني كوليت، وميني درايفر ،واستر فرويد.. بالله عليكم أي موضوع أثير هذا، الذي يجعل العالم يحتفي به، ويدفعني لقراءة 400 صفحة، بل وبجعلني أشاهد فيلم رشيقة القوام جوليا!



إنها قصة ليز؛ صحفية تبلغ من العمر 31 عاماً مقيمة في نيويورك، ومتزوجة منذ 8 أعوام، تفتقد شيئاً ما، لا تعرفه، لكنه يدفعها إلى طلب الطلاق من زوج اختارته عن سابق حب متعلق بها ويتوقع منها أن تنجب. درامياً لا يحدث هذا في واقع مجتمعاتنا، لكن ذلك لم يمنعني من متابعة الأحداث التي تبدو في بدايتها متلاحقة فبعد الانفصال مباشرة يظهر الشاب ديفيد في حياة ليز فتدمن، كعادتها، حبه. هذا بالضبط ما يودي بعلاقتهما إلى الفشل. ليز المحاصرة بالخيبات وعدم الرضا،فبعد ما يقارب الـ 50 صفحة من الرواية، تعاني خلالها من عوارض الاكتئاب وأدويتها زانكس وزولفت، تقرر أن تترك أريكة بكاءها اليومي، وتسافر في رحلة طويلة إلى ايطالية والهند وأندونسيا، في اختيار دقيق لأماكن وحدتها التي فرضتها على نفسها.


ومن هنا تبدأ الرواية الحقيقية، لنكتشف مع ليز صفحة بعد صفحة، خليطاً ممتع من العالم الخارجي للأمكنة والعالم الداخلي للذات، ففي ايطالية تتعلم ليز اللغة، ومابين (الطعام والكلام) تقضي أيامها في أحضان ثقافة تمجد الحب والكسل واللذة والجمال. وأثناء تنقلها مابين بولونيا وفلورنسا والبندقية وصقلية وسردينيا ونابولي، تحاول أن تصبح أكثر صلابة وقدرة على مواجهة ذاكرتها، ومقاومة خسارات الحب. فتتعلم من ( أغوستيوم) المكان الأكثر هدوءاً ووحدة في روما، والذي تحول من ضريح، إلى قلعة، إلى مستودع، إلى حلبة مصارعة، بأن حياتنا أيضاً ترضخ للتقلبات الهائجة والتغيرات المضطربة، ورغم ذلك نحن نبقى نحن.


المحطة الثانية في رحلة الهروب والبحث عن الذات، هي الهند؛ بلاد التقشف، والتأمل، حيث تقيم ليز في المعتزل، وتخضع لطقوس التعبد، فتمارس التأمل، ودروس اليوغا، في محاولة للوصول إلى الكمال، وللتخلص من الشعور بالذنب فهو بحسب رأي البطلة ( ليس إلا خدعة من الأنا لجعلك تعتقدين بأنك تحرزين تقدماً أخلاقياً) .


أما المحطة الأخيرة للرحلة، فكانت أندونسيا، تلبية لنبوءة عراف سبق أن قال لها: ستعودين إلى بالي. الناسك كيتوت الذي بدا أنه نسي تماماً ما قاله حين قرأ كفها، يمدها بحكمته وعلاجاته لتصل إلى طريق التوازن المفقود، في الوقت نفسه تستمتع ليز بقضاء الوقت في أحضان طبيعة رائعة، برفقة مجموعة من أًصدقاء ظرفاء.


تبدو الرواية حافلة بعوالم مختلفة، متناقضة، انفعالية، هدفها تحقيق الذات عبر تنوع الرغبات. فمن أجواء الحياة والصخب، إلى دنيا الروحانيات، إلى التورط بالمشاركة والاهتمام بالآخرين. تقدمه لنا كخليط من البهارات، ففي مطاعم المدن الايطالية حيث يقدمون الـ [بيتزا الأرق واللينة بطعم الجبن الكثيف]، وفي الهند إذ يتحتم عليها أن [ تتعلم إطلاق سراح كل المسائل القديمة] ، أما في بالي فترضخ لعلاج القلب المفطور [ بفيتامين E وكثير من النوم، والسفر إلى مكان بعيد عن المحبوب، التأمل وتعليم القلب أن هذا هو القدر].


