السيدة البيضاء التي لا تخطفها الزرقة
تتكئ على الزرقة
تضحكُ فتخطفُ البياضَ مِن الكون
لاتتجسد ...
قلتُ: حواسٌ، رائحةٌ تعلق بكل ما تمر به، ملمسٌ لا يفارق حتى في النوم، عذوبةٌ تسيل.. يزداد عطشك كلما شربت منها...
قلتُ: تذهبين، تظل رائحتك تصلّي المكان..
قلتُ: أغفو ، المس رائحتكِ التي بطعم الكستناء
قلتُ: كيف للحياة أن تعطي كل ما حلمتَ به على شكل رائحة!!..
تمتد يدُ الرائحة، تلامس وجهكَ، لا تشعر بشيء.. تتبخر، تتبدد في الهواء المحيط الذي يغدو تلك الرائحة.
لا تمشي على أرضٍ ولا تطير في سماء، لا تبني بيتا.. ولا تغادر..
أغمض بصري لأراها!!
ألجأ للشعر أقول:إنها ماء : لونها حياة، طعمها أزرق، رائحتها الكون في بدء ولادته
قلتُ: كل هذا السحر سيدفنني في قامتي !!
لاتبادلها الكلام..
الكلام: فائض..
تعطيل للحواس أو عجزها.
تدهشني عذوبتها- ولم تكن طعم فقط- تنسرب إليّ، أفتح فمي مثل أبله.. تسيل بسلاسة، لتجدها أدخلت الحياة إلى رئتيك أو....أدخلتكَ الحياة.
قلتُ : سأجمع كل فيوضات العشاق من كل العصور وأخبزه رغيفاً واحدًا، وأقول: هذا إحساسي بك !!
اختلطت الزرقة التي تتكئ عليها بالبياض الذي تضحكه، ولم تحتج للكلام لتقول: حقي!!
قلتُ: سأعجن ما خطه المحبون في دفاترهم المخبأة وأصنع منه كلمة واحدة. ردت مثل غيمة: حلو.
قلتُ: تشرقين كل لحظة وأنا أعجز عن متابعة كل هذا الشروق المتتالي.. أشرقت.. ولم تتكلم.
قلت في سري : الآن أدرك لم َلا تتكلم الشمس؟
قالت: أحفن من دمي كي تنهض.
قالت : ها أنا حياة منثورة فيك.. تخلص مني.
ولم تغادرني..
كانت تحول كل الدروب لنداءٍ يشدني صوبها كلما خيل لي أني ابتعدتُ.
قلتُ: أريد أجنحتي.. عمدتني بكل قدرة الطير على التحليق، وكتبتْ بحاسة اللمس على هواء داخلي:
ستعود
وقالت: سأكون دماً أو نفساً.
أيتها البيضاء التي لا تخطفها الزرقة:
قليلكِ كثيرٌ، قليلك يجعل الأموات يقومون من عطشهم، قليلك قيامة الروح والجسد.. فكيف بكلك ؟؟!!
تعالي نعبئ رائحتك ونبيعها على الأرصفة..
تعالي نخبئ ضحكتك ونبيعها للمكتئبين، والحزانى، فارقتهم حبيباتهم، من خذلهن عشاقهن، ومن فقدوا أوطانهم وأمهاتهم ....
حين تغيب أشعر أن الشوارع والأرصفة والدروب والمقاهي والــ... خالية.
حين تغيب لا أرى في المقهى من الوجوه غير مقعدها الخالي
الهواجس تنتابها: كأن تغيب مثلاً... كأن تشعر أن جودها ارتباك ..
كأن تفكر في الطريق.. كأن تظن غيابها جرعة الدواء الأخيرة.. كأن تفكر: سلت أكثر مما
يجب.. كأن تحاسب رعونتها حين نكون معا...
لكنها تعود راكضة حافية حين أقول لها:
أحبك حتى تنفجر الشمس.
التي تسكن بيني
وتشرق في الحياة
لمَ لا يصبح اسمها بديلاً عن الماء؟
الحياة قبلها مجرد وقت يمضي..احتلت كل ما بنته تلكَ السنين تحت عنوان الأمل.
انتظرت طويلاً على شواطئ الأنهار.. انتظرت طويلاً في شوارع كانت لا تخص أحداً..
انتظرت طويلا في مقاهٍ تخص الآخرين..
انتظرتُ ..
قلت لها: يوماً ما سينقطع بيننا حبل الليل وتحبينني.
قلتُ: يا امرأة كانت كل هذا الزمان تختبئ داخلي.. ولم أتعثّر بها..
