25 يونيو 2016

من ذاتية الألم إلى ابداع النص


قراءة في كتاب " لأننا لم نفترق "

يقال إن فان كوغ اكتشف اللون القادر على أن يتحدث عن الألم تحف به ألوان الشمس .. 

شدتني قراءة " لأننا لم نفترق " * وقياساً مع الفكرة اعتبرتها صوت يعارض إجحاف الحب ورفض لمجتمع يسامح نزوات الرجل ويتقبلها برحابة صدر ...
هل يقتصر فعل الكتابة هنا على كشف لمعاناة اجتماعية ، أما هي محاولة فطنة لطرح أسئلة وإشراك القارئ في البحث عن علّة الأشياء ؟ .. 

" لأننا لم نفترق " كتاب جاء من حيث التبويب مقسم إلى ثلاثة أقسام : 
1- لأننا لم نفترق .. ويرد تحت العنوان 26 مقطعاً بعناوين جانبية مختلفة 
2- رسائله – النور الخفي 
3- رسائلها – زهرة الغضب 

ورغم عذوبة الرسائل المتبادلة بين البطل والبطلة في القسمين الثاني والثالث و ما تحويه من فيض مشاعر مرهفة ورؤى فلسفية وأبعاد نفسية ، إلا أني سأقتصر في تعليقي على القسم الأول .

في البدء تعلن الكاتبة ليلى مقدسي **وبوضوح بأن كتابها لا يدخل ضمن مسمى الرواية 
" ربما يسامحني القارئ عن كل ما قلته وكل ما كتبته ولا يظن أنه تجديفاً أو غضباً ، كل الظنون ، وكل أقلام النقد التي ستشهر لن تمنعني من البكاء " ص132 

" إذن هي تعرية الذات وتصويراً لأدق للمشاعر .. هي الكتابة إليك ومنك " ص11

ومن هذا المنطلق تتسلح الكاتبة بقلمها لتسطر به نزيف روحها ولنكون شهود الحالة .. فنقرأ معها تفاصيل حب نبتت بذرته الأولى من خلال رسائل متبادلة – نجدها في القسمين الثاني والثالث – 
تلك الرسائل التي حملت طابعاً فلسفياً ووجدانياً ومصيرياً وبسببها استيقظ الاحساس الغافي من سباته ليتبرعم ذاك الانجذاب ويولد الحب رغم معوقات ظروف البطلة مع وضعها الصحي والبيئي ووضعه المادي والمعنوي وأخيراً اختلاف المذهب الديني بينهما .. 

وكادت الحياة تسير بالمركب الزوجي الذي أنتج ابنة وحيدة هادئاً حتى ضفة الأمان لولا شبح المرأة الطرف الثالث والذي تسلل إليهما تحت عباءة الصداقة الفكرية لتتأزم الأمور وتكثر المشاحنات أمام الاقتحام غير المتوقع والذي استمر بطيئاً ومزعجاً .. رغم كل إشارات التحذير والخطر وتأجج النزاعات فقد أدى إلى زواج ثان .. 
ليتقلص الحب القديم الأول ويقتصر وجوده المتقزم على لقاء صباحي يبدأ بسؤال 
- كيف أنتِ الآن ؟ هل تحتاجين لشيء ؟ ص 103

" نلتقي ... بنمط آخر كأصدقاء مقربين وكأحبة متباعدين " ص127
ذلك اللقاء الصباحي الذي يظهرهما معاً وإقامة بعد الفراق البطل في بيته الثاني
" كأنهما يحرسان ضريح الحب .." ص127

هي أحداث واقعية امتد زمنها كما حددته السطور الأولى من الكتاب منذ 1969 وحتى 1997 وتجدر الإشارة إلى أن الزمن لا يسير بخط مستقيم ، حيث أن الأحداث بدأت من الخاتمة – الانفصال – ومع إمطار الذاكرة تتدفق الوقائع حسب تسلسلها الزمني .
اعتمدت ليلى مقدسي في روايتها على أسلوب الاستفهام بأسئلة كمفتتح تأتي بعد أجزاء منتقاة من فكر البطل وكتاباته فاستطاعت أن تثير فضول القارئ ليبحث بين السطور عن الأجوبة.
وقد جاءت التفاصيل مثل خط واه تسرب إلينا عبر إشارات وجمل محدودة ومتباعدة إذ تركت الكاتبة مساحات بيضاء من الإلغاء بسبب الخجل أو الحرج الغريزي من الإساءة للعائلة كما أوضحت في ص 71

ورغم ذلك فقد استخدمت الكاتبة مجموعة من التقنيات الفنية الواعية 
منها الحوار والذي جاء تفسيرياً لحالات الفوضى والتناقض الذي يعيشها البطل المهتم بالثقافة والفلسفة بين ما يؤمن به وما يطبقه على أرض الواقع 
وتتساءل الكاتبة 
" هل الفلسفة مجرد آراء وأفكار تحليلية أظن أن الفلسفة الحقيقية هي تجربة العيش والثقافة سلوك حضاري ينبع التطور ويضبط بإيقاع الأخلاق " ص 54
لم تستغن الكاتبة في الإسلوب الكتابي عن بوحها الشعري والتي دعوتها شعرية الحزن فهي تقول :
" بقيت الستارة التي تلوح من الماضي ، وفقدت قوة بتر الماضي .. ولم تختصر بهاراتك اللفظية وكل يوم ترش ملح الصبر على أصص وحدتي الجافة ، لتنعش موائد ضجر ، وتطعم أعصابي بنهم الشهوة لحطب ذاكرتنا العتيقة ، فأواصل وداعك لكي يوم إلى الباب وعلى وجهك تمازج ألمي ، لأن ابتسامتي مغمسة بالسواد النقي ، فأغلق الباب دونك ووحدتي تنتفض حولي مذعورة " ص45 

" كرهتك بشراسة حبي " ص 109 

وقد امتزجت اللغة الشعرية التي تأتي في بعض المقاطع مع اللغة العلمية التي تأتي في مقاطع أخرى حين تحلل أسباب انكسار الحب في شرقنا : 
"ربما في الشرق لا نحب ، إنما نعيش حالة حب وهمية بسبب انعدام الوعي العاطفي أو نتيجة حتمية للكبت الجسدي ولمؤثرات التربية الخاطئة والأمراض النفسية الموروثة من البيئة والتي تنمو في تكويننا وتصبح مرضاً مستعصياً يصعب علاجه كذلك مورثات المجتمع ومقياسه على سلم التقاليد وذكورة الرجل الحاكم ...." ص 114
كما استخدمت الكاتبة إضافة إلى المقاطع الفلسفية والشعرية التي هي مقتطفات من أقوال البطل مقاطعاً من الكتاب المقدس وأيضاً أقوالاً وحكماً لمفكرين وفلاسفة أمثال 
– فرويد ، أدلر ، يونغ ، سكنر ، ديكارت ، ابن معاذ - مما أضاف قيمة تأكيدية و معرفية داعمة لأفكار الكاتبة .
وقد سعت الكاتبة وبهدوء توضيح وجهة نظر البطل والحديث عن مشاعره المتغيرة وإحساسه بالذنب 
" أعرف أنك تتألم لأجلي ، وأحس أنك تتلوى صراخاً ورفضاً غير معلن ورطتك معها أكبر من أن تحتملها وأنت الشارد المعاند بين فكرك وقلبك بين الرافض والمرفوض .. بين الحارق والخروق وتستمع إلى هذياني بصمت صبور ، وأستمع إلى ضجيج صمتك القاتل وأنت تكسر أحاسيسك على صخر لا يرحمني . " ص 110

كما رسمت وبحنق ملامحاً تحدد ولو من بعيد صورة المرأة – الطرف الثالث – :
" هذه الأنثى مسمومة بمفاهيم خاطئة عن التمرد والعبث والتركيز على الأنا الضخمة وإلغاء الآخر مهما كانت مكانته ودرجة قرابته ، وبأصابعها المتطاولة تملك قدرة رهيبة في كسر أقفال تحصينات عائلية واجتماعية ، وترسم كل صور الشر في الأماكن التي تكون أكثر هدوءاً ومحبة وانسجاماً ." ص 84

ولا ننسى أن ليلى مقدسي نجحت في إطلاق صرختها عبر مجموعة من التساؤلات تدين المجتمع الذكوري وتساؤلات أخرى تبحث عن مفهوم الحرية والزواج الذي يخنق الحب ويحوله إلى شفقة وثالثة عن تناقضات الفكر مع الممارسة .. تلك الازدواجية التي يعاني منها جلَّ أفراد مجتمعنا وغالب مثقفينا - وربما هم تحديداً - لأن الصراع مابين الفكرة وتطبيقها يتحول إلى أزمة نفسية يسقطون بين براثنها في أول اختبار . 
فهي تقول :
" لماذا يحمي القانون الرجل في حالة فورة الدم ولا يحمي المرأة؟.. هل ليس فيها دمٌ يفور مثله في لحظة الخيانة؟"

يقال ما بين الحب الشديد والكره الشديد شعرة ومن هذا المنطلق نتفهم معاناة البطلة ، ونتفهم أيضاً المعنى الملتبس بين الحضور والغياب عند ليلى مقدسي فالحب مازال أخضراً حين تقول 
" أحاول أن أقاوم الدمع كي أعيش فوق درجات الخطر رغم إني أحس الآن أن الواحد يعيش مع الآخر رغم انفصالنا " ص 81 
ومن هنا جاء عنوان الكتاب " لأننا لم نفترق " .. 

ومع خاتمة الحروف المنكسرة تمكنت الشاعرة والكاتبة ليلى مقدسي وبطريقة ذكية لا تخلو من الوعي الاستئثار باهتمامنا ومن ثم تعاطفنا من خلال هذه الرواية والتي " كما عرفت " سيظهر لها جزء ثان قريباً ...

* " لأننا لم نلتقي " رواية صادرة عام 2003عن دار المقدسي للطباعة والنشر والتوزيع 271 صفحة من القطع المتوسط .

** ليلى مقدسي شاعرة من سوريا صدر لها أكثر من مجموعة شعرية : ثالوث الحب - غمامة ورد - وردة أخيرة للعشق - عرس قانا - نص القلب - لغة الجمر . 

سوزان خواتمي 

سيمون دي بوفوار فيلسوفة فرنسا الثائرة




خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تفور في صراعاتها الفلسفية، وثوراتها الثقافية ، كانت سيمون دي بوفورا ورفيقها سارتر يقصدان يومياً جادة سان جيرمان، حيث مقهى كافيه دو فلور، فيجلسان قريباً من مدفأة قديمة ، يتناقشان ، يتجادلان ، ويكتبان.. وكانت الصحف تلاحقهما بمقالات وردود والعداء وهجوم ومديح كونهما الممثلين لفلسفة الوجودية، وغثيانهما الوجودي.
اليوم ومع دخول عام 2008 أعلنت فرنسا استعدادها للاحتفال بمئوية سيدة الأدب الفرنسي وفيلسوفتها الثائرة سيمون دي بوفار تقديراً لطروحاتها الفلسفية ومؤلفاتها الأدبية التي كانت لها الدور الرائد في حركة تحرير المرأة ، ليس على صعيد فرنسا فحسب بل تعداها الى معظم حركات التحرير النسائية في العالم، وقد تمثل فكر دي بوفوار في التأكيد على الهوية والمطالبة بالمساواة.
ماالسبب الذي جعل هذا العالم دائماً ملكاً للرجال؟

أثرت سيمون دي بوفوار بشكل كبير في تشكيل وعي ثقافي جديد بقضية المرأة ففي كتابها
 " الجنس الثاني" الصادر عام 1949 ، والذي يعتبر من أهم اصداراتها، والذي ناقش أوضاع المرأة التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية في العصر الحديث، رابطاً بين وضعية المرأة الفرنسية في القرن العشرين بالنماذج التحقيرية التي حاك خيوطها مذهب القديس طوماس، وفيه اعتبرت دي بوفوار أن المرأة الفرنسية تعاني من اضطهاد نظري تمارسه سطوة الرجل العاطفية عليها ، فيتحول من انسان واقعي إلى رمز شبيه بالآلهة، وإذ ترفض دي بوفوار ظواهر تأليه الرجل والخضوع للحب واعتبار المرأة مجرد" آخر" ، وبحسب دي بوفور" لايولد الانسان امرأة بل يصبح كذلك" إذ ليس ثمة قدر بيولوجي او نفسي او اقتصادي يقضي بتحديد شخصية المرء كأنثى في المجتمع فالأنثى تحوّل إلى امرأة ضمن واقع ذكوري متسلّط تشكّلت شخصيته انطلاقا من مفهوم السلطة التي وضعت ملامحها وحدودها السلطة الاقتصادية عبر العصور والحضارة في أبجديتها وهي التي تصنع هذا المخلوق الذي يقف في موقع متوسط بين الذكر ويوصف بانه مؤنث، و ان الاخر/ الرجل أساس جوهري في صياغة الذات الانثوية والانسانية بكاملها.
ذلك الكتاب أثار الكثير من الجدل مابين مؤيد ورافض ومشكك، وعن العدوانية التي لاقتها جراء كتابة – الجنس الثاني – تقول كاتبته:
"هوجمت خصوصاً بصدد فصل الامومة ، وصرح رجال كثيرون بأنه لم يكن يحق لي التحدث عن النساء لكوني لم أنجب أولاداً ترى ، هل أنجبوا هم .؟ على أنهم كانوا يعارضونني بأفكار ليست دون لك حسماً وقطعاً أتراني قد رفضت كل قيمة لشعور الامومة والحب؟ كلا، لقد طلبت أن تعيشهما المرأة حقاً وبشكل حرّ في حين أنهما غالباً مايخدمانها كحجة، وأنها تخضع لهما إلى درجة أن الخضوع يبقى إذ يكون القلب قد جف"