تم تقسيم الفصول على طريقة مسبحة الـ " جابا مالا " الهندية، وأتوقع أيها القارئ أن تكون مثلي، فلا تعرف شيئاً عن حبات المسبحة الـ 108 والتي تعتبر بحسب الفلاسفة الشرقيين رقم السعد، ولتحقيق التوازن(مرة أخرى) قسمت الرواية إلى 108 حكاية من خلال ثلاثة أقسام لثلاثة بلدان.. إنها معلومات تتبرع بها المقدمة التمهيدية للكتاب، لكنك بعد قراءة الرواية سترضي فضولك بمعرفة أوسع عن الطقوس الروحية التي تقام في معابد يؤمها الناس على مختلف مللهم وانتماءاتهم، للوصول إلى الراحة والسكينة، فيصومون عن الكلام، ويساهمون بنصيبهم من الخدمة العامة.


الكتاب مدهش في توصيفه لمشاعر الحزن والإحباط التي تشبه بدقتها ما ينتابنا عموماً، ورغم أن الكاتبة/ الراوية/ البطلة تركت كل شيء خلفها لتهرب من الحب، فهي لا تفاجئنا كثيراً في الخاتمة حين ترفع راية الاستسلام أمام أقدار العاطفة، فتقرر أن القلب الذي يخوض في الألم، لا يمانع في الوقوع بالحب المرة تلو المرة. وسواء رفضنا ذلك، أم اقتنعنا به، تبعاً لتجاربنا الخاصة، إلا أني شخصياً استمتعت بالرواية ومنطقها. وحسدت كاتبة ليست من أعضاء اتحاد الكتاب العرب، ولا أي اتحاد آخر، وليست تحت وصاية ناشرينا، لأنه كان إمكانها، ومن تمويل كتابها الذي لم تكتبه بعد، أن تسافر لعام كامل في جولتها الخاصة تلك.!  وتعلمت أيضا، وللمرات المقبلة، أن أكون أكثر ثقة بالعناوين الطنانة، والدعايات الرنانة.. الخ .. الخ .. الخ 

مثل شعبي يصلح لكل زمان ومكان

من عافنا عفناه لو كان غالي ** ومن باعنا بالرخص بعناه بزهود


18 نوفمبر 2010

الساق- انيس الرافعي/ عن موقع كيكا

1)

في الحديقة كان لقاؤهما المعتاد هو وهي.

في الحديقة كان لقاؤهما المعتاد هو وهي حين طلب منها هو عربون حب لايقبل الجدل.

في الحديقة كان لقاؤهما المعتاد هو وهي حين طلب منها هو عربون حب لايقبل الجدل فأهدته هي بلا تردد ساقها اليمنى.

في الحديقة كان لقاؤهما المعتاد هو وهي حين طلب منها هو عربون حب لايقبل الجدل فأهدته هي بلا تردد ساقها اليمنى الاصطناعية كي يحتفظ بها هو لأسبوع كامل.

هي تمضي من الحديقة بعكازين.

وهو يمضي إلى المنزل بالساق.


(2)


في المنزل كان سعيدا بالساق. سعيدا بها لأسبوع كامل. سعيدا بها لأنها ساق المرأة الوحيدة التي عضت قلبه. سعيدا بها لأنها الساق الوحيدة التي لاتذكر بساق أخرى. سعيدا بها لأنها الوحيدة من بين السيقان اللواتي لم يغرز الزمن فيها بعد أسنانه العنيفة. سعيدا وسعيدا وسعيدا وسعيدا وسعيدا بها كما لو أنها مازالت ساقا بعد. سعيدا لأنه في كل ليلة نض من جذر الفخذ حتى الربلة عنها سنتمترا فسنتمترا

جوارب النايلون وأعاد حشرها سنتمترا فسنتمترا في ذات الجوارب. سعيدا لأنه في كل ليلة أقام في

سفح الساق كي يزخرف الأظافر الخمسة باللون الأحمر الأحمر الذي جعله غير مضطر للتفاوض مع كلب الرغبة النابح النابح في داخله. سعيدا لأنه في كل ليلة تخيلها ساقا بشعر خفيف غير لائق فرض عليه أن يمرر ويمرر رغوة الصابون ويحلق ويحلق حتى عاد السواد السواد إلى قواعد البياض ناصعا. سعيدا لأنه في كل ليلة خاض معترك الساق بالهمسات باللمسات المتقاطرات الهاميات على اللحم الوهمي كالعربات غير محكمات الشد في قطار يندفع في البرية بمنأى عن توجيهات السائق نفسه. سعيدا لأنه في كل ليلة اقترب رعشة أكثر ورجفة ﺃقرب من شفاء الساق. من جعل الحياة في كل ليلة تدب من جديد في كل هذا السيليكون. من جعل الساق في كل ليلة لا تشكو بعد كل ليلة من


كل هذا الغدر الحاد وغير القابل للمراجعة الذي يسمى: البتر.

(3)
في الحديقة سيكون لقاؤهما المعتاد هي وهو.

في الحديقة سيكون لقاؤهما المعتاد هي وهو حين لن ينتظر منها هو أن تطلب منه هي عربون حب لايقبل الجدل.

في الحديقة سيكون لقاؤهما المعتاد هي وهو حين لن ينتظر منها هو أن تطلب منه هي عربون حب لايقبل الجدل فأهداها هو بلا تردد ساقه اليمنى.

في الحديقة سيكون لقاؤهما المعتاد هي وهو حين لن ينتظر منها هو أن تطلب منه هي عربون حب لايقبل الجدل فأهداها هو بلا تردد ساقه اليمنى الحية التي جزها بمنشار ووضعها هو في الثلاجة طيلة أسبوع كامل كي تحتفظ بها هي إلى الأبد.

هو يمضي من الحديقة بعكازين.

وهي لاتعرف إلى أين ستمضي بهذه الساق الزائدة.



















09 نوفمبر 2010

أصابع بطاطا تحترق( من مجموعة قبلة خرساء)

درجاتُ الحرارة أعلى مما تنبأت الأرصادُ الجوية في نشرﺗﻬا هذا الصباح، ورائحة غريبة تفوح في المكان، مزيجٌ من حنة قديمة وزيت محروق. تلمع فوق أنفها الدقيق، وحول فمها، حباتُ عرق، تفضح شعيراتٍ خفيفة مصبوغة بالأكسجين، ترتجف شفتها بوضوح.



يسألها الضابط المحقق بجفاء:


"الاعتراف يضمن لك أحكامًا تخفيفية.. من الأفضل أن تسهلي الأمور علينا وعليكِ.. أنت تضيعين وقتنا بصمتك هذا."


أثاث مقلوبٌ، أغراضٌ محطمٌة، فوضى مريعة تجتاح المكان؛ ربما كان عليها أن ترتب قلي ً لا قبل دخولهم، لكن الوقت الضيق داهمها كما داهمها كل أولئك الغرباء بأحذيتهم المغبرة المتسخة.


البقع فوق الجدران تش ّ كل لوحًة سوريالية، تشبه لطخًا لونيًة رأﺗﻬا مرة ولم تعجبها. الفنان الذي رسمها كان يستعرض أمامها جم ً لا غير مفهومة تمامًا،تكلم عن شيء يدعوه ما ورائيات اللون، وعن الحركة المنسجمة التي تحدثها لوحته.. أدهشتها قدرته على شرح ما لا تراه حقيقة، لكنها لم تعترض، بل ظلت ﺗﻬز رأسها علامة الموافقة والاستيعاب..


قال لها: "سأهديك اللوحة أيتها الجميلة.. فقط كي تراكِ كل صباح".


تعودتْ أن تنصت بانتباه شديد، لكن أحدًا لم ينصت لها. هكذا كبرت، أذنين كبيرتين و دون صوت، نادرًا ما اعترضت، ولم تبد رأيها بالتأكيد، حتى حين كان زوجُ أمها يدفعها خارج الغرفة ويغلق الباب لينفردا دوﻧﻬا.


صحيح أن قسوته فيما بعد تحولت إلى لمسات مسروقة لا تفهمها، تجعلها تنظر بدهشة مكتومة فلا تجرؤ على إزاحة يده، أو على الاعتراض.


يخيفها الوجه الطبشوري الذي يتطلع نحوها بنظرة شاخصة وقد اختلطت قسماته؛ تنحني لتغمض عينيه..


يزجرها المحقق بزئيره: "لا تلمسي شيًئا يا خانم..."


كان صوته يعلو حين يقسم بالأيمان الغليظة بأنه سيشرب من دمها كما يشرب عصير الرمان الذي تعده بيديها، يتجرع ك َ ل ما في الكأس، ثم يصدر صوتًا مزعجًا.. آآآآآآآآآآح.


الليل.. وأباليسه.. الشخير..تكتكة الساعة .. تجشؤه.. رائحة الثوم..غطيطه العميق وهو نائم.. كل شيء ينتهك نعاسها، ترعبها الحقيقُة، واختلاط الأوهام عجينٌة من كوابيسَ وأصواتٍ وروائحَ من غير حدود فاصلة.


تّلف حول عنقه الحبل، تسحب الكرسي، يتأرجح مطلًقا قهقهة، يّفح أنفاسه في وجهها.. ولا يموت.


تنتفض من فراشها مذعورة وعرق بارد يغسلها، لا شيءَ حولها غيرَ الصمتِ والعتمةِ الحالكة وخيالاتٍ شبحية ترقص فوق الجدران، ترافقها من غفوة لأخرى، فلا تعتقها إلا مع الفجر، عندها يستغرقها النوم. وحين تستيقظ متأخرة لا تتذكر هل كان وجهه أم وجه زوج أمها؟.


يدفعها من بين كتفيها، ترتطم بالأشياء الثمينة التي تتحول إلى شظايا. "سأشتري لك غيرها".. يقول لها بأسف يتكرر، فيما تستمر تحف البيت بالتناقص.


منذ تزوجها وهو يبحث عن الحقيقة، كأن الحقيقة ملكها، أو كأﻧﻬا تخفيها تحت ثياﺑﻬا. ماالذي يتوقعه منها، وهي مجرد ضلع أعوج لا يستقيم؟.


يضرﺑﻬا، يلوي عظامها، يترك على جسدها كدماتٍ زرقاءَ؛ فإذا ما أﻧﻬكه التعب والقسوة، انكفأ فوق الرضوض والجروح يلعقها بلسانه؛ يبكي بضعف يقززها؛ يقبِّل قدميها طالبًا غفران جسدها المقدس؛ جسدها الذي يكرهه ويحبه في آن؛ وهي في الحالين تحتمل.


يرتمي في حضنها طفلا تعسًا؛ يتوسل إليها أن تعترف؛ يصغي لقصص تلفقها؛ طوفان زنِّخٌ يغمرها؛ تفقد الفاصل بين الحقيقي والمختلق؛ تحكي وتحكي، تصوغ ألف حكاية؛ فيما يهز رأسه بسذاجة؛ يدمدم دون معنى؛ تنتظم أنفاسه؛ فتعرف أن (عطيلا) نام تاركا روحه معلقة بين ﻧﻬديها. تفوح الغيرة، يميزها الجيران عن باقي الروائح؛ يتحدثون عن الدخان والنار؛ فالجدران الورقية لا تمنع التسرب؛ يتناقلون أخبارَ ليلها اﻟﻤﺠنون؛ فيما تكتفي هي بمنديل (ديدمونة) المهترئ لتمسح دموعها.


لاشيء يبقى على حاله؛ تستكين هامدة وفي حضنها جثة. منذ وعت وهي تعض لساﻧﻬا، عيناها خوخ أحمر، مع ذلك لا تنسى رغبتها في شراء ثوب مثير وضيق..


تضع نظارة قاتمة، وتنزل إلى السوق، تبحث داخل الواجهات البراقة. الزجاج، ونظرات العابرين الشبقة تعكس صورﺗﻬا، بعضهم يتوقف ليتأملها مليًا، تعرف جيدًا وقع جسدها بتكوراته المتناسقة، واكتنازه المثير، تتحسسه في خلوﺗﻬا، متمرد وشيطاني، التفصيلة الضيقة تشده بقسوة وتعلنه بغرور، البائع الشاب مستدير الوجه يقيس خصرها بشبر كفه المفتوح، يؤكد أن الغالي يرخص لعينيها الكحيلتين:


"خذيه.. هدية يا مدام.. مقدم دون ثمنه.."


تأخذه، وتنفلت قبل أن يعرف اسمها، تتركه وحيدًا وسط دهشته.تأخرتْ.


سائق السيارة المعممُ يبسمل ويحوقل، فيما تتشبث عيناه بالمرآة العاكسة، تضحك بانتشاء مغرٍ، تسأله: "ما خبرُ شيخُنا ؟."


يؤكد بانفعالٍ وصوته يكاد يلهث، أن جمالها كنز إلهي، وأنه مستعد لحفظه وستره لو وافقت.


ﺗﻬز رأسها.. تحرك حاجبيها.. لا تقبل ولا ترفض.

أبو عادل.. حسن أفندي.. شكري البقال.. سميح الجواهري، وآخرون غيرهم يؤكدون بحماسة ما تسمعه دائمًا، يراعوﻧﻬا، يخصمون ثمن بضاعتهم كاملا، يقدمون الهدايا بسخاء: نظارﺗﻬا بفصوص الألماس اللامعة ، عطرها من السوق الحرة أصلي وثمين، وبلا مقابل.. ساعة يدها موديل السنة.. عقد الفضة بحجر (إيميتست).. يسألها عنهم.. يلاحق أنفاسها.. يقبض على آخرَها.. يبدأ التفتيش.. يمد يديه اﻟﻤﺠنونتين بين أغراضها.. تسمع صفق الأدراج.. تعرف أن الأقفال التي تضعها لا تصمد أمام ثورته.. سيكسر كل شيء مقفلٍ دون أن يلاحظ المفتاحَ عليه.


الغضب حارقٌ.. حارقٌ، وهي منهمكٌة بتقشير البطاطس، فيما الزيت يطقطق، والرائحة تنتشر، تطغى.


يصرخ:


"أين كنتِ؟.. اتصلتُ ولم أجدك.. لا تقولي كنت عند أمك، فقد اتصلت ﺑﻬا أيضًا."


يشم سريرها، فستان نومها، ينبش سلة الغسيل، يُخرج ملابسها المتسخة، يشم القطعة الأصغر منها، يبحث عن رائحة ليست له.. لطالما اختلطت عليه الروائح.. تعم الفوضى.. تتعبه الحيرة.. يشّوح بذراعين يائستين.


تلمح ثوﺑﻬا الجديد بين أصابعه.. يدعكه بقبضتيه.. يعجنه.. يمزقه.. يخترق وعيدُه أذنيها.. يسمع الجيران ما لم يتمكنوا من إثباته أو إنكاره.


أما هي فلاهيٌة بتغطيس أصابعَ البطاطس في السائل المحمى.. طششششش


رؤى غامضٌة لرجولة تالفة تراودها؛ لا نصيب لها من ديك يفني دجاجته بريشه الملون غير الصياح؛ تزوجته أيام كانت تحبه؛ كانت؛ الأفعال الناقصة من حظها غالبًا، وهي جائعة جدًا، أما هو فيقف بين الصالة والمطبخ، يّلوح بمزق ثوﺑﻬا، يقول لها أﻧﻬا دليله القاطع، يسألها عن اسم عشيقها الجديد.


الصمت سيد الأدلة.. لا شيء سوى طشششششششششش


لو يستطيع إثبات شكوكه، لو أنه يرحمها، لكن جسَدها لا ينطق، ومسامَه لا تُُقر.


محاصرٌة بالجحيم.. الحرُ الشديدُ أكثرُ مما أعلنت عنه الأرصاد الجوية ليلة البارحة.


يجرها من شعرها.. يدفعها بقسوة.. يحط فوقها.. تطبق عينيها.. تستعد للألم.. يلقي رأسه فوق صدرها يجهش بالبكاء.. يرجوها أن ترتدي له الفستان الممزق.. تحترق أصابعُ البطاطا.. تذبل السلطُة الخضراء.. تفقد شهيتها أمام جثةٍ هامدة بدأت تفوح .


جدار ونافذة ( من مجموعة فسيفساء امرأة)

لا أحد يعرف.. لكن يبدو أن له نظراً مقلوباً كالحشرات، وإلا فلماذا يرتطم بالزوايا الحادة، متعامياً عن السطح الذي يستدير ببساطة برتقالة؟.



السيد فؤاد يصر على أنه موهوب بالوراثة، كان أبوه أحد أولئك القلة المشهورين في المدينة الصغيرة.


صورة الطفل والعجوز التي تتصدر قاعة مجلس البلدية، كانت آخر أعماله قبل أن يموت. بتلك الثقة المتوارثة أباً عن جد، حمل لوحته الخاصة، وقال بصوت جهوري مشيراً إليها باعتزاز:


" لقطة مميزة لجدار إسمنتي، عينك الخبيرة ستقدر قيمتها "


صاحب المعرض قلب شفته، وهتف ممتعضاً:


" مسيو فؤاد.. من غيرك يضيف إلى جدرانه الأربعة آخر خامساً؟ "


تضاءلت قامته، وانخفض صوته:


" اعرضها في صالتك ، وستغير رأيك. "


" كما ترى بنفسك .. المكان ضيق .. آسف."


لكنه رجل عنيد بضراوة مقاتل، لوحته النادرة بإطارها الخشبي الداكن تصدرت صالة بيته، منحها إنارة مناسبة: ضوء نهاري غامر، وانعكاس كهربائي خافت أثناء الليل.


هرت زوجته بضحكة مكتومة، و أقسمت أنها لا ترى أمامها إلا مسماراً صدئاً، كما وضحت له رغبتها باقتناء نافذة تطير منها، و قبل أن يفلح في تصويب وجهة نظرها، كانت قد انفلتت هاربة مع صديقه تاجر التحف الأبله لتتركه وحيداً مع هرائه.


هكذا وجد السيد فؤاد نفسه مهزوماً دون منطق، رغم أنه يرى بوضوح مذهل عبر عدسة التصوير، لكن موهبته وحدها لم تكفه للنجاح، كأن لعنة ما تلاحقه، كان يعاندها، فيحتد ويقسو.. وتعانده، فتتعنت وتفيض..


لم ينل من حياته ما أراده منها.


غفا بعضاً مريرة من السنين، صار في الخمسين، مجرد عضو مغمور في جمعية المصورين، يعمل في مجلة غير معروفة تجعله يدور بين المجاذيب.. والفقراء.. وقتلى الحوادث ليلتقط ظلالهم، خبراً أسود مطبوعاً فوق الصفحات.


***


صباح شتائي بارد، لكنه مرغم على الخروج في مهمة كُلف بها للبحث عن لقطات خاصة تناسب أفراح العيد.


نهض فؤاد من فراشه على رنين منبه أرقه طوال الليل بصوته الرتيب. كان مثقلاً بنعاسه. نزع رأسه عن الوسادة وتركه تحت رذاذ الماء البارد دون أن يشعر بالتحسن، رئتاه اللتان قرقرتا داخل صدره، أطلقتا بلغماً رغوياً، عالجهما بكأس بابونج ساخن ارتشفه على دفعات، وهو ينفخ أبخرته المتصاعدة .


أكمل استعداداته للخروج بسرعة فوضوي، صافقاً الباب خلفه، تاركاً المومس التي ضمته إلى قائمة زبائنها، واجمة ونصف عارية داخل فراشه البارد.


لم تكن تلك المرأة الأربعينية بضحكتها المقززة، وثناياها المترهلة يقين قلبه المتطلب، إلا أنه لجأ إليها كحبة مسكّنة، فكانت المسكينة التي لم يُرِها الحب إلا وجهه الأسود، تحتمل حدة مزاجه، حين يُفرغ شحنات غضبه شاتماً أباها وجدها، وكل من كان له فضل وجودها أمامه.


بدا فؤاد عابساً كعادته.. مقطباً كما تفرض عليه ملامح وجهه، كأنه مصاب بمغص كلوي مزمن. راح يخب في الشارع شبه الخالي، وقد عقد كفيه خلف ظهره المحني بعض الشيء يحدق بوجوه المارة العابرين به، مما جعلهم يديرون له ظهورهم متأففين من هذيانه الصباحي.


وأي فرق!.. لم تعد الصور تعني له إلا خيبات متصلة يحتمل عناءها.. فمازال ابن عمه الذي يملك حقلاً صغيراً يسخر من محاولاته اليائسة في التقاط صورة لبراعم تتفتح، كاد يفقد صوابه.. لم يهتد إلى اللحظة المثالية، كانت تلك الأزهار الصغيرة تراوغه، فتنغلق على نفسها معلنة موتها السريع، اللقطات الأخرى الأوفر حظاً لم تحتمل الرعب داخل عتمة آلة التصوير، كل ما حصل عليه مجرد صور صفراء وذابلة لحقل أجرد.


تجمدت أطرافه دون فائدة، مازال يبحث عن مصادفات لطيفة لا تأتي، بلغم كريه فوق جوزة الحلق يكتم البهجة، بصقه لاعناً الظروف التي تضطره إلى التسكع في الشوارع ككلب ضال، لكن صبية مندفعة من باب جانبي اصطدمت به وألجمت لسانه.


Pardon" " رطنت بالأجنبية، ومنحته شفتين عريضتين بابتسامة عجلة لها فتنة وميض.


قبل أن ينتزع عينيه عن تفاصيلها، كانت قد اختفت داخل سيارة أجرة أقلعت بها سريعاً.


" مهرة مستوردة.. لو أنها منحته وقتاً ": قال لنفسه متذكراً زوجته.


فؤاد الذي التقى زوجته السابقة وجهاً لعدسة أثناء حفل كبير لاختيار ملكة الجمال، ذُهل بالخال المتعجرف فوق شفتها العليا، صار هدفاً لمجموعة صوره اللاحقة عنها، أما هي فقد فتنتها إضاءة الفلاش، فقررت أن تخون نفسها وتكتفي به.


بعد انقضاء الأيام الأولى السعيدة من زواجهما القصير، واظب على إسماعها سر عبقريته:


" الصور التي ألتقطها لك أجمل منكِ، إنها تخفي شحوب وجهك، وثنايا عنقك "..


كان مخدوعاً بضلالاته، لا فضل لموهبته عليها، فهي جميلة بقدر إلهي، جعل من قوامها الممشوق منافساً خطيراً لعينيها الزمرديتين، ومرادفاً لائقاً لشفتيها الدسمتين..


عثر على شهقات حبها مكتومة في مكان ما من تلافيف ذاكرته، تلمظ بها.


لماذا خنقها بقسوته وأنانيته رغم أنه.. كان يحبها!؟.


من يدري.. ربما بقيت معه لو كان أقل تميزاً وأكثر كذباًً! فالنساء كائنات غريبة بأهواء معوجة!.


ارتطمت الكاميرا بجنبه الأيسر، فأوجعته، تحسر على الفرص الضائعة ، وتنهد بيأس .


أخيراً قرر فؤاد أن يحول مساره، انحرف إلى الشوارع الفرعية، لينحدر منها إلى الساحة العامة؛ حيث مركز المدينة الصاخب.


أعداد غفيرة من الناس، اكتظت بهم الأرصفة في ممارسة جماعية لعيد لم ينس أحداً . كانوا جميعاً يتبخترون بخيلاء يليق بالمواسم السعيدة، فيما طوت الريح إبرها الواخزة، لتسمح بانفلات نسائم عليلة أنعشته.. إنها طقوس العيد. يشق طريقه في الزحام، وينخرط في الخليط البشري، وجوه كثيرة تتحداه.


عدسته الانتهازية لاتوفر أحداً، تلتقط صوراً عديدة لبسطاء ومغرورين.. لعجائز مطمئنين، وشبان حالمين.. ولأطفال استنفدت صبرهم بالوقوف أمامها جامدين.


نفدت خامة أفلامه، فاستدار على عقبيه عائداً من حيث أتى، يتحسس جيبه المليء بالمفاجآت، هواء منعش يتمدد داخل رئتيه، تغشاه تلك الرؤيا، فلا يمانعها: ابتسامة خاطفة لوجه غائب وعينين تبحثان عن نافذة.


مقتطفات شعرية من ( جيران العالم) للشاعر اليوناني ريتسوس ترجمة خالد رؤوف

قال أليكوس:

[ فكر في أن الحياة تسير، وأنت غائب،
أن يأتي الربيع تلو الربيع بنوافذ مفتوحة، وأنت غائب
أن تأتي البنات وتجلس على مقادع الحديقة بفساتين ملونة وأنت غائب،
الشباب يسبح في الظهيرة، وأنت غائب،
شجرة مزهرة تنحني في الماء،
أعلام كثيرة ترفرف في الشرفات،
أن يصعد موكب عرض عسكري شارع ستاذيو
آلاف الناس يحملون أعلاماً حمراء في أيديهم،
يحملون أحلامهم أخيراً في أيديهم،
أن يقولوا كلمة رفيق بصوت عال، وأنت غائب،
ثم مفتاح يدور، والحجرة مظلمة،
فمّان يتبادلان القبل في الظل، وأنت تغيب
فكر في أن تشّد يدان على بعضهما، وأنت بلا أيادي
جسدان يتحدان، وأنت نائم تحت التراب،
وأزرار سترتك تحتمل أكثر منك
والرصاصة في قلبك لاتذوب،
بينما قلبك الذي أحب هذا العالم كثيراً، يكون قد ذاب]