28 فبراير 2017

الكتابة الابداعية ليست ساذجة : ايناس حسني


الكتابة مثل الحب يصعب تجاهل مواعيدها. (مجلة كوزمو)|


مشاعر تتسامى على ديمقراطية الابتذال / عبد الله الأشمر


أغامر في الكتابة التي تشبهني: احمد المنشاوي


الأرض والغيم : قراءة في نص انتظرتك طويلاً ولا وقت إلا للوداع (عدنان المقداد)

تمهيد

في الحب ، نحن محكومون ، عادةً ، بأن نعيش " داخل التجربة " فننفعل للبعد ، و القرب ، و الرضا ،و الخصام ... إلخ .

لكن من منا يملك " ترف " إضاءة هذه التجربة ، كما لو كان خارجها ؟ لكن من منا يحتاج هذا الانفصال عن التجربة ؟ بل هل من السهل تحقيق ذلك ، لو أراد ؟

قد يرغب أحدنا بذلك إذا تعرض لضغط تجربته في الحب ، و ضغط مشاعره ، إلى حد أنه يريد فهم ما الذي يحدث له ؟ ما الذي يجعل هذه التجربة استثنائية إلى درجة سلْب راحته ، و حريته التي يعتد بها ، و يحد من فاعليته التي يجدها من ذاته ، ليكون " منفعلاً " في علاقته مع ( آخر ) .
الحب ، أولاً و آخراً ، هو علاقة مع آخر ، و هذا الآخر – دون غيره – يملك حق امتلاك مفاتيحنا ، و أسرارنا ، و أقبيتنا ، و غرفنا الخلفية ، و زوايانا المعتمة .. يملك ذلك باسم الحب .
و فيما نحن ذاهلون في هذه التجربة قد تتاح لأحدنا فرصة مترفة بإضاءتها ، فهو " داخلها " و " خارجها " في آن معاً . يضئ الانفعالات الصافية التي يولدها هذا الحب .. فماذا قد يجد ؟


/ 1 /

هذا – باختصار – هو ما فعلته " الأنثى " في نص " انتظرتك طويلاً ، و لا وقت للوداع " لسوزان خواتمي ، و هي تعبر عن ذلك بقولها " كانت تجوس في خفايا الحب " .
تقول الأنثى ، إن الظلام الذي أحاط بها يعود إلى أحد أمرين : إما وقوعه ، فعلياً ، خارجها ، أو إنه حدث بإرادتها عندما أغمضت جفنيها .. و لسنا نعرف أيهما الأكثر سطوة في هذه الصورة : هل هو العالم الذي يختفي عنا بليل مطبق ، أم هي الذات التي تملك أن تخفي العالم بمجرد إغماض الجفنين ؟
يا لهذه العلاقة الغربية بين الذات و العالم : يمكن لأحدهما ، ببساطة ، أن يوقع الآخر في مطبّ العزلة عنه ، فيبقى كل طرف وحده ، دون أن يتمكن حتى من معرفة ما حدث ؟
لكن النص يقرر أي الحالتين هي التي حدثت :
(
كنت أهم بمعرفتك ، حين تخلى عني العالم ، لأجد نفسي وحيدة ، و معك ) .
فالأنثى تأكد لها أن العالم هو الذي أعتم ، و الظلام مرده إلى هذا لا إلى " فعل " منها بالإغماض ، و قد حدث هذا بالضبط ، في الوقت الذي همت ، فيه ، بمعرفة الحبيب ( كنت أهم بمعرفتك حين تخلى عني العالم ) .. و النتيجة كانت عزلتها عن العالم ، لكن لا لتكون " منعزلة " بل ليحدث تماماً ما أرادته : أن تكون معه ( وحيدة ، و معك ) !!
بداية معرفة الحبيب تكون بالعزلة عن العالم – هذا ما قاله النص حتى الآن ـ و العزلة قد تأتي لأحد السببين المذكورين أعلاه : إما أن يغمض المرء عينيه عن العالم ، فيحذفه ( و هي حالة إيجابية ) ، أو أن " يتخلى " عنه العالم ، فيجد نفسه وحيداً – نسبة إلى العالم – لكن مع حبيبه – نسبة إلى نفسه – ( و هي حالة سلبية في جوهرها ) لكن الأمرين يقودان إلى النتيجة نفسها .
هذه نقطة بداية : حذف العالم ، و البقاء معه ، وجهاً لوجه .. ثم ماذا ؟


/ 2 /

بالسلبية ذاتها تنتظر الأنثى الخطوة الأولى من الحبيب، صامتة ، فيما هو صامت ، أيضاً ، و بين صمتها ، و صمته يتسع بينهما الأفق – حسب تعبيرها ، و هو تعبير لم يعجبني – و صبرت هي لتسمع منه ، حتى تحول صبرها إلى صفحة بيضاء تنتظر أن يحبرها بكلماته .
الذي حدث هنا أن ( الكشف ) بدأ .. رغم الصمت المتبادل .. و هذا الكشف بدأ من " الرغبة " التي " ابتلعت كل الأشياء التي تخفي بذاءاتها بزيف أهميتها " و هذه جملة مغرقة في الفلسفة تحرض على طرح السؤال التالي :
من الذي يسبغ الأهمية على الأشياء ؟ و هل هو متواطئ معها بحيث يمكن لها بعد اكتسابها الأهمية أن " تخفي بذاءاتها " إذ من الواضح في النص أن " البذاءة " هي صفة حقيقية في الأشياء ، بينما " الأهمية " صفة مكتسبة مزيفة .
تعالوا نر هذه الأشياء أولاً :
-
الفصاحة العرجاء .
-
التمتمة المفهومة .
-
الهمهمة المدعية .
-
النقاش بالأيدي .
-
الساحر الذي من فرط سذاجته لا يسحر أحداً .
-
الموسيقا المتهمة بالشروع في قتلنا حزناً من الجرح إلى الجرح .