أعري روحي..
اتركها تجف في الشمس من ماء الآخرين.. لتسكنها شمسكِ
لن نسقط في حفرة الليل التي ينسجها وهو يعبر نحو عزلة شديدة الملوحة.
إذ اذكر أن الحب كائن يتفيأ الصمت..
إذ أعود لاهثاً نحو جدران النوم، أتلمس ما تساقط منكِ في غرفة العزلة..
إذ اغني بمفردي " ... بياع من يشتري حزني ومواويلي ..."
أقول أنتِ..
أعد خطاي..
كأن الكون جدار دون باب أو نوافذ..
تنأى المسافة بي، تفرخني طفلاً على عتباتك يحبو ولا يصل..
كيف لي حينها أن العب بخذلان المسافة وأصفق لمهارات الدروب..!
ألتفت فلا أرى..
لا أعرف أحداً ياسيدة الأرض..
أشهق إذ أرى الهواء يعري جسدي مني..
أشهق إذ أصلب الرجاء على جدار المسافة..
أشهق كمجنون يروي الحكاية لمن لا يعرفك..
لدي من الحكايا ما لم أروه لكِِ.. لدي من الوقت ما يكفي كي تستريحي..
لدي...
سيأتي الخريف هبوباً كريح، أو ورقاً يسّاقط كدمع المغادرين من على أشجار حنين غامض.
يازمني الذي يمتد كطفلٍ ينمو ..
وحيناً أراكِ النوافذ..
وحيناً أراك الباب الذي تركتَه مفتوحاً كي لا تتعبُ يدكِ..
وحيناً أقول لجدراني: كانت هنا تتأمل صورتها
وحيناً أفلي الأغاني المجروحة عن أثرٍ لك ِ
وحيناً أهمس للخريف: أنتَِ... والغياب!!
وحيناً أحرس ليلي وحيدا كي أقصّر المسافة التي ستنمو بيننا.
الهي...
لما خلقتَ المسافة .. لتصبح خنجراً يطعنني به الوقت ..؟
أما تستطيع أن تمحو الخارطة وتجعل المسافة مهما نأت نقطةً؟
حين أغادرها يغادرني كل ما فيَّ.. فكيف تقطعني أشلاءً وتبعثرها؟
إلهي لما خلقت الدروب؟!
كيف أقول للمساء تمهل ستحضر بكامل نزهتها بعد قليل؟
كيف أقنع الهواء أنه دونك بلا رائحة؟
كيف ... أغادرك إلى الصحرااااء .. ليُشلع قلبي ويُرمى به لجِراء المسافة
يديَّ تمتد لتفتح مشهداً لم يكتمل:
سلامٌ يصعدُ سلم البيت، ليخلق جنوناً من الرهافة في حيزٍ صغير، أسميه عزلتي..
تصل محملة بنزهات يقوم بها الهواء إلى حدائق بكراً ولم يَعِد بها الإله أحداً..
تهبط من سحرٍ يخاصر جسداً وديعاً، يرتجف بقبلاتٍ لم تذق حتى الهواء..
كأن الأرض خلوً من وعود الجنة/ كأن الشهقات الموسومة بحضورها تجثو على قدميها لتلونها
تارة تمشط شعري من الليل
تارة تفتح قلبي على مصراعيه ليذوق الهواء
تارة تلامس وجهي بشبق الناسك وهو يقبل كتاباً مقدساً
تارة تتشبث بي لأن الوقت يتسع ويركض مثل هاوية
وتارة أناديها ياكلَّ ما بقي على الأرض من قصص العشق
دعيني أتعرى في نظرتك العارية
دعيني ألمس الشفاعة المتدفقة من بياضك الذي يتسع لكل ألواني
دعيني أشم الرائحة التي تتدفق منك
دعيني أشهق: كلَّ هذا البياض لي؟
غفرانك ِ.. لستُ جاحدا، لكن السنين علمتني ألا ألمس البياض كي لا تغويه المسافة ويرحل..
ووئيداً أتصاعدُ فيها نفساً ضيّع كل طريق
ووئيدا أحصي المسافة دونها، وأضلل الدروب، بأن حلب قبل الأندلس، وأن العبور إليها يبدأ من نقطة في القلب إلى نقطة في القلب
وكنتُ..