سيمون دي بوفوار وسارتر
ارتبطت سيمون دي بوفوار طوال عمرها بعلاقة مثيرة للجدل مع الفيلسوف جان بول سارتر واعتبرت لقاءها به " الحدث الرئيسي في وجودها"، حيث عملا بالتدريس في المدارس الثانوية، واستمرت الرسائل بينهما، حتى لحقت به ليكونا معاً فريق عمل متفاهم ومتجانس في كل مجالات الفكر والأدب والسياسة ، وتعاونا معا أثناء الحرب في حركة  المقاومة، فشجع كل منهما الآخر على نشر نتاج فكره، كما قاما برحلات خارجية كثيرة، قوبلا خلالها بالترحاب.. لكن علاقاتهما المفتوحة والتي لم يخلداها برابط الزواج، كانت تمر أحياناً بالغيرة حين كان سارتر يتعلق بهذه أو تلك من النساء ، ويصارحها بذلك، مما يثير عذابها لكن ايمانها بما اعتباراه فلسفة وجودية كان يجعلها تخضع وتذعن،  وحين مرض سارتر في سنواته الأخيرة، وفقد بصره اعتنت به سيمون حتى مات في ابريل عام 1980، وبعد موته اصدرت كتابها" وداعاً سارتر" ، فكتبت عن الرجال الذين احبتهم في ظل سارتر. ونشرت الرسائل المتبادلة بينها وبينهم ، وهذا ما عده البعض بمثابة تصفية حساب معه، خاصة أنه لم يترك لها الوصاية على أعماله الادبية والفلسفية بما فيها خطاباته لسيمون، بل عهد بها إلى فتاة شابة تبناها تدعى " ارليت" كان قد ارتبط معها بعلاقة استمرت سنوات، لكن سيمون أصرت على نشر رسائلهما، وأقامت في شقة تطل على المقبرة التي دفن بها، كما أوصت أن تدفن فيها هي أيضا بعد وفاتها.. وعن تعقد العلاقة بينهما كتبت دي بوفوار "(الحقيقة أنني كنت منفصلة عن سارتر بالقدر الذي كنت التحم فيه مع هذه الشخصية.. كانت علاقتنا جدلية. أحياناً كنت أشعر بأنني على مسافة لا معقولة منه، وفي أحيان أخرى كنت أشعر كأنني النصف الذي يكمل النصف الآخر. أخذت منه وأخذ مني، وبالتأكيد لم أكن تابعة لـه ).
 يجد الكثيرون أن تجربة سيمون دي بوفوار لم تكن مهمة إلا لكونها ارتبطت بفيلسوف مهم هو جان بول سارتر، وفي هذا غبن كبير لأهميتها، فالاثنان لم يشكلا معاً علاقة اعتيادية بل كان ثمة قضايا عالجاها معاً من خلال نقاشاتهما، والتي صدما بها العالم كقضايا الارتباط والاخلاص والخيانة، وقد وصف سارتر سيمون بأنها : تجمع بين ذكاء الرجل وحساسية المرأة، وعلى رغم الدرب الواحد الذي سلكاه، تناولت هي قضايا الواقع الملموس. وقد اختيرت دي بوفوار كرئيسة للرابطة الفرنسية لحقوق المرأة.كما حصلت على جائزة" جونكور" وهي أرفع جائزة أدبية في فرنسا ، وبهذا سبقت سارتر الذي نال نوبل بعد ذلك بعشر سنوات..

أعمال سيمون دي بوفوار

كتبت سيمون دي بوفوار سيرتها الذاتية في أربع كتب : مذكرات ابنة مطيعة- في ربيع الحياة- قوة الظروف – كل شيء قيل وحدث ، في تلك الأجزاء أرخّت دي بوفوار الحياة الفكرية في فرنسا ، وقال النقاد عن تلك الكتب أنها شجاعة وصادقة وتحمل أبعاد الأمانة المفترضة في السير الذاتية.
 أما رأيها الشخصي بما تناولته فتقول عن كتاب الجنس الثاني:
"كان من ألوان سوء التفاهم التي خلقها الكتاب الاعتقاد بأني كنت أنكر فيه أي فرق بين الرجل والنساء، والحقيقة أني بالعكس قست وأنا أكتب الكتاب مايفصل الجنسين، ولكن ماذهبن إليه هو أن تلك الاختلافات هي ثقافية وليست طبيعية ، وأخذت على عاتقي أن أروي كيف كانت تنشأ هذه الاختلافات( ....) وهكذا ألفت الجزء الثاني : التجربة المعاشة"

وعن رواية ( المدعوة) تقول:
كانت الأرض مزروعة بالأوهام المحطمة وهي الاخفاق الذي أزعج حياتي الخاصة هو الذي خلق ( المدعوة) ومنحني تقهقراً بالنسبة لتجربتي الحديثة والرغبة في انقاذها بالكلمات وأصبح ممكنا وضرورياً لي أن أضعها في كتاب.

عن ( المثقفون) تعلق:
خلافا لما ادعاه البعض من الخطأ اعتبار المثقفون رواية مفاتيح، وأنا أحتقر روايات المفاتيح احتقاري لكتب ( الحيوات المروية) (...... ) وأنا لاأزعم أن المثقفون رواية ذات فكرة، أن رواية الفكرة تفرض حقيقة تمحو جميع الحقائق الأخرة وتوقف دائرة الاعتراضات والشكوك التي لاتنتهي: أما أنا فقد صورت بعض أشكال الحياة في فترة مابعد الحرب من غير أن أقترح حلولاً للمشكلات التي تقلق أبطالي.

عن كتاب ( دم الآخرين) تقول:

صدر دم الآخرين في أيلول، وكان موضوعه الرئيس كما ذكرت تناقض هذه الحياة التي عشتها كحريتي والتي التقطها- كشيء- أولئك الذين يقربونني، ولكن هذه المقاصد فاتت الجمهور ، وصنف الكتاب على أنه رواية عن المقاومة.... وصنفت أيضا رواية وجودية وكانت هه الكلمة قد أصبحت تلازم آلياً أثار سارتر وآثاري.

سوزان خواتمي
نشر في جريدة النهار

22 يونيو 2016

شوشو لم يعد صغيراً

 علاقتنا كانت تبدو وثيقة جداً  .. وحميمة جداً .. وأكثر من وطيدة . لم يعرفنا المكان إلا متجاورين ، و نكاد لولا هنيهات غير مقصودة ، لا نفترق .
متقاربان .. متلاصقان ، ولكن رغم كل ما عرفته عن ولعها الفائض ، وتعلقها المطلق ، هاهي قد خانت علاقتنا ، منحت الفراق فرصته بيننا ، وتركتني .
 مرهقة بدت لي ، ومتوترة ، عقصت خصلات شعرها بفوضى تنم على نزق داهمها ، ثم اختفت ..
قبلها بدقائق فقط ، كانت تبدو وكأن لا طاقة لها على فراقي ، تراها غضبت  ؟..
ما عرفتها إلا حليمة هادئة ، تحتمل نزواتي ، وتلبي طلباتي ، حتى حين أشتط ، وأزايد على صبرها .
حين رحلت .. هل كانت تفكر بعقابي ؟ هل تستطيع ؟.
لا .. لم تفعلها قبل الآن  .. لكن قد تفعلها هذه المرة !.. يا للمصيبة ! "

كانت تلك الأفكار الشريرة وغيرها : الأسوأ حتماً ، تراود " شوشو " الطفل الصغير الذي حملته أمه من سريره وتركته وحده ليواجه مفاجأة غيابها ، فيحس بالاختناق والرغبة العارمة في البكاء نحيباً ، لكنه يتماسك ويبتلع غصته ، فلازال بعض الأمل يحدوه بأنها ستظهر بين لحظة وأخرى .
ذلك الصباح عرك عينيه وراقبها من خلال نعاسه ، بدت له لجوجة على غير العادة ، أحس بضيق يمفصل حركتها ، ويجعلها غريبة الأطوار بعض الشيء .
لكنها أقبلت نحوه وحملته بين ذراعيها ، ثم أجلسته في الركن القصي فوق السجادة الملونة ، وأحاطته كما تفعل غالباً ، بوسائد كثيرة ، وأمامه كل الدمى التي تعتقد أنه يحبها  ..
مسحت بدفء كفها الناعم فوق شعره ، ورشفت قبلة ملحنة من خده ، ثم سارعت مبتعدة .
لا يذكر أنها استأذنته لتغيب أو حتى لوحت له مودعة ، الحقيقة أنه لم يعد يتذكر ، ربما تكون قد فعلت ، حين كان  لاهياً بألوان الأرضية ، مربعات من البني والأزرق متشابكة ومتعارضة ، فلم يشعر بها حين غادرت ، لكنه حين رفع رأسه ثانية ، كانت قد اختفت نهائياً ، ليجد نفسه وحيداً في الغرفة .. أفزعه اتساعها !
نظر شوشو حوله .. أمامه .. خلفه .. في كل مكان ، وعلى القدر الذي تكشفه له عيناه الصغيرتان .
 لا أحد ..
فاض صدره بالرهبة ، وطرق الخوف قلبه ، تصبب عرقاً ، فالمكان رغم ألفته يصير بدونها موحشاً وكئيباً .
أين ذهبت ؟ إنه يعتمد عليها بشكل مطلق ، هكذا عودته ، وليكتمل حظه العاثر ، شعر بقرصة جوع لم تمنحه رحمة التأجيل .
في مثل هذه الأحوال ، قبل اختفائها ، كانت تهيأ له صدرها المكور ، فتترطب شفتاه باللعاب ، ويتحلب حلقه، تضمه إلى حضنها  وتفيض فوقه بثديها المتحجر ، تقربه منها أكثر.. فأكثر ، يتلاصقان حتى يكاد لا يميز من ملامحها سوى مبسمها ، تحدق بوجهه طويلاً فيشبع هو قبل أن تفعل هي .
أما الآن ‍‍‍‍..
ذاكرته النشطة عنها ، تعكر مزاجه ، فيقرر أن يرفع عقيرته بالصراخ ، يناديها " ماما "
يخرج من حنجرته صوت حاد ثاقب ودون حروف .. لا تجيب .
محاولة أخرى ، أعلى قليلاً .. حوله لا يتردد إلا السكون ، ألا تسمعه ؟ .
إنها تتجاهله .. إذن سيبكي طويلاً .. سيبكي كثيراً .. ولن يهدأ حتى تعود .
كان ذلك قراره الأول الذي سيصر عليه .
إن العالم الذي يعرفه أو الذي كان يعرفه حتى ساعة خلت ، هو عالم حنانها الهنيء ، يتذكر أن بكائه كان يجزعها فتتحول إلى حدأة تراقبه ، لا يغيب عن عينيها حتى تعرف ما به .
 تظن أنه جائع فتعصر ثديها بين شفاهه وترضعه .. تظن أنه متسخ فتشم رائحته وتنظفه .. تظن أنه متألم فتمسح بطنه وتدلكه .
كانت على كل حال تفيض بكل ما عندها ، وبكل ما بوسعها حتى يضحك ويرضى ، وقتها فقط تبعده عنها تنظر إليه بعيون مطمئنة وتستكين .
منذ التقيا وجهاً لوجه لأول مرة ، حين خرج من أسر جدران بطنها الضيق إلى طوق ذراعيها الحانيتين ، على وجه الدقة قبل ثمانية أشهر وعشرة أيام ، كانت تتصرف كأن لا طاقة بها على فراقه .
يقول لنفسه دون أن يجرؤ على فقدان الأمل  " الآن ستظهر " 
 " ستهرع لحملي "
" ستشاغلني بغنوة ، ستصفر وتنغم كعصفور متنكر بثوب أم .. النغم تلو النغم حتى يطيب خاطري "
كل شيء حول " شوشو " الصغير اليائس يزعجه ويضايقه ، حتى الدمى القطنية التي تراقبه بعيونها الغبية المفتوحة دون أجفان ، إنه لا يحبها ، يضربها بقدمه و يبعدها بيديه الاثنتين ، يريحه تبعثرها ، تستقر بعيداً عنه  ثم يعاود البكاء ، فلا زال يريد أمه ..
لم يبق أمامه إلا التحرك في محاولة جادة للبحث عنها ، فرغم عيوبه المفترضة يعرف الجميع أنه شخصها المفضل ، ما الذي حدث ؟ لا يرتاح إلى غموضها ، ولا طاقة به على اختفائها .
ثقله المكوم يمنعه من النهوض والتحرك على قدميه كما يفعل الآخرون ، فهو لازال صغيراً .
بذكاء استثنائي تخطر له فكرة الاعتماد على مؤخرته ، يجعل منها نقطة ارتكاز ، يستعين بذراعيه دافعاً بقية جسده نحو الأمام .. ينجح في التقدم سنتيمترات قليلة فقط .
التعب يجعله يلهث ، لكن استنشاق رائحتها مرة أخرى يستأهل الجهد الذي يبذله .
بعد قليل من الوقت يصل إلى منتصف الصالة ، يبدو سعيداً بإنجازه ، فقد تحرر من أسر الزاوية القصية ،
و تجاوز كومة الدمى المندهشة ، إنها تحدق به بإعجاب فقد استطاع النجاة من مأزق قلة الحيلة ، سيخبر أمه حالما يجدها ، إنه لم يعد صغيراً  .
ما أجمل الحرية ! نسي بها دموعه فوق خده حتى بردت ربما لأجل ذلك يبدو الكبار سعداء مبتسمين دائماً ، فهو لم ير أبداً وجهاً كبيراً يبكي ..
يتذكر البكاء .. فيستجمع كل صوته ويصرخ من جديد .
فجأة يسمع صوت أقدام فوق البلاط ، ينصت وشيء من الاطمئنان يغمره ، لعلها هي !  كأنها تركض ، تطل أخيراً ..
ترفعه بين ذراعيها ،  تضمه ملهوفة إلى صدرها ، يبلله وجهها الرطب ، وتزعجه تلك الفوطة التي تلف رأسها بها فتبدو له من خلال بقايا دموعه غريبة بعض الشيء ، محمرة الوجنات .

يشمها .. كانت تفوح منها رائحة زكية .
سوزان خواتمي
 قصة قصيرة من مجموعة( كل شيء عن الحب)

17 يونيو 2016

الملفوف الساخن: قصة من مجموعة فسيفساء امرأة

صفعة واحدة .. ثقيلة .. قاسية .. ظالمة .. و كافية  لتنبئه بما قد يليها .
قليل من العنف ، كمزاح ثقيل من صديق سمج جعله يعترف .
- ستنطق يا ابن الكلب .
الكف القاسية هوت فوق صدغه مثل سيخ النار ، أزَّ خيط الألم ، اتقد خده ، فصرخ مستجيراً .
- أرجوك يا سيدي .. سأعترف .
وقد اعترف لسببين ، أولهما انه ابن كلب كما كانت تصرخ والدته حين تفور بغضبها ، والثاني أنه يستطيع احتمال برودة بلاط السجن لسنتين إن وقع بين يدي قاض رحيم أو ثلاث كحد أقصى ، ولكنه لن يحتمل صفعة أخرى من كف الضابط الأخطبوطية  ..
سالت دموعه ..
روى تفاصيل سرقاته على مسامع الضابط :
-  أما ما بقي من المال والذهب فقد خبأته داخل كيس خام في (طاقة ) حمام بيتي ، خوفاً من اللصوص .
- أعطني عناوين البيوت التي سرقتها  يا ذكي زمانك .
   كخطف البرق تذكر : فيلا في الشهباء ، و أربعة بيوت في المحافظة ، وواحد في منطقة الشيخ طه ، ومحلان في التلل ، وأشرطة كاسيت من سيارة كانت مفتوحة أمام أحد دور السينما ، محفظة صبية في إحدى سيارات السيرفيس ، هاتف نقال .. سطل لبن من دكان جارهم أبو يوسف  ..
استغرق الاستجواب الليل بطوله .. وحين غمر ضوء النهار صفحة السماء .. أغلق الضابط المحضر على أقواله ،  أطفأ المصباح الجانبي .. تمطى متثائباً لاعناً حرامية منتصف الليل  .
رماه الشرطي في زنزانة رطبة ، وناوله بطانية تفوح منها رائحة عرق حادة ، بين عظام جسده المتكومة و البلاط البارد المتسخ ، بساط لا لون له ، ذاك تفصيل لا أهمية له ، فالإعياء نال منه ، ثنى مرفقه تحت رأسه ، لملم باقي جسده على نفسه ، أغفى متعباً ، وشوق حثيث لحضنها الدافئ يتسرب بين مفاصله ، يهدهده حتى ينام  .
*******
ظهيرة البارحة فقط كان أسعد رجل في العالم . يطحن بين أضراسه لقمة ساخنة تغلي ، فهو يحب محشي الملفوف المحمّض بدبس الرمان الذي تطبخه زوجته نجاح وتقدمه له ملهلباً .
 نجاح ست بيت شاطرة ولا كل الستات ، لها نفس طيب في الطبخ والنفخ ، حمامها ومطبخها يشعان نظافة ، إضافة إلى أنها تنقلب امرأة مثيرة حين تقشر له التفاح وتلقمه الفصوص بيدها ، فيقضمها ثم يأتي على الأصابع الملونة بالأحمر القاني .
قال له أبوها : خذها بالثوب الذي عليها ، وزغردت زوجة أبيها .
أحبها منذ كانت تلعب على رصيف الحارة ، وانتظرها بعين قلقة حتى تكور نهداها .
حين ضمها إلى صدره  صار أكثر الرجال سعادة .
غرفة فوق السطوح بملحقاتها كانت كافية آنذاك ليعيشا نعيم الحب .. متى كبرت أحلامهما ولم يعد المكان يتسع  ؟  
حين تزوج نجاح ، كان يعمل سائقاً لشاحنة المعلم حسن يسافر بحمولة الخضار والفواكه من حلب إلى السعودية ، جلوسه وراء المقود في عتمة الليل وغبش الطرقات الموحشة لم يكسبه الثروة التي تذيقه طعم الملذات ، بل إن صوت أم كلثوم الذي يرافق دربه كان يجعل من قلبه خرقة بالية يعتصرها الشوق إلى دلال نجاح وغنجها .
تقول له وهي تدلك وتاب رقبته : البيت فاضي من غيرك يا حمودة  ...
كانت تتشيطن تحت لحافه وتسأله بهمس مبحوح : متى ستشتري لي مبرومة الذهب التي وعدتني بها ؟.
يرتجف فؤاده هلعاً . ما أقسى زعلها حين يتلاقى قوسا حاجبيها ويتغضن جبينها على هم الوعود التي لا تتحقق!
نجاح  تستاهل سوق الصاغة بأكمله ، لكن " العين بصيرة واليد قصيرة " فكل ما اشتراه لها : حلق تخشخش كراته في أذنيها كلما حركت رأسها  .
ظل فقيراً ..
عاد ذات ليلة ، ورأى نجاح تبكي وبدنها يرتجف من الحرارة .. لم يكن يملك ثمن الدواء حملها وركض بها إلى العيادة الليلية المجانية .. ساعة انتظار ، وتكشيرة الممرضة ، وتثاؤب الطبيب المناوب .. 
اتخذ قراره : سيشتري لنجاح الأساور التي تريدها . 
حظه العاثر جعل جرس الإنذار يرن وهو يحاول دخول أحد البيوت ، وبغمضة عين أحاط به كل شرفاء العالم .
*******
نخز الشرطي خاصرته فانتفض مرعوباً .. عرك نعاس عينيه .. لملم أطراف سترته حول صدره ، وتبع خطوات الشرطي الثقيلة .
ضابط الليلة الماضية ، يرتشف الشاي الساخن وبجانبه مدفأة تتقد نيرانها .. شعر بالحرارة تفكفك عظامه المتجمدة .. أراد أن يقترب أكثر ، خده الأزرق والجرح الصغير عند زاوية فمه جعلتاه يتراجع عن الفكرة .
أنار الضابط ثريا ابتسامته العالقة فوق فمه ثم لعقها بلسانه قائلاً :
- لديك زيارة ..
حرك حاجبيه بخبث ثم أضاف :
- حريم .
غيظ يتقد برأسه كجمرة في مهب الريح : لحن قديم  .. خشخشة أساورها .. برد عظامه .. دفء حضنها .. ليل الطرقات الموحش .. الصفعات المؤلمة .. رائحتها .. ولقمة ساخنة من محشي الملفوف تحرق سقف حلقه .
     ما أن لمح وجه نجاح الطافح الحسن يطل بشبابه من شق الباب حتى وثب إليها كنمر غاضب .. رفع يده إلى الأعلى .. وهوى صافعاً اندهاشها ، ومن غير أن يكترث لدموعها النافرة وصرخة الألم التي فلتت منها ، أدار وجهها نحو باب الغرفة ، ودفعها بقسوة من بين كتفيها إلى الخارج .
زعق بصوت جهوري هز جدران غرفة المحقق الضيقة :

- إياك أن تأتي إلى هنا مرة أخرى لأي سبب .. أتفهمين ؟ ... لأي سبب .
سوزان خواتمي
الفضاء الواسع.. ذاك الذي يقودني إليك بخطى من مطر

سوزان

16 يونيو 2016

سوزان خواتمي في مجموعتها القصصية «فسيفساء امرأة»/ عدنان كنفاني

ترصف القاصّة «سوزان خواتمي» في مجموعتها القصصية الثالثة، لوحات فسيفسائية للمرأة، وقد وفقت أيّما توفيق في إطلاق عنوان واحدة من قصص المجموعة على المجموعة كلها، لأنها استطاعت ومن خلال القصص الـ 24 في المجموعة أن تشكّل لوحات فرحة وحزينة، جميلة وقاتمة، متكبّرة ومظلومة، كلها من الفسيفساء، ومن ألوان قطعها الصغيرة بألوان زاهية تارة، وبألوان باهتة تارة أخرى، لكنها لا تخرج عن منظومة الكاتبة الأقدر على الحديث «من الرجل على الأقل» عن المرأة عبر مفاصل قد تبدو لنا عادية لكنها وكما قلت مراراً تلمس بذكاء تلك الخفقة التي تحاول أن تختفي وراء لفتة أو حركة عابرة للمرأة في كثير من أطوار حياتها. 
وتمسك بتلك الومضة الخفيّة التي تفصل بشفافية بين الرومانسية والواقع في فكر وتصرفات المرأة، ومواجهتها لأحداث تمرّ في مسيرة حياتها، ولست أعني ما يتعلّق بالعاطفة فقط. وكأن الكاتبة تكشف لنا بعض أسرار عن المرأة في بعض تصرفاتها سواء باللفتة أو الحركة أو الكلمة. ‏
ولست أحابي إذا قلت بأن القاصّة تمسك بالقارئ عبر ومضات يكتشف بعد أن يسبرها بأنها حقيقية لكنها كانت متوارية وراء قشّة، ولم ينتبه إليها أو أنه بأحسن الأحوال لم يفهمها من موقعه كرجل، لكنها تلك الومضة التي تعبر بجلاء عن المرأة، وبعض أسرارها. ‏
وكسبيل لشرح فكرة لم تغادرني أبداً أستطيع أن أؤكد بأن الأدب وحدة لا يمكن أن يتجزأ إلى أدب ذكوري أو أدب نسوي، لكنها بالتأكيد قدرة أكبر من المرأة الأديبة التي تمتلك اللغة والفكرة والموهبة والذكاء والإمساك باللحظة لتعبر عن المرأة بما لا يمكن للرجل أن يتحسس تلك الأحاسيس التي تجاهد المرأة أيّ كانت على إخفائها، إما بسبب الخَفَر الفطري أو بسبب رغبتها كأنثى بعدم ظهورها ضعيفة ومستسلمة ولاهثة. ‏
في قصّة فسيفساء امرأة، (وأنا آخذها هنا كأنموذج لمجموعتها) تشتغل الكاتبة على بناء الحدث من خلال أدوات فنيّة عالية الإدهاش، وبأسلوب حداثي، وتخرج من قيد التركيبات الكلاسيكية للقصة، وتلعب لعبة الارتداد والقفز فوق المساحات الزمنية والمكانية، فنكاد لا نستشعر الزمان ولا المكان، وتبقى مجموعة الرموز الهاطلة بين كل جملة وجملة تستنزف الكاتبة، وتعبر عن حرصها كشف المكنون غير المنظور ليس لبطلة القصة فقط ولكن للمرأة بالعام، تغرق أحياناً في شعرية اللغة، وتحرص أحياناً على توصيل فكرتها، فقد بدأت القصة بجملة مدهشة إذ قالت: ‏
«جاء وقت الحب..!» ‏
ونحسب أنها تلك البداية التي تستنفر مشاعر أيّ أنثى مقبلة على قصة حب، لكنها تفاجئنا بتفاصيل تبعدنا تماماً عن رومانسية الفكرة لنستغرق في مكنون تصاريف أخرى رغم أنها تنبض في صدر البطلة رغبة ولهفة لكنها تقطر خيبة وجفاء عبر رحلة عمر لطفلة «لم يكن مجيئها إلى هذه الحياة سهلاً» ‏
حتى وهي في الخامسة تلعب مع «ابن الجيران الذي يشبه مايكل جاكسون» تستشعر ضعفها من خلال إرادة داخلية تستصرخها لتبدأ رحلة أنوثتها، وتقبل راضية أن تكون تحت وصايته. ‏
«يدافع عني بضراوة، ألوذ خلف ظهره مدّعية الخوف، لأتقن ـ دون أن أدري ـ أول أدوار حوّاء المسرحية» ‏
هنا تستوقفنا الجملة لنتساءل: هل حقّاً كانت تجهل الهدف من ذلك السلوك.؟ وهل حقّاً أتقنت الادّعاء بأنها لا تدري.؟؟ أم أنها تتقن ككاتبة وكأنثى تفسير الأنثى من خلال تلك اللفتة العابرة.؟ أو أنها تدلي بمؤشرات تعريف عن المرأة.؟ أو إعلان رفض صامت.؟ فقد وردت في مجموعتها كثير جمل قد تكون خارجة عن مسار النص لكنها تلفت بها إلى شيء يؤرّقها فتسيّلها بيسر.. في قصتها الأولى في المجموعة «أحدنا كان يرتعش» نستطيع أن نتبيّن هذا بجلاء من خلال ما أوردته في نهاية القصة كتعبير عن صمود ابنتها في أول يوم لها في عالم جديد.. المدرسة، فتقول كتعبير عن تمرّّدها هي: ‏
«يطمئنني تعقّلها، صغيرتي تتصرّف كما يُنتظر من النساء.. هنّ خلقن للطاعة، وللآخرين حقّ الشغب» ‏
وتعبّر بقسوة وبكلمات مشحونة بمعاناة مكبوتة طويلة تتفجّر لحظة مات زوجها في قصّة «فسيفساء امرأة»، وكان من المفترض أن تكون لحظة فقد قاسية عليها: ‏
«غاب زوجي في مقبرة العظام إلى جانب ثلاثة أجداد ماتوا بالآفة نفسها، ذلك لم يعن لي إلا مكاناً أفسح من السرير، وصحناً أقل فوق المائدة» ‏
وقبل أن نشعر بالغرابة من ذلك الاعتراف الدوني الخالي من الوفاء تقول: ‏
«الحب الذي بدأت به حياتي معه تحوّل إلى خيبة، ثم إلى شفقة» ‏
وبعدها لا يهمني أنا كقارئ أن أغوص في التفاصيل والأسباب فقد أوصلت لي فكرتها وفهمها ومشاعرها نحو العلاقة الزوجية كلها. ‏
وهذا ما دفعها لتواصل رحلة حياتها مدفونة بالعمل والعمل وحده إلى أن وبعد أن بلغت الستين: ‏
«أسافر في إجازات استرخاء أحتاجها بين الحين والحين، في صالة الانتظار لأحد المطارات الكبيرة شاب وسيم يجلس إلى جانبي...» ‏
وتغادرنا القاصّة وبطلتها بجملة إشكالية مفتوحة : ‏
«إنه جسد ينزع للهرم ـ لا حيلة لي ـ لكن تحت شيخوخة الأدمة حيوية امرأة شابّة بدأت للتوّ» ‏
لقد استطاعت القاصّة سوزان خواتمي أن تؤكد بجدارة المرة تلو المرة قدرتها على التعبير عن أحاسيس المرأة، والدخول إلى المكنون الخفي الذي يبرز المرأة من خلال كثير مفاصل تمرّ بحياتها، وهذا ما كنت تحسسته منها منذ أول قراءاتي لأدبياتها. ‏
ورغم ذلك، فإنني أعود ثانية لأقول بأنها وفي كتاباتها محاصرة بالنفس القصير، ولعّلها دون أن تخطط لذلك تبدو بعض قصصها تائهة تدور في لا مكان، ولا زمان، وكان يمكن أن تفرد أشرعة إبداعها أكثر في بعض القصص كي يشعر القارئ باكتمال الفكرة في إطار مكان وزمان، وفي أحايين أخرى وهذه مشكلة يقع فيها كثير من الكتاب المبدعين عندما تأخذهم جمالية اللغة فتطغى على الحدث، أو تأخذهم ديناميكية الحدث فتبعدهم عن جمالية اللغة. ‏
قد لا أستطيع في هذه العجالة أن أفي المجموعة حقّها من القراءة ـ ولا أقول النقد أو الدراسة ـ لكنني بالتأكيد أجد من الواجب أن أمرّ بكثير من الشكر والعرفان وأنا أقرأ مجموعة قصص على هذا المستوى من الصدق، وهذا وحده ـ وسط طوفان الكتب الهابطة التي تغزونا بتفاهات من كل شكل ولون ـ مدعاة لنقول إن فنّ القصّة تحت عنوان الأدب النثري الحكائي الحديث «في دائرة حداثة لا تمتهن اللغة» سيبقى بخير ما دامت في حيواتنا الأدبية أقلام وأفكار نظيفة وصادقة. ‏
ہ فسيفساء امرأة: مجموعة قصصية صادرة عن اتحاد الكتاب العرب 2004/24 قصّة 148 صفحة من القطع المتوسط ‏
ہہ سوزان خواتمي: أديبة سورية من حلب صدر لها مجموعتان قصصيتان : ذاكرة من ورق 1999.. وكل شيء عن الحب 2001. ‏

الشاعر والاديب عدنان كنفاني 
جريدة تشرين 

سقوط الضعفاء الموجعِ في شرق الجحيم.. "عشر خيباتٍ لمولود.. نموذجاً" : حامد عقيل






في البدء:
العمل السردي ليس مدونة مطابقة للواقع، وليس محاكاة له، بقدر ما هو خلق لواقعٍ موازٍ، أو بديل بمعنى أدق. لكن الفن لا يكتمل إلا حين يجعل من التأثير في متلقيه هدفه الأول والأسمى، فليس هدف الفن أبدا أن يوصل رسالة مجرّدة، أو أن يؤكد حقيقة ماثلة، أو أن يعمد إلى الإفهام عمدا، ولعل في إحدى مقولات أرسطو ما يجعلنا ندرك في أي جانب تكمن عظمة الفن: "إن أعظم الفنون نبلا هي التي تؤثر على العقل وعلى المشاعر أيضا" (1)، فهو اكتشاف يثري العقل ببعده المعرفي المنطوي على وجود الجديد، لأن للقراءة بعدها المعرفي. عندما كنتُ معلّما، كنتُ أناقشُ مع طلابي –في المرحلة الثانوية- بعضا من هواجسي حول الأبعاد الفلسفية لاكتمال المعرفة، فنحن نستطيع أن نصدّق طفلا لم يغادر منزله –مثلا- حين يقول إنه مكتمل المعرفة؛ محيطٌ بكل ما حوله، ولكنه بمجرد أن يفتح الباب على الحديقة سيدرك جهله، رغم أن فعل الخروج من المنزل كان إضافة معرفية لمعارفه السابقة، إلا أنه يكشف له جهلا مريعا بأشياء كثيرة لم يكن ليدرك جهله بها لولا تقدمه خطوة واحدة نحو الباب، ثم فتحه على عالم من الأسئلة التي تتوالد كلما تقدّم خطوة أخرى.
إنها المعرفة، فكلما ازدادت، كلما ازداد علمنا بجهلنا، ويزعم أنه عالم تماما كل فرد جهل جهله، إذ لم يجرؤ على التقدّم للإمام. ولعل فعل القراءة –في كلّ مرّة- ما هو إلا خطوة نحو باب حين نفتحه فإننا نغامر باكتشاف ما لدينا من معارف، ونضيف معرفة إلى معارفنا السابقة التي تؤكد حاجتنا للمزيد من المعرفة، ومع المزيد من المعرفة يكبر إدراكنا لما نجهله من جوانب كثيرة في هذا العالم.
كما أن القراءة، عندما تتصل بالفن تحديدا، فعل مشاركة للكاتب –ليس في البناء المعرفي فحسب- ولكن في الانفعال النفسي بالعمل الذي نحن بصدده، إذ لا يمكن أن يكون العمل الأدبي منطلقا في رسم شخصياته وأحداثه وبيئته من فراغ، ولا يمكن بالطبع أن يخلق من الحدث -باعتباره أفعالا متتالية ومتشابكة- نصّا أدبيا فاعلا دون أن يبث بين ثناياه ما يبرر هذه الأفعال، فندرك الدوافع التي تجعلنا نستطيع الحكم على صيرورة الشخوص وتحولاتهم داخل العمل الأدبي، وكذلك مصائرهم التي انتهوا إليها.
وبهذا، فإن أجمل المعارف هي ما يسربه إلينا الفن، وأسمى الانفعالات هي ما يصبغنا به عمل فنّي رفيع كان من أبرز أهدافه خلق الأثر في دواخلنا، وليس تقديم الواقع في صيغةٍ مسطّحة لا تثري العقل، ولا تحرّك المشاعر.
من أين يبدأ التأويل:
يشير "رولان بارت" إلى عدم الحاجة إلى منهج لساني محدّد لتحليل النصوص، فعملية التحليل خاضعة بشكل كبير لاكتشاف الناقد لشفرات العمل الأدبي الذي هو بصدد تحليله، وهذه الشفرات هي الموجّه الرئيس لعملية التحليل، كما "لا يمكننا أن نبدأ بتحليل نص دون أن تكون لنا نظرة دلالية أولى (على المحتوى)، سواء من زاوية الموضوع أو الرمزية أو الأيديولوجيا. وما سيبقى من عمل يتجلى في متابعة الشفرات الأولى، وفي الكشف عن العلامات، وفي تتبع المقاطع" (2).
ولعل في المقولة السابقة ما يفيد كثيرين من النقاد المبتدئين الذين يرهقهم البحث الدائم عن أدوات إجرائية تطبيقية لمناهج النقد اللساني. كأن يبحث عن الأسلوب الإجرائي للمنهج السيميائي (3) في تناول نص ما. ولابد هنا من الإشارة إلى أن المناهج اللسانية كافة لا تمتلك الأسلوب الإجرائي التطبيقي المحدد -والخاص بمنهج دون سواه- بقدر ما توجه الناقد لاختيار النظرية التطبيقية المناسبة من مجمل نظريات جمالية التلقي، أو النظريات الموجهة للقارئ، والتي يمكن استخدام أحدها كأداة في قراءة نص واحد من منطلقين نقديين متعارضين تماما، وسأضرب على ذلك مثلا.
يمكن أن أستخدم نظرية "تقاليد القراءة" لجوناثان كولر لقراءة نص أدبي قراءة هرمينوطيقية، كما يمكنني استخدام ذات النظرية لقراءة النص ذاته قراءة تفكيكية، على ما بين هذين المنهجين من تضاد في نظرة كل منهج منهما للتأويل وطبيعته ، وعلى ما بينهما من اختلاف حول انسجام النص الأدبي من عدمه (4). كما يمكن استخدام ذات النظرية لقراءة النص سيميائيا، أو لقراءته قراءة بنيوية، وما إلى ذلك.
إن الحدود الفاصلة بين مناهج النقد الأدبي الحديث تبدو لأول وهلة حدودا واهية، وهذا ما يبرر الخلط الكبير بين هذه المناهج وأيها أعم وأشمل من الآخر، إضافة إلى توهم أن هذه المناهج مناهج نقدية بالأساس، في حين أن لكل منهج منها منطلقاته الفلسفية العميقة التي تتجاوز "الأدب" إلى ما عداه من العلوم الإنسانية الأخرى.
إذن، الوصول إلى جوهر النص، وتحليله يخضع للبعد الفلسفي الذي يقوم عليه المنهج اللساني، ولكن هذا المنهج أياً كان لا يمتلك إجراء خاصا به لقراءة النص، إنما هو موجّه للنظريات الإجرائية المستقلة عن المناهج النقدية تماما في بنيتها النظرية، والخاضعة لها أيضا من الناحية العملية حين يتم تطبيقها تحت أي من هذه المناهج. وفي التأويل تحديدا -وللتدليل على أن لا نظرية خاصة بأي منهج نقدي- نرى التفكيكيين ينظرون إلى تأويل النص الأدبي على أنه "تيه فعال ومنهجي" بحسب دريدا (5)، بينما "بالنسبة للسيميائية لا وجود للأدب، ولا يوجد إلا باعتباره كلاماً أو بالأحرى باعتباره موضوعاً جمالياً. إنه ممارسة سيميائية خاصة تتميز عن باقي الممارسات بكونها تجعل إنتاج المعنى قابلاً في إشكاليته للاحتواء والإمساك" (6)، فالسيميائية "تعتبر جزءا من اللسانيات: وهي أساساً، الجزء الذي يعتني بأهمية الوحدات الكبرى الدالة على الخطاب" (7)، ولكنها كالتفكيكية لا تقترح أسلوبا إجرائيا خاصاً بها لتحليل النّص، فحين يعمد التفكيكيون إلى نصح المحلل بتقويض النص الأدبي وإعادة بنائه، فـ "إن النماذج السيميائية المصاغة حول (...) النصوص الحديثة انطلاقاً منها، حين تتجه –وهي تتجه نحو النص الاجتماعي- نحو الممارسات الاجتماعية تعتبر الأدب صيغة من صيغها" (8).
وعليه، يمكنني القول –على ما في هذا القول من مخاطرة قد يعتقد البعض فيها صبغة التبسيط والمقاربة- إن المناهج النقدية تخضع النص لفلسفتها التأويلية مستخدمة أياً من نظريات التحليل المتعلقة بجماليات التلقي، وذلك وفق ضوابط يحددها كل منهج لكي يصل إلى الفهم الأقرب لجوهر النص، فالنظريات الأدبية الحديثة ترى في العمل الأدبي عملا متعدد الوجوه والمستويات ولا يمتلك حقيقة جوهرية واحدة، و هذا ما يعني أن القارئ مشارك في إعادة إنتاج النص بمقدار ما هو قادر على البحث عن المعاني الخفية فيه. هذا بالطبع لا يعني أن جميع النصوص قابلة للتأويل بسهوله، فهناك نصوص مفتوحة الدلالة قابلة بذلك للتأويل، و هناك نصوص مغلقة لكنها أيضا قابلة للتأويل – وإن بدرجة أقل-، "إن كل عمل فنّي حتى وإن كان مكتملا ومغلقا من خلال اكتمال بنيته المضبوطة بدقّة، هو "مفتوح" على الأقل من خلال كونه يؤوّل بطرق مختلفة دون أن تتأثر خصوصيته التي لا يمكن أن تُختزل. ويرجع التمتع بالعمل الفنّي إلى كوننا نعطيه تأويلا ونمنحه تنفيذا، ونعيد إحياءه في إطار أصيل" (9)، وعليه، فالتأويل متعة؛ متعة من حيث الكشف عما استغلق فهمه من النَّص، ومتعة مشاركة المبدع في إعادة إنتاج أثره الفنِّي، لكن كل ذلك لا يعطينا الحق في اعتساف التأويل من أجل التأويل فقط، أو أن يقوم المؤوّل بـ"إدخال النّص إلى رحى تستجيب لغاياته" كما يقول رورتي (10).
عشر خيبات لمولود والمنهج:
انطلاقا من مقولة رولان بارت السابقة: "لا يمكننا أن نبدأ بتحليل نص دون أن تكون لنا نظرة دلالية أولى (على المحتوى)"، ومن خلال هذه النظرة الأولى التي تكون على شكل توقعات نبدأ بإدراكها مع بدء القراءة-وما يلي ذلك من استمرار في القراءة للعمل الأدبي ما هو إلا تأكيد لهذه التوقعات أو نفي لها وإحلال لتوقعات بديلة-، فإنني سأبدأ بأولى ملاحظاتي على قصة: "عشر خيباتٍ لمولود" (11) للقاصة السورية: سوزان خواتمي، إذ يسهل منذ القراءة الأولى لها توقع البعد النفسي الذي ترتكز عليه القصة من خلال مفرداتها، وهذا ما تسميه السيميائية الوحدة الكبرى الدّالة على الخطاب. فالقصة تدور حول امرأة عاقر نجحت في المحاولة الحادية عشرة من مجموع محاولاتها إنجاب طفل أنابيب. لكن القصة تتخذ أسلوباً سرديا معتمداً على المنولوج الداخلي للساردة/البطلة. ولعل ما جعلني أجزم بالبعد النفسي للقصة هو ما وجدته من شفرات بثتها الكاتبة بأسلوب إيحائي غاية في الروعة والأناقة، وهذه الشفرات هي ما يشكل أولى الدلالات الظاهرة التي توجه القراءة، وتدفعها للسير في هذا الاتجاه، وهي "علامات سيميوطيقية"(12)، بدأتْ منذ السطر الأول، وتلتها الكثير من العلامات/الشفرات التي دعمتها بشكل قوي، وحدّدت الوحدة الكبرى الدّالة على الخطاب في هذه القصة القصيرة.
في البحث عن التوقعات:
إن ما يوجه القارئ إلى بناء التوقعات الأولى عند شروعه في قراءة النّص هو ما يبثه الكاتب من علامات سيميوطيقة ظاهرة بوصفها دالاً تحيل إلى المعاني الضمنية للنّص بوصفها مدلولا، ومن خلال هذه الدوال/الشفرات يمكن بناء التوقعات واختبارها خلال توغلنا في قراءة النّص باتجاه نهايته، وعند نهاية قراءتنا للنّص سنكون قد وصلنا إلى الدلالة الأولى (بحسب رولان بارت) أو الوحدة الكبرى الدالة للخطاب (بحسب المنهج السيميائي). فالدلالة الظاهرة: "هي الدلالة التي تبدو من خلال المعاني الظاهرة في النص (...)، كما قد ترتبط بالإشارة إلى عوالم رمزية خاصة بالذات الراوية، وهي بمثابة رموز نصيَّة منوعة، لها دلالة الجمع بين الإشارة الظاهرة للفظ، والإشارة الدلالية للنّص، بغية التعبير عن الواقع المعيش، وفيه تتحدّد اللغة ببعد ظاهري، يتوافق والأبعاد الدلالية والوجدانية في النّص الإبداعي" (13).
العلامات السيميوطيقية للقصة والدلالة الأولى:
"يتكون السياق اللغوي من أنظمة سيميوطيقية ذات بعدين: دال ومدلول، فالدال هو الشكل والمدلول هو المضمون الذي يختفي خلفه نظام معقد من القيم الفكرية والاجتماعية" (14). فما العلامات السيميوطيقية التي بثتها سوزان خواتمي في قصتها من أجل أن نبني توقعاتنا في طريق إدراكنا للدلالة الكبرى للنص.
إن أبرز الشفرات السيميوطيقية في قصة "عشر خيبات لمولود" جاءت من خلال الأبعاد الثلاثة التالية: البعد النفسي، وبعد الرفض، وأخيرا البعد اللوني ، وهي كما يلي:
أ) سيميوطيقيا البعد النفسي:
منذ الجملة الدلالية الأولى والرئيسة للنص تضعنا القاصة في مواجهة أولى الشفرات النفسية ألا وهي "الخيبة" ، والتي تعني في اللغة: "عدم تحقق الأمل بنيل المطلوب" (15)، ثم تبدأ العبارة الأولى في النّص بتكريس هذا البعد النفسي لشفرة "الخيبة" من خلال إيراد شفرتين نفسيتين: "أطرافك مقيّدة، وأضلاعك تؤلمك، كنت محشورة بين الغضب والذل دون مساحة إضافية ولو بسيطة للتحرك"، حيث ترد مفردتا: الغضب الذي يعني "غيظ وانفعال وغليان دم القلب" (16) ، و الذل الذي يعني "هوان وحقارة وانقياد وخضوع، وسهولة ولين" (17)، ثم تأتي شفرة الغيظ: " وتكزين على أسنانك غيظا" والغيظ يعني : " شدّة الغضب" (18)، ثم تأتي شفرتا القهر والألم أيضا لتكريس هذا البعد النفسي للخيبة وتكثيفه: "تصلك ضحكة أمك المجلجلة فتتميزين قهراً... لماذا لا تشعر بآلامك؟ ألا تملك قلب أم؟" ، فالقهر " أرسله قهرا أي بغير رضاه، جبرا" (19)، والألم يعني: "وجع شديد" (20)، مع ملاحظة أن الألم هو أشدّ العلامات السيميوطيقية حضورا وتكرارا في هذا النّص لأنه يرمز للبعدين النفسي والجسدي، فالبعد النفسي للألم يدعمه ما في النص من شفرات دالة على وجود ألم نفسي، والبعد الجسدي يدعمه ما توصله لنا القصة من وصف لحالة بطلة السرد التي تبدأ في سرد معاناتها بعد انقضاء عملية الولادة مباشرة، كما يدل عليه المكان الذي هي فيه ألا وهو المستشفى.
ثم تتكرر العلامات السيميوطيقية الدالة على البعد النفسي منذ بداية النّص إلى نهايته، لتكوّن في مجملها مدلولا قويا للحالة النفسية لبطلة القصة.
ب) سيميوطيقيا الرّفض:
يظهر جليا من القراءة الأولى للنّص أن أفعال التمرد والرفض موجودة بشكل جلي، فالعبارة الأولى: "أطرافك مقيّدة" هي أول جملة تأتي بعد العنوان، تليها جملة "ها أنتِ تصرخين، وتكزين على أسنانك غيظا، وتعاودين الصراخ بعلو صوتك ولكن لا حظ لحنجرتك الناشجة .. لن يغيثوك" ص(73). ثم جملة ثالثة، في معرض حديث بطلة السرد عن أمها: "لو أنها ربتت على أوجاعك يوماً .. لو سمحت لك بضرب قدميك على الأرض احتجاجاً، وصفق الأبواب غضبا، لهربت من فخاخ التهذيب المزيف إلى فضاء المشاكسة المغري، لكنها لم تتقن شيئاً كإتقانها للوعظ وإسداء النصائح الخرقاء" ص(73).
وبإحصاء علامات الرفض في الأسطر السابقة نجد المفردات والجمل التالية: "قيد، صراخ، تكزين على أسنانك، تعاودين الصراخ، لو أنها ربّتت، لو سمحت لك بضرب قدميك على الأرض، الاحتجاج، صفق الأبواب، فخاخ التهذيب المزيف، فضاء المشاكسة المغري، الوعظ، النصائح الخرقاء". وهي في مجملها دوال لمدلول واحد هو رغبة بطلة السرد في التعبير عن سخطها ورفضها لما يحيط بها من ممارسات اجتماعية أدتْ بها إلى ما هي فيه من ألم نفسي.
إشارة:
العلامات والشفرات السيميوطيقية السابقة تم رصدها في الصفحة الأولى فقط من القصة، أي الصفحة(73) من مجموعة فسيفساء امرأة. وذلك للتأكيد على أنها هي من ساهم في بناء توقعاتي الأولية حول النّص والتي كنتُ أختبرها إلى نهاية النّص، ولعلكم حال قراءة النّص ستجدون أن هذه العلامات تتكرّر بشكل منتظم وبصيغ متعدّدة لتكريس هذا البعد الدلالي الأولي كما يشير رولان بات.
ج) سيميوطيقيا اللون:
يحضر اللون في قصة سوزان خواتمي، وتحديداً تحضر ثلاثة ألوان هي على التوالي: "الأبيض" ص(74)، و"الأصفر" ص(75)، و"الأزرق" ص(75).
فاللون الأبيض لون الغرفة: "الغرفة واسعة بيضاء كغيمة صيفية تعبق بأنفاس الزهور"، والأصفر لون أسنان الممرّضة، المنسحب على لون بشرتها أيضاً: "ابتسمت هي، فانكشفت أسنانها الصفراء المتماشية كثيراً مع شحوب بشرتها"، أما اللون الأزرق فهو لون القماش اللمّاع الذي يبطن السلّة التي وضِعَ فيها الطفل: "كنت تقولين لها إنك تتألمين، حين لمحت خلفها سلة مبطنة بقماش أزرق".
وقبل الخوض في معنى اللون كشفرة سيميوطيقية داخل القصّة لا بد من الإشارة إلى:
1) ليس للبعد السيميوطيقي اللوني علاقة بتحديد الدلالة الأولى لديّ عن محتوى القصة.
2) لا يمكن تحميل معنى سيميوطيقي لوجود اللون داخل قصة سوزان خواتمي وفق سياق ثقافي قرائي بحت، حيث يخضع هذا البعد للخبرات الحياتية التي تحدّد المعنى الضمني للدال السيميوطيقي في بيئةٍ معيّنة دون سواها، وهو ما قد يختلف في بيئات أخرى.
3) أن ما سأطرحه من بعد دلالي للّون في قصة سوزان خواتمي يخضع بدرجة كبيرة لمحاولة التوفيق بين البعدين السابقين، أي النفسي، والاجتماعي المتمثل في رغبة بطلة القصة في ممارسة الرّفض، حيث تشكل الألوان الثلاثة مدلولا واحدا يمكن تأويله على أنه رغبة في الانعتاق، والدخول إلى حالة لامتناهية من النسيان.
وبالنظر على ما ترمز له الألوان الثلاثة سنجد أن اللون الأبيض: "غيبوبة الألوان لأنه يشبه الصمت كونه يحوي على كل إمكانيات المباشرة، ولأن كل شيء يختفي فيه، كما أنه يوحي بحالة من سكون الأصوات، إنه يخفي قدرات لامتناهية، ويدل على أماكن فراغ أو نقاط ضعف مثل النسيان" (21)، أما اللون الأصفر فيعتبر: "الحد الفاصل بين الألوان الباردة والألوان الحارّة. (...) وهذا اللون يقلق المشاهد ويصدمه ويهيجه بشكل محنق، وهو يدل على الجنون والهذيان والإسراف والسطحية، ومن جانب آخر يعني التعامل والمشاركة والاهتمام والحسد والاستهزاء" (22)، وأخيرا، يعتبر اللون الأزرق: "مهدئا بحكم صفته العميقة لأنه يملك تأثيراً داخلياً يزداد قوة عند درجات إشراق اللون، (...) وهذا اللون يدعو الإنسان إلى اللانهاية ويحرك فيه الحنين والصفاء ويمضي به إلى ما وراء الطبيعة" (23).
وعليه، عند تأمل رمزية هذه الألوان الثلاثة سنجد أنها تدور في فلك الهذيان وما وراء الطبيعة واللانهائية، ما يعني أن هذا البعد السيميوطيقي يشير إلى عمق الأزمة النفسية لبطلة القصة التي تتأرجح بين الرغبة في الرّفض والتّمرد، وعجزها المرتبط بالغيظ والغضب والذّل ومشاعر الألم النفسي بسبب ما هي فيه. وبهذا، فإن أنسب نظرية يمكن من خلالها قراءة النص لا بد وأن تكون إحدى النظريات المشتقة من علم النّفس.
نورمان هولاند ونظرية "الهوية الأوليةPrimary identity ":
اشتق نورمان هولاند نظريته "الهوية الأوليةPrimary identity " (24) من علم النفس، وهي نظرية تؤكّد على "امتلاك الشخص البالغ موضوع هوية يتنوع مع بقاء هذا الموضع كبناءٍ مركزي للهوية المستقرة، وما علاج القارئ لما يقرأ من نص إلا توافق لموضوع هويته". إذن، الهوية مستقرة، وموضوعاتها متنوعة، وهذا التنوع يعطينا القدرة على علاج أكثر من موضوع أدبي على اختلاف موضوعات الأدب. فنحن –قراءً – نستخدم العمل الأدبي كي نرمز لأنفسنا، ولنضاعف أنفسنا في النهاية. ونعيد صياغة العمل الأدبي كي "نكتشف استراتيجياتنا المميزة للتعامل مع الخوف العميق والأماني التي تشكل حياتنا النفسية. ويجب استرضاء آليات الدفاع الداخلية لدى القارئ كي تسمح له بفتح مضامين النص".
هذه هي نظرية "نورمان" النفسية الموجهة للقارئ، ويمكن معرفة مرتكزين هامين في هذه النظرية، الأول موجه للكاتب الذي يجب عليه استرضاء آليات الدفاع الداخلية لدى القراء من خلال ما يمكن أن أسميه منطق تعويض نفسي يدفع القارئ إلى استجلاء النص قياسا إلى تجربته، والثاني موجه للقارئ الذي يستنبط من النص –حال إعادة صياغته وتفكيكه- استراتيجيته المميزة له عن غيره في التعامل مع هويته الخاصة باعتبارها شيئا قارا منذ الطفولة وإن تعددت موضوعاته.
ولعل أهم مرتكزات هذه النظرية، هي "أن تستبطن شيئا خارجك بغية السيطرة عليه، لكنه، ولأنه خارجك، يروم السيطرة عليك" (25). وتحدد هذه العبارة مرتكز النظرية بشكل دقيق جدّا، فأنت تستبطن النص الأدبي الذي هو خارج هويتك بعرضه على هويتك الخاصة بوصفه موضوعا جديدا قابلا للخضوع لهذه الهوية، إلا أنه ولكونه نتاجا لهوية مستقرة أخرى يريد أن يؤثر في استقرار هويتك النفسية بتأثير تمثيله لهوية الكاتب.
ولكن، هل انطلاق النظرية من مبتدأ نفسي، سيجعلها تركز على هويتين نفسيتين فقط، هما هوية الكاتب وهوية القارئ؟. بالطبع لا، فلا يمكن الجزم بأن النص تعبير عن هوية كاتبه النفسية، كما أن هوية القارئ بوصفه مؤوّلا للعمل لا تعطينا الحق في القول أن هذا النّص يتماشى مع هويته، ويمثلها، حيث رأى "ديفد بليتش" أن "العملية النقدية ما هي إلا مجموعة مفاوضات ومناوشات ضمن إطار الجماعة ومعطياتها التأويلية. وهكذا فضمن هذا الإطار هناك تفسيرات أقوى من غيرها وأقدر على الإقناع" (26). وعليه، فإن منطقية التأويل وقربه إلى الصواب مقارنة بالنص أولا وبغيره من التأويلات الأخرى للنص ذاته، هما محكا الاعتماد على أن التأويل واقع خارج "ذاتية" المؤول بالقدر الذي يجعله مقنعا.
تحوّل الهوية المستقرة في القصة:
بحسب نظرية "نورمان هولاند"، يمكن أن نتتبع الهوية المستقرة في قصة سوزان خواتمي بأنها هي الزوجة (27)، هذه هي في صيغتها المستقرة التي تنشأ عليها الفتاة منذ طفولتها في الشرق العربي، فالحب طريق يؤدي بالفتاة إلى الزواج. لابد أن ينتهي إلى الزواج، ويصير بذلك هذا الزواج هو الصيغة النموذجية التي تترجم الحب من مجرد مشاعر إلى حياة تجعل من هذه المشاعر أمرا واقعا وممارسا، ومن الزواج ينتج الأطفال. إن الصيغة العربية المقابلة لهذه الصيغة، والمقبولة أيضا في الشرق هي الزواج بلا حب، أما الحب بلا زواج فهو أمر لا يمكن مناقشة احتمال حدوثه أو قبوله ولو على صيغة افتراض. وتدعم القصة الصيغة النموذجية الأولى: "في يوم زفافك، قبل خمس سنوات وأربعة أشهر وأسبوع من الآن، كانت هذه الزهور أو أخرى تشبهها تملأ المكان، حتى ثوبك كان موشى بزهر الأقحوان، ها أنت تتذكرين التفاصيل الرقمية دون أدنى خطأ، تستعيدين صوته: "إنني أحب الورود وأنت أجملها". ذاك ما قاله لك سعد يوم كان يغازلك لوجه الحب وحده" ص(74).
إذن، كان الزواج نتاجا للحب، وحبيبها/زوجها كان يغازلها فقط من أجل الحب. ولعل عبارة "لوجه الحب وحده" دال قوي جدا على مدلول انتفاء أي غرض آخر مهما كان بديهيا أن يتلو هذا الهدف الذي يبدو ليلة الزفاف هو الغرض الأسمى. فما الذي حدث؟.
حدث أنها لم تنجب، وبالتالي صار هنالك تغيّرا في موضوع الهوية رغم استقرارها حول محور "الحب وحده مبرر الزواج"، إلا أن موضوع الهوية تغير قليلا ليصبح "الحب مبرر للزواج، والطفل حاجة لاستمراره". وتمرر القاصة هذه القناعة من خلال أم بطلة السرد، وصديقاتها، وزوجها. حيث نجد الأم تهمس في أذن ابنتها مواسية: "لا تكوني حمقاء يا ابنتي، عليك أن تحاولي ولو مئة مرة، فالأطفال بالنسبة إلى الرجل أكثر أهمية من الزوجة، ألا تحبين سعداً! إنها الطريقة الوحيدة للاحتفاظ به" ص (77). والزوج يؤكد ذلك: "يؤكد لك الإحباط الذي تتصيدينه في ملامحه الواجمة عن ما تقوله أمك وأمه" ص(77). وهناك المحيط: "ما تقوله أمك وأمه وجارتك هادية وحتى صديقتك رغد صحيح" ص(77).
فكل هؤلاء غيروا قليلا من موضوع الهوية القار لدى بطلة السرد منذ نشأتها، فليس الحب وحده هو ما يدفع الزواج للاستمرار، وكل المحيطين بها هم من يمثل مجتمعها الذي ساهم في تبديل قناعتها: "هم يمثلون مجتمعك فمن أنت حتى تشذّي عن قوانينهم سلفاً" (ص77).
ولعل أهم دلالات الأثر النفسي المؤلم لهذا التحوّل هو ما تورده القاصة في عبارة دلالية موحية: "إنها الهزيمة التي لن يقبلها أحد .. بمن فيهم أنتِ أيضاً، كنت تهزين رأسك مؤكدة أنك ستحاولين تكراراً" ص(78). ويرجع كون هذه العبارة موحية أكثر مما عداها أنها تلمح إلى الهزيمة دون تحديد لماهيتها، فهزيمتهم هم تتمثل في عدم وجود إخصاب تكون نتيجته ولادة طفل الأنابيب، أما هزيمتها هي فتكمن في عدم قدرتها على الاحتفاظ بحبيبها، ويدل على أنها ترى هزيمتها -وفق هويتها القائمة على بُعد الحب وحده مبرر الزواج-في كونها تؤكد أنها لا تريد أن تكون أمّا: "يحاصرك الهدف: هدفهم، لماذا يصير عليك أن تؤكدي رغباتهم دون احتجاج ولو مهذب بأنك تتوجعين، وبأن الأمومة لا تعني لك أكثر من المعاناة" ص(78).
المحيط المؤلم:
مما سبق يتضح سبب ألم بطلة القصة، إنه المحيط. فلا قبول لامرأة لا تنجب، هذا لا يعني الرفض التام لها، ولكنه تهديد لهويتها المستقرة. إنه مجتمع عامل ضد استقرار الهوية لبطلة السرد، إذ "إن الرغبة في الحصول على الولد، تكون، في الحقيقة، رغبةً قويّةً عند الأمهات. فمن الضروري أن ينجبن لتبرير وضع الزوجة الذي يوجدن فيه" (28). وعلى الرغم أن بطلة القصة ليست هي الراغبة في الظاهر إلا أنها لا تستطيع تجاوز قناعة مجتمعها المحيط الذي يجبرها على تبرير وضع الزوجة الذي هي فيه.
"حُشرتِ بين المطرقة والسندان.. أفظع الأوقات حين يرن المنبه ليعلن عن مواعيد الحب.. طفلُ الأنبوب أشد عناداً من ثور، ثم لا بد من دفع الفواتير الكثيرة كيفما كانت النتيجة" ص(77).
إن أبرز ما يقدمه المقطع السابق هو تأفف بطلة السرد من "مواعيد الحب" التي لم تعد تتفق وهويتها المستقرة، لأنها تحولت إلى مواعيد استنبات لطفل الأنبوب، وهنا تكمن المفارقة. إذ لم يعد الحب ممارسة تخضع للرغبة بقدر ما صارت واجباً يجب أداؤه في وقته لتبرير وضعها كزوجة.
أزمة التبرير:
ما فعلته الزوجة هو الخضوع لتبرير وضعها كأم من خلال الإنجاب، وقد مرّت بعشر خيبات، لتصل في المحاولة الحادية عشرة إلى إيجاد المبرر، وتحقيق الهدف. إلا أنها خلال هذه الرحلة التي اتسمت بالخضوع مرّت بآلام نفسية جمّة: "مرغمة.. تدورين في تلك الدائرة المغلقة ما بين المنزل وتلك العيادة أو غيرها.. لا فرق، وما بين عناوين ومواعيد الإخصاب المسجلة في دفتر قرب رأسك" ص(78)، وأيضاً: "وفيما أنتِ تخلفين باب المستشفى وراءك، وتشيرين إلى سيارة الأجرة كنت تحصين في ذهنك ما مرّ بك: المرات الست الأولى خجل.. كل مرة ألم.. وعشر خيبات.." ص(78).
إنه الألم، فالمرات الست الأولى "خجل" تدل على الرضوخ التام فيما يليها من مرات، انتفى الخجل، وخسرت الأنثى في هذه القصة إحدى مقوماتها، واستمر الألم وتوالت الخيبات. كل هذا لإرضاء مجتمعها المحيط الذي يدفعها لتبرير كونها زوجة من خلال الإنجاب، دون التفاتٍ إلى ما يعتريها من خسائر أو آلام!!.
مسار أكثر اتساعاً:
هذه القصة نموذج لاكتمال السرد ودخوله بوابة الأدب الرّفيع، لماذا؟. لأن سوزان خواتمي لم تعلق بطلة قصتها في المجهول، بل عاملتها وفق ما يوجبه الفن: "معاملة الشخوص في العمل الفني على أنهم شخوص حقيقيون لهم دوافعهم الخفية وتواريخ طفولتهم المتميزة وعقولهم الواعية وغير الواعية" (29).
منذ البداية، تلمح القصة إلى علاقة بطلة القصة بأمها: "لو أنها ربتت على أوجاعك يوماً .. لو سمحت لك بضرب قدميك على الأرض احتجاجاً، وصفق الأبواب غضبا، لهربت من فخاخ التهذيب المزيف إلى فضاء المشاكسة المغري، لكنها لم تتقن شيئاً كإتقانها للوعظ وإسداء النصائح الخرقاء" ص(73). وبهذا جعلتنا سوزان خواتمي ندرك مأساة بطلة القصة التي لم تنحصر في عدم إنجابها بعد الزواج، ولكنها كامنة في ألم نفسي مستمر منذ الطفولة، ولعل خضوعها لمحيطها القاسي بعد الزواج ما هو إلا حلقة واحدة من حلقات خضوع مستمر لا ينتهي.
الخلفية النفسية لبطلة القصة:
تكمن في مظهرين هما:
1/ القلق:
"من السهل علينا أن نعرف ما إذا كان فرد ما غاضباً أو مفزوعاً. ولكن ليس من السهل علينا معرفة الشخص القلق دائماً لأن القلق حالة داخلية" (30)، ويكون مرتبطاً بالتهديد: "إن القلق مع ارتباطه بالتهديد كالخوف إلا أن أخطاره بطيئة أو يحتمل حدوثها" (31). فأي تهديد يتلبس بطلة القصة؟، إنه موعظة أمها القديمة: "في مجتمع أصم لا فائدة من لسان بليغ، إياكِ أن تجعلي من نفسك النعجة السوداء" ص(73)، فهذه المرأة مهددة منذ طفولتها، لذا، فإن القلق هو محركها الرئيس لمزيد من الخضوع وعدم الاحتجاج. منذ الطفولة اقتلعت الأم الشرقية لسان ابنتها بمبررٍ اختبرته مسبقا ثم سربته لابنتها "في مجتمع أصم"، فاستمرت الفتاة خاضعة لاشتراطات المجتمع على حساب حاجاتها النفسية أيّاً كانت، وما خضوعها لست مرات خجل وكل مرّة ألم وعشر خيبات إلا محطة من محطات الخضوع الناتج عن القلق لشعورها بالتهديد المستمر، فأسباب القلق: "إحساس بالعجز، أو عدم الاتساق نحو موقف ما أو حادثة ما. أو نتيجة لمبالغتنا في درجة التهديد" (32)، وهو دور الأم في الشرق، إذ تبالغ في التهديد حتى تضمن النتائج التي يريدها مجتمعها القاسي.
إن بطلة القصة ضحية لطفولتها: "إن الفرد الذي لا يُسمح له بالقيام بأدواره المعتادة في موقف جديد غير مألوف لديه، سيضطر للتعامل مع هذا الموقف باعتباره موقفاً بلا معنى مما يولد لديه القلق" (33)، وهذا ما حدث بعد زواجها عندما واجهها التهديد مرّة أخرى، مما جعلها لا تفهم الدوافع التي تسيّر مجتمعها ولكنها خضعت لها.
2/ الكبت:
ما تفعله بطلة السرد تجاه ما يحيق بها من ألم -سببه محيطها القاسي- هو الاحتجاج والرفض، ولكنه احتجاج يراوح مكانه فلا يصل. إنها إنسان يغلي في داخله، يدين مجتمعه، ويرفض ويصرخ، ولكن في أي اتجاه؟. في داخله فقط: "ها أنتِ تصرخين، وتكزين على أسنانكِ غيظاً، وتعاودين الصراخ بعلو صوتك" ص(73)، فهل يُعقل أن لا يسمع أحدٌ لامرأة تصرخ في مستشفى بعلو صوتها؟!، نعم، لم يسمعها أحد "لكن لاحظ لحنجرتك الناشجة.. لن يغيثوك" ص(73). هذا هو السّر، فبطلة السرد تمارس الرفض ولكن على شكل انفعالات داخلية لا يدري بها أحد: "يحدث (الكبت) عندما يتطلب الأمر تحويل الأفكار غير السارة من ساحة شعور الفرد لما تسببه من قلق وتهديد إلى ساحة اللاشعور بقصد حماية الذات الواعية نفسها من هذا القلق الذي سببته الأفكار غير السارة أو المشاعر أو الذكريات غير الملائمة أو التي لا معنى لها" (34)، فبطلة القصة لازالت مهددة- رغم الطفل-، لأن حالة عدم الإنجاب ما هي إلا حالة واحدة من مجموع حالات تمر بها امرأة أدمنت الخضوع منذ طفولتها في مجتمع تجاوز الفرد، بل وأهمله من حساباته في سبيل المجموع. لقد كبتت احتجاجها كي لا تكون النعجة السوداء التي يدينها مجتمع بليد أصم، فاللسان دال التعبير عن حاجاتنا كأفراد لا وجود له. حيث سقط "اللسان" الذي يدل على مدلول المشاركة، وبقي الصمت، وبالتالي تراكمت الآلام. "كنتِ قد شرعتِ في البكاء حقاً حين هزتك اليد النحيلة لتوقظك" ص(74)، حيث كان البكاء مجرد توهم من خلاله تسرب بطلة القصة ألمها، ولكنها لا تجرؤ على إظهاره باعتباره "لسان" / يعبّر، في مجتمع يرفض التعبير.لقد بدأت القصة بالعجز: "كنتِ محشورة بين الغضب والذّل دون مساحة إضافية ولو بسيطة للتحرك" ص(73)، وبه انتهت: "تقولين لا على الرغم من أنك لازلتِ تتألمين" ص(79).
بين عجزين، ما الذي يحدث؟:
اقتطفتْ الأم لسان ابنتها منذ الطفولة، ولكونها امرأة فقد استمرّت في الخضوع. ولكن، هل انتهتْ القصة إلى هذا الحدّ؟، بالطبع لا، لقد اكتملتْ من خلال مشهد موجع: "تابعت حلَّ كلّ الأزرار التي تُبقي ثوب نومك عالقاً بك.. انزلق بسهولة عن كتفيك.. لمعتْ الفكرة في حمى رأسك، دون أن تقاوميها.. تخلعين منامتك، وترتدين ثياب الخروج الواسعة المعلقة فوق المشجب" ص(76). إذن، بطلة القصة قررت الهرب من المستشفى حتى تهرب من عجزها ومن دائرة التهديد المحيطة بها، ولابد لهذا الفعل من شجاعة: "استجمعتِ كل ما يلزمك من جبنٍ كي تصمي أذنيك عن صراخ الصغير الذي يزداد ارتفاعاً وحدّة" ص(77).
لماذا الجبن؟، لأن البطلة تعرف معنى الأمومة، حين ألمحتْ في بداية القصة إلى قلب الأم: "تصلك ضحكة أمك المجلجلة فتتميزين قهراً.. لماذا لا تشعر بآلامك؟ ألا تمتلك قلب أم؟" ص(73)، فهي تستجمع "الجبن" بدلا من الشجاعة لمحاربة عجزها. ولبيان دلالة ذلك سأعرض لمعنى اللقطة الفنّية.
اللقطة:
هي: "ما تركبت من فعل وفاعل أو من فعل ونائب فاعل، وهي موضوعة لإفادة التجدد والحدوث في زمن معين" (35)، ويمكن تعريفها بأنها: "ذلك التشكيل المرئي الحركي، ولعل الحركة هي التي تميز اللقطة من اللوحة. فاللوحة تشكيل ثابت، بينما اللقطة تشكيل محدد متحرك يتسع أحياناً؛ ليصبح ناطقاً" (36). إذن، اللقطة ليست: "مجرد تشكيل جمالي محض، (...) بالإضافة إلى استنطاق اللقطة والإشارة إلى مقولاتها المضمونية الاجتماعية والنفسية" (37).
واللقطة الأبرز في هذه القصة هي: "تخلعين منامتك، وترتدين ثياب الخروج الواسعة المعلقة فوق المشجب" ص(76). فهي فعل متحرك، ولكنه فعل قائم على الجبن على الرغم مما ينطوي عليه من مغامرة. وتستمر هذه اللقطة في التمدد من خلال القصة، حيث تقع الفكرة حيّز التنفيذ: "تجرين قدميك المتعبتين، لم ينتبه إليك أحد، حتى الممرضة التي تنتزع الصغير الذي سيشبه أباه عن صدرك وتعيده إلى سلته، كأنك كنتِ تمشين فوق الهواء وتلبسين طاقية الإخفاء" ص(78)، وتستمر بطلة القصة في الخروج من المستشفى، ثم في الإشارة لسيارة التاكسي، وحين تستقر في هذه السيارة لا تجد عنواناً كي تذهب إليه.
إن هذا الجزء من القصة هو "اللقطة" التي يمكن من خلالها استجلاء المقولات المضمونية الاجتماعية والنفسية التي كثفتها القاصة في عملها الأدبي الرفيع لتجعلنا ندرك ما فعلته بطلة السرد. إن المشهد برمّته مرتكز على فعل غير منطقي، لعدة أسباب:
الأول: بطلة السرد تدرك معنى الأمومة، لذلك لا يمكن أن تترك طفلها في المستشفى، وتفر منه.
ثانيا: البطلة تعتمد للقيام بهذا الفعل على كل ما لديها من "جبن"، والجبن ليس محرضا على القيام بالفعل، بل إنه محرض على عدم القيام به.
ثالثا: تغادر بطلة القصة المستشفى دون أن تشاهدها الممرضة المتواجدة معها في نفس الغرفة، وتأتي مغادرتها على شكلٍ غير مرئي: " كأنك كنتِ تمشين فوق الهواء وتلبسين طاقية الإخفاء".
يقول عالم الاجتماع "فلفريدو باريتو": "إن الأفعال غير المنطقية مصدرها الأصلي هو حالات نفسية محددة، وعواطف، ومشاعر لا شعورية، وما شابه ذلك" (38)، وهذا عالم اجتماع يتتبع الأفعال غير المنطقية حال حدوثها، لكن القصة التي بين أيدينا توهم القارئ أن هذه "اللقطة غير المنطقية" هي ما يحدث فعلا، ولكنها لم تحدث إلا على شكل تهيؤات، والدليل على أنه مجرد تهيؤ هو ما يحدث في نهاية القصة، فبعد فعل: "كنتِ تبحثين عن عنوان" لكي تهرب، يأتي فعل: "يعود صوت البكاء إلى أذنيك الخدرتين" ص(79). فقد كانت تسبح في وهمها بجوار الطفل، وتبني بناء ذهنيا لا شعوريا كي تمارس من خلاله فعل الرفض، بعد أن فقدت القدرة على التعبير عنه باللسان، وما بين الهرب كفعل رافض، والصراخ كصوت معبّر عن الرفض، تتسع هوّة العجز وتُسقط بطلة القصة بين المطرقة والسندان، وبين الغضب والذل.
آليات الدفاع النفسية:
"الإنسان لا يستطيع أن يتكون باعتباره ذاتاً إلا في اللغة وعبرها، لأن اللغة تؤسس وحدها مفهوم "الأنا" في الواقع، في واقعها الذي هو واقع الكينونة" (39)، والنمو اللغوي للقصة يبين كيف تبني بطلة القصة كينونتها عبر اللغة حين تسرد قصتها بوصفها راويا، حيث جاءت هي المتكلم الذي لا يريد أن يخبرنا القصة، بقدر ما يريد أن يخبر ذاته بها: "تقترح اللغة، نوعاً ما، أشكالا "فارغة" يمتلكها كل متكلم أثناء ممارسة "الخطاب" وينسبها إلى "شخصه"، محددا في نفس الوقت نفسه باعتباره ضمير متكلّم، وشريكه باعتباره ضمير المخاطب، وهكذا تحقق الخطاب مكوناً لكل الترتيبات التي تحدّد الذات" (40).
إن القصة منولوج داخلي موجّه نحو الذات، وما توجيهه نحو الذات إلا أسلوب دفاع نفسي، يتخذ شكلا من أشكال الكبت وآلياته، وهو شكل "الإزاحة" التي جاءت على مستويين:
1/ الإزاحة اللغوية:
ويكون حين: "نجد أن الانفعال يتوجه نحو شخص أو شيء أو جماعة لم تكن في الأصل مسؤولة عن المشاعر المحتبسة عند الفرد" (41)، وقد تجلى فعل "الإزاحة" كآلية دفاع نفسي من خلال المنولوج الداخلي الذي سردت به بطلة القصة قصتها، فجاءت فعلا لغويا مؤسسا لمفهوم "الأنا" في الواقع، في واقعها الذي هو واقع الكينونة، والذي تجسد في تهديد هويتها المستقرة. وللتدليل على ذلك، يمكن تأمل الجزء الأخير من القصة حين تحاول البطلة تذكر عنوان: "كنت تبحثين في ذاكرتك المحمومة عن عنوان لا يسعفك تذكره، لكنه الطريق الذي لا يضل عنه أحد" ص(79)، وأي طريق لا يضل عنه أحد سوى الموت؟، ثم إن فعل اللغة كمنقذ وكنوع من الإزاحة النفسية للوقوف ضد الألم النفسي يأتي في أقوى دلالاته قبل العبارة السابقة: "يسطع النسيان، تسبحين في عرقك، كنت تبحثين في ذاكرتك المحمومة..." (ص78)، فـ: "حين يفقد الإنسان ذاكرته، فإنه يفقد ذاته، لأنه يفقد الشروط الموضوعية التي تجعله يعيش الحاضر ويتعامل معه" (42)، فبعد كل هذه اللغة المكثفة المنطلقة من الذات باتجاه الذات جاء النسيان كي يلغي حاضر بطلة السرد المؤلم، ويجعلها في غنى عن التعامل معه.
2/ الإزاحة المازوخية:
فعل الإزاحة النفسي اتجه إلى اللغة، كي يكون أداة تسرّب من خلالها بطلة القصة ألمها النفسي، فإلى أي جهة انتهى؟. لقد بدا من البطلة باتجاه اللغة، ثم عاد من اللغة بشكل أكثر قسوة تجاه البطلة. حيث كانت هي المتكلم، وهي أيضا المخاطب، لذلك، جاء المستوى الثاني من هذه الإزاحة على هيئة مازوخية.
لماذا؟:
"يرى إيريك فروم أن رغبة الإنسان في الثأر تصعيد لوضعه الشخصي، بحيث يعد نفسه فارض القانون ومحق الحق" (43). وقد وضعت البطلة قانونها، حيث قررت إسقاط كل آلامها على ضحية، فالعنف غير المشبع: "يبحث دوماً عن ضحية بديلة، ويجدها دوماً فيحلها فجأة محل المخلوق الذي أثار الغضب. وهو مخلوق آخر ليست له أي صفة خاصة لاستجلاب صواعق العنف سوى أنه مستباح للاعتداء عليه" (44).
مسار آخر أكثر اتساعاً:
وهو المسار الأخير، حيث جزمتُ بأن بطلة القصة تمارس من خلال اللغة فعلا مازوخيا، ولم أحدد المبررات التي دفعتني لهذا الاستنتاج. يعود ذلك لسبب هام لابد من إدراكه، وسأسبقه بعددٍ من التساؤلات:
عندما ينجح المرء في تحقيق هدفه الذي عمل من أجله، ألا يشعر بالرضا؟، ألا يشعر بطعم هذا النجاح؟، ألا يتملكه فرحٌ وتعتريه غبطة؟. فما بالكم بشخص عمل من أجل الحصول على شيء معين وتتابعت إخفاقاتُه، ثم في المرة الحادية عشرة حصل على ما يريد؟، ألا يفرح؟، وهل سيكون نجاحه بذات الوقع المبهج على نفسه حين نقارنه بمن حصل على ما يريد من المرة الأولى؟، أم أنه سيكون أجمل وأعظم أثرا في نفسه ؟. وحين يكون النتاج الذي نحصل عليه مبددا لطعم الهزيمة "التي لن يقبل بها أحد"، ألا نعده انتصاراً للجميع في النهاية؟. ألا تتذكرون معي كيف وصفت بطلة القصة عقمها بأنه هزيمة لن يقبل بها أحد حتى هي؟ وإن كانت قد بينت لنا أن انتصارها –بإنجاب طفل الأنبوب- يكمن في استعادتها لهويتها المستقرة، بينما انتصارهم يكمن في حصولهم على تبرير لوضعها هي بوصفها زوجة؟.
وأخيرا، لماذا أدمنت الرضوخ عشر مرّات لمحاولة استزراع طفل لا تهتم هي به كثيرا، فالأمومة بالنسبة إليها لا تعني أكثر من المعاناة؟، ولماذا تفتش أم عن عنوان الطريق الذي لا يضل عنه أحد بعد أن وصلت إلى بغيتها؟.
قد يكون صادماً أن أقول لكم إن هذه القصة تدور حول "سيدة مقامرة" لا أكثر، وإنها لا تريد لنفسها أن تكون في معزل عن جلد ذاتها، لأنها لا ترى في هذه الذات إلا مخلوقا آخر ليست له أي صفة خاصة لاستجلاب صواعق العنف سوى أنه مستباح للاعتداء عليه. فعجزها الذي بدأ مبكرا باقتطاف لسانها جعل منها جلادا ساديا يوقع الأذى بضحيته المستباحة التي لم تكن أحداً سواها!!.
المازوخية لدى المقامر المرضي:
" المازوخية Masochism هي تلذذ الفرد بما ينزل به من ألم، وهي سمة الأفراد الذين يستجلبون على أنفسهم سوء المعاملة والمذلة والمعاناة، بقدر ماهي توحد وتعيين بالشريك السادي، أو هي تخفيف من الشعور بالذنب بتحريك الألم والعقاب في وقتٍ واحد مع اللذة، فالمازوخية اتجاه نحو تدمير وإيلام الذات، سواء كان ذلك ماديا أو معنويا" (45).
"والمقامر المازوخي، يعيش حالة من انقسام الذات، حيث يصبح القاضي والجلاد معاً ضد ذاته" (46)، بل:"إن المقامر مازوخي يتعذب بالمقامرة، ويتعذب أكثر كلما أخلص لها أو تخلص منها، وبين هذا وذاك يظل في هدم نفسه مادام قادرا على تذوق الجمال في المقامرة، فهو يعيش بالقيود ويموت بالحريّة، وسواء أعطته المقامرة أم لم تعطه، يسعده دوماً أنه ذليل لها، وهو إذ يبغضها تجده متعلقاً بها، وتبدو مازوخية المقامر في أوج صورها في تضاعف متاعبه من تحقيق رغباته" (47). ويؤكد "فرويد" على هذه الحقيقة: "إن المقامر مازوخي لا يرغب في الفوز، بل إنه لا شعورياً يرغب في الخسارة" (48).
وفي ضوء ما سبق، سأعيد قراءة القصة بشكل سريع لأبين لكم أن البطلة بالفعل كانت مقامرا مازوخيا من طراز رفيع، ومخلص لعذابه اللذيذ.
إعادة تركيب الأحداث:
1) تنطلق الأحداث في القصة بعد "الانتصار" المتمثل في إنجاب طفل الأنابيب، وهو ما يشكل للبطلة استعادة هويتها المستقرة، كما يبرر لها أمام الآخرين وضعها كزوجة.
2) على الرغم من أن الزمن الذي تبدأ في البطلة سرد قصتها زمن انتصار إلا إنها تسرد الهزيمة القاسية وتكثفها في هذه اللحظة تحديداً، فانتصارها ما هو إلا أعلى درجات الألم، لأن: "مازوخية المقامر في أوج صورها في تضاعف متاعبه من تحقيق رغباته"!!.
3) يبرز مشهدان في نهاية القصة للتأكيد على أن هذه السيدة مقامرة مازوخية: "يسطع النسيان"، حيث أشار نصر حامد أبو زيد –كما أسلفتُ - إلى أن فقد الذاكرة فقد للذات، وللشروط الموضوعية التي تجعل الإنسان يعيش حاضره ويتعامل معه. فبطلة القصة يحضرها النسيان لتجاهل حاضرها، ولم يكن حاضرها إلا انتصارا يشكل للمقامر كما يقول فرويد خسارة لأنه لا يرغب في الفوز. ولا بد هنا أن نلاحظ أن النسيان يحضر عندما يقترب مشهد الهروب من المستشفى –وهو مشهد متخيّل- من الاكتمال. كما يحضر مشهد فقدان العنوان الذي لا يضل عنه أحد ليشكّل سوطا آخر تتلذذ به بطلة السرد لأنها لا ترغب في الخلاص بقدر ما ترغب في العودة إلى المقامرة.
4) تكرس بطلة السرد ما وقع عليها من عسف في لحظة انتصارها وحصولها على ما تريد، لرغبتها في طمسها، وتحويل انتصارها إلى هزيمة مستمرة. كل ما ألم بها من ألم منذ الطفولة، ثم في أثناء عمليات الاستزراع العشر التي سبقتْ النجاح كانت بطلة القصة تتلذذ بخضوعها، وبشعورها بالمهانة: "كنت تهزين رأسك مؤكدة على أنك ستحاولين تكراراً" ص(78).
5) أول سوط توجهه بطلة القصة إلى ذاتها هو عنوان القصة، فالمحاولات ليست مجرد محاولات للوصول إلى النجاح، بل هي عشر خيبات. وهذا دال على تكريسها للخيبة من الناحية العددية كفعل مؤلم مقابل مرة واحدة ناجحة، في محاولة لطمس نجاحها، فنجاح المقامر المازوخي تهديد له بفقد لذة: "أنه ذليل لها"، أي للمقامرة.
في مفهوم المقامرة:
"كنتِ تحصين في ذهنك ما مرّ بك: المرات الست الأولى خجل.. كل مرة ألم.. وعشر خيبات.." ص(78). لقد كانت المرات الست الأولى بالنسبة لبطلة القصة موسومة بالخجل، إلا أن دلالة توقف الخجل من الناحية النفسية تنحصر في تجاوز بطلة السرد ما يقع من تهديد على خصوصيتها الأنثوية، وانطلاقها في فعل إزاحي يبدأ منذ المحاولة السابعة. لقد انهارت جميع الدفاعات وبدا للبطلة أن الرضوخ هو كل ما تستطيع القيام به، كما أيقنت أنها قد استبيحت بالكامل، فانتفى الخجل كشعور نفسي دفاعي ضد هذا الانتهاك، وغاب بدأ من المحاولة السابعة. كل هذا لا يعني إلا أن هذه المرأة قد غادرت مرحلة الاحتجاج الصامت إلى مرحلة التلذذ بالألم، وصارت أي محاولة جديدة فعل مقامرة جديد يعطيها المزيد من اللذة.
إن مفهوم "المقامرة" مرتبط بلعب القمار، ولكن يمكن استجلاء الكثير من الممارسات التي يقوم بها الأفراد كسيكولوجية مرتبطة بالمخاطرة واشتهاء المثير من خلال الخضوع لتجارب تحمل حدّين متساويين في فرص تحققهما، ويتمثلان في إمكانية النجاح أو إمكانية الفشل. ولعل احتمالات الفشل تتزايد كلما انتهت تجربة سابقة بالفشل، فما بالكم بست محاولات؟!، إنها، وبدأ من المحاولة السابعة، بدأتِ المقامرة بوصفها سيكولوجية تعتمد على المخاطرة التي تحتمل إمكانية الفشل أكثر مما تحتمل إمكانية النجاح.
وبعد:
إن سوزان خواتمي في قصتها "عشر خيبات لمولود"، تقف بنا على أعتاب الأدب الرفيع، فتقدّم بطلة قصتها بوصفها نموذجاً لإدانة المجتمعات التي تهمل أفرادها، وتوقع عليهم القسوة في مظاهر حبٍّ لا يمتّ للحبّ بصلة. ولعل هذا هو ديدن البشر جميعهم، حيث صرخ "زرادشت" ذات تأمل لطبيعة البشر: "ويلٌ لهؤلاء الناس، لو أن خبزهم يوزّع مجاناً، فإنهم لا يجدون من يصبون غضبهم عليه، بأي حديثٍ يتحدثون، إذا حرموا قساوة الحياة؟. إنْ هؤلاء الناس إلا وحوش كاسرة، في أعماقهم ترصّد واختطاف، وفي أرباحهم مراوغة واحتيال" (49).
ولم تتركنا هذه اللوحة الأدبية الرفيعة دون تتبّع ما حلّ بضحية القسوة المجتمعية المتمثلة في امرأة، حيث صوّرتها بوصفها جزءا من هذا المجتمع القاسي الذي يفتش عن ضحية يسقط عليها غضبة، إلا أنها –لكونها أضعف حلقات هذا المجتمع البائس- لم تجد غير ذاتها لتمارس عليها القسوة، كآلية إزاحة، فجلدتها بسوط الألم، ولم يكن هذا السوط بدوره إلا بديلا عن لسانها الذي اقتلع منذ الطفولة، على يد أمٍ ظنتْ أنها تحسن تربية ابنتها، لتصلح لهذا الشرق الجحيمي!!.
وأخيرا، يقول "إدوارد شلز": "في كل مجتمع... يوجد بعض الأشخاص ذوو حساسية استثنائية للمقدّس، تأمل غير عادي حول طبيعة كونهم، والقواعد التي تحكم مجتمعهم. وثمّة في كل مجتمع أقلية من الأشخاص الذين يبزون إخوانهم، يبحثون ويرغبون في أن يكونوا على صلة حميمة متواترة مع رموز أعم من الأوضاع الملموسة المباشرة للحياة اليومية، وأبعد في دلالتها زمانيا ومكانيا. وفي هذه الأقلية، توجد حاجة لتجسيد هذا البحث في خطاب شفهي وكتابي، في تعبير شعري أو تشكيلي، في التفكير أو الكتابة التاريخية، في أداءٍ شعائري وأعمال عبادة. هذه الحاجة الباطنية إلى النفاذ وراء شاشة التجربة الملموسة المباشرة هي التي تسم وجود المثقفين في كلّ مجتمع" (50)، وكاتبة هذه القصة، في كامل مجموعتها "فسيفساء امرأة" لم تكن إلا من هؤلاء المثقفين الذين دفعتهم الحاجة إلى النفاذ وراء شاشة التجربة الملموسة –نتيجة لحساسيتهم الاستثنائية- إلى إنتاج أدبٍ رفيع، لن ينتابكم شعور بالندم أبدا على قراءته.



الهوامش والإحالات:
1/ ديورانت، ول: قصة الفلسفة، ترجمة: فتح الله المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت. ص(117).
2/ بوعلي، عبدالرحمن: نظريات القراءة، مقالة "من أين نبدأ" لرولان بارت، دار الحوار، اللاذقية. ط1، 2003م. ص(30).
3/ يخلط الكثيرون بين السيميائية وبين السيميولوجيا أو السيميوطيقيا، حيث ذكر "دليل الناقد الأدبي" أن السيميائية والسيميولوجيا والسيميوطيقيا جميعها مصطلح واحد، تمت ترجمته بهذه المصطلحات الثلاثة عند نقله للغة العربية، بينما ترد السيميائية في كتاب "مسارات فلسفية" وفي حوار مع أمبرتو إيكو بوصفها فلسفة ذات ثلاثة مستويات، ويعد المنهج السيميائي التطبيقي منها (المستوى الثالث) منهجا أدبيا تأويليا له ضوابطه التي حددها إيكو في كتابه "سيميائيات القراءة"، كما وردت لفظة سيميولوجيا في اللقاء ذاته مع إيكو ودلّت على "علم الدلالة".
4/ قد أشير في مبحث لاحق إلى ما بين هذين المنهجين من تعارض في طبيعة النظر إلى النص الأدبي، والتي يمكن اختصارها بشكل عام في أن الهرمينوطيقيا ترى أن العمل الأدبي وحدة منسجمة ويمكن أن يتم تأويلها على هذا الأساس، بينما يرى التفكيكيون أن العمل الأدبي لا يمتلك طبيعة منسجمة، بل إن اكتماله وانفتاحه على التأويل يكمن في تعدد معناه لعدم انسجامه الداخلي.
5/ بوعلي، عبدالرحمن: نظريات القراءة، مقالة "من الهرمينوطيقا إلى التفكيكية" لفرناند هالين وفرانك شويرويجن"، سبق ذكره. ص(97).
6/ كرستيفا، جوليا: السيميائيات كعلم نقدي أو نقد العلم، ترجمة: عبدالسلام فزاري، مجلة نوافذ، النادي الأدبي بجدّة، العدد الثامن، 1999م. ص(80).
7/ المصدر السابق، ص(59).
8/ المصدر السابق، ص(81).
9/ إيكو ، أمبرتو : شعرية الأثر المفتوح ، ترجمة عبدالرحمن بوعلي ، مجلة " نوافذ " ، العدد السادس ، النادي الأدبي بجدة ، ص(84) .
10/ إيكو ، أمبرتو : التأويل بين السيميائيات و التفكيكية ، ترجمة : سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الأولى ، 2000م ، ص(23) .
11/ جريدة البلاد السعودية: العدد 17690، 26/3/2005م. أنظر أيضا: ( خواتمي، سوزان: فسيفساء امرأة، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق. الطبعة الأولى، 2004م. ص(73).
12/ لابد من التفريق بين الظواهر السيميوطيقية التي تعني كل ظاهرة لا تندرج تحت ما يسمّى بالظواهر الطبيعية، وبين العلامات السيميوطيقية التي تعني وحدات اللغة أو الشفرات المختلفة التي تتآزر لتكوين نص، وهي بذلك –أي العلامات السيميوطيقية- شيء محسوس (دال) يحيل القارئ إلى شيء معنوي(مدلول) لخلق دلالة.
13/ أبو بكر، أسماء: التشكيل السيميوطيقي في الرواية العربية، مجلة الآطام، نادي المدينة المنورة الأدبي، العدد العشرون، سبتمبر 2004م. ص(33).
14/ المرجع السابق، ص(32).
15/ مسعود، جبران: معجم الرائد، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 2003م. ص(392).
16/ المرجع السابق، ص(643).
17/ المرجع السابق، ص(419).
18/ المرجع السابق، ص(650).
19/ المرجع السابق، ص(719).
20/ المرجع السابق، ص(141).
21/ الشاهر، عبدالله: الأثر النفسي للون، مجلة الموقف الأدبي، إتحاد الكتّاب العرب، دمشق، العدد 379، تشرين الثاني 2002م. ص(187).
22/ المرجع السابق، ص(184).
23/ المرجع السابق، ص(184).
24/ سلدن، رامان، وآخرون: النظريات الموجهة للقارئ، ترجمة: محمد النعيمي، مجلة الآداب الأجنبية، العددان 106-107، اتحاد الكتاب العرب، دمشق. ص(120).
25/ المرجع السابق، ص(23).
26/ الرويلي، ميجان، وآخرون: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة،2002م. ص(335).
27/ تركز نظرية نورمان هولاند على الهوية المستقرة للقارئ الذي يقوم بتأويل النّص، بينما عملتُ على جعلها نظرية قراءة لشخصية بطلة قصة عشر خيباتٍ لمولود، حيث تعدّ النظرية بمجملها غير مكتملة. لذا، حاولتُ توظيفها في قراءة شخصية البطلة باعتبارها هي الراوي.
28/ جسوس،سميَّة: بلاحشُومة، ترجمة:عبدالرحمن خُزَل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2003م. ص(117).
29/ الرويلي، ميجان، وآخرون: دليل الناقد الأدبي، سبق ذكره. ص(336).
30/ طاهر، ميسرة، وآخرون: مدخل إلى الإرشاد التربوي والنفسي، دار إيلاف، بريطانيا، الطبعة الثانية، 1993م. ص(56).
31/ المرجع السابق . ص(58).
32/ المرجع السابق . ص(58).
33/ المرجع السابق . ص(68).
34/ المرجع السابق. ص(72).
35/ الهاشمي، أحمد: جواهر البلاغة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة عشر. ص(71).
36/ الشعبي، مهند محمد: اللقطة والمقولة المضمونية، مجلة جذور، النادي الأدبي، جدة، العدد الأول، 1999م. ص(260).
37/ المرجع السابق. ص(262).
38/ محمد، محمد علي: المفكرون الاجتماعيون، دار النهضة العربية، بيروت، 1983م. ص(162).
39/ بنفنيست، إميل: الذاتية في اللغة، ترجمة: حميد سمير وعمر طي، مجلة نوافذ، العدد التاسع، النادي الأدبي، جدّة، 1999م. ص(64).
40/ المرجع السابق. ص(71).
41/ طاهر، ميسرة، وآخرون: مدخل إلى الإرشاد التربوي والنفسي، سبق ذكره. ص(78).
42/ أبوزيد، نصر حامد: إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة السادسة، 2001م. ص(254).
43/ عدوان، ممدوح: حيونة الإنسان، قدمس للنشر، دمشق، الطبعة الثانية، 2004م. ص(47).
44/ المرجع السابