14 مارس 2017

الفنادق بيوت العابرين

ثمة تأكيد يعرفه أشاوس المسافرين والرحالة، بأن اختيار فندق تقيم به أمر لا يقل أهمية عن اختيار المكان الذي تتجه إليه. 
الاقامة في غرفة لا تعرفك ولا تعرفها تكسر الروتين، وتربك الملل. 
أغلق باب الغرفة وتأمل الجدران الباردة، الأثاث الذي لم تختره، والنوافذ التي تجهل على أي مشهد تطل. ستفتقد إلفة غرفتك، ولكن أليس هذا بالضبط هو المطلوب؟
إنها مغامرة مدفوعة الثمن. اختيارك المؤقت بديلاً عن المؤبد. لن يعجب كلامي مدمنو البيوت والمصابون بفوبيا السفر.  أما إن كنت مثلي تحلم بمكان يطل على محيط ما لم تزره بعد، تحط  فيه النوارس قرب شرفتك وتتبادل معك ذاكرة مؤقتة، إذن تابع القراءة.

أين غرفتي؟

من أجل قيامك برحلة سياحية عليك متابعة الفيزا والتدقيق على مواعيد الحجوزات.  تحتمل ضجيج المطارات، وساعات الانتظار، والتأخير، والمقاعد غير المريحة، والنداءات الأخيرة، وجرجرة حقائب لا غنى عنها، وتناول فناجين قهوة لها مذاق واحد، وهدف واحد؛ هو البقاء متيقظاً بعينين مفتوحتين، فثمة مناطق عديدة على هذه الأرض تناديك. بلاد مجدولة بالشمس، وأخرى تلتف بالضباب، وتلك التي تبقى على مدى 24 ساعة متأهبة لاستقبالك، وبقعة تشك فيما إذا كانت بخضرتها ومائها وهوائها هي النسخة الأرضية من الجنة الموعودة. تحط في بلاد جديدة تشم الهواء من حولك، وأول ما تفعله التوجه إلى فندقك.
 الفنادق الكبيرة تدللك، تحمل عنك عناء ترتيب سريرك، وتوقظك في الوقت الذي تحدده.  تقدم لك وجباتها على مدار الساعة. علق على الباب "ممنوع الازعاج" ولن يجرؤ أحد على فعل العكس.
إدارة الفنادق فنٌ بحد ذاته، تتكفل بمهمة الترحاب الأولى، فهناك من يتلهف لحمل حقائبك، فيما تتفرغ أنت لإلقاء نظرة فاحصة على ما حولك. الانطباع الأهم يبدأ من البهو. سيطمئن قلبك حين يكون مفعماً وطافحاً بالابتسامات الودودة، والوجوه البشوشة الوسيمة وإلى أن يحين موعد استلام الغرفة تجلس. تتلفت، فهناك فوق المقاعد المجاورة آخرون ينتظرون مثلك تلتقيهم بحكم الصدفة؛ غريباً لغريب .
اترك لأنفك مهمة تحديد مستوى نظافة الفندق. دعه يلتقط الرائحة.  الق نظرة سريعة على الحمام. إياك الاطمئنان لرائحة الديتول حين تكون طاغية. أهم ما تفتخر به الفنادق تصاميم حماماتها، التي تتماشى ببذخ مع المناشف البيضاء المعطرة بأريج الربيع، وكل ما يتبع ذلك من ملحقات وإكسسوارات. على سبيل المثال يمكن تجهيز حمام فندق  "بارك حياة" دبي لتستعمله سريراً، فالحوض يشبه المقلاة الطافية في وسط الحمام، تحيطه المرايا الصقيلة، عدا عن مزايا الجاكوزي والبخار وكل أسباب الاسترخاء. كما أن التصميم الذكي للغرفة سيتيح لك من مكانك في حوض الاستحمام أو من سريرك أن تطل بكلك على الخور.
على عكسه تماماً أذكر فندق " كوزموبوليتان" القاهري، ويبدو أن ميزته الوحيدة عدا ايقاع حروف اسمه المهيب، أنه يقع في منطقة وسط البلد، قريباً جداً من ساحة طلعت حرب. أتذكر أني اضطررت وقتها للاستحمام تيمماً، هكذا استفدت من الغبار، وتجنبت مصيبة الحمام !
نعم إن الاقامة في فندق مغامرة تخل بروتين الحياة ومللها، وهذا ما يجعلها باهظة التكلفة.. أحياناً.

النصيحة بجمل
لأني ابنة حلب المدينة العريقة سابقاً والمنكوبة حالياً، فأنا لا أقيم في فنادقها.  
العديد من بيوتها الأثرية تم تحويلها إلى أوتيلات تسحر اللب، وتوقظ الحواس " فندق زمريا "، و" بيت صلاحية "، و" بيت الوكيل "، و" قصر المنصورية " هذا الأخير ليس قصراً، لكنه بيت عتيق استرد مجده. بني  أواخر القرن السادس عشر، على بعد خطوات من قلعة حلب.  
الفندق صغير وودود، تنبعث منه رائحة الماضي، وتنعكس فوق بلاط مدخله آثار من مروا. يحتوي على تسعة أجنحة فقط زينت بطريقة هي خليط ما بين الفخامة والعراقة. حمامات  " المنصورية" برخامها الأصفر المصقول مزودة بكل ضرورات الاستحمام القديمة من صابون الغار و البيلون و الدريرة وكيس تفريك و الطاسة المفضضة. 
أما المطعم فيقع بكراسيه المطعمة بالصدف تحت سقف مقبب، كان قبواً فيما مضى، يُقدم أطباقاً تقليدية التي تعتبر مزيجاً من المطابخ التركية والعربية والأرمينية واليهودية بالإضافة إلى التأثيرات اليونانية .
أياً تكن فخامة فندق "المنصورية" الذي أجهل مصيره اليوم، فلن يقارب شهرة "فندق بارون" المؤلف من طابقين بني بين عامي 1906-1911وفيما بعد ألحق به طابق ثالث. يحافظ فندق بارون بين جدرانه على تفاصيله لحظة افتتح. بدءاً من البلاط و اللوحات،  وكل قطعة أثاث، ومجموعة الاكسسوارات، وفناجين القهوة ، والشمعدانات، والإضاءات الجانبية.  وإن كان ثمة تعديلات فهي لا تلحظ بالعين المجردة. ولشهرته أطلق على الشارع حيث يقع التسمية نفسها  " شارع بارون " الذي كان في خمسينات القرن الماضي أحد المناطق السكنية الحديثة ، قبل أن يتحول إلى شارع مكتظ بالمحلات ودور السينما.
استضاف فندق بارون أسر العائلات الحاكمة في أوروبا، إضافة إلى الباشاوات، وتجار الحرير والأثرياء والمشاهير. وكان مقراً لقادة جيوش الألمان والأتراك في الحرب العالمية الأولى، كما كان سكناً لجنرالات الحلفاء البريطانيين والفرنسيين في الحرب العالمية الثانية. من أشهر نزلائه الرئيس جمال عبد الناصر، ولورانس العرب، وأغاثا كريستي، ورائدا الفضاء يوري غاغارين، وفالنتينا تيلشكوفا.

مع إن.. إلا أن
رغم كل السحر الذي يرافق الإقامة في الفنادق، إلا أن أحداً منها لم يغرني بالعودة إليه، أغادرها ولا أرجع إليها، فإن صدف وزرت المدينة نفسها فإني أفضل البحث عن مكان جديد أقطف بهجته الأولى. ربما لأن الحنين يخص البيوت وأهلها فحسب، أما علاقة الفنادق بالمسافرين فهي علاقة منسي بمنسيين .

الفنادق كوجوه الغرباء، تحتفظ بفتنتها طالما بقيت بعيدة.

سوزان خواتمي 
نشرت في مجلة الفنون الكويتية

12 مارس 2017

homefront فيلم لا أنصح بمشاهدته



دون أي شعور بالذنب بإمكانك أن تقول عن الفيلم بأنه (مريع)، وبقليل من الذنب ستشعر أنك قضيت نحو ساعتين تقريباً تتابع صراعاً خلاقاً على طريقة هوليوود، لا يموت فيه البطل على الإطلاق، ويتساقط أمامه جميع الأشرار في المواجهات المتتابعة سواء كان يتوقعها فيتصدى لها أو تباغته فيتصدى لها أيضاً.. وهنا أيضاً لا يهم عددهم ، فالضربات العنيفة للبطل الخارق تهزمهم دائماً.
ساعد على كل ما تقدم ذكره، القوام الذي يتمتع به البطل "جيسون ستاتهام" وهو ممثل إنجليزي وغطاس سابق، استغلت الكاميرا وسامته وكماله الجسماني على أكمل وجه، وأعانته الخدع السينمائية التي لا مجال الا الاعتراف بإبهارها . فالحركة على صعوبة تصديقها مرسومة بالمليمتر .
قصة الفيلم
تدور أحداث الفيلم وهو من انتاج عام 2013 ومن اخراج غاري فليدرحول شرطي في إدارة المخدرات يستقيل من عمله بعد وفاة زوجته التي لا نعلم كيف ماتت، وكي لا نتهم الحبكة فقد يكون قطع الرقابة لمشاهد من الفيلم هو الذي أحدث هذه الفجوة .!
الشرطي المتقاعد يستقر في بلدة صغيرة نائية مع طفلته التي تبلغ العاشرة من عمرها، وكان قد دربها كي تدافع عن نفسها.  وقد اختار "جيسون ستاتهام" العزلة كي يعيش بهدوء وسلام بعيداً عن العنف، ولكن الحظ خانه، ففي البلدة الصغيرة هناك أشرار أيضاً، أحدهم يعمل في تصنيع المخدرات .
وتتجه التقاطعات والصدف التي بدأت بشجار بين ابنته وطفل آخر في مدرستها، إلى تصعيد خلاف حاول ستاتهام تهدئته بحلم وصبر مطلقين، لكنه يضطر أخيراً إلى الدفاع عن نفسه وعن ابنته، فيصفي كل أفراد العصابة دون الحاجة لمساندة أحد، حتى الشرطة ورئيسها الذين يتم توظيفهم كخلفية ناجحة لمشاهد مثيرة، ولحسن حظه وحظنا كمشاهدين مع نهاية الفيلم يظل  "جيسون ستاتهام" هو الناجي والمنتصر الوحيد.
يتجه الحوار في الفيلم إلى طرح موضوع تجنب العنف، والاتجاه نحو المسالمة، ورفض مبدأ الاقتصاص، وتقديم الاعتذار بسهولة لتجنب المشاكل، لكن على النقيض من ذلك تذهب المشاهد والأحداث التي تسوق البطل وتستخدم كل أنواع الترويع بدءاً من التضارب بالأيدي إلى اشهار السكاكين والمسدسات والإنفجارات والملاحقة وتصادم السيارات، ولم تنفع مشاهد الغابة وهدوئها، ولحظات ركوب الحصان، وضم الابنة إلى صدر أبيها على تخفيف المغالاة في العنف الذي يتصاعد ولا يكف.

إنها التوابل التي لا تستغني عنها السينما الأميركية وأفلام الأكشن والحركة التي تستقطب المشاهدين الذين يميلون إلى مشاهدة البطولات الخارقة ومشاهد التدمير فيما هم يتلذذون بالبوشار.! بالنسبة لي أفضل سينما أكثر احترافية وأقل مباشرة، الأفلام التي تطرح الأسئلة . وما زلت أذكر فيلماً لا يذهب من بالي هو (Life of Pi) الذي وصلت إيراداته لأكثر من 600 مليون دولار، وفاز بأربعة جوائز أوسكار، أنصح بمشاهدته أو إعادة مشاهدته ، ففيه كل خدع الاثارة والمغامرة والتشويق والخيال إضافة إلى حوار مخادع يسيطر على ذهنك ليملأه بالتساؤلات .
سوزان خواتمي
موقع آراء الالكتروني 

07 مارس 2017

عن يوم المرأة والحب وما الى ذلك ....

 
ظننت إثماً، أن اهتمام المرأة المفرط بشكلها، وتحسين خلقتها (بالكسر) قبل خُلقها (بالضم )
هي طريقة للظهور أو للرضوخ لما هو مطلوب منها في مجتمع " كوني جميلة واصمتي"
 فالمرأة الجميلة تستجلب حظها بشرطة عينيها، فتحصل على مكان مريح في سيرفيس محشو بالركاب ، و تتجاوز طوابير الواقفين في أي مصلحة حكومية ، بل وتحصل على وظيفة في زمن البطالة بفارق درجتين نط لفوق .. كما أنها (أي الجميلة) هي الأروج في سوق الزواج تتباهى بأعداد المعجبين والمتقدمين والمنتظرين . ويعزز من ذلك كل ما تسمعه من غزل ومديح وثناء لذلك فتتابع المرأة بضراوة طرق الثبات على الحال ، فيما لو كان حسنها "ربانياً"، والتحسين والتزويق فيما لو كانت "نص نص" ، والتدليس وعمليات التجميل والشد والشفط والنفخ فيما لو كانت "قبيحة" . ولذلك يبدو اهتمام السوق العالمي بمنتجات المرأة مريعاً، بدءاً من صيحات الموضة والأزياء المتغيرة، إلى الكريمات والمطريات والملونات من ادوات التجميل، وحتى وصفات حلقات الكيوي على الوجه والخيار فوق العينين . 
 ولكن يبدو أن كل ما سبق ليس سوى نظرة تسطيحية، ففي بحث عن الحب، يؤكد بأن مراحل الوقوع فيه تختلف بين الجنسين، فالحوافز البصرية أسهل عند الرجال منها لدى النساء أي أن الرجل يعشق بعينيه والمرأة بأذنيها . لهذا فكل التلوين والتزويق هي عوامل لصنع الحب وانتاجه، ولتعمر المعمورة المشرفة على الهلاك، خاصة وأن الحب هو المنتج الأهم للحياة .
حيث يغطس الرجل في مغطس الحب متبعاً خطة " نظرة فابتسامة فكلام "
فإذا بوجه الحياة الكحلي يصبح وردياً. 
 أي أن حواء حين تتجمل تسهم بتجميل الكرة الأرضية، حيث تقوم بتوصيل دارات تولد الطاقة في عمنا آدم ، فينسى السياسة والحرب والثورات والزحام والغلاء والرشوة والقناصين وتصريحات ترامب. ويدق في صدره طبلٌ بلدي مؤكداً أن "الحياة خلقت لتعاش" 
إذن .. لا بأس يا امرأة في عيدك الذي لم تحصلي فيه على حقوقك القانونية : 
 تزيني و اطرقي الأرض بكعبك العالي لينبت العشب ويدور العالم في مدارات الهناء .!

04 مارس 2017

صفعة (قصة قصيرة)


عندما سمعت طرقاً على باب شقتي المؤقتة، هرعت متأملاً جاراً أو صديقاً. إلا أني فوجئت بالزي الكحلي، القبعة الصغيرة جانب الرأس، والشارة  الصفراء على الساعد، ورجل الشرطة ذو الشعر الأحمر يبتسم. ما زال هذا الزي حتى إن لم يكن كاكياً يفزعني.
حاولتُ أن أتماسك، وادعيت الهدوء، وكل عضلة في جسدي تنتفض. رددت التحية .
أردت سؤاله عما يريد، لكني تلعثمت، لم تسعفني اللغة. التصقت العبارات القليلة التي تعلمتها بسقف حلقي.. تأتأت.
في قسم الشرطة ساعدنا المترجم ، قال منهياً كلامه: يتهمونك بأنك أبٌ غير صالح .
-ألأني  صفعت ابني؟.
-ألم تصفعه.؟
-يا أخي، صفعته. الولد مراهق وقلل أدبه. ردّ علي بقلة احترام.
- إنه القانون هنا وعليك أن تحترمه.
بعد يومين قضيتهما في مخفر يشبه إلى حد كبير إحدى فيلاّت الأثرياء في بلادي، هادئ ونظيف وحوله حديقة مليئة بالورود. زارني المحقق برفقة المترجم، كانا يتبادلان ابتسامات لا تعجبني، ترتجف  شفتي السفلية كلما حاولت أن أكرر شرح الحادثة كما حدثت.
كان أبي، رحمه الله، حين يثور، يطحن جسد أمي، ركلها مرتين أمامي. لم تشكِه أمي إلا لله. لم تأت الشرطة يوماً تدق بابه.  وكان يترك علامات زرقاء على كتفي وظهري، يسحب من علاقات بنطاله حزامه، يسوّطه في الهواء، محدثاً ذاك الصفير، كان الصوت يؤلمني أكثر مما تفعل اللسعة نفسها. مع ذلك حين توفي قبَّلت قدميه. وبعد كل صلاة أرفع يديّ أدعو له بالرحمة كما رباني صغيراً.
في اليوم الثالث، حضرت زوجتي التي لم أعرف غيرها امرأة. سألوها، فقالت:
-نعم .. ضربه بشدة تورّم خده، وحين حاولتُ الدفاع عنه دفعني، كتفي ما زال يؤلمني.
تحسستهُ ولمعَ الدمع في عينيها.
ابنة الـ.... لم تدافع عني، ولم تخبرهم أني أبٌ صالحٌ.
قبل ثلاث سنوات وعشرة أشهر كان عبد الرحمن ما زال في التاسعة من عمره وحنان أخته أصغر منه بعامين. عبرنا البحر، وبفضل الصحو والحظ ودعاء أمي التي مازالت تبكي أكثر مما تحكي، لم نغرق.
تركنا خلفنا بيتاً قُصف، كل ما بقيَّ من العمارة بطوابقها الستة؛ شرفتنا معلقة في الهواء، وكرسيٌ وثوبٌ منشورٌ على حبل الغسيل. تلك الصورة تناقلتها وكالات الأنباء، ومواقع التواصل الاجتماعي. اعتبرها الفنانون لوحة سيريالية. وعلَّق الملتحون: المؤمن مُبتلى.  وقال آخرون: إنها دليل الأمل واستمرار الحياة. وتجرأ البعض وقالوا: خرجهم الله لا يقيمهم.
تحولت الحارة إلى أنقاض وخرائب، ومات الكثير من الجيران، دفنوا تحت الحجارة والأسمنت. كنا محظوظين، لكننا دون مأوى. أقمنا لفترة عند أمي العجوز في القرية حيث تعيش مع أختي وأولادها بعد أن قُتل زوجها، كان من المستحيل أن يتسع البيت لنا جميعاً. اتخذتُ قراري، فلم يعد عندي ما أخسره؛ إن مِتنا في الطريق فنحن موتى هنا، وإن نجونا ووصلنا، فهذا يعني فرصة جديدة.
حملنا حقيبتيّ ظهر. ودفعت نقوداً كثيرة للمهرب. ركبنا البحر بقارب مطاطي، ثم قطعنا الحدود البرية والأسلاك، واجتزنا الغابات، ومشينا آلاف الكيلومترات حتى وصلنا السويد.
لم أستطع إقناع أحد من هذه البلاد، أن مجرد صفعة، لا تجعلني أباً غير صالح، ولا تنسف التعب والمصاعب التي احتملتها حتى نجونا.  هذه الجنة لا تعرف أن العقاب والثواب أنصاف أقواس بها تكتمل دائرة المحبة.
قال لي المحامي وهو يبتسم:
Sir- ابنك عبد الرحمن رفض عرضاً جيداً لتتبناه أسرة أخرى.
-  كتر خيره. أجبت.
صديق شهم أرسل لي قيمة الكفالة، ووقعت على إقرارٍ بأني لن أصفع أو أشتم، أو أدفع زوجتي أو ألمسها.
خرجت من السجن، عدتُ إلى البيت. المفتاح في جيبي، ولكني فضلت أن أدق الباب، بصمت الغرباء اتجهت إلى غرفة النوم. فتحت الخزانة، وفي حقيبة ظهرٍ صغيرة وضعت لوازمي القليلة.
لابد أن أمي بانتظاري.


موقع الكتابة




03 مارس 2017

عصير الكتب : سوزان خواتمي


أثبتُ على مرور الأيام إخلاصاً فريداً للكتب، وإن اختلفت تبعاً لمراحل العمر نوعية ما أقرأ وما أقتني.  وهو أمرٌ جيد، فلولا حرية الاختيار ومن ثم التدرج والتنوع في القراءة، لكنت ربما خريجة علوم طبيعية أقشر الضفادع وأشرح الصراصير!

بحسب خبرتي كقارئة، لا تختلف ظروف الوقوع في غرام كتاب عن مثيلاتها مما يحدث في وقعات الحب الأخرى. كل شيء يبدأ بنظرة، فنوعية الورق وحجم الخط وجودة الطباعة ومن ثم أناقة الغلاف، وأهمية اسم الكاتب وعنوان الكتاب الجاذب. وكثيراً ما ضبطت نفسي كما العشاق أمرر أصابعي على الكتب  في لحظة افتتان.
لا أذكر يوماً لم أكن فيه شغوفة بالقراءة، ومازالت رفوف المكتبات، وغبارها- الذي أظن أن أصحابها يتركونه عمداً - تشكل بالنسبة لي نقطة ضعف خاصة،  ولعل حب الكتب هو الحب الوحيد  الذي لم يوجعني، ولم أحاسب عليه، ولم تثر طبيعة علاقتي الوطيدة بها غيرة أو ضغينة أو اعتراضاً من أحد. على العكس كان استلقائي – يوم كنت طفلة - لساعات طويلة، مشغولة بتقليب صفحات مجلة أو كتاب مصور، يثير مشاعر الحبور عند أمي ويريح بالها. ويمنح أبي بعض الزهو، فيقول: (طالعة إلي). فللقراءة حتى وهي في طريقها الى الانقراض، سمعتها الطيبة، على الأقل تشغل الصغار عن الشيطنة. وقتها استطاع ( تان تان ) بخصلة شعره المزروعة أول جبهته والتي استُلهمت منها تسريحة ( البانكي ) أن يفتنني كفتى جسور دمه خفيف (هل توهمت ذلك!) يركب الأخطار ويحل الألغاز. فيما كانت مغامرات " ميكي وعمه الجشع ذهب" العجيبة سبباً في سيل من مباهج تثير ضحكي. كما نال المغامرون الخمسة إعجابي كاملاً، هل يمكن تخيل قدرتهم الخارقة للإيقاع باللصوص وكشفهم قبل المباحث والشرطة وعناصر الأمن.!  صحيح أن تلك المغامرات لم تنم لدي دقة الملاحظة، إذ ما زلت أعاني من انخفاض مستوى الفضول، وضعف لا علاج له في تتبع أي أثر، حتى إن كان واضحاً وضوح الشمس. لكن من جهة أخرى استطاع خيالي من أن ينصبني زعيمة لمجموعة من الأصدقاء الأذكياء نشرب العصير البارد في المعادي، ونعصر أذهاننا لنتوصل إلى حلول مقنعة لألغاز صعبة..! تلصصي على حكايات تلك الشخصيات (لوزة نوسة ومحب وعاطف وتختخ والعسكري فرقع) علمني أسماء أحياء مصرية، وكوّن بذرة خيالي الأولى.

الكتابة لحظة انتباه، يقابلها، بكيفية أقل انضباطاً، قارئ يستثمر تجارب الآخرين لتتوالد دون توقف، علاقات تبادلية بين الكتاب وقارئه.
وما من سبب واحد ومحدد للولع بالقراءة، بل هي أسباب كثيرة، منها تجاوز حدود الواقع نحو فضاء الخيال، تفكيك المجازات، واستشراف المستقبل، والترويح عن النفس أمام أطنان من ملل لا يحتمل، والرغبة في معرفة العالم، والاستفادة من الخبرات، وفضول المعرفة، ومتعة اكتشاف الحياة ومقالبها فيما أنت ممدد في سريرك... هل من أسباب أخرى!  

وبالمقابل لا تملك كل الكتب حتى أكثرها فائدة، قوة جذبك من السطر الأول وحتى الكلمة الأخيرة، إذ يتحكم في هذا درجتا الاقناع والابداع عند المؤلف
بوسع القراءة أن تصيب مدمني الكتب بحالات تماه حادة، ما يجعل بعض الشخصيات والمقولات وأبيات الشعر حاضرة في الذهن مهما مرت السنين. ابنتي على سبيل المثال لا تستطيع كبح فضولها، فلا تهنأ إلا إذا ذهبت الى آخر صفحة من الرواية لتعرف الخاتمة، ثم تعود باطمئنان لمتابعة الحبكة وقراءة السطور..!
مثل هذه التأثيرات تستطيع تغيير أفكارنا، وعصارة أذهاننا، ومواقفنا التي كنا نظنها ثابتة إلى الأبد..

و تبعاً للذائقة أو للمزاج أو للحاجة تختلف عناوين الكتب التي ترافق رحلاتنا، و تنام تحت وسائدنا، و تستقر هانئة فوق رفوف مكتباتنا، لذلك أستطيع معرفة الشخص إلى حد ما حين ألقي نظرة على ما يقتنيه من كتب.
إن مجموع ما قرأه كل منا يشكل تاريخ القراءة الخاص به، وإن كان أحدكم يملك الوقت لمعاودة قراءة كتاب فبالتأكيد سيصل إلى فهم جديد، لم يدركه من قبل. 

ذكرت فضل مغامرات تان تان ومجلة ميكي وأسامة، وأعترف أيضاً بمجلات المراهقة المصورة ريما وفوتوريما ودليلة، التي كانت تصلنا من لبنان. والقصة الشهرية في أعداد مجلة العربي. يبقى هناك كم هائل من الكتب يرسخ في القلب و الذاكرة لسبب أو بدونه يجعلني أواظب على تقليب صفحات ديوان " سرير الغريبة" لمحمود درويش عمراً آخر فوق عمري. وبإمكاني رغم داء النسيان  أن أتذكر دون كيشوت الأخرق مندفعاً فوق حصانه البائس يحارب الطواحين.. أما الرواية التي قضت على ساعات نومي ليلتين كاملتين فكانت ( رد قلبي) ليوسف السباعي. رواية الأقدار الحزينة تلك نهنهت قلبي، لكن أبي قال لي : ماهكذا تقرأ الكتب!..

ولا تخلو ذاكرتي من حارات نجيب محفوظ، وعجينته الخاصة من طحين الشخصيات المرسومة بدقة بدءاً بشكل الحاجب ولون الجلد ونبرة الصوت ووقع الخطوات، لكن لأن أغلب روايات محفوظ تحولت إلى أفلام سينمائية، فقد اختلط علي الأمر، بين ما شاهدته على الشاشة وما قرأته في كتب، وأكاد لا أفرق بين الاثنين..!
ومثلما استهوتني في فترة معينة من مراهقتي كتابات الروائي المصري إحسان عبد القدوس فجعلتني لا أنسى مشهد البطلة تتكئ بكوعيها على حافة الشرفة وتطلق صرختها: أنا حرة، غير آبهة بعيون الشبان التي تأكلها، ولا للتقاليد التي تجعل من خروجها السافر خرقاً صريحاً للأخلاق، فتقرعها أمها على ما أظن قائلة: (حر لما يلهفك قليلة الأدب)، فإن الروايات التي تروي الظلم تترك أثرها، فرواية (السجينة) لمليكة أوفقير التي أحدثت وقت صدورها ضجة واسعة، الكاتبة هربت وتحدثت عن عشرين عاماً من السجن الانفرادي قضتها ثلاث نساء وأربعة أطفال كعقوبة جماعية على جريمة لا علاقة مباشرة لهم بها، إثر محاولة انقلاب فاشل قادها الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية والدفاع " والد الكاتبة"  وأعدم بعدها.

أيضا رواية ( مديح الكراهية) لخالد خليفة ، والتي تحكي عن حقبة من تاريخ سوريا أيام الاخوان المسلمين في ثمانينات القرن الماضي، والصراع بين الاصولية والسلطة وثقافية الكراهية ورفض الآخر والاستبداد والتسلط الديني.
لا يمكن لقارئ أن ينجو من الواقعية السحرية التي تلازم أسلوب الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز، فتنتني رواية ( الحب في زمن الكوليرا) فقد استطاع وبخدعة راو متمكن إقناعي بحب أبدي استطاع الصمود 51 عاماً وتسعة اشهر وأربع أيام،  ما أن سمع اجراس الكنيسة حتى اشتعل أمله بحبيبته، ليقضي معها ما بقي لهما من أيام الحب كأن صدءاً لم يمسه ويقربه. 

وبقدر ما تستهويني الروايات العاطفية المسلحة بأكاذيبها، لم أنه كتاباً فلسفياً واحداً، عدا تلك التي فرضتها المناهج المدرسية، لكن رواية (زوربا ) لكزانتزاكس علمتني فلسفة الحياة، من خلال شخصية بحار بوهيمي، له عينان " ترى الأشياء من حولهما وكأنه يراها لأول مرة"، مفعم بالحيوية ، يملك فطرة أن يعيش، فلا يسمح للحظة أن تمر دون أن يكون لها ايقاعاً راقصاً.

ولا أستطيع حين أفكر بكتب قرأتها وأحببتها دون أن أتذكر( إله الأشياء الصغيرة) للروائية الهندية اروند هاتي  روي التي كتبت بحساسية بصرية شديدة، فنقلت مأساة أسرة غريبة وأسرارها وتعرضت لأوضاع النساء ولنظام الطبقات ولسطوة الأعراف، ضمن مجتمع خاص، مجتمع المسيحيين السوريين الذين استوطنوا الهند. أما قصة تشيخوف القصيرة ( النكتة الصغيرة) فتنقل لنا عبر صفحتين فقط ما تفعله التباسات الوهم، والرغبة بالحب، فالشابة نادينكا تتخطى خوفها وارتعاش أطرافها، من أجل أن تسمع عبارة  "أحبك يانادينكا" مرة بعد مرة مختلطة بصفير الريح وعدم اليقين.
قد أجد وقتاً آخر للحديث عن الكتب التي أهديت إلي من أصحابها وتموضعت في رفوق خاصة لمقامها الرفيع عندي. 

ويبدو لي أني لو واصلت ذكر الكتب التي أثرت بي، فلن أنتهي. لكن أرجوكم لا تنسوا: الخلود/ يوميات القراءة/ لقيطة اسطنبول/ شيطانات الطفلة الخبيثة/ الهويات القاتلة/ الطربوش/سلطانات منسيات/العطر/ البطء/حين تركنا الجسر/صنعة الشعر/الطاعون/عراقي في باريس/المبسترون/ رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان/مغامرات في بلاد العرب/عشت لأروي و.. و.. و.. الخ..


ذاكرة غابرييل غارثيا ماركيز ليست حزينة أبداً.. قراءة في رواية (بيت الجميلات النائمات لـ ياسوناري كاواباتا


" بيت الجميلات النائمات" رواية الياباني ياسوناري كاواباتا، هو الكتاب الوحيد الذي ود الكاتب الكولمبي غابرييل غارثيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل لعام 82  لو يكون كاتبه.
هذا الاعتراف جاء في مقدمة قصة قصيرة له عنوانها  – الجميلة النائمة -
لكن يبدو أنها فكرة ( زنانة ) بقيت تلح إلى أن كتبها في رواية تحمل عنوان – ذاكرة غانياتي الحزينات- صادرة عن دار المدى وترجمة صالح علماني.
يتشابه فضاء الروايتان، في بيت دعارة يقدم خدماته على شكل علاقات جنسية مع فتيات صغيرات نائمات تحت تأثير المخدر.. لكن ما الذي يمكن حدوثه بين صحفي في التسعين من عمره وبين صغيرة نائمة طوال ما استغرقه زمن الرواية؟ .
لا يمكن القلق على روائي معتق مثل غابرييل فقد اعتمد على غرائبية هذه العلاقة وتحولها العاصف من رغبة مجون عابر إلى شعور راسخ بالحب.
إنها حكاية صحفي عجوز يريد أن يحتفي بعيد ميلاده فيتصل ب روسا كاباركاس صاحبة ماخور
ليقضي ليلته تلك مع عذراء صغيرة، 
هكذا يلتقي متأخراً بمعجزة الحب الأول وهو في عقده التاسع ليعيش بين لذة وهم يصنعه عن فتاة ينام إلى جوارها دون أن يعرف اسمها وبين واقع حياته التي مرت دون أن يعرف الحب إلا في علاقات جسدية عابرة.. فيؤكد بأنه لم ينم مع امرأة باستثناء داميانا خادمته إلا ودفع لها وسجل اسمها في مفكرة خاصة تحتوي 500 اسم..
لكن " الجنس هو العزاء الذي يلجأ إليه المرء عندما لا يحصل على الحب " .
ولأنه كاتب ولأنه صحفي فقد كرس زاويته الأسبوعية للكتابة إلى هذه الصغيرة التي تبدو " واقعية إلى حد أن لها عيد ميلاد" ، دون أن يلمسها أو يعرف اسمها،  تستبد به لهفة صناعة تاريخ لها فيقرأ لها كتاب الأمير الصغير ويهديها دراجة ، يسمعها موسيقاه المفضلة، ويترك فوق مخدتها بعض الهدايا الصغيرة.
لكن حادثة قتل مصرفي تؤدي إلى إغلاق النزل وتشميعه وأيضاً  توقف ليالي السعادة تلك، وتتحول إلى الخوف والشوق وأيضاً إلى قلق من العثور عليها صاحية، والجزع من فقدها كاحتمال كبير، فيقول :
" الحقيقة أني لم أكن قادراً على تحمل روحي وبدأت أعي الشيخوخة من هواني في الحب "
يتقاطع محور الحب كثيمة أساسية في الرواية مع ذاكرة فذة لرجل تسعيني يتحدث بسلاسة عن تفاصيل حياته..بيئته.. موسيقاه.. كتبه.. وعلاقاته النسائية عبر قفزات زمنية رشيقة استغرقت مئة وثلاث صفحات.
يمكن قول الكثير عن جوانب روعة هذه الرواية، فإلى جانب الشخصيات المرسومة بإتقان واللغة (السحرية ) طرية الملمس، والتماسك المذهل للأفكار وتسللها عبر الصفحات،  فإن"  ذاكرة غانيات الحزينات " رواية تعبق بالأحاسيس الإنسانية التي تترفع عن الجنس وتنتصر لمطلق الحب دون نزوات،  إذ يتجاوز البطل في خاتمة الرواية مشاعر الغيرة التي استبدت به ويسامح حبيبته بل
ويوصي لها بكل ثروته بعد موته، مفضلاً أن تكون إلى جانبه ما بقي له من حياة، متقبلاً النصيحة
" افعل ما تشاء ولكن لا تضيع هذه المخلوقة، فليس هناك نكبة أسوء من موت المرء وحيداً "
تبقى كتابات غابرييل غارثيا مركيز خلطة سحرية بين الخيال والواقع ينتصر فيها للحياة من منطق الحب، ليجعله مقاوماً للموت والانطفاء
" فليست السن هي ما بلغه أحدنا من العمر، بل ما يشعر به "  

عورة : تنويعات القص الرشيق عند دلع المفتي: قراءة في مجموعة (عورة)


عبر 150 صفحة من القطع المتوسط تخرج إلينا مجموعة تحمل عنوان (عورة ) الصادرة مؤخراً عن دار جسور للترجمة والدراسات والنشر والتي حوت 28 نصاً.. وهو الاصدار الثاني للكاتبة بعد روايتها – هن لسن أنت -
تقطف الكاتبة دلع المفتي حكاياتها من شجر الواقع، فتنقله إلينا عبر حوار خاطف لشخوصها أو مشهد عابر تقتطعه من مسرح الحياة الكبير، وهي تفعل ذلك من دون افتعال، ببساطة وعفوية ومباشرة تتجه نحو فكرتها، كما الخط المستقيم الذي هو أقصر الطرق، مقتصدة في عباراتها وجملها، من غير فائض مكونة باقة من النصوص المتنوعة بين القصة القصيرة وق ق ج أي التي نالت في وقت قصير مكانتها في المشهد الأدبي..
هذا التنوع يمكن اعتباره ثيمة تؤكد فيه الكاتبة أنها لا تبحث عن آليات محددة أو منهجية ثابتة تكرسها لكتابة نصوصها، فالفكرة بتجلياتها هي فقط ما يشغلها فتترك العنان لتلقائية ذاتها المحركة عبر حدث يأتي – غالباً - على  لسان الراوي العارف بكل شيء..
ومض الفكرة يلمع في كل نص مشكلاً ملمحاً مهماً مجتزأ من شاسع الحياة، نقلته المؤلفة من سذاجة عروس لم تتخط السابعة عشر تعاني من الارتباك والتعثر ومما بقي من طفولتها فيما هي على عتبات مرحلة الزواج الغامضة..
هكذا تأتي الفكرة إنسانية مبللة بمشاعر فياضة من التعاطف كما في " شعرها المنثور"  التي تحكي معاناة مريضة أثناء علاجها بالكيميائي الذي يؤدي إلى تساقط شعرها.. تلك القصة مهداة إلى روح منى مما يحمل القارئ على مزيد من التعاطف لحدث ليس مجرد تخيل فحسب.  
أما قصة " خطوات" فهي عن متسول أعمى يتخذ من ناصية شارع مكاناً دائماً له، لكن الفقر والحاجة لم تسلخاه عن العطاء..!
تلجأ دلع المفتي أحياناً إلى وضع فكرتها في قالب ساخر متهكم، كما حدث في نقلها لتصرفات خارجة عن اللياقة لكاتبة كانت بالأمس القريب تدعي الأدب والتأدب عبر لقاء تلفزيوني !..
من المؤكد أن الإلمام بكل أفكار المجموعة القصصية " عورة" من خلال هذا العرض المتعجل يكاد يكون مستحيلاً، سوى أنه يمكننا ملاحظة بعض النصوص التي تشكل في طرحها  قلقاً تساؤلياً، كإشارة استفهام لسؤال تبحث الكاتبة من خلال القارئ عن جواب حاسم لها..
فهل العورة هي عورة الجسد أم عورة الروح..؟
وهل الخروج عن قوالب الحياة الجافة هو خروج عن لياقة الاحترام؟
وهل جلوس المرأة في العدة هي الطريقة الأمثل لإظهار حب الزوجة الأرملة وإخلاصها؟ 
يبدو جلياً اهتمام دلع المفتي بوجوه المرأة الكثيرة، معنية بالتفاصيل الصغيرة، متنقلة بين مشاهد تدركها عين فاحصة لأم تنقلب من كائن ضعيف يتقبل الركل والضرب إلى وحش بري حين تصل المهانة والألم إلى جسد ابنتها الصغيرة.. أو لزوجة تؤمن بحدسها بشكل قاطع أقرب ما يكون إلى اليقين من غير احتمالات أخرى.. أو حتى في حكاية جدة تتلبسها وساوس الطهارة فتجعلها تغسل كل شيء سبعاً.. أو في ذعر مستبد لأم على براءة طفلتها فتقدم جسدها بديلاً دون كثير تفكير..
وأيضاً انسياقاً مع الفكرة وسطوة متطلباتها جاءت قصتان من المجموعة تحولت فيها الأشياء ( الطبلة – اليد) إلى كائنات ناطقة تحكي معاناتها..
هي تنويعات رشيقة عبر قصص المفتي.. كمنجز تأتي قيمة النص عبر الحيز الذي يتركه عند المتلقي..
إن حيوية المجموعة في اختلاف حدتها وتنوع إسلوبها وتطرقها إلى الشائك والعادي والمهم وحتى الأقل أهمية من القضايا يجعل الحكاية/ النص يصل إلى مبتغاه المراد منه، من غير أن يعاني مشاكل تتعلق بعدم الوضوح أو الإبهام الذي تتعمده بعض الكتابات

ساق العرش رواية تنتقد ذهنية المجتمع الكويتي وتتبناها : قراءة في رواية (ساق العرش) للكاتب محمد هشام المغربي

مقدمة لابد منها:
 (ساق العرش) رواية صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2007، جاءت في 192صفحة من القطع المتوسط، وتعتبر العمل السردي الأول للشاعر محمد هشام المغربي بعد أربعة دواوين شعرية، عنوان الرواية وكذلك مفتتحها الذي يبدأ بمقولة للإمام علي بن أبي طالب " أرى تراثي نهباً" يهيئنا كقراء إلى تلمس أجواء العمل، وهيكله العام..  وكلاهما، العنوان والمقولة ، تحيلان إلى أجواء دينية شيعية.. فماهي الرسالة التي أراد الكاتب ايصالها إلينا عبر تلك الاشارات، وهل حقق غايته؟

عن ساق العرش:
الرواية توزعت على فصول أربعة حمل كل منها عنواناً مختلفاً: الثلث الباقي/ متاه النأي/ هجرة الموال الأخير/ غنائم فادحة.
أما الاحداث فتدور  حول (أحمد النازح ) الذي يعاني منذ الصفحات الأولى من خلل النسيج الاجتماعي الكويتي، والذي ينظر إلى درجة مواطنة الفرد من خلال أصوله الأولى، وقلق أحمد لايقتصر فقط على المواجهات اليومية لجنسية تعود في أصلها إلى العراق، بل أيضاً الظروف السياسية التي تجعل من ورقة التجنيس تلك ليست أكثر من سبة وتهمة بعد أن غزا صدام الكويت.. " فأنا لست نجدياً مثلك ولا فارسيا كغيرك .. أنا الثلث لباقي" ص33 ...
وحبكة الرواية تدور حول سر يحتفظ به أبو أحمد متكتماً حول نسبه وجذور عائلته، مخفياً الورقة التي توضح ذلك النسب،  ومن خلال فقرات تتقاطع وتتصل من حيث السرد الزمني نتواصل مع ذاكرة أحمد وسيرورة حياته بين الجدة والأب ورفقاء الجامعة، التي يتطرق من خلالها إلى المشهد السياسي والاجتماعي داخل الكويت، وأخيراً علاقته المتوترة مع عبلة الفتاة التي أحبها وتزوجها ومن ثم فقد عاطفته نحوها..!
الشخصية المحورية الثانية في الرواية هي (علي )الجندي  في الجيش العراقي، لا يبدو مقتنعاً بمعركة هو مجرد أداة فيها، فشخصيته بعيدة عن العنف والقتل، يظهر محايداً ، مجبراً، وعالقاً تحت وطئة ظروفه، يتعاطف مع أهل الكويت البلد التي جاءها غازياً، ويسكت عن نشاط شبان من المقاومة يسكنون في حي ( الدوحة )، الحي الذي يتولى هو ومجموعته حراستها، يُقتل شاب من تلك المجموعة، فتؤول له ملكية صندوق خشبي يحتوي على أبيات شعرية قديمة لايبدو أن هناك رابط بينها..
وبعد أن يعود إلى بلده يسكنه هاجس حل رموز الورقة بطريقة السيمياء والدلالة متنقلا في العراق بين مدينة وأخرى ليصل في نهاية المطاف إلى حل الشفرة ويكتشف أنها وثيقة نسب تعود إلى آخر ابن من سلالة الخليفة العباسي السادس والعشرين، العائلة التي هربت من بطش الوهابين في العراق فلجأت باسم مستعار إلى الكويت.. لكن قبل أن تصل الورقة إلى صاحبها الذي يقضي اجازة عند أهل زوجته في الاردن يقتل بطريقة غامضة وتنتهي الرواية .

المتن/ الخطاب
إذ يقول بول ريكور" إن النصوص تفرض ضوابط تفسيرها" ، وأنا هنا كقارئـ/ة لاأدعي سوى أني تتبعت الاشارات التي تركها كاتب الرواية عبر محورين متوازين، معتمداً على عامل المصادفة الذي يدير أغلب مفارقات حياتنا، في أسلوب حداثي بعيد عن كلاسيكية القص، هذا الشكل الحداثي الذي يهمل الإطالة والوصف،  ويبني الرواية على القطع والوصل للاحداث وللزمن دون التقيد بتسلسل محدد، إن الإشارات المبثوثة داخل العمل سواء من خلال الشخوص أو من خلال الراوي تأتي لتعمق فهم المجتمع الكويتي ضمن عين تراه من الداخل، وإذ تمضي هذه الإشارات بحمولاتها الخفيفة التي تميل إلى تقديم الاجتماعي من خلال عبئه النفسي أو نقل هذه العبء النفسي المتشكل بسبب الفضاء الاجتماعي للنص فهي تشكيل سواقي تحفر مجراها في ذهن ومعرفة القارئ عن المجتمع الكويتي لتلتقي في نهاية النص في بحيرة واسعة يمكنها أن تحيل إلى معرفة القارئ بهذا المجتمع، فقارئ الرواية ستكون معرفته بالنسيج الاجتماعي للكويت أعمق منها قبل قراءته لهذا العمل، ولأكن أكثر مصداقية، استدعتني شخصياً لأستوضح عن بعض النقاط، ولأفهم المشهد الاجتماعي العام .

الحبكة، والشخصيات:
تدور حبكة الرواية بكل فصولها حول قضية مازالت شائكة، تعاني منها الكويت في صراعات داخلية مذهبية وعرقية تصنع شعباً متنافراً على عدة مستويات، هي قضية الانتماء، واختلاطاتها مع مفهوم المواطنة، وسطوة مايعنيه كل ذلك في مفردات تصوغ مفاهيم هذا المجتمع، الذي يؤكد ضمنا وعلانية على الجذور وقيمة النسب والأصل والفرع. " مديرنا كلما رآني يربت على كرامتي ( المو أصلية) بالشغف نفسه الذي يربت فيه على مؤخرة منيرة" ص50، مما يساهم في خلق مشاعر اغتراب ونقمة وانطواء على الذات، وهو الوضع الذي تحتكم إليه شخصية البطل( أحمد ) بمشاعرها وعلاقاتها، كأنه وسط دائرة طباشير، يتمزق بين وطن ينتمي إليه، ووطن لم يعد له ولا يعرف جذوره فيه.. ولأننا في عالم لايملك العصا السحرية لحل المشاكل، فأحمد يتعايش مع ظروفه، وإن لعنها في داخله، ويتلازم هذا مع مشاعره نحو عبلة زوجته التي يكرهها ضمناً ويهرب من مواجهتها إلى الاستلقاء في حمامه الساخن، يريح أعصابه من أي جدل محتمل، ولابأس البتة من أين يدفع المال
( كأتاوة) ليضمن ذلك، فعبلة أيضاً لم تحبه كإنسان، وكل مايهمها منه حسابه في البنك، ولذلك فهذه الشخصية بقيت تتحرك في سياقات الصدفة وماتفرضه الظروف، ولايتغير هذا الحال حتى حين ينضم إلى مجموعة شبان المقاومة، ولأنها شخصية هشة منذ البداية فهي تبقى كذلك حتى النهاية.
وفي المقابل فإن شخصية العراقي (علي )تبدو لنا مسالمة، تحتكم لظرفها، فهو جندي في حرب لاتمثله، وتنتابنا الدهشة من صداقته وتعاطفه بل وتغطيته لنشاط شباب المقاومة، وهو تورط خطر في ظرف لايعرف الرحمة، لكن علي لايخشى  على نفسه، ونجده بدافع الفضول أو بدافع تحمله لعبء مقتل صاحب الصندوق أمامه، فهو لايقف ساكناً بل يحاول بكل السبل والوسائل حل رموزها والوصول الى معانيها .
الحوار:
جاء الحوار بَرقي خاطف مكثف ومبتور، كلمات قليلة خبرية تتدافع على ألسنة أصحابها، غايتها الاخبار والتوضيح ، وبنفس الروح تقريباً تتقافزالأحداث بسرعة في الزمان  والمكان بضربات سريعة من الكلمات، فنكاد لانرى قبل الفصل الأخير أي توسع أو مونولوج داخلي مطول، وكأن الراوي يتعمد ذلك، فيما عدا تسريب لاشارات مختصرة لتصوير المشاعر والتركيز على حالة الزعزعة النفسية للبطل في مكان جغرافي يعتد بأصوله ونسبه ..
في  الفصل الأخير تتحول اللغة السردية عن وجهتها لتحل مكانها  اللغة الشعرية والمعبرة عن حالة الحب الطارئة، فما يتباطأ الايقاع السردي ليهتم أكثر بالتفاصيل.. فتظهر قدرات الشاعر/ الرواي لتورطنا بالجو العاطفي للحالة.
رأي:
تأتي الخاتمة بنهاية فجائعية هي موت البطل أو مقتله الغامض، لتضعنا أمام فداحة مفهوم الخسارة، وانهزام الانسان قبل أن يعثر على أناه، مخلفاً وراءه أحلامه وأوهامه في الحب والانتماء والمواطنة..
الرواية لا تتبنى مقولات كثيراً، ولا تتطرق لاشكاليات خارج فكرتها الأساس، فهي منذ لحظتها الأولى مشدودة إلى بناء روائي محكم بلا استطرادات ، لكن بدا لي أن الكاتب من خلال الرواية والتي من المفروض أنها تنتقد فكرة حكم القيمة المستمدة من الاصول أيا تكن، وتنتصر للانسانية ومجمل السلوكيات، إلا أنه في الوقت نفسه نراه يعزز تلك القيمة ضمن منطق الأعراف والتقاليد، فيفرد فصلا كاملاً ساعياً وراء نسب، منساقاً  ضمن الأعراف والتقاليد نفسها، ويمتد هذا  ليشمل شخصية البطل أحمد التي تجدها في نقاشاتها ناقمة على فكرة الأصول التي تحكم النظرة الاجتماعية لكنه في الوقت نفسه يسعى جاهداً لمعرفة أصول انتمائه، بل أن البطل يتورط من حيث يدري أو لايدري، فيلقي حكم قيمة مضمر حين يقول في الصفحة 32: " لو أن أبي نطق بأصلنا أو أشهره أيا كان.. أقبل حتى لو كنت هندياً!"
إضافة إلى أن فكرة المعاناة بقيت بعيدة عن تعاطفنا الكامل، كونها اقتصرت على استنطاق داخلي حول هاجس النسب ضمن أجواء يسر وتعايش وعلاقات مستوفية لشرطها الاجتماعي بشكل عام، وإذ تدور فكرة الرواية حول التراتبية الاجتماعية المستمدة من النسب والأصل وغياب فكرة المواطنة الكاملة التي أصبح لها إطار قانوني هو درجات الجنسية؛ فقد  تجاهلت الرواية عرض مشكلة غير محددي الجنسية أو ممن يسمون الـ( بدون)، والتي تعتبر قضية تمس أيضاً النسيج الاجتماعي وفكرة المواطنة.


وعي الحكاية: قراءة في مجموعة نسرين طرابلسي (وأدرك شهرزاد الملل)


لا يمكن للفن أن ينفصل مهما ادعينا عن نسق الحياة، بكل تفاصيلها ونمنماتها، حيث يكمن الاختلاف في الوسيلة التي يرتئيها المبدع والتي تعكس وجهة نظره ورؤيته للواقع.
يقول لوكاتش " إن المقولة الرئيسية والمعيار للأدب الواقعي هو النمط ذلك المركب الغريب الذي يربط بين الخاص والعام بطريقة عضوية في الشخصيات والمواقف "
أما درجة الوعي والشكل الذين يحتويان الفكرة فهما نقطتا الاختلاف بين كاتب وآخر.

تقدم لنا القاصة نسرين مجموعتها التي تحمل عنوان " وأدرك شهرزاد الملل "1
وهي  تجربتها الثانية في عالم القصة القصيرة بعد " في انتظار اسطورة "2
من خلال 23 قصة يتخللها 12 نصاً بصياغة بوحّية أُدرجتها تحت عنوان " مونولوج "
يمكنني التطرق لهذه المجموعة من عدة نواحي :
الشخصيات – المواضيع – الأسلوب

الشخصيات :
تختار نسرين شخوص قصصها غالباً من شرائح اجتماعية متوسطة وعادية ونسائية غالباً كما في  حارتنا ضيقة - أوبرا القطط - قطة شيرازية - الحليب المر - ..
هي خليط مابين الحلم والواقع .. المستحيل والممكن .. الشر والخير دون أن يطغى عنصر على آخر.
ترصد الكاتبة حركتهم ضمن ظروفهم النفسية والاجتماعية..وتترك لنا مهمة البحث عن الدوافع السيكولوجية لتصرفات تلك الشخصيات..   
فنجد مثلاً الشخصية المهمشة التي تعاني البؤس والوحدة  كما في حال بطل قصة/غرغرينا/  الذي نعرف كل شيء عن مرضه ووحدته وتفاصيل يومه كشخص منبوذ يدمن مشاهدة أفلام بروسلي كأنه يستعيض بها وبقطة تزوره عن انهياره الجسدي وضعفه.
وتتركز الحبكة على تصوير الصراع الذي تعانيه هذه الشخوص في نضالها مع الحياة كمعنى.
وهكذا تنقسم المجموعة لنوعين من القصص القصة الفكرة والقصة الشخصية..
والكاتبة هنا لا تهمل الرابط النفسي الذي يجمع ويفسر متناقضات الذات البشرية المعقدة والتي يصعب أحياناً فهم دوافعها بسهولة بالرغم من محاولة الكاتبة على توضيح البنية الدرامية للشخصية في بنائيها الوصفي الخارجي والنفسي الداخلي ..
والنماذج متنوعة فهناك الشخصية المقعدة والمعوقة والمريضة والمتوحدة ، وأيضاً العانس والغيور والانتهازية والطموحة، والمصابة بالصدفية، و مع توتر المعاناة يتصاعد الحدث دون أي تدخل مباشر من الكاتبة لفرض قانون أخلاقي ما رفضاً أو قبولاً.. ولو أن انفعالات الرواي انعكست دون ادعاء في المفردات المستخدمة.    

المواضيع :
أغلب القصص استمدت مواضيعها من أرض الواقع فيما عدا – وأدرك شهرزاد الملل – التي حوت شيئاً من الفانتازيا فقد انفصل الصوت السارد / الكاتب عن صوت الشخصية/ شهرزاد التي خرجت من غلاف الكتاب لتقص حكايتها معلنة علاقتها بمسرور السياف بعد أن تساوت أسباب وجودهما معاً في قصر شهريار الذي دأب على النوم بعد انتهاء الحكاية..
بطبيعة الحال لا يمكننا فصل المادة الإبداعية عن كاتبها لأنها تعبر بطريقة ما عن وجهة نظره وتأملاته للحياة، ومن هذا المنطلق نستطيع حصر بعض المناحي التي تلح على الكاتبة فتعبر عنها منها على سبيل المثال لا الحصر:
 - البيئة الدمشقية:مكاناً وعادات متبعة وإرثاً اجتماعياً ولهجة لتثبت ولع الكاتبة وارتباطها بالمدينة
الذي انعكس في النسيج الحكائي لأكثر من قصة والتي اعتمدت اللهجة الشامية المخففة والمحببة إضافة إلى الأمثال الشعبية وأسماء شوارع وأوصاف تتطابق مع حال تلك المدينة ورابط الحنين بين ثنائية الوطن والغربة.
- نموذج الأم : الذي يحضر في أكثر من قصة كشخصية صلبة وذات سطوة تعرف ما تريده وتحققه، وهي شخصية بعيدة عن النموذج الكلاسيكي الذي اعتدناه من حيث اللين والضعف والمسايرة ربما لأن مفردات الحياة تغيرت بذاتها، فقد أصبحت الأم نموذجاً ايجابياً يصنع توزناً لهذا العالم .
ففي قصة /الحليب المر/ كمثال تأخذ الأم الموظفة إذن ساعة كي ترضع ابنتها ورغم أن تلك الساعة من حقها إلا أن مديرها لايبدي تفهماً وتعاطفاً مع حالها، ولا تنتهي القصة عند إلقام ثديها للطفلة الجائعة وتفريغ قسط الحنان وما يعقبه من راحة ونسيان لكل معاناتها، بل يتجاوزها إلى توصيف مرير ولاذع لحرقة تلك الأم كامرأة لا تجد وقتاً لنفسها.  

- وبشكل مختلف تطرقت (طرابلسي) للمواضيع الجريئة أو تلك التي يتجنب بعضنا مناقشتها بشكل مباشر  وقد استخدمت نسرين لغة التلميح بدل التصريح متجنبة التعبير الفج والمباشر معتمدة على حنكة القارئ ووعيه..
ففي قصة " قطة شيرازية " والتي تصف مرحلة البلوغ عند الفتيات من خلال تداعيات سردية لمفيدة خانم السيدة التي تحن إلى زمن الارستقراطية الباذخ والذي لم يبق منه سوى أشغال الكانفا تتوارث بروتوكولياً ومعنوياً إلى الأبد.. ومابين نضوج ثمرة الفريز وتأويلها إلى نضوج تلك الطفلة وارتباكات تلك الفترة تتحدث و تعود بنا إلى طفولتها حين كانت فتاة بعمر الزهور تحمل اسم الدلع " فيدو"
أما قصة " طالما أحدٌ لن يموت " فهي تنقلنا إلى عوالم المعرفة الحسية المرتبطة بألعاب الطفولة حيث يمل الولد الذي يبدو أكبر مما هو من لعبتي  الغميضة وشد الحبل ويهدد الطفلة التي تقترح عليه أن يلعبا عسكر وحرامية ليصر هو على لعبة عروس وعريس، يتدخل صوت الراوي العالم بكل شيء ليوضح بأن اللعبتين متشابهتان تماماً .
" اغرسني في الأرض أفرغ صاعقتي "  تقوم بنية هذه القصة حول إدراك البطلة لحالة الصرع التي تجتاحها وأن عليها أن لا تخبر أحداً بمرضها مما يؤدي بها إلى مرض آخر هو الانفصام، فتراجع طبيباً نفسياً تتمدد أمامه  لتحدثه عن حياتها وعن مشاكلهم العائلية والكتمان الدائم المطلوب منها كي " لا تفوح الفضائح أمام الجيران "  سوى أن الطبيب ذاك لم يكن على مستوى قدسية مهنته فيتحرش بها وحين ترفض يصرخ بها :" لن يصدقك أحد "
وتتعرض تلك المسكينة لصدمة أكبر حين يفضح الطبيب من خلال برنامج تلفزيوني حالتها ليزداد بركان الأسرار، حتى يتفتق الحب عن لحظات البوح الصادق والمكاشفة المريحة لتتلقى بطلة القصة الضربة القاضية حين يقول لها من توسمت به التفهم : لا أعتقد أنه يمكنني أن أتزوجك فالصرع مرض يمكن أن يورث .. وهكذا تتداعى كل مقاومتها للمرض فتعض لسانها حتى تقطعه، أما الأخرى التي هي ذاتها في حالة الانفصام فتنهار منهكة القوى. 
قصة أخرى بعنوان " سأصمت الى القبر " تأتي عبر ذاكرة الاسترجاع لطفلة يسوقها فضولها إلى أن تكتشف علاقة أخيها بابن الجيران وترتبك بهذا السر الذي يجعلها تخاف من أحلامها لتبتلع بالكتمان كل ما تعرفه ليذهب معها إلى القبر.

الأسلوب :

أهم ما يمكن استخلاصه في وصف أسلوب المجموعة هو التلقائية والمدى الحر الذي تمنحه الكاتبة لشخوصها في التعبير عن أنفسهم ورسم بياناتهم المجهولة بالنسبة للقارئ
وقد ظهر هذا واضحاً في انسيابية الجملة رغم طولها النسبي في بعض الأحيان،  ليكون هدف القص الوصول إلى الوجدان ومحاكاة النفس والروح..
ونسرين تعتني بالوصف والتفاصيل الحميمة.. لذلك فقد اعتمدت التلوين السردي، من خلال ذاكرة الاسترجاع و تقنية الحلم وأيضاً تمثل الشخصية واستعمال ضمير المتكلم.   
اللغة أداة للتعبير عن الذات وأداة توصيل للآخر الذي نكتبه.. 
ومن الملاحظ أن التجسيد الفني عندها لا يختص بالتفاصيل الجمالية بل يتعداه إلى إعادة تجسيد العالم الخارجي ولو من خلال الصور المؤلمة والبشعة، هذا ما ظهر بوضوح في الوصف المقزز لحالة مريض الغرغرينا في إحدى القصص مثلاً.
 وقد استخدمت الكاتبة لغة شفافة داخل نسيج لغوي احتوى الرمز والمقولة والحوار.

في الخلاصة عزفت نسرين مجموعتها بتنوع وبراعة وحذق، لننتهي بأن شهرزاد الحكاية لم تصبنا بالملل، وبالتالي بالعقم القرائي، بل هي وضعتنا عند مفاصل أساسية تضيء بعض مواقفها تجاه هذه الحياة ودرجة وعيها، ذاك الذي أشرت إليه في مقدمة هذه القراءة..


1- وأدرك شهرزاد الملل صادرة عن دار المدى  2004

2- في انتظار إسطورة 1997