في الوجد الذي يخطف الحنين ويُعريه، أبعثر الحروف لأنسج هواء يمر بكِ، أعري الزمنَ من الوقت ِلأجعله أبداً ساكناً، أدعو الله أن يتسع.. يتسع كي يحتويني وأنا أحملك داخلي..لم يكن الله ضيقاً.. لم يكن الله دون مُسمى غير انكِ أخذت المسميات منه وأعطيته الاتساع لتصبح الضلالة والهدى صلاة واحدة...إذ تسجد على صورتكِ الحروف فانه ليس سحر.. نعمى به .. دون أن نشربُ من لعابكِِ، دون أن نحمل أثرك..
أنت هواء يتجسد حيلة للعاشق
والعاشق ليس صوتا وليس صدى
والعاشق تراب الأبدية حين تدوسه أقدامك الحافية
والعاشق مطر حافي إن كنتَ سماء، أو أرض تتعرى لوقع صورتكَ
والعاشق اختلاط الريح بغبار القوافل وهي تسعى إلى الحج، وتتيه عن الله حين ترى الماء
والعاشق ليل يحرسكَ من فجيعة المنتهى..
وما العاشق غير درب انتبه إليك.. وما الدرب غير سجدة لوجه التآخي بين البصيرة والمصير
وما كنتْ أنتْْ غير مسعى
وما كان الأفق غير انبهار يتوسدكْْْْْ
وقال ربّي:
من حج بصورتها فقد أتاني
ومن شرب ريقها جعلته حارسا جنتي
ومن لامس وجهها جعلته رسولي وحمّلته الوحي إليها
ومن رضع حلمتيها أسميته ابني
وأنت ِالرسالةُ والرسول.. مُرسلُ الوجدِ ومهبطُ الشوق
وأنت الرسائلُ لا تصل/ العراة أمام بابي يسندون الخليقة ببهاء أجسادهم / صدى الغواية إذ تتلبس ثوب أنثى/ أنتِ الحياة إذ تتعرى بغتة
والعاشق يعرج بين سمائكِ ونهديك
وقوافل الوجد تنام على سفح بطنك الذي يشبه العرش
كم نموت هناك ونحيا وكم نختلط بثغاء الذين عذبهم شوقهم لصورتكِ
وما كنتْ مرعى
غير أن العاشق حلَّ بكْ
وماتْ ...
لم يمتْ ..ماتْ ..لم يمتْ .. ماتْ ..لم يمتْ
أنا العاشقُ
العاشقُ
كيف أصف هواء تشكل أنثى
كيف أصف فراغا يسبح بي
كأنما الرؤيا تخاتل المبصر ليَنْعَم باشتعال البصيرة
أركضُ حافناً رغبتي في شفاهي، أدخل الجهات / التي تطوف حول وجهك
وما كانت الشفاه سرمداً أو فجيعه أو مِنَّةً من بقايا ربٍّ ضيعه حراسه
وما كانت الشفاه جسراً للعابرين إلى جنةٍ تقدُّ قميصها بالأصابع
وما كان الليل وجهي، غير أنه يتكور .. يغدو أصابع.. ملمساً على هيئة ملائكة الرحمن وهم يسجدون لإبليس
وأنتِ انتظار قوافل العائدين
وقلتُ لهم:
من لم يحلَّ به صوتها ليس من عبادي
ومن لم يصلِّ على سجادة دمعها فقد ضلَّ ناري
ومن لم يحضنها كأجراس صوتي كان تراباً
وأنتِ جنة عامرة بالمشتهى .. لهفة الصائمين بحسرة الماء
وقلتُ..
كان طغاة ومرّوا
وكانتِ الآلهة قبلكِ وذهبتْ تحرس أوهامها
وأنتِ تختلطين بفاتحه المصلي
ولا يعرف الله أنتِ .. أم منكِ ولدَ
وبصورتك يتجسد للعباد
وأنا اختلاط بينكم ...
بين قوسين نعيش الحياة
تنسجين الدنيا بأصابعك سجادةً كي أصلي، أستعجل الطريق نحوك..
ياله من صحو لا يستريح
بكاء لا يهدأ إلا ببَركة يديك.
مثلك جاء الوقت مسيجاً، كان يغوي المتعة كي تشاكس الشوارع والمطر، وكلما كان الليل غزير الأحلام قلتُ : سأجيد الفؤاد كي لا أسقط
كنتُ أولدُ بين يديكِ كقافلة وميض، أثقلتني ظلمة الكواكب، وكنت أريد أن أولد إلى النور
آن لي أن أبيت عارياً يكسوني مطرك
أن تسعفني رحمة البياض، يانجمة تغردُ فوق رأسي:
مذعوراً كرجلٍ يركض أمام الموت ..