هنا يخطر لي : هل هذه صفات الأشياء في حالتها الصّرف ، أي أثناء امتلاكها صفة البذاءة ، قبل إسباغ صفة الأهمية ؟ أم هي كذلك في حالتها النهائية ؟

(
الفصاحة – التمتمة – الهمهمة – النقاش – الساحر – الموسيقا ) كل هذه كلمات مجردة لها " أهميتها " فمن لا يرى الفصاحة – التي هي الإيضاح – مهمة ؟ و من يمكنه اتهام الهمهمة ، و التمتمة ، و النقاش ، و الموسيقا ، و السحر بعدم الأهمية ، بغض النظر عن جوهر هذه الأهمية ؟
لكن مكمن البذاءة في الفصاحة أنها عرجاء ، و في التمتمة أنها مفهومة ، و في الهمهمة أنها مدعية ، و في النقاش أنه بالأيدي ، و في الساحر أنه لا معنى له ، و في الموسيقا أنها " متهمة " .
و على هذا فالأشياء خادعتنا بأهميتها الزائفة ، بإخفاء بذاءتها . لكن هل تريد الأنثى أن توضح لنا " فلسفتها " حول هذا كله ؟ النص لا يريد هذا ، كل الأمر أن النص استعمل طريقة " ملتوية " لتجد الأنثى لنفسها ، و لحبيبها عذراً في الصمت ، الذي لم تكن تتوقعه بدلالة انتظارها لكلماته أن تحبر صفحتها ، فالذي يجمع الأشياء أعلاه أنها كلها " وسائل تواصل " شائعة : فصاحة ، تمتمة ، همهمة ، نقاش ، سحر ، موسيقا .. ( أوضح فقط أنني استندت في اعتبار السحر وصيلة تواصل على أساس معنى السحر الذي هو إظهار الباطل أو الزائف بصورة الحق ، و هذا لا يعدو كونه خداعاً بصرياً ، فهو وسيلة تواصل على بصرية هذا الأساس ، فيما الوسائل الأخرى سمعية ) .
و هكذا أرادت الأنثى إقناعناو ربما إقناع نفسها – أنه لا مشكلة لديها مع الصمت ، و من الملاحظ أن خلفيتها هنا هي " إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون " و أخذت تلتمس الأسباب لذلك بذم اللغة ، و تدافع عن صمته باتهام النطق ، و هذه نقطة سلبية أخرى تضاف إلى عدم إلغائها العالم إرادياً .

و بصمتهما( صمتَ الكون ) - كما تنهي المقطع – فاكتمل إلغاء العالم على مرحلتين ، بصرية ( ظلمة ) و سمعية ( صمت الكون ) .. و كل إلغاء جديد يقتضي إغراقاً أكثر في " الكشف " .
و كانت العلاقة تزداد " حسية " ، فيما يظهر حتى الآن ، ففي حين أدى الإلغاء الأول إلى تضخم الرغبة حتى درجة ابتلاع الأشياء ، انتهى الإلغاء الثاني إلى أن " دارت طواحين الرغبة
" .

/ 3 /

و بعد إلغاء حاستين هما البصر و السمع ، و هما الحاستان التان تنتقلان بوسيط خارجي ( الضوء ، و الهواء ) تبقى ثلاثة حواس لا تنتقل بوسيط ، بل هي حواس " تماسية " مع الآخر ، و هذا إيغال أكثر في الحسية التي ذكرت ، و إيغال في الآخر / الحبيب ، و لاحظ كيف ظهرت حاسة الذوق بعد ذلك مباشرة " كان طعم التفاحة..."

أضف إلى ذلك أن التفاحة تحيل بسهولة إلى " تفاحة الغواية " التي أظهرت الذكر و الأنثى أحدهما للآخر : أظهرت " جوعهما " و " حقيقتهما " . فهل بعد هذا كله : أي بعد إلغاء " حواس البعد " و إبقاء حواس التماس ، ثم بعد ظهور الرغبة ، و الغواية و الجوع – هل بعد هذا كله يحتاج المرء إلى لغة أكثر من أن يكون صادقاً مع نفسه ؟ و هل ثمة لغة أكثر إفصاحاً ، في هذه الحال ، من " لغة الجسد " .

المقدمات السابقة أوصلت إلى هذه النتيجة الطبيعية ، بما فيها من إلغاء رقابة العالم ، و اللغات المفتعلة ، بحيث لم يبق سوى ذكر و أنثى ، و جسداهما .. و " لحظة الكشف " هذه كانت " شهقة الولادة لعمر سيكتبني من جديد " .. فكان هذا اكتشافاً للحياة ، و كان انتصاراً للحياة .

كان انتصاراً إذا ، فما هي خسائره ؟
-
العنق و القلادة ؟
-
أقنعة و كفن ؟
-
رشدي و أنفاس روحي المقتضبة ؟

و هل هذه خسائر ؟ العنق الذي قد يحمل نير المفاهيم ؟ أو يرمز لمكان القتل ؟ القلادة التي قد تكون طوق المر الذي يربطه بالعالم ؟ الأقنعة ؟ الكفن ( خصوصاً في حالة انتصار الحياة )؟
أن يخسر المرء هذه الأشياء فهذا مكسب جديد يضاف إلى المكسب الأساس الذي هو الحب ،و هنا يستمر الحب اندفاعاً حسياً بيد ضريرة على جسد الآخر ، و رغم خوفها و توجسها ، و تهيبها : تظل مندفعة في ما هي فيه بأصابع مشتعلة ، معجونة الشوق بفضول كشف الجسد . و شغفها هو محركها في هذا الكشف .. حتى نهاية معرفة الآخر الذي هو الحبيب حين ( فاض التنور ، و اضطربت الحواس لذهول الاكتشاف ) .

/ 4 /

لكن مغامرة الكشف تلك انتهت إلى اتهامات متبادلة بين الطرفين بالتقصير . فهل هذه الخاتمة منطقية مع ما حدث ؟
إلغاء العالم ، و إلغاء اللغة التواصلية المعتادة بكل أثقالها .. ثم إبقاء لغة الحس و التماس و التلاصق .. ثم الانتقال المنطقي – تحت هذا المعنى – إلى لغة الجسد ، و الدخول في حالة حب / كشف منسجمة تماماً لنفاجأ ، بعد هذا كله ، بألم مقسوم على اثنين ، و قاموس شتائم ، و اتهامات متبادلة تشير إلى سرعة ما حدث ؟ و باختصار إلى عدم رضا الأنثى ، و كل واحد يحمل المسؤولية للآخر ؟ أتساءل مرة أخرى هل هذه الخاتمة منطقية ، و منسجمة مع ما سبق ؟


التفات النص

المفاجأة هنا ، في هذا المكان : أن الخاتمة منطقية ، و منسجمة مع .... " العنوان " !!! بل يخيل إليك أن النص ما هو إلا توسيع لمفهوم العنوان ، الذي هو أساس الأمر كله :

هذه أنثى انتظرت ، طويلاً ، ما يكاد يأتي إلا ليذهب . ما يكاد يمر بها إلا ليودعها . لكن الأنثى – بما هي أنثى – لا تتفهم هذا ، و لا تفهم لم ينبغي أن يكون الأمر كذلك ؟ ذلك أن الأنثى مناط إقامة و استقرار ، و الرجل مناط سفر .. الأنثى هي الأرض ، و الرجل هو الغيم : ففي حين الأرض باقية ( بطيئة كسلحفاة ..) يكون الغيم إما ذاهباً ، أو ذاهلاً ، أو ذائباً ( مجرد أرنب مذعور هارب )

فالاتهامات ليست مجرد حديث عن نهاية فاشلة لعملية جنسية ، لكنها خلاف بين متغايرين : بين الثبات و الحركة ، بين الاستقرار و القلقلة ، بين الإقامة و السفر . بين قطبي الحياة .
و النص يقول هذا بمجرد " الالتفات " الحاد من حالة انسجام كانت ماضية باتساق تام – الالتفات إلى حالة عدم انسجام ، و هذا الالتفات ، بربطه مع العنوان ، المغاير للنص كذلك ، و المتسق مع الخاتمة ، هذا الالتفات و الربط يظهر لنا المعنى الأخير و المستوى الأعلى من النص لينقلنا مما كنا فيه إلى شئ آخر .

و الآن ، و الآن فقط ، يحق لنا استعادة سلبية الأنثى التي ظهرت من قبل في موضعين من النص .
لقد كانت الأنثى عاشقة حقاً ، و هي قامت بعملية الكشف كاملة ، و استنفرت كل ما يمكن لفهم عشقها ، و أسست من البداية تأسيساً متصلاً لكل هذا ، لكن هذا كله لا يمكن أن يكون كما ينبغي ما دام بعيداً عن إرادة الثبات لديها ، فهي تدرك أن سلبيتها قسرية لا يد لها فيها ، و لكن جل ما تطلبه ألا يكون الرجل مجرد أرنب مذعور هارب .



انتظرتك طويلاً ولا وقت إلا للوداع


ظلمةٌ دامسةٌ لأحدِ احتمالين

إما أنهُ ليلٌ مطبقٌ لا يعرفُ الرحمةَ
أو لأني أغمضتُ جفنَّي بضرواةٍ .

كنتُ أهِمُّ بمعرفتِكَ حين تخلى عني العالمُ ،
لأجدَ نفسي وحيدةً و معَكَ

وجهاً لوجهٍ تقابلنا ..

اتسعَ الأفقُ بيننا كالمستحيلِ بعينِهِ ،

وانقلبَ صبري صفحةً بيضاء َ
لجوجٌ تنتظرُ حِبرَ كلماتِكَ .

ابتلعتِ الرغبةُ كلَ الأشياءِ
التي تخفي بذاءتَها بزيفِ أهميتِها :

الفصاحةُ العرجاءُ ..

التمتمةُ المفهومةُ ..
الهمهمةُ المدعيةُ ..

والنقاشُ بالأيدي ..
والساحرُ الذي من فرطِ سذاجتِهِ لايسحَرُ أحدا

والموسيقا المتهمةُ بالشروعِ
في قتلِنا حُزناً من الجرحِ إلى الجرحِ

صمتَ الكونُ

دارتْ طواحينُ الغوايةِ .

كان طعمُ التفاحةِ تحتَ الضرسِ الشرهِ

مزاً .. حامضاً ،
ولذيذاً لا يقاوم ،

كانت القضمةُ الأولى كافيةً لينتفضَ الجوعُ
وحشاً مفترساً لا يعرفُ الشبعَ

حين ظهرتْ الحقيقةُ عاريةً

احمرَ وجهانا خجلاً ،
وبدا الصدقُ أقصرَ الطرقِ بين قلبين ،

كانت شهقةُ الولادةِ لعمرٍ سيكتبُني من جديدٍ

خفقةً .. خفقتين

كطبولٍ افريقية
تعلنُ انتصارَها المجنونِ للحياةِ ..

انحنيتُ

لألملمَ كلَ ما سقطَ مني :

عنقي والقلادةُ ..

أقنعتي والكفنُ ..
رشدي وأنفاسُ روحي المقتضبةُ .

ضريرةٌ تلكَ اليدُُ لا حولَ لها ولا قوةً ،

ومذعورةٌ حتى النفسِ الأخيرِ قبل الموتِ ،
تتوجسُ مهابةً

تندفعُ لهفةً

تتلمسُ الطريق .

يا للأصابعِ المشتعلةِ شوقاً
في تحسسِها المعجونِ بالفضولِ ،

وشغفِها لكشفِ ما استعصى على الفهمِ الخجولِ ،

كانت تجوسُ في خفايا الحبِ

تمارسُ لذتَها الأولى ،

حين اكتشفتْ اللحظةُ الحاسمةُ
ذابتْ قاراتِ الجليدِ القطبيةِ ،
فاضَ التنورُ .

اضطربتْ الحواسُ لذهولِ
الاكتشافِ

تجلى الحبُ ناعماً كجدرانِ الوهمِ الزلقةِ ..
حنوناً كقطرةِ ندى . .

مفطوراً على الأوجاعِ .

تبادلنا الألمَ المقسومِ على اثنين ،

وما تذكرناه من قاموسِ الشتائمِ ،

اتهمتَني بأني بطيئةٌ كسلحفاةٍ تختفي تحت صندوقِها الصدَّفي ،

واتهمتُك بأنكَ مجردَ أرنبٍ مذعورٍ هاربٍ .


هي مجرد نظرة : الشاعر المصري مهاب نصر

ماذا لو كنتُ مجرّدا 
ليس كفكرة،
لكن كنظرة فقط؛
هنا، وهي في الطريق إليك.
لا العين،
بل النظرة وقد صارت عزلاء هكذا.
هي لك،
ولكنها تريد أكثر.
يمكنكِ أن ترفعي كفك: لا
أن تقولي: ما البأس
وكأنها ستتبدد كسحابة،
أن تؤكدي لنفسك: هي مجرد نظرة
ولكن لا..
كل هذا وأكثر.
ستحلمين
وتنهضين في غضب.
ستعتبرين نفسك مسؤولة.
النظرة تتأبط ذراعك
تسحب لك الكرسي على طاولة الطعام
تقول لك: ها؟
ولا تستطيعين إلا أن تجيبي
السعادة؟
هي هكذا
تهديد..
ثقل مضاعف لنظرة
لهذا يصرخ السعداء
 كمن يطمر ألما لا يحتمل

#مهاب_نصر
#نظرة

قبلة " سوزان" الخرساء تنطبع على خدّ الأدب: بقلم الشاعر والكاتب السوري تميم صائب



من صفحتها الاولى، في إهدائها البسيط –المكثّف- تتبدّى لك، أنها أديبة من الطراز الرفيع، فهي أولاً وفيّةٌ لأدبها ولمن أخذ بيدها في سعيها الحثيث لاكتشاف عوالمه، وهي تعرف- ثانياً – وقع الكلمات على قارئها فتتخيّر له بسلاسةٍ مايفجّر فيه اتساعاً في إدراك المعنى، فحين أضافت كلمة واحدة" " بالطبع" إلى سطرها الأول في الإهداء فتحت أمامك باب مشاعرك في محبّة ما ستجد بعد حين:
(إليه بالطبع .. محمد خالد قطمة.. أستاذي)
ولأنني لست من المؤيدين لتشريح الإبداعات الأدبية جزءاً جزءاً، ولأنني أتعامل معه على أنه أنثى مليئةٌ بالفتنة، لا كطبيبٍ جراح يفقد معنى الإحساس بالجمال الكليّ أمام جزئيات الجسد، فإنني أربأ بنفسي أن أفصفصه بحثاً عن مواطن خللٍ أو جمال، لذا فإنني أرى في قصص " سوزان خواتمي" في مجموعتها الأخيرة " قبلة خرساء. صوت يصعد شجر الحكاية" لوحةً أدبيةً مفعمةً بالألوان المتناغمة، والصور المدهشة، والخيال المنفتح، والمعنى الذي – وإن بدا عصِيّاً أولاً – إلا أنه يتوضّح عند السطر الأخير في كل واحدة من قصصها لتقف فرحاً باكتشافك مقدرتكَ على التقاط المعنى والجمال المخبّأ في أزرار براعمه.
ويثير فيّ العجب أكثر، تمكنها من اختيار عناوينها بدقةٍ تُغبط عليها، يفتقر إليها الكثيرون ممن يكتبون هذا اللون الأدبي، فهي تختزل قصتها بعنوانها المكثف إلى جانب عناوينها الفرعية المليئة بالإيقاع والروعة : (أقلب أوراقهم مثل شمسً تتلصّص- ظلال حافية- أصابع بطاطا تحترق- من رحمها أنساب إليها..)
وأحسُّك معي حين ترى الشعرية في اختيارها لمفردات عناوينها، ثم حين تدخل محراب النص فتدرك أنّها ماتخّلت عن هذه اللغة ولا جعلت الفكرة والمعنى تأخذانها إلى السرد الفجّ أو تجبرانها على الانحياز إلى لغة فيها من الواقعية والسردية مايجعلها تبدو فجّة غير مستساغة.
وإنك في مرات كثيرةٍ تعوِل ولاتكفّ عن العويل، لأن " سوزان" استطاعت أن تكتبك كما أنت، وأن تفضح فيك سِرّ حياتك، فوجدته أمامك على الورق كما لو أنك واقفٌ أمام مرآة.
وإن كانت القاصة " أحلام مستغانمي" قد حلقت عبر انزياحاتها اللغوية المتميزة وتراكيبها المذهلة في سماء الأدب، ورفعت اسمها واسم بلدها عالياً عبر مقدرتها على المزج بين الخاص والعام، والذات والآخر، فتهافت القراء على قراءتها من كل حدب وصوب، فإن " سوزان" فعلت ذلك بكل بساطة وعفوية، واستطاعت أن تطيّر طائرها الخاص بها فلايختلط- لفرادته- ببقية الطيور، بل يظل يستهوي عيون الناظرين إلى جناحيه المرفرفين وريشه الملوّن،مطوّعةً في ذلك كلّه المعنى العميق الذي تسعى إليه عبر نظرة للحياة مفعمة بالفلسفة والحكمة جوار البساطة:
(مشكلة فظيعة أن تكون على حقٍ دائماً، وأن تجعل الآخرين مجّرد مخطئين يُطأطئون أمامك بذنوبهم الصغيرة) ، ( ياربّ العدالةّ ! الماء سلسبيل فمن أين يأتي العطش؟) ، ( أي فائدة ترجى من وردة حمراء أمام ورطة الفقد؟!)
فهي لاتتقصد دسّ الحكمة في متن النص، بل هي تأتي كلازمة لابد منها دون أن تشعرك بإقحامها – أستذةً عليك- بغية إدهاشك بسعة معرفتها، فالدنّ ينضح بما فيه، وطريقة إيصالها إليك عبر استفهامات تعجبية ستجبرك على الوقوف عندها والتمّعن في مدلولها لتتوصل إلى ماتريده الكاتبة منها، وهكذا فإن الفكرة تنساح إليك جليلة لأن الكلمات التي ساقتها إليك كانت كذلك، فتأمل معي روعة:
( الوقوع في الحب شغلني إلى درجة أني تعوّدت استيقاف أي شاب لأسأله عن الساعة)..!
فـ " سوزان" تبذل بسخاءٍ مشاعرها، فلاتستحي من أن تُفصح عنها دون أن تسفّ في هذا الإفصاح، ودون أن تتجاوز الخط الأحمر الواهي في نقلها إليك، ديدنها في ذلك صدقها في تعاملها مع هذا اللون الذي اختارته أو اختارها.. هي لاتخدعك أبداً لأنها لاتريد خداع نفسها.
وحتى في سيرتها (ككاتبة  ) والتي أنهت بها مجموعتها القصصية، تتبدى لك شاعريتها، فهي ليست سيرةً عادية كما اعتدنا على قراءتها هكذا- بل هي سيرة كاتبة وضّحت حياتها الأدبية بنص أدبي على شكل سيرة، فبدت لنا كأنها قصةٌ أخرى مضافة إلى مجمل قصصها وبالأسلوب الممتع ذاته الذي اتبعته في كتابة تلك القصص.
(سوزان خواتمي) ببساطة إذن، أديبة صعدت غصناً من أغصان شجر الحكاية وغردت عليه لنستمتع بهذا التغريد ونحن نحتسي فنجان الألق في صباحٍ مليءٍ بالروعة وسبحانية الخالق.



26 فبراير 2017

( وهكذا دواليك ....) الشاعر السوري سلام حلوم


من هنا مرّ الرصاص
من بين ساقين تسرعان إلى مفرق العمر لأطفال كزغب الدرّاق
من حدقات جنود متّسخين بالخوف وبقع البويا المكبوبة على أكياس الرمل 
من لفافة سطح علبة السردين المفتوحة على زنخ نوبات المساء
من بين آخر حرفين من رسالة منقّطة بالنبض على شاشة جوّال أخرس
من بين جنحي فراشة عالقة بأسنان الجعبة
من بقايا عش في أطول شجرات الحديقة
من طحال جورية لم تتوّج موعداً قبل الفحص
من بين خشبات الأبجور المتروك جانباً
من فردة حذاء لم تنقلب على فرار صاحبها الكهل
من حيث تبدأ بالميل غرّة العشب الذي خلّد رائحته في كمشات البابونج
من اليوم الزائد في شباط الكابس على صدرآذار
من شقوق شفتين معضوضتين بالندم
من عروة الثدي في قميص المرضعة
من ثقب الحلق في أذن طفلة جاءت بعد وحم على التفاح
من الثقب الوحيد برئة الناي
من بين إصبعي إشارة النصر
من العين العوراء في نظارة المؤرخ
من بين الورقتين الأوليين في الملزمة الأخيرة لرواية لم تنته لكاتب مغمور
من صمام الأمان بدولاب النجاة لمهاجر في البحر
من مشتل الوردة في ضفيرة البنت الناجحة في امتحان الربيع
من بين ضلعي الورب الخامس للعاشق
من الخريطة المطوية كبوق
ومرّ من تحت إبط الغيم

الخطاب الذكوري في الكتابات النسائية هل لضرورة فنية أم نفسية

 إن إنتقاد الكاتبة المرأة في إبداعها بأنها تجنح نحو ثقافة الرجل وتكرر أنماط تفكيره، يعود إلى طبيعة المجتمعات التي مازالت تحت سيطرة نظرة ذكورية تحدد معايير الوعي، فالرجل العقل في مقابل المرأة العاطفة [كذلك الكثير من المتقابلات الحتمية] والتي تنمو كنماذج نمطية وقائمة منذ الأزل، ويعتبر كسر الأنماط إستثناءا لا قاعدة، لهذا تأتي الكتابة بعمومها بما يتوافق مع السلوك الحياتي، والشخصيات في السرد تحمل عناصر الواقع على فجاجته إذ غالباً ما تدفع الشخصية الناشز الثمن في اضطهاد المجتمع، هذا الخطاب نجده في عموم الأعمال الروائية والقصصية عادة، ومن الظلم تحميله للمرأة الكاتبة وحدها. أما إن تحدثنا عن تبني المرأة في كتاباتها الأعراف والمفاهيم السائدة وابتعادها عموماً عن الصراحة في تبني قيم مخالفة وطرحها والدفاع عنها، فهذا الأمر مشروط بوعيها لوضعها الخاص الإجتماعي والإقتصادي والسياسي والفكري وما تريده بالفعل من الكتابة، هذا الوضع لا يختلف فيه المرأة الكاتبة عن الرجل الكاتب، فالإبداع الذي يشترط مناخاً من الحرية صار يعاني من تحسبات كثيرة، بعد أن طالته المساءلة التي تصل أحياناً إلى القضاء أو إلى التكفير.. لهذا فأنا على وجه الدقة لا أجد تصاعداً يمكن تسميته بظاهرة "المرأة الكاتبة التي تتكلم بلسان الرجل" إلا فيما يأتي ضمن ضرورة وخصوصية النص.. بل على العكس، في مرحلة سابقة، كنت ألاحظ ميلاً قد يصل إلى حد الإفراط في التعبير عن خصوصية الذات الأنثوية وطغيان الصوت النسائي على غيره من أصوات العمل، بحيث يتحول إلى بوح إنفعالي وبالتالي إلى عبء يفقد دلالاته الجمالية والموضوعية.. خاصة حين يتعلق بالإضطهاد والمعاناة الذين يسببهما الرجل، فتدور الكتابة في فلك رد الفعل وتحدي الذكورة.. أما اليوم فبالإمكان وبسهولة رصد أسماء كاتبات انتهجن الجرأة، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى الإباحة سواء كان بهدف الإنتشار واستقطاب اهتمام الإعلام الذي يحتفي بكسر التابوهات بغض النظر عن القيمة الإبداعية، أو بهدف تشكيل قطيعة غير مسبوقة، وتسجيل مواقف حادة في وجه القمع الممارس ضد صوت المرأة.. وأقصد هنا على وجه الخصوص عدد من الروائيات السعوديات.. وفي مجمل الأحوال فإن المنتج الأدبي الحديث صار يرتبط بالذات مما يفسح مجال التعبير برحابة سواء للكاتبة المرأة أو الكاتب الرجل. كما أرى أن النظر إلى القلم النسائي وتوجهاته، وعدم شموليته ضمن رؤية عامة نقدية للمنجز الإبداعي عموماً، هي نظرة يجب تجاوزها إذ أن المرأة لم تعد ضيفاً طارئاً على الأدب، فبحسب ما رصده الناقد نضال الصالح إحصائياً أظهر عقد التسعينات خمسة وأربعين صوتاً نسوياً جديداً في الرواية والقصة في سورية، أي نحو ضعفي ما قدمته تجربة السرد السورية طوال ستة عقود من تاريخها.. في النهاية، أجد أن المرأة الكاتبة استطاعت طرق كل مجالات الإبداع بتميز وثقة وخصوصية مشهودة، ماعدا ما يخص الكتابة الساخرة، فهذا المجال، ربما الوحيد، الذي لم تتحقق فيه المبدعة بصمتها الخاصة.. فلماذا؟


مشاركتي في تحقيق اجرته الصحفية نوّارة الحرش
http://www.alnoor.se/article.asp?id=90864

23 فبراير 2017

صور منسية

الأجواء المكفهرة تناسب مزاجي المتوجس. أكثر من ثلاث ساعات
والسماء تمطر، أتحول إلى طفل انفعالي، أنا كائن الماء، سأﻧﻬي آخر رشفة من
قهوتي، وأغادر..
لعنة الله عليه وعلى مواعيده، يلقي على أسماعنا محاضرات بالأصول
واللياقة، ثم وبكل وقاحة، يتأخر!. أشتمه علانية. ذلك لم يجدِ طبعًا، فها أنا
بانتظاره منذ نصف ساعة، وهذا يكفيني.
أزحت الكرسي إلى الوراء مستديرًا بعض الشيء، هممت بالنهوض، لكن
نظرًة خاطفًة نحوها أعادتني مسترخيًا، تعودت أن أبرر المصادفات، وأن أصدقها..
قبل عشرِ سنوات كان يومًا مبل ً لا آخر يشبه هذا، كنت في طريقي لقطع
علاقتي ببثينة، وقعتُ، انكسرت ساقي، حين أطل وجهها في المشفى من
خلال طاقة زهور تحملها، طلبتُ يدها، وصارت زوجتي..
التفاتتي الآن من النوع نفسه.. لمحتها، كانت توزع نظراﺗﻬا على من
حولها، عيناها تتقنان الابتسام وحدهما دون أن تتدَّخل شفتيها، مشرقة
كشمس ساطعة.
لا أعد نفسي رجلا ملتزمًا بالمعنى الأخلاقي للكلمة؛ فأنا أدخن بشراهة،
أشربُ الكحول مرتين في الأسبوع، ونادرًا ما أضرب زوجتي، أما
المعاكسة.. فلا.
ليس من عاداتي ملاحقة النساء ولا مغازلتهن.. نادرًا ما اكترثت بامرأة،
نوعٌ من (اللامبالاة) لا علاقة له بالتعفف، فالنساء، بي أو من دوني، سحر
القلب والنظر.. حدث ذلك بطريقة حاسمة وغير مخططة.
بعد همود فورة الشباب، ومعها كل توابعها من الحماقات، ما عادت
النساء قضيتي الشاغلة.
بلادٌة.. أو تخمة الشبع.. أو ربما حظ السيدة حرَمِنا!.
مع ذلك، ها أنا أحدق بامرأة ليست ملفتة، لكنها فاتنة على نحو ما،
بملامح تتطابق مع ملامح حواء الأولى، فالشبه واضحٌ، في خيالي على الأقل،
لطف متماثل، الدهشُة والتعلق.
تتحرك تلك السيدة بحيوية واضحة، غير أن شحوبًا لم أخطئه يعتريها،
أظنها مريضة، أنحل مما كانت، وقوية كما المعتاد، تبدو في حوالي الأربعين
من عمرها. لست دقيًقا، ربما أصغر أو أكبر بعشر سنوات. اكتشافُ عمر
المرأة أصعب من حساب نسبة الأرباح في مؤسسة حكومية، فالاحتمالات
تخطئ غالبًا.
موقعها على المائدة يجعلها تُحكم السيطرة على من حولها، تنصتُ للصبي
اليافع الذي يجلس إلى يمينها، تؤثره بالاهتمام أكثرَ مما تفعل مع البنات الثلاث
الأصغر..
توزع طبق السلطة فيما بينهم، تملأ كؤوسهم بالمشروبات، فلا تترك
فرصة لتدخل النادل.
لم تكن تحب خدمة الآخرين لها، حتى حين تمرض ..
ابتسامتها تفيض من زاويتي فمها، تغمرني، تتلفت بحماسة، لا يفوﺗﻬا أن
تناول الخبز للصغيرة بجانبها، تصب الحساء، وتحاول جذب ابنها من ملله
وشروده.
سرت عدوى نشاطها إلي، شعرت بخفة طارئة، ارتياحٍ أزال توجسي
وغضبي من صديقي المتأخر..
ربَّ تأخر نافع!.. فليتأخر حتى يومِ القيامة، وليتركني حيث أنا.
مأخوذ ﺑﻬا حتى أني لم أعبأ بثوب مراهقة انحسر أمام عيني، كاشًفا عن
ساقين أبلجين وبياض شاهق. سيخيب رجاء الصغيرة التي تمتحن غوايتها،
فذهني متورط بكامله في متابع ما يحدث على الطاولة المقابلة، ثم أني على ثقة
بأني لو حملقت بسيقاﻧﻬا لتأففت مدعية أني رجل عديم الذوق، وأن حماقتي لا
تناسبها، النساء غامضات، لا ينطبق عليهن قانون ثابت، هن الشيء ونقيضه
في آن، يقف الربُ نفسه عاجزًا عن فهمهن، أما أنا فقد تبت عن المحاولة و ما
عدت أكترث.
تعودتْ بثينة زوجتي قلة اكتراثي، وعلى هذا رتبت أمورها، استغرق
الأمر منها بعض العناء، بلطف مرة وبالبكاء مرة أخرى. كانت محاولاﺗﻬا
المهادنة تستفزني، أرى فيها مكرًا و مزايدًة على طاقة احتمالي.
أمي بدورها كانت لطيفة، دماثتها لم تشفع لها بما يكفي كي أترك
أشغالي، وأمسك يدها الضعيفة، لا أثناء مرضها ولا يوم ماتت..
ورَّثتْ بناﺗﻬا الثلاث الأصغر مني قطعة أرض تملكها، ومترل العائلة
القديم.. أما أنا، وحيدها الحبيب، فقد خصتني بخاتم جدﺗﻬا العتيق، إضافة إلى
رسالة مكتوبة توصيني خيرًا بأخواتي.
آلمتني خديعتها، لطالما ظننتُ أني طفلها المدلل، فرغم ظروفنا المادية
العادية، أرسلتني لأكمل تعليمي في فرنسا.
فاجأتني الوصية، لكني احتفظت برأيي لنفسي، مبديًا، ظاهرًا فقط، أن
الأمر سيان بالنسبة لي، مادامت أموري المادية معقولة، أما ضمنيًا فلم أغفر
لها استثنائي من أملاكها، متفضلة عليّ بحجر ملون.!
ربما كان تصرفها طبيعيًا، أو أني لا أفهم النساء!. في الحالين، لقد خدعتني.
الصبي كسر كأس الماء بحركة طائشة، وقبل أن يبكي بدأت تراضيه..
وشاحها القديم يغطي شعرها، ويلتف حول عنقها، ليس حجابًا بل احتشامًا
يمنحها الهيبة. لم تكن تأبه للخصلات التي تترلق، كل ما كانت تفعله أﻧﻬا
تلملمه بحركة خاطفة من أصابعها الطويلة..
يبرق في وجهي عقيق خاتمها يزين بنصرها النحيل، يجفلني صوت النادل:
- هل تطلب شيًئا آخر يا أستاذ؟
شعرتُ بالحرج، فقد التقطني بالجرم المشهود. طلبت المزيد من القهوة،
وأشحت بوجهي نحو النافذة، التصقت ﺑﻬا، حتى ارتطم أنفي بالزجاج،
أنفاسي الساخنة حجبت المشهد الخارجي، البرد في الخارج شديد، والمطر
طوفان نوح، وصديقي لم يصل بعد.
إﻧﻬا الأيام الأخيرة من العام.. تعاقبت السنون، ويمضي العمر فوق زلاجة
بعجلات.
الإفلات من مغناطيس تلك المرأة صار مستحي ً لا، كهاجس مّلح عدت
أراقبها.
لعلها انتبهت!.
التقت نظراتنا.. لمحت دهشتها.. ذهو ٌ ل ألجمها..انطفأت
ابتسامتها..عبست.. هاجمتني خيالاتٌ متداخلة لامرأة بعيدة الملامح، يرقد
عالمي بين كفيها.
كانت لها رائحة أمي حين كانت تلمني في حضنها أيام البرد، فأدس أنفي
بين ﻧﻬديها حتى تكف أسناني عن الاصطكاك..
وكانت لعمتي التي تتمادى في دلالي، فأشتط، وأتشيطن؛ أنط فوق
وسائدها البيضاء وشراشفها النظيفة.. فلا تعنفني، بل تتخم معدتي بحلويات
تفوح منها رائحة " الفانيلا"..
كانت لصبية الفاتنة التي قرصت قلبي، وعدتني بأﻧﻬا لن تكون إلا لي. حين
رأيتها بعد ذلك بكثير كانت تجر خلفها قطيعًا من الصغار.
كانت لأختي الكبرى التي لم أزرها منذ شهرين، ومازالت تتصل بإلحاح
لتسأل عني، وتستحث همتي:
"بعرف أنك مشغول بس تقبرني طلْ"...
كانت لتلك السيدة التي جرتني إلى فراشها مباشرة، أتذكر تفاصيل
جسدها اللدن وشهقاﺗﻬا، أما اسمها فقد بلعه النسيان...
كانت.. كانت الحبيبة الساحرة التي تخيلتها، ولم أعثر عليها سوى في
فيلم سينمائي حضرته سبع مرات، لم تكن بطلة الفيلم بل مجرد ممثلة ثانوية
تظهر في مشهد خاطف يستغرق عشر دقائق ثم تغيب بعدها..
وكانت لبثينة.. زوجتي تلك التي أتجاهل مكالمتها، وكلما اتصلت سجل
هاتفي النقال رقمها على أﻧﻬا اتصال وارد لم يُرد عليه.
داهمتني وجوههن المنسية خارج القلب بسرعة خاطفة.
حين نظرت إليها ثانية، وجدﺗﻬا تحدق بي، كأﻧﻬا تعرفني.
أطرقت خجلاً متظاهرًا باحتساء قهوتي الباردة..
عقيق خاتمها ميراثي الذي أضعته.
قررت أن أسألها عن خاتمها.. لكني ترددت.. بل خفت.. أين اختفى
الشاب الجريء الذي كنته؟.
لم تكن الفكرة تكمل دورﺗﻬا عبر الحواس حتى تصبح قابلة للتنفيذ..
يقيدني اليوم ألف حساب وحساب..
من يعرف، ربما اﺗﻬمتني بالتحرش قبل أن تسمع سؤالي.
***
من الخلف جاءني صوته يقول إن عطلاً طارًئا في سيارته الجديدة أخره،
إن انتظاري لساعة كاملة يدهشه.
لم أشتمه.. أشرت له أن يجلس،كانت ما تزال تتطلع إليّ، وقد تباطأت
سرعة حركتها..
يبدو أﻧﻬا عرفتني: حوائي الأولى.
تطلع مستغربًا:
- إلام تبحلق؟.
- إليها..
- من؟.
- تلك السيدة التي هناك.
- أين؟.
أومأت برأسي:
- هناااااااك.
- أعوذ بالله منك ومن ﺗﻬيؤاتك .. ما في حدا!.
قصة منشورة في مجموعة (قبلة خرساء