25 أكتوبر 2016

موت

سأؤجل موتي
حتى ساعة متأخرة
لأعبر الأنهار
لأقلب الكتب كلها

لأعرف.. لماذا تنطفئ النيران قبل أن يعمّ الدفء..!
ولأعرف.. لماذا تشيخ الوعود..!
ولأعرف.. أين كنا قبل أن نجيء..!


سأؤجل موتي ..

ما يكفي كي تعرف .. كم أحبك.
سوزان خواتمي

حب

لم يجمعنا وقت أو مكان.. أركض حين تقف، وأقف حالما تهم بإطلاق ساقيك راكضاً.. يا للسخرية؛ إن لم يكن هذا حباً شوارعياً، فإنه قطعاً سباق ماراثون .
سوزان خواتمي

داعش تلبس طاقية الاخفاء

سوزان خواتمي
يبدو أن قوة “داعش” تكمن في استخدامها لطاقية الاخفاء، التي تجعلها غير مرئية أثناء دخولها وسيطرتها على المناطق، أو في خروجها الآمن دون أن يتعرض لها أحد.! وخلال سنوات قليلة صارت تلك الدولة المزعومة مصدر رعب وقلق لنصف الكرة الأرضية رغم كل الجهود (المزعومة أيضاً) للقضاء عليها .
من دعّم “داعش” ومن استفاد من ظهورها، ومن قوّاها وسلّحها ومولّها، ومن أطلقَ لها العنان وسمحَ بتواجدها وتمددها؟.
سياسة كتم الأنفاس
في نيسان 2013 خرج أبو محمد العدناني، ليعلن ولادة الدولة الاسلامية، في وقتها اعتبرتُ ذلك مزحة ثقيلة.. هل يُعقل أن تتحول سوريا إلى أرض خصبة تنبت التطرف وتسمح به.!
ولكن الواقع أكد لي أنها ليست مزحة، فقد سيطرت داعش على الرقة، وارتفعت رايات سوداء استنكرها البعض، وقبِّل البعض بها  على اعتبار أن داعش ترفض النظام وبالتالي هم شركاء هّم، ما حوّل المزحة إلى كابوس يضاف إلى كوابيس السوريين الراغبين بدولة ديمقراطية مدنية.
فرضت داعش تطرفها على كل منطقة دخلتها، حرّمت التدخين، أجبرت الرجال على اطلاق اللحى، وقادتهم بالقوة لأداء الصلاة، وفرضت عليهم عدم المغادرة أو السفر لأي سبب كان، واستهدفت الأقليات وهجرتهم من مناطقهم. تضررت مصالح الناس وقُيدت حرياتهم واجبروا على ادعاء الايمان،
لكن المتضرر الأكبر من قوانين داعش وتطرفها هن النساء-الحيطة المايلة- اللواتي عوملن كما لو كن جواري، عرضتهن للخطف والاستعباد والاغتصاب والتعذيب، وفُرضت عليهن حجاباً شرعياً يحولهن إلى خيمة من السواد، وسمحت بزواج الصغيرات، وحجّمت التعليم وحددته بعمر معين،  قتلتهن دون محاكمة على أرصفة الشوارع بتهمة الشرف ، وطبقت عليهن عقوبات اخترعتها أذهان مريضة؛ إذ رميت امرأة في الرقة في قفص مليء بالجماجم، كونها لم تلتزم باللباس الشرعي، واستخدمت العضاضة لقرص ثدي امرأة كانت ترضع طفلها، (العضاضة هي آلة تعذيب نحاسية كانت تستخدم في القرن الخامس عشر ميلادي) .
ممارسات داعش الوحشية لسبب ما، كانت علنية، فتلك الجماعة لم تتوان عن عرضها موثقة بفيديوهات، جعلت الناس تنفر من الاسلام وتخافه، حتى أصبحت المقارنة حين تُعقد بين النظام وبينهم تذهب إلى صالح النظام، باعتباره أهون الشرين. وربما هذا بالضبط أحد النتائج المطلوبة من داعش.!
كلما انسحبت داعش من منطقة وفق اتفاقات، احتفل الناس بزوال الغم، وهذا رد فعل طبيعي. لكنه يعيد لي السؤال ليقفز في رأسي؛ كيف استمرت داعش بالتباهي بقوتها، وكيف وجدت الحاضنة الاجتماعية والبيئة الملائمة لذلك!
لا يُنبت البقلة إلا الحقلة
يصعب حصر عدد مقاتلي داعش في سوريا، فالأرقام التقريبية تقول بأنهم 60 ألفاً، 45 ألفاً منهم غير سوريين، مع وجود نسبة ضئيلة من النساء بينهم. وهذا العدد سيزداد بعد خروجهم من الموصل وتوجههم الى الأراضي السورية. أيضاً يصعب التكهن -اعتماداً على المحللين السياسيين أنفسهم  بالسبب- الذي يجعل القضاء على داعش بطيئاً على هذا النحو وغير قاطع.  لكن هناك مثل  شعبي يقول “لا ينبت البقلة إلا الحقلة”.. إن ظهور هذا العدد (45 ألفاً) من الفكر المتطرف الدموي الإقصائي، ومريديهم من السوريين لا يمكن أن ينجح ويستمر إلا في دولة فشلت في خلق هوية وطنية، وخلقت المبررات لتبنّي الفكر الطائفي والمذهبي، فالعنف لا يولد إلا العنف، ومن عانى من التسلط وتعرض للتعذيب، سيستخدم الاسلوب ذاته، ويصبح جلاداً حين تسنح الظروف. هذا إلى جانب فشل الواقع في تحقيق العدالة الدنيوية، فازدواج المعايير ليس على مستوى النظام، بل على مستوى المجتمع الدولي، ما جعل الشباب يبحثون عن إنتماء أكبر يؤكد هويتهم، وقد استغلت قيادات تلك المجموعات المتطرفة كل ما سبق من أسباب، لتؤجج التوتر الطائفي وتدعمته بالنص الديني والقرآن، فظهر بيننا شباب يفجرون أنفسهم ويقطعون الرؤوس ويحرّمون ويفتون وينضون تحت لواء ايديولوجية سلفية جهادية متشددة. شباب فقدوا الإيمان بالوطن وبحقوق الانسان وبالقوى الغربية العالمية، فوجدوا في داعش الملاذ والخلاص، ووجدت داعش فيهم البيئة الملائمة والحاضنة الاجتماعية .
#داعش #سوريا #التطرف
نشر المقال في موقع الرائد الالكتروني

16 أكتوبر 2016

الطريق إلى حقوق المرأة.. أفعال لا أقوال

الطريق إلى حقوق المرأة.. أفعال لا أقوال 

سوزان خواتمي
من المتوقع بعد أقل من شهر أن تفوز هيلاري كلنتون بالانتخابات الرئاسية لتكون الرئيس 48 لأميركا المتحكمة باقتصاد وسياسات العالم، في الوقت الذي عليّ أن أكتب عن حقوق المرأة السورية الدستورية، وأهمية مشاركتها في الحياة السياسية.! يبدو ذلك مجحفاً –بالنسبة لي على الأقل- قياساً بما قدمته النساء من تضحيات، خلال السنوات الخمس الماضي، حيث كن معارضات ومعتقلات ونازحات وأمهات لشهداء، وزوجات لمختفين قسريين، إضافة إلى العبء الثقيل الذي حملنه للمحافظة على الأسرة والبيت في ظروف التقشف والحصار وعدم الأمان. ولكن يبدو أن كل ذلك لم يشفع لهن، فما زالت المرأة السورية غائبة عن القرار السياسي والتواجد الفاعل في المناصب القيادية، وما زالت تحتاج إلى الدفاع عن نفسها واثبات كفاءتها في مجتمع ذكوري كي تنال حقوقها وتصل مع الرجل -يداً بيد- إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية.
رفضت المرأة في سوريا الاستبداد والنظام الحاكم، وتعرضت نتيجة ذلك لكل أشكال القمع والعنف والبطش والتعذيب، إذ وثقت الشبكة السورية لحقوق الانسان حتى العام الفائت18457 امرأة قتلن بيد النظام، مع غياب الرقم الفعلي للمعتقلات في السجون، والأعداد الحقيقية لمن تعرضن للاغتصاب. إذاً؛ ليس بإمكان الثورة نفي المشاركة الفعّالة للمرأة، ومع ذلك ما أن استلمت الفصائل الاسلامية المتشددة زمام الأمور في المناطق المحررة التي خرجت عن سيطرة النظام، حتى تم تحييد المرأة وإقصائها عن حقها في المشاركة في المجالس المحلية، وتعرضت الناشطات للاعتقال والتضييق، بل أقرّت ضدها قوانين تحد من حريتها في اختيار ملابسها ومجال عملها وتنقلاتها (منذ فترة بسيطة تم ايقاف فتيات ومضايقتهن والتحقيق معهن لأن صورهن على جواز السفر بدون حجاب).
أمام تراجع مكانة المرأة في دورها الاجتماعي والسياسي، وشكلّية مشاركتها وإحجامها عن الخوض في العمل التنظيمي والحقوقي، تظهر أهمية دور المنظمات المدنية والنسوية والأحزاب والتيارات الديمقراطية والقوى المجتمعية ووسائل الاعلام، وتأثير رجال الدين التنويريين، للعمل ليس فقط على تحسين وضعها بمعونات غذائية ومساندتها بدورات الدعم النفسي، وتعلم الأشغال اليدوية، بل أيضاً في تمكينها وتأهيلها وإشراكها في المجالس الاستشارية، والمؤتمرات، واللجان الحقوقية لتساهم مستقبلاً في تعديل ثغرات الدستور السوري فيما يخص التشريعات الجزائية وقانون الأحوال الشخصية لضمان تحقيق عدالة انسانية لا تميز بين رجل وامرأة.
والطريق إلى ذلك لم يكن يوماً مفروشاً بالورود، قبل فترة تسنى لي مشاهدة فيلم Suffragette الذي يوثق لحركة "سوفرجت" التنظيم النسوي السري في بريطانيا، وزعيمته بانكيرست التي تردد مقولتها (الأفعال لا الأقوال). بدا الفيلم تحية للمناضلات الأوائل؛ سيدات مشّين طريق كفاح شاق وطويل مطلع القرن العشرين. حركة "سوفرجت" بدأت بحملات سلمية، ثم انتقلت إلى ممارسة العنف، وتعرضت عضوات الحركة للاعتقال، والملاحقة والاستهزاء والمقاطعة والطلاق. نماذج قدمها الفيلم مثل مود واتس العاملة في مغسلة ضمن ظروف صعبة وأجر هزيل، انضمت للحركة وحُرمت جرّاء ذلك من حضانة ابنها، لكنها قررت أن تستمر في الدفاع عن حقوق المرأة لمنع استغلالها واضطهادها وتمييزها في القوانين. واخترقت إيميلي دافيسون مضمار سباق الخيل ووقفت أمام حصان الملك وهتفت "التصويت للنساء" رافقت جنازتها ضجة اعلامية وبعد خمس سنوات تم تعديل القانون ونالت نساء بريطانيا حقوقهن السياسية عام 1918. قالت ميشيل باشليه رئيسة تشيلي 2006- 2010: "عندما تصبح المرأة رائدة فإنها تغير حياتها، أما عندما تصبح النساء رائدات فإنهن يغيرن القوانين والسياسات".
إن المرأة التي لا تركن إلى وسادتها تدرك أهمية مشاركتها في أيام السلم وفي أيام النضال، وتحمل مسؤولية تحررها وتعزيز قيمتها في المجتمع , بالعلم و العمل تستحق أن تكون رائدة ومساهِمة في تحقيق حرية وكرامة سوريا.

20 سبتمبر 2016

التائهون.. أمين معلوف

 أقوى دليل على الرواية الجيدة، هو قدرتها على جذبك لقراءتها بذات الحماسة من السطر الأول حتى الأخير. 
تمتعت وتورطت وأحببت رواية أمين معلوف (التائهون) سواء بموضوعها الذي يدور حول تأثير الحرب الأهلية وتبعثر الأصدقاء في الشتات، أو في القفزات السردية وتكنيك الكتابة المستخدم بين الماضي والحاضر مستخدما كل التقنيات كالرسائل والحوارات والمونولوج، أو في نمو الشخصيات وتنوعها، أو في كل ما طرحته من أفكار حول الهوية والحرب والحرية والدين والحب والضداقة ضمن تعدد وجهات نظر، فمعلوف لا يحصارك بمقولات شعاراتيه. ... 
ايي طبعاً أريد أن أقول من لم يقرأ التائهون فاته الكثير ...!
للعلم أمين معلوف كاتب فرانكو لبناني من مواليد 1949 انتخب عضواً للاكاديمية الفرنسية، وله كتاب (الهويات القاتلة) الذي فتح عيناي على مطلق المعنى..
.
سوزان خواتمي

الخ

لا تقل لها أحبكِ، قبل أن ترسل مئة وردة بمئة رائحة مختلفة مجهولة المصدر، تمهد بها ارضاً بوراً وتبث في الهواء تلك الحيرة.
سوزان خواتمي

الخ

يكون الأمل جيداً في الصباح وسيئاً جداً إن استمر حتى المساء..! 
سوزان خواتمي

النبطي.. رواية يوسف زيدان

النبطي.. رواية يوسف زيدان


الصادرة عام 2010 عن دار الشروق وتمتد على مدى 381 صفحة من القطع المتوسط.
حصلت على نسخة من الكتاب في طبعته الخامسة مخطوفاً من بين يدي الصديق صالح النبهان، الذي كان بدوره قد خطفه من مكتبة نادي ابداع الثقافي، ما يدل على فوائد الخطف من خاطف.!
ربما كان من أكثر الاشياء التي تتكرر عند كل قراءة لما يكتبه زيدان، اني ارغب بتقصي المعلومات التاريخية التي يعتمد عليها في بناء رواياته، وهي للأمانة ليست سهلة ولا قليلة. الجميل في (النبطي) أن التاريخ لم يثقل البناء الروائي، بل كان ينساب مرتاحاً بين السطور، لنستدل من خلال السارد وهو هنا شخصية ماريا على أعراف وعادات وتقاليد الانباط، وحال منطقة الجزيرة العربية أثناء ظهور الاسلام حيث كانت هناك طفرة من النبوات، والسنوات العشر التي احتل فيها الفرس مصر. ماريا التي انتقلت بعد زفافها من تاجر نبطي، من منطقة الدلتا إلى شمال الجزيرة العربية حيث تقيم قبيلة زوجها متوزعين بين الخيام والبيوت المنحوتة في الصخر، رحلة طويلة وشاقة على ظهر بغل مع قافلة استمرت شهوراً ومرت بسهوب وصحارى واراض وجبال، وتتحول في ظروف حياتها بل ويصبح اسمها ماوية كما اطلقت عليها حماتها (ام البنين) والأنباط كما يأتي في التعريف عنهم [جماعات عربية كبيرة كانت تعيش من قبل الإسلام، بل من قبل المسيحية فى المنطقة الشاسعة الممتدة من جنوب العراق، مرورا بالمنطقة المسماة اليوم شمال السعودية، وجنوب الأردن، وفلسطين، وسيناء، وهم الذين بنوا الآثار الهائلة الباقية إلى اليوم منحوتة بالجبال بمنطقة «البتراء»، وما حولها من مناطق مثل «مدائن صالح»، و«وادى رم».]
كثيرة هي الأسباب التي تجعل القارئ يطلق على عمل ما أنه جيد، ويتبع ذلك ذائقة القارئ، فالقراءة فعل نرجسي في المقام الأول. بالنسبة لي حقق زيدان لي حصتي من المتعة إضافة إلى أن عمله شجعني على البحث في تاريخ الأنباط، والذي كل ما عرفته عنه زيارة قديمة لمنطقة البترا الفائقة الروعة .
في السرد الروائي ليس مهماً التأكد جازمين من المعلومات التاريخية، بقدر أهمية الحبكة الروائية المقنعة، ثم لا بأس ان أتى لبحث والتقصي لاحقاً، أو ان لم يأتِ.
أسوأ ما في الرواية هو غلافها واللاصق الضعيف المستعمل، والذي سمح لأوراق الرواية أن ينفرط عقدها، رغم جميع محاولاتي بأن لا تنفرط.

سوزان خواتمي

12 سبتمبر 2016

ليس للسوري حقيبة يحملها

سوزان خواتمي
اخترع أديسون المصباح الكهربائي، واخترع زاكرياس جانسن الميكروسكوب، أما ماكينة الخياطة فاخترعها بارتليمي تيموني، حتى المظلة فقد اخترعها صمويل فوكس وفق ما تورده الويكيبيديا. أما محاولاتي لمعرفة الشخص الذي يعود له فضل اختراع حقيبة السفر، بشكلها الحالي فقد باءت بالفشل.
خلال تاريخ الانسانية اضطر الانسان للنزوح في هجرات ارتبطت بالأوبئة أو بالحروب الاستعمارية، أو الدينية أو بالكوارث الطبيعية، وكان عليه أن يحمل متاعه التي يحتاجها؛ مما خف حمله وغلا ثمنه في صناديق خشبية كبيرة، تتأرجح فوق الدواب. ومع تقدم وسائل النقل، لم يعد الرحيل يقتصر على حالات الفرار الجماعي، بل تحول إلى رغبة شخصية ترتبط بمفهوم السياحة والترفيه، أو بالسعي وراء فرصة عمل، وصارت المشاوير عبر السماء لا تحتاج الى أكثر من حقيبة بحجم معين ووزن معقول وجواز سفر قوي يسمح بتأشيرة دخول لاستقبالك في بلاد الله الواسعة.
تجربتي الأولى مع السفر خارج حدود بلادي كانت باتجاه ألمانيا، ركبت الطيارة للمرة الأولى، ولكني كنت في سن لم يتسن لي فيها أن أرتب حقيبتي وأفكر ملياً بما سأحتاجه وما لا أحتاجه، وتلك مهمة للعلم ليست بالسهلة.! تتالت بعدها الرحلات جواً وبراً وما عادت في ذهني ذاكرة تسعها، وتحوّل سفري المكوكي من الكويت إلى سوريا الى معاناة حقيقية، فالاستعداد لرحلة عائلية تستمر شهور الاجازة، والتفكير بما يلزم وما لا يلزم كان مرهقاً. عاهدت نفسي وتحت وطأة الشوق والرغبة بانتهاء الغربة التي أكلت العمر قضمة قضمة، على أني حين أعود وأستقر لن أقتني حقيبة سفر.. سيكفيني بقجة قماشية للسفرات القصيرة. يصفني صديق من باب الذم: بأني طفلة ساذجة، تدفعني عواطفي الآنية. وأظنه لم يبتعد كثيراً عن الحقيقة، فحين قلت ما قلت كان حنين العودة يسيطر على تلافيف دماغي.
اليوم وكلما نظرت الى حقيبة سفر، فكرت بقيمة محتوياتها، الأشياء الضرورية والخاصة التي يحتاجها كل من غادر بيته ومدينته قسراً أو خوفاً أو هرباً. مدفوعاً برغبة وحيدة أن يعيش.. مجرد أن يعيش.
ماذا حمل السوري الهارب من القصف والموت معه ليقيم في بلاد الجوار..! وماذا حمل ذاك الذي لجأ إلى رحمة المهربين ليركب البحر في زورق مطاطي ويدخل أوروبا متسللاً، لأن جواز سفره ليس قوياً ولا يسمح إلا بهذه الطريقة..! وماذا حمل ذاك الذي مشى على قدميه عابراً الغابات والفيافي والحدود والأسلاك شائكة..! هل اتسعت حقيبته لألبوم صور عائلية، أو أثاث نفيس ورثه عن أجداده، أو قطعة أثرية تروق له، أو هدية الحب الأول، أو كتاب مفضل، أو دفتر مذكرات كتبها مراهقاً أو.. أو..؟
لا حاجة فعلية لمعرفة اسم من اخترع حقيبة السفر، بعد أن استبدلها السوري الهارب إلى الشتات بكيس نايلون وشريط لاصق متين يحوي في داخله: هاتفه النقال وأوراقه التي يعتقد أنها مهمة، ومبلغاً من المال اقترضه غالباً، وسترة نجاة، وربما علبة دواء وزجاجة ماء، وجواز سفر (آيل للانقراض) ترفضه كل بلاد العالم ولا يصلح إلا للغرق!.
نشر المقال في جريدة القبس الكويتية 
وفي موقع الرافد الالكتروني 

28 أغسطس 2016

غرزة ابرة :

سوزان خواتمي
خرجت قوافل داعش من منبج في وضح النهار، وسيطرت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على المدينة. وقبل أن نفرق بين القرعة وصاحبة الشعر، ونعرف كيف ستستقيم الأمور بدأت وكالات الأنباء ومواقع التواصل الاجتماعي برصد حالات الفرح والاحتفالات حبوراً، فشاهدنا لقطات لنساء يزغردن ويحرقن النقاب ويدخن، احتفاء بعودة رمق الحياة وانتهاء الكابوس الداعشي ببطشه وتعسفه في فرض نموذجه المتطرف باسم الدين.
منبج كما يعرفها السوريون، ككل المدن الصغيرة تحكمها علاقات مجتمعية محافظة، ومع ذلك رفضوا أحكام التشدد. في الرقة كما في منبج كما في تدمر عادة ما تتحمل النساء العبء الأكبر والاقسى من مظاهر التدين، بدءاً من فرض الحجاب وتضييق الحركة والملاحقة ومنع الدراسة عنهن واجبارهن بطريقة أو بأخرى على الزواج، وتضييق نطاق الوظائف التي يسمح لهن بالعمل ضمنها.. وعلى امتداد خمس سنوات من الثورة واشتعال الصراع وغياب القانون والوازع الاخلاقي وتصاعد وهيمنة الفكر المتشدد تتعرض حقوق المرأة السورية إلى الاستلاب إذ مازالت المرأة هي الحلقة الأضعف أمام التجّبر والتطرف.
لكن إهدار حقوق المرأة لا يخص مليشيات الحرب وداعش والحركات المتطرفة فقط، فالنظام السوري الذي يتبجح بامتيازاته للمرأة، ويتخذ من المناصب السياسية التي حصلت عليها المرأة السورية ورقة مباهاة، على الرغم من أن *نسبة تواجد النساء في مجلس الشعب يبلغ 12% ونسبة النساء في مجالس الادارة المحلية يبلغ 3.1%.
ولم يتوان ذلك النظام على سبيل المثال لا الحصر على استخدام المرأة كوسيلة ضغط، فيعتقل نساء المسجونين ويهدد باغتصابهن على مرأى من عيونهم. ولم يكن للاتحاد العام النسائي وغيرها من الجمعيات النسائية أي حضور فاعل لمنع العنف الجنسي في السجون البعثية، كما أنه  لم يسع لدراسة ظاهرة انخفاض مساهمة المرأة في سوق العمل، وارتفاع بطالة النساء، ولم يضع آليات عمل تحد من تنامي ظاهرة الزواج قبل اكمال تحصيلهن الجامعي، أو تحد من التحايل على القضاء لعقود زواج الصغيرات، ولم يصل إلى حل جذري لجرائم الشرف، ولا إلى حق المرأة السورية بمنح جنسيتها لأطفالها. وكل ما سبق حقائق معروفة.
إلا أن الجدير بالذكر والملاحظة هو أن التهميش وانتقاص الحقوق يتعدى المليشيات المتأسلمة والنظام السوري، ليظهر في التيارات والاحزاب والمؤسسات المعارضة، حيث يتضح اقصاء المرأة من خلال نسب تواجدها في الهيكلية التنظيمية والتنفيذية والتي تكاد تكون معدومة، أو في حدها الأدنى، حتى في التشكيلات السياسية المتعددة كان التمثيل النسائي بحدوده التزييني غير الفاعل، على الرغم من وجود كوادر حقيقية من صاحبات الاختصاص والشهادات والتعليم العالي، ولكنهن مغيبات عن مفاصل العمل الثوري والسياسي ويقتصر وجود الوجه النسائي في المنظمات الإغاثية والنسوية التي تسعى جهدها (المحدود) لتعديل النسب المخجلة وفق كوتا معينة، كاللوبي النسوي السوري وشبكة المرأة السورية، وتجمع نساء الثورة السورية وغيرها.
مع كل التدمير الذي حولنا لسنا بحاجة إلى تهديد المكتسبات التي سبق أن وصلت إليه المرأة السورية وتدميرها، والوقت رغم كل الخسارات على كل المستويات مناسب دائماً للانتباه والتنبيه إلى هذه القضية، فمن الاجحاف أن تساهم المرأة في كل حلقات الثورة فتكون معتقلة وشهيدة وأرملة وأماً لشهداء ومتظاهرة ومسعفة واعلامية واغاثية وسيعول عليها المهمة الأهم في بناء المجتمع ثانية، ثم نكتفي بمنحها دورات تمكين لمحو الأمية ولتعليمها غرزات الخياطة.!
من المهم تحت الظرف الراهن الاهتمام بالمرأة واعطائها فرصاً غير مشروطة لتكون شريكاً فاعلاً في السياسة وفي وضع الدستور.  

  مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية


نشر المقال في موقع تيار الوعد السوري
وفي موقع اللوبي النسوي السوري
وفي موقع الرافد الالكتروني 

25 يونيو 2016

من ذاتية الألم إلى ابداع النص


قراءة في كتاب " لأننا لم نفترق "

يقال إن فان كوغ اكتشف اللون القادر على أن يتحدث عن الألم تحف به ألوان الشمس .. 

شدتني قراءة " لأننا لم نفترق " * وقياساً مع الفكرة اعتبرتها صوت يعارض إجحاف الحب ورفض لمجتمع يسامح نزوات الرجل ويتقبلها برحابة صدر ...
هل يقتصر فعل الكتابة هنا على كشف لمعاناة اجتماعية ، أما هي محاولة فطنة لطرح أسئلة وإشراك القارئ في البحث عن علّة الأشياء ؟ .. 

" لأننا لم نفترق " كتاب جاء من حيث التبويب مقسم إلى ثلاثة أقسام : 
1- لأننا لم نفترق .. ويرد تحت العنوان 26 مقطعاً بعناوين جانبية مختلفة 
2- رسائله – النور الخفي 
3- رسائلها – زهرة الغضب 

ورغم عذوبة الرسائل المتبادلة بين البطل والبطلة في القسمين الثاني والثالث و ما تحويه من فيض مشاعر مرهفة ورؤى فلسفية وأبعاد نفسية ، إلا أني سأقتصر في تعليقي على القسم الأول .

في البدء تعلن الكاتبة ليلى مقدسي **وبوضوح بأن كتابها لا يدخل ضمن مسمى الرواية 
" ربما يسامحني القارئ عن كل ما قلته وكل ما كتبته ولا يظن أنه تجديفاً أو غضباً ، كل الظنون ، وكل أقلام النقد التي ستشهر لن تمنعني من البكاء " ص132 

" إذن هي تعرية الذات وتصويراً لأدق للمشاعر .. هي الكتابة إليك ومنك " ص11

ومن هذا المنطلق تتسلح الكاتبة بقلمها لتسطر به نزيف روحها ولنكون شهود الحالة .. فنقرأ معها تفاصيل حب نبتت بذرته الأولى من خلال رسائل متبادلة – نجدها في القسمين الثاني والثالث – 
تلك الرسائل التي حملت طابعاً فلسفياً ووجدانياً ومصيرياً وبسببها استيقظ الاحساس الغافي من سباته ليتبرعم ذاك الانجذاب ويولد الحب رغم معوقات ظروف البطلة مع وضعها الصحي والبيئي ووضعه المادي والمعنوي وأخيراً اختلاف المذهب الديني بينهما .. 

وكادت الحياة تسير بالمركب الزوجي الذي أنتج ابنة وحيدة هادئاً حتى ضفة الأمان لولا شبح المرأة الطرف الثالث والذي تسلل إليهما تحت عباءة الصداقة الفكرية لتتأزم الأمور وتكثر المشاحنات أمام الاقتحام غير المتوقع والذي استمر بطيئاً ومزعجاً .. رغم كل إشارات التحذير والخطر وتأجج النزاعات فقد أدى إلى زواج ثان .. 
ليتقلص الحب القديم الأول ويقتصر وجوده المتقزم على لقاء صباحي يبدأ بسؤال 
- كيف أنتِ الآن ؟ هل تحتاجين لشيء ؟ ص 103

" نلتقي ... بنمط آخر كأصدقاء مقربين وكأحبة متباعدين " ص127
ذلك اللقاء الصباحي الذي يظهرهما معاً وإقامة بعد الفراق البطل في بيته الثاني
" كأنهما يحرسان ضريح الحب .." ص127

هي أحداث واقعية امتد زمنها كما حددته السطور الأولى من الكتاب منذ 1969 وحتى 1997 وتجدر الإشارة إلى أن الزمن لا يسير بخط مستقيم ، حيث أن الأحداث بدأت من الخاتمة – الانفصال – ومع إمطار الذاكرة تتدفق الوقائع حسب تسلسلها الزمني .
اعتمدت ليلى مقدسي في روايتها على أسلوب الاستفهام بأسئلة كمفتتح تأتي بعد أجزاء منتقاة من فكر البطل وكتاباته فاستطاعت أن تثير فضول القارئ ليبحث بين السطور عن الأجوبة.
وقد جاءت التفاصيل مثل خط واه تسرب إلينا عبر إشارات وجمل محدودة ومتباعدة إذ تركت الكاتبة مساحات بيضاء من الإلغاء بسبب الخجل أو الحرج الغريزي من الإساءة للعائلة كما أوضحت في ص 71

ورغم ذلك فقد استخدمت الكاتبة مجموعة من التقنيات الفنية الواعية 
منها الحوار والذي جاء تفسيرياً لحالات الفوضى والتناقض الذي يعيشها البطل المهتم بالثقافة والفلسفة بين ما يؤمن به وما يطبقه على أرض الواقع 
وتتساءل الكاتبة 
" هل الفلسفة مجرد آراء وأفكار تحليلية أظن أن الفلسفة الحقيقية هي تجربة العيش والثقافة سلوك حضاري ينبع التطور ويضبط بإيقاع الأخلاق " ص 54
لم تستغن الكاتبة في الإسلوب الكتابي عن بوحها الشعري والتي دعوتها شعرية الحزن فهي تقول :
" بقيت الستارة التي تلوح من الماضي ، وفقدت قوة بتر الماضي .. ولم تختصر بهاراتك اللفظية وكل يوم ترش ملح الصبر على أصص وحدتي الجافة ، لتنعش موائد ضجر ، وتطعم أعصابي بنهم الشهوة لحطب ذاكرتنا العتيقة ، فأواصل وداعك لكي يوم إلى الباب وعلى وجهك تمازج ألمي ، لأن ابتسامتي مغمسة بالسواد النقي ، فأغلق الباب دونك ووحدتي تنتفض حولي مذعورة " ص45 

" كرهتك بشراسة حبي " ص 109 

وقد امتزجت اللغة الشعرية التي تأتي في بعض المقاطع مع اللغة العلمية التي تأتي في مقاطع أخرى حين تحلل أسباب انكسار الحب في شرقنا : 
"ربما في الشرق لا نحب ، إنما نعيش حالة حب وهمية بسبب انعدام الوعي العاطفي أو نتيجة حتمية للكبت الجسدي ولمؤثرات التربية الخاطئة والأمراض النفسية الموروثة من البيئة والتي تنمو في تكويننا وتصبح مرضاً مستعصياً يصعب علاجه كذلك مورثات المجتمع ومقياسه على سلم التقاليد وذكورة الرجل الحاكم ...." ص 114
كما استخدمت الكاتبة إضافة إلى المقاطع الفلسفية والشعرية التي هي مقتطفات من أقوال البطل مقاطعاً من الكتاب المقدس وأيضاً أقوالاً وحكماً لمفكرين وفلاسفة أمثال 
– فرويد ، أدلر ، يونغ ، سكنر ، ديكارت ، ابن معاذ - مما أضاف قيمة تأكيدية و معرفية داعمة لأفكار الكاتبة .
وقد سعت الكاتبة وبهدوء توضيح وجهة نظر البطل والحديث عن مشاعره المتغيرة وإحساسه بالذنب 
" أعرف أنك تتألم لأجلي ، وأحس أنك تتلوى صراخاً ورفضاً غير معلن ورطتك معها أكبر من أن تحتملها وأنت الشارد المعاند بين فكرك وقلبك بين الرافض والمرفوض .. بين الحارق والخروق وتستمع إلى هذياني بصمت صبور ، وأستمع إلى ضجيج صمتك القاتل وأنت تكسر أحاسيسك على صخر لا يرحمني . " ص 110

كما رسمت وبحنق ملامحاً تحدد ولو من بعيد صورة المرأة – الطرف الثالث – :
" هذه الأنثى مسمومة بمفاهيم خاطئة عن التمرد والعبث والتركيز على الأنا الضخمة وإلغاء الآخر مهما كانت مكانته ودرجة قرابته ، وبأصابعها المتطاولة تملك قدرة رهيبة في كسر أقفال تحصينات عائلية واجتماعية ، وترسم كل صور الشر في الأماكن التي تكون أكثر هدوءاً ومحبة وانسجاماً ." ص 84

ولا ننسى أن ليلى مقدسي نجحت في إطلاق صرختها عبر مجموعة من التساؤلات تدين المجتمع الذكوري وتساؤلات أخرى تبحث عن مفهوم الحرية والزواج الذي يخنق الحب ويحوله إلى شفقة وثالثة عن تناقضات الفكر مع الممارسة .. تلك الازدواجية التي يعاني منها جلَّ أفراد مجتمعنا وغالب مثقفينا - وربما هم تحديداً - لأن الصراع مابين الفكرة وتطبيقها يتحول إلى أزمة نفسية يسقطون بين براثنها في أول اختبار . 
فهي تقول :
" لماذا يحمي القانون الرجل في حالة فورة الدم ولا يحمي المرأة؟.. هل ليس فيها دمٌ يفور مثله في لحظة الخيانة؟"

يقال ما بين الحب الشديد والكره الشديد شعرة ومن هذا المنطلق نتفهم معاناة البطلة ، ونتفهم أيضاً المعنى الملتبس بين الحضور والغياب عند ليلى مقدسي فالحب مازال أخضراً حين تقول 
" أحاول أن أقاوم الدمع كي أعيش فوق درجات الخطر رغم إني أحس الآن أن الواحد يعيش مع الآخر رغم انفصالنا " ص 81 
ومن هنا جاء عنوان الكتاب " لأننا لم نفترق " .. 

ومع خاتمة الحروف المنكسرة تمكنت الشاعرة والكاتبة ليلى مقدسي وبطريقة ذكية لا تخلو من الوعي الاستئثار باهتمامنا ومن ثم تعاطفنا من خلال هذه الرواية والتي " كما عرفت " سيظهر لها جزء ثان قريباً ...

* " لأننا لم نلتقي " رواية صادرة عام 2003عن دار المقدسي للطباعة والنشر والتوزيع 271 صفحة من القطع المتوسط .

** ليلى مقدسي شاعرة من سوريا صدر لها أكثر من مجموعة شعرية : ثالوث الحب - غمامة ورد - وردة أخيرة للعشق - عرس قانا - نص القلب - لغة الجمر . 

سوزان خواتمي 

سيمون دي بوفوار فيلسوفة فرنسا الثائرة




خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تفور في صراعاتها الفلسفية، وثوراتها الثقافية ، كانت سيمون دي بوفورا ورفيقها سارتر يقصدان يومياً جادة سان جيرمان، حيث مقهى كافيه دو فلور، فيجلسان قريباً من مدفأة قديمة ، يتناقشان ، يتجادلان ، ويكتبان.. وكانت الصحف تلاحقهما بمقالات وردود والعداء وهجوم ومديح كونهما الممثلين لفلسفة الوجودية، وغثيانهما الوجودي.
اليوم ومع دخول عام 2008 أعلنت فرنسا استعدادها للاحتفال بمئوية سيدة الأدب الفرنسي وفيلسوفتها الثائرة سيمون دي بوفار تقديراً لطروحاتها الفلسفية ومؤلفاتها الأدبية التي كانت لها الدور الرائد في حركة تحرير المرأة ، ليس على صعيد فرنسا فحسب بل تعداها الى معظم حركات التحرير النسائية في العالم، وقد تمثل فكر دي بوفوار في التأكيد على الهوية والمطالبة بالمساواة.
ماالسبب الذي جعل هذا العالم دائماً ملكاً للرجال؟

أثرت سيمون دي بوفوار بشكل كبير في تشكيل وعي ثقافي جديد بقضية المرأة ففي كتابها
 " الجنس الثاني" الصادر عام 1949 ، والذي يعتبر من أهم اصداراتها، والذي ناقش أوضاع المرأة التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية في العصر الحديث، رابطاً بين وضعية المرأة الفرنسية في القرن العشرين بالنماذج التحقيرية التي حاك خيوطها مذهب القديس طوماس، وفيه اعتبرت دي بوفوار أن المرأة الفرنسية تعاني من اضطهاد نظري تمارسه سطوة الرجل العاطفية عليها ، فيتحول من انسان واقعي إلى رمز شبيه بالآلهة، وإذ ترفض دي بوفوار ظواهر تأليه الرجل والخضوع للحب واعتبار المرأة مجرد" آخر" ، وبحسب دي بوفور" لايولد الانسان امرأة بل يصبح كذلك" إذ ليس ثمة قدر بيولوجي او نفسي او اقتصادي يقضي بتحديد شخصية المرء كأنثى في المجتمع فالأنثى تحوّل إلى امرأة ضمن واقع ذكوري متسلّط تشكّلت شخصيته انطلاقا من مفهوم السلطة التي وضعت ملامحها وحدودها السلطة الاقتصادية عبر العصور والحضارة في أبجديتها وهي التي تصنع هذا المخلوق الذي يقف في موقع متوسط بين الذكر ويوصف بانه مؤنث، و ان الاخر/ الرجل أساس جوهري في صياغة الذات الانثوية والانسانية بكاملها.
ذلك الكتاب أثار الكثير من الجدل مابين مؤيد ورافض ومشكك، وعن العدوانية التي لاقتها جراء كتابة – الجنس الثاني – تقول كاتبته:
"هوجمت خصوصاً بصدد فصل الامومة ، وصرح رجال كثيرون بأنه لم يكن يحق لي التحدث عن النساء لكوني لم أنجب أولاداً ترى ، هل أنجبوا هم .؟ على أنهم كانوا يعارضونني بأفكار ليست دون لك حسماً وقطعاً أتراني قد رفضت كل قيمة لشعور الامومة والحب؟ كلا، لقد طلبت أن تعيشهما المرأة حقاً وبشكل حرّ في حين أنهما غالباً مايخدمانها كحجة، وأنها تخضع لهما إلى درجة أن الخضوع يبقى إذ يكون القلب قد جف"


سيمون دي بوفوار وسارتر
ارتبطت سيمون دي بوفوار طوال عمرها بعلاقة مثيرة للجدل مع الفيلسوف جان بول سارتر واعتبرت لقاءها به " الحدث الرئيسي في وجودها"، حيث عملا بالتدريس في المدارس الثانوية، واستمرت الرسائل بينهما، حتى لحقت به ليكونا معاً فريق عمل متفاهم ومتجانس في كل مجالات الفكر والأدب والسياسة ، وتعاونا معا أثناء الحرب في حركة  المقاومة، فشجع كل منهما الآخر على نشر نتاج فكره، كما قاما برحلات خارجية كثيرة، قوبلا خلالها بالترحاب.. لكن علاقاتهما المفتوحة والتي لم يخلداها برابط الزواج، كانت تمر أحياناً بالغيرة حين كان سارتر يتعلق بهذه أو تلك من النساء ، ويصارحها بذلك، مما يثير عذابها لكن ايمانها بما اعتباراه فلسفة وجودية كان يجعلها تخضع وتذعن،  وحين مرض سارتر في سنواته الأخيرة، وفقد بصره اعتنت به سيمون حتى مات في ابريل عام 1980، وبعد موته اصدرت كتابها" وداعاً سارتر" ، فكتبت عن الرجال الذين احبتهم في ظل سارتر. ونشرت الرسائل المتبادلة بينها وبينهم ، وهذا ما عده البعض بمثابة تصفية حساب معه، خاصة أنه لم يترك لها الوصاية على أعماله الادبية والفلسفية بما فيها خطاباته لسيمون، بل عهد بها إلى فتاة شابة تبناها تدعى " ارليت" كان قد ارتبط معها بعلاقة استمرت سنوات، لكن سيمون أصرت على نشر رسائلهما، وأقامت في شقة تطل على المقبرة التي دفن بها، كما أوصت أن تدفن فيها هي أيضا بعد وفاتها.. وعن تعقد العلاقة بينهما كتبت دي بوفوار "(الحقيقة أنني كنت منفصلة عن سارتر بالقدر الذي كنت التحم فيه مع هذه الشخصية.. كانت علاقتنا جدلية. أحياناً كنت أشعر بأنني على مسافة لا معقولة منه، وفي أحيان أخرى كنت أشعر كأنني النصف الذي يكمل النصف الآخر. أخذت منه وأخذ مني، وبالتأكيد لم أكن تابعة لـه ).
 يجد الكثيرون أن تجربة سيمون دي بوفوار لم تكن مهمة إلا لكونها ارتبطت بفيلسوف مهم هو جان بول سارتر، وفي هذا غبن كبير لأهميتها، فالاثنان لم يشكلا معاً علاقة اعتيادية بل كان ثمة قضايا عالجاها معاً من خلال نقاشاتهما، والتي صدما بها العالم كقضايا الارتباط والاخلاص والخيانة، وقد وصف سارتر سيمون بأنها : تجمع بين ذكاء الرجل وحساسية المرأة، وعلى رغم الدرب الواحد الذي سلكاه، تناولت هي قضايا الواقع الملموس. وقد اختيرت دي بوفوار كرئيسة للرابطة الفرنسية لحقوق المرأة.كما حصلت على جائزة" جونكور" وهي أرفع جائزة أدبية في فرنسا ، وبهذا سبقت سارتر الذي نال نوبل بعد ذلك بعشر سنوات..

أعمال سيمون دي بوفوار

كتبت سيمون دي بوفوار سيرتها الذاتية في أربع كتب : مذكرات ابنة مطيعة- في ربيع الحياة- قوة الظروف – كل شيء قيل وحدث ، في تلك الأجزاء أرخّت دي بوفوار الحياة الفكرية في فرنسا ، وقال النقاد عن تلك الكتب أنها شجاعة وصادقة وتحمل أبعاد الأمانة المفترضة في السير الذاتية.
 أما رأيها الشخصي بما تناولته فتقول عن كتاب الجنس الثاني:
"كان من ألوان سوء التفاهم التي خلقها الكتاب الاعتقاد بأني كنت أنكر فيه أي فرق بين الرجل والنساء، والحقيقة أني بالعكس قست وأنا أكتب الكتاب مايفصل الجنسين، ولكن ماذهبن إليه هو أن تلك الاختلافات هي ثقافية وليست طبيعية ، وأخذت على عاتقي أن أروي كيف كانت تنشأ هذه الاختلافات( ....) وهكذا ألفت الجزء الثاني : التجربة المعاشة"

وعن رواية ( المدعوة) تقول:
كانت الأرض مزروعة بالأوهام المحطمة وهي الاخفاق الذي أزعج حياتي الخاصة هو الذي خلق ( المدعوة) ومنحني تقهقراً بالنسبة لتجربتي الحديثة والرغبة في انقاذها بالكلمات وأصبح ممكنا وضرورياً لي أن أضعها في كتاب.

عن ( المثقفون) تعلق:
خلافا لما ادعاه البعض من الخطأ اعتبار المثقفون رواية مفاتيح، وأنا أحتقر روايات المفاتيح احتقاري لكتب ( الحيوات المروية) (...... ) وأنا لاأزعم أن المثقفون رواية ذات فكرة، أن رواية الفكرة تفرض حقيقة تمحو جميع الحقائق الأخرة وتوقف دائرة الاعتراضات والشكوك التي لاتنتهي: أما أنا فقد صورت بعض أشكال الحياة في فترة مابعد الحرب من غير أن أقترح حلولاً للمشكلات التي تقلق أبطالي.

عن كتاب ( دم الآخرين) تقول:

صدر دم الآخرين في أيلول، وكان موضوعه الرئيس كما ذكرت تناقض هذه الحياة التي عشتها كحريتي والتي التقطها- كشيء- أولئك الذين يقربونني، ولكن هذه المقاصد فاتت الجمهور ، وصنف الكتاب على أنه رواية عن المقاومة.... وصنفت أيضا رواية وجودية وكانت هه الكلمة قد أصبحت تلازم آلياً أثار سارتر وآثاري.

سوزان خواتمي
نشر في جريدة النهار

22 يونيو 2016

شوشو لم يعد صغيراً

 علاقتنا كانت تبدو وثيقة جداً  .. وحميمة جداً .. وأكثر من وطيدة . لم يعرفنا المكان إلا متجاورين ، و نكاد لولا هنيهات غير مقصودة ، لا نفترق .
متقاربان .. متلاصقان ، ولكن رغم كل ما عرفته عن ولعها الفائض ، وتعلقها المطلق ، هاهي قد خانت علاقتنا ، منحت الفراق فرصته بيننا ، وتركتني .
 مرهقة بدت لي ، ومتوترة ، عقصت خصلات شعرها بفوضى تنم على نزق داهمها ، ثم اختفت ..
قبلها بدقائق فقط ، كانت تبدو وكأن لا طاقة لها على فراقي ، تراها غضبت  ؟..
ما عرفتها إلا حليمة هادئة ، تحتمل نزواتي ، وتلبي طلباتي ، حتى حين أشتط ، وأزايد على صبرها .
حين رحلت .. هل كانت تفكر بعقابي ؟ هل تستطيع ؟.
لا .. لم تفعلها قبل الآن  .. لكن قد تفعلها هذه المرة !.. يا للمصيبة ! "

كانت تلك الأفكار الشريرة وغيرها : الأسوأ حتماً ، تراود " شوشو " الطفل الصغير الذي حملته أمه من سريره وتركته وحده ليواجه مفاجأة غيابها ، فيحس بالاختناق والرغبة العارمة في البكاء نحيباً ، لكنه يتماسك ويبتلع غصته ، فلازال بعض الأمل يحدوه بأنها ستظهر بين لحظة وأخرى .
ذلك الصباح عرك عينيه وراقبها من خلال نعاسه ، بدت له لجوجة على غير العادة ، أحس بضيق يمفصل حركتها ، ويجعلها غريبة الأطوار بعض الشيء .
لكنها أقبلت نحوه وحملته بين ذراعيها ، ثم أجلسته في الركن القصي فوق السجادة الملونة ، وأحاطته كما تفعل غالباً ، بوسائد كثيرة ، وأمامه كل الدمى التي تعتقد أنه يحبها  ..
مسحت بدفء كفها الناعم فوق شعره ، ورشفت قبلة ملحنة من خده ، ثم سارعت مبتعدة .
لا يذكر أنها استأذنته لتغيب أو حتى لوحت له مودعة ، الحقيقة أنه لم يعد يتذكر ، ربما تكون قد فعلت ، حين كان  لاهياً بألوان الأرضية ، مربعات من البني والأزرق متشابكة ومتعارضة ، فلم يشعر بها حين غادرت ، لكنه حين رفع رأسه ثانية ، كانت قد اختفت نهائياً ، ليجد نفسه وحيداً في الغرفة .. أفزعه اتساعها !
نظر شوشو حوله .. أمامه .. خلفه .. في كل مكان ، وعلى القدر الذي تكشفه له عيناه الصغيرتان .
 لا أحد ..
فاض صدره بالرهبة ، وطرق الخوف قلبه ، تصبب عرقاً ، فالمكان رغم ألفته يصير بدونها موحشاً وكئيباً .
أين ذهبت ؟ إنه يعتمد عليها بشكل مطلق ، هكذا عودته ، وليكتمل حظه العاثر ، شعر بقرصة جوع لم تمنحه رحمة التأجيل .
في مثل هذه الأحوال ، قبل اختفائها ، كانت تهيأ له صدرها المكور ، فتترطب شفتاه باللعاب ، ويتحلب حلقه، تضمه إلى حضنها  وتفيض فوقه بثديها المتحجر ، تقربه منها أكثر.. فأكثر ، يتلاصقان حتى يكاد لا يميز من ملامحها سوى مبسمها ، تحدق بوجهه طويلاً فيشبع هو قبل أن تفعل هي .
أما الآن ‍‍‍‍..
ذاكرته النشطة عنها ، تعكر مزاجه ، فيقرر أن يرفع عقيرته بالصراخ ، يناديها " ماما "
يخرج من حنجرته صوت حاد ثاقب ودون حروف .. لا تجيب .
محاولة أخرى ، أعلى قليلاً .. حوله لا يتردد إلا السكون ، ألا تسمعه ؟ .
إنها تتجاهله .. إذن سيبكي طويلاً .. سيبكي كثيراً .. ولن يهدأ حتى تعود .
كان ذلك قراره الأول الذي سيصر عليه .
إن العالم الذي يعرفه أو الذي كان يعرفه حتى ساعة خلت ، هو عالم حنانها الهنيء ، يتذكر أن بكائه كان يجزعها فتتحول إلى حدأة تراقبه ، لا يغيب عن عينيها حتى تعرف ما به .
 تظن أنه جائع فتعصر ثديها بين شفاهه وترضعه .. تظن أنه متسخ فتشم رائحته وتنظفه .. تظن أنه متألم فتمسح بطنه وتدلكه .
كانت على كل حال تفيض بكل ما عندها ، وبكل ما بوسعها حتى يضحك ويرضى ، وقتها فقط تبعده عنها تنظر إليه بعيون مطمئنة وتستكين .
منذ التقيا وجهاً لوجه لأول مرة ، حين خرج من أسر جدران بطنها الضيق إلى طوق ذراعيها الحانيتين ، على وجه الدقة قبل ثمانية أشهر وعشرة أيام ، كانت تتصرف كأن لا طاقة بها على فراقه .
يقول لنفسه دون أن يجرؤ على فقدان الأمل  " الآن ستظهر " 
 " ستهرع لحملي "
" ستشاغلني بغنوة ، ستصفر وتنغم كعصفور متنكر بثوب أم .. النغم تلو النغم حتى يطيب خاطري "
كل شيء حول " شوشو " الصغير اليائس يزعجه ويضايقه ، حتى الدمى القطنية التي تراقبه بعيونها الغبية المفتوحة دون أجفان ، إنه لا يحبها ، يضربها بقدمه و يبعدها بيديه الاثنتين ، يريحه تبعثرها ، تستقر بعيداً عنه  ثم يعاود البكاء ، فلا زال يريد أمه ..
لم يبق أمامه إلا التحرك في محاولة جادة للبحث عنها ، فرغم عيوبه المفترضة يعرف الجميع أنه شخصها المفضل ، ما الذي حدث ؟ لا يرتاح إلى غموضها ، ولا طاقة به على اختفائها .
ثقله المكوم يمنعه من النهوض والتحرك على قدميه كما يفعل الآخرون ، فهو لازال صغيراً .
بذكاء استثنائي تخطر له فكرة الاعتماد على مؤخرته ، يجعل منها نقطة ارتكاز ، يستعين بذراعيه دافعاً بقية جسده نحو الأمام .. ينجح في التقدم سنتيمترات قليلة فقط .
التعب يجعله يلهث ، لكن استنشاق رائحتها مرة أخرى يستأهل الجهد الذي يبذله .
بعد قليل من الوقت يصل إلى منتصف الصالة ، يبدو سعيداً بإنجازه ، فقد تحرر من أسر الزاوية القصية ،
و تجاوز كومة الدمى المندهشة ، إنها تحدق به بإعجاب فقد استطاع النجاة من مأزق قلة الحيلة ، سيخبر أمه حالما يجدها ، إنه لم يعد صغيراً  .
ما أجمل الحرية ! نسي بها دموعه فوق خده حتى بردت ربما لأجل ذلك يبدو الكبار سعداء مبتسمين دائماً ، فهو لم ير أبداً وجهاً كبيراً يبكي ..
يتذكر البكاء .. فيستجمع كل صوته ويصرخ من جديد .
فجأة يسمع صوت أقدام فوق البلاط ، ينصت وشيء من الاطمئنان يغمره ، لعلها هي !  كأنها تركض ، تطل أخيراً ..
ترفعه بين ذراعيها ،  تضمه ملهوفة إلى صدرها ، يبلله وجهها الرطب ، وتزعجه تلك الفوطة التي تلف رأسها بها فتبدو له من خلال بقايا دموعه غريبة بعض الشيء ، محمرة الوجنات .

يشمها .. كانت تفوح منها رائحة زكية .
سوزان خواتمي
 قصة قصيرة من مجموعة( كل شيء عن الحب)

17 يونيو 2016

الملفوف الساخن: قصة من مجموعة فسيفساء امرأة

صفعة واحدة .. ثقيلة .. قاسية .. ظالمة .. و كافية  لتنبئه بما قد يليها .
قليل من العنف ، كمزاح ثقيل من صديق سمج جعله يعترف .
- ستنطق يا ابن الكلب .
الكف القاسية هوت فوق صدغه مثل سيخ النار ، أزَّ خيط الألم ، اتقد خده ، فصرخ مستجيراً .
- أرجوك يا سيدي .. سأعترف .
وقد اعترف لسببين ، أولهما انه ابن كلب كما كانت تصرخ والدته حين تفور بغضبها ، والثاني أنه يستطيع احتمال برودة بلاط السجن لسنتين إن وقع بين يدي قاض رحيم أو ثلاث كحد أقصى ، ولكنه لن يحتمل صفعة أخرى من كف الضابط الأخطبوطية  ..
سالت دموعه ..
روى تفاصيل سرقاته على مسامع الضابط :
-  أما ما بقي من المال والذهب فقد خبأته داخل كيس خام في (طاقة ) حمام بيتي ، خوفاً من اللصوص .
- أعطني عناوين البيوت التي سرقتها  يا ذكي زمانك .
   كخطف البرق تذكر : فيلا في الشهباء ، و أربعة بيوت في المحافظة ، وواحد في منطقة الشيخ طه ، ومحلان في التلل ، وأشرطة كاسيت من سيارة كانت مفتوحة أمام أحد دور السينما ، محفظة صبية في إحدى سيارات السيرفيس ، هاتف نقال .. سطل لبن من دكان جارهم أبو يوسف  ..
استغرق الاستجواب الليل بطوله .. وحين غمر ضوء النهار صفحة السماء .. أغلق الضابط المحضر على أقواله ،  أطفأ المصباح الجانبي .. تمطى متثائباً لاعناً حرامية منتصف الليل  .
رماه الشرطي في زنزانة رطبة ، وناوله بطانية تفوح منها رائحة عرق حادة ، بين عظام جسده المتكومة و البلاط البارد المتسخ ، بساط لا لون له ، ذاك تفصيل لا أهمية له ، فالإعياء نال منه ، ثنى مرفقه تحت رأسه ، لملم باقي جسده على نفسه ، أغفى متعباً ، وشوق حثيث لحضنها الدافئ يتسرب بين مفاصله ، يهدهده حتى ينام  .
*******
ظهيرة البارحة فقط كان أسعد رجل في العالم . يطحن بين أضراسه لقمة ساخنة تغلي ، فهو يحب محشي الملفوف المحمّض بدبس الرمان الذي تطبخه زوجته نجاح وتقدمه له ملهلباً .
 نجاح ست بيت شاطرة ولا كل الستات ، لها نفس طيب في الطبخ والنفخ ، حمامها ومطبخها يشعان نظافة ، إضافة إلى أنها تنقلب امرأة مثيرة حين تقشر له التفاح وتلقمه الفصوص بيدها ، فيقضمها ثم يأتي على الأصابع الملونة بالأحمر القاني .
قال له أبوها : خذها بالثوب الذي عليها ، وزغردت زوجة أبيها .
أحبها منذ كانت تلعب على رصيف الحارة ، وانتظرها بعين قلقة حتى تكور نهداها .
حين ضمها إلى صدره  صار أكثر الرجال سعادة .
غرفة فوق السطوح بملحقاتها كانت كافية آنذاك ليعيشا نعيم الحب .. متى كبرت أحلامهما ولم يعد المكان يتسع  ؟  
حين تزوج نجاح ، كان يعمل سائقاً لشاحنة المعلم حسن يسافر بحمولة الخضار والفواكه من حلب إلى السعودية ، جلوسه وراء المقود في عتمة الليل وغبش الطرقات الموحشة لم يكسبه الثروة التي تذيقه طعم الملذات ، بل إن صوت أم كلثوم الذي يرافق دربه كان يجعل من قلبه خرقة بالية يعتصرها الشوق إلى دلال نجاح وغنجها .
تقول له وهي تدلك وتاب رقبته : البيت فاضي من غيرك يا حمودة  ...
كانت تتشيطن تحت لحافه وتسأله بهمس مبحوح : متى ستشتري لي مبرومة الذهب التي وعدتني بها ؟.
يرتجف فؤاده هلعاً . ما أقسى زعلها حين يتلاقى قوسا حاجبيها ويتغضن جبينها على هم الوعود التي لا تتحقق!
نجاح  تستاهل سوق الصاغة بأكمله ، لكن " العين بصيرة واليد قصيرة " فكل ما اشتراه لها : حلق تخشخش كراته في أذنيها كلما حركت رأسها  .
ظل فقيراً ..
عاد ذات ليلة ، ورأى نجاح تبكي وبدنها يرتجف من الحرارة .. لم يكن يملك ثمن الدواء حملها وركض بها إلى العيادة الليلية المجانية .. ساعة انتظار ، وتكشيرة الممرضة ، وتثاؤب الطبيب المناوب .. 
اتخذ قراره : سيشتري لنجاح الأساور التي تريدها . 
حظه العاثر جعل جرس الإنذار يرن وهو يحاول دخول أحد البيوت ، وبغمضة عين أحاط به كل شرفاء العالم .
*******
نخز الشرطي خاصرته فانتفض مرعوباً .. عرك نعاس عينيه .. لملم أطراف سترته حول صدره ، وتبع خطوات الشرطي الثقيلة .
ضابط الليلة الماضية ، يرتشف الشاي الساخن وبجانبه مدفأة تتقد نيرانها .. شعر بالحرارة تفكفك عظامه المتجمدة .. أراد أن يقترب أكثر ، خده الأزرق والجرح الصغير عند زاوية فمه جعلتاه يتراجع عن الفكرة .
أنار الضابط ثريا ابتسامته العالقة فوق فمه ثم لعقها بلسانه قائلاً :
- لديك زيارة ..
حرك حاجبيه بخبث ثم أضاف :
- حريم .
غيظ يتقد برأسه كجمرة في مهب الريح : لحن قديم  .. خشخشة أساورها .. برد عظامه .. دفء حضنها .. ليل الطرقات الموحش .. الصفعات المؤلمة .. رائحتها .. ولقمة ساخنة من محشي الملفوف تحرق سقف حلقه .
     ما أن لمح وجه نجاح الطافح الحسن يطل بشبابه من شق الباب حتى وثب إليها كنمر غاضب .. رفع يده إلى الأعلى .. وهوى صافعاً اندهاشها ، ومن غير أن يكترث لدموعها النافرة وصرخة الألم التي فلتت منها ، أدار وجهها نحو باب الغرفة ، ودفعها بقسوة من بين كتفيها إلى الخارج .
زعق بصوت جهوري هز جدران غرفة المحقق الضيقة :

- إياك أن تأتي إلى هنا مرة أخرى لأي سبب .. أتفهمين ؟ ... لأي سبب .
سوزان خواتمي