حدقي بي، تري تفاصيلكِ تسبح في دمي وهو يئن بالقتلى
أجتزئ من شفتيك قبلة تتسع لتغفر للكون كل هذي الخطايا وأنت تدونين حاشية البهجة على طارف أيامك ..
كاهلي صغير لا يحتمل سوى صرة ضحكك، لا أريد لجثتي أن تلازمني الطريق ..
مدي يدَ الماء ِلتقطف رأس الملوحة.. وقلتُ: المكابدات أخذت أيامي إلى المقبرة.. وقلتُ لكِ لا تدعي الحياة تصبح ذكرى.
ما بالك تجففين الضحك بشمس الوهم!، تخلعين نكهة الماء عنك!..
سأنحني مثل شبقٍٍ، اقبّل جنون خطوتك وهي تمضي..
لن أصغ لشهقة الغروب تتلو دم العابر، كمثل طاغية صغير..
لن أصغ سوى لأصابعك تزرع شجر الرائحة على وجهي. ولن أحفل سوى بدمك وهو يقتل وحشة الغريب.
أشبهك برأفةٍ صارت جلدي، أشبهك بسماءٍ صارت بيتي، أشبهك بكل بعيدٍ يقود البصر إلى منازل الضوء
يا لهذه الأنثى: أقولُ
كلَّ يومٍ تغسل الضوء بماء رحابتها
كلَّ يومٍ يمضي قلبي إلى مدرستها لابساً مريولاً من الزرقة
كلَّ يوم تنبت في طريق المدرسة أغاني
كلَّ يومٍ ترافقني العصافير إليها
وكلَّ يومٍ أستلفها من الذاكرة فتثري الصباح
وكلَّ يومٍ أقول لها: صباحكِ غيمةٌ ذاهبة إلى لمدرسة
تشبه فيما تشبه قبلة شوق
وأحياناً يخطر لي أنها النهار وقد جعلناه مخدةً نتوسدها كي ننام
وأحياناً أشرد.. أتخيل نفسي عصفوراً يتسلل عبر نافذتها ويحط على ضحكتها
وأحياناً لا أنام كي أظل حاضناً صورتها
وأحياناً أنام كي أطبق جفني على صورتها
وأحياناً أنام وقبل أن أنام أقول:
وك تعال بحلم واحسبها إلك جَيَّةْ واكَولن جيت
المسافة هلام يقاس بالغياب، و الدنيا لا تدور...
كيف لي أن أسبح في الكون بعيدا عن زرقتها...
سأسجل: إنت البلادُ
دونكِ لا وطن لي ولا سماء
دونك بلا أرض
دونك انكمش إلى نقطة تائهة
دونك الفصول تتعاقب على جثتي الهامدة
دونك السماء ليست زرقاء والغيوم ليست بيضاء
دونك أرى قلبي حافياً يهرول خائفاً والدنيا كلها حصى مدبب
دونك الوجوه تضيع ملامحها
دونك تسبل الحكايا أجفانها وتخلد إلى قبرها
دونك أتحول إلى خرقة بالية تمسح غبار أي شيء
دونك تنهار الجهاتُ
دونك
جسدي يذبل وهتافي لا يصل...
أغيب، سارقاً من العابرين حفنة من خطى
قلت لها : هاقلبي جرحٌ فاغر دهشته، بصري أدمن زرقتك حتى قال عنها : ضوء
وقلت لها: لو كان الصوت يصل لقلتُ:
أنت التي
تبني لي من الريح بيتاً
تبني لي في ظلها بيتاً
تبني لي من دمها بيتاً
تبني لي في ضحكتها بيتاً
تبني لي من الجهات بيتاً
وتبني لبصري في سمائها بيتاً
تبني من الغيم بيتاً لخطوتي
وتبني من الله بيتاً لنا
تعالي..
أمضي في واسع صوتك، أنحني أمام الفصول وأطلب منها التوقف حين تمرَين
تصحو الليالي حين تنام ..
أطل عليها وأخفي التوابيت خلفي
أسجد خلف رائحتها فتسجد معي الارض والكائنات ..
أصلي: خذيني إلى بياض رحمك فلم أجد سلماً لأصعد نحو السماء
خذيني..
لا تلديني إلى الارض والناس ...
صباحك الغيم
ضحكتك الشام
يداك المشيئة
وأنا حارس الحلم
أقف على بابك متسولاً أخرساً ..
أقول للهواء قف لا تمر ..إنها نائمة
كمن يمشي على الرؤيا أسير أليها
وكمن يتشبث بالدنيا: أحبها
وهو قليل قليل..
__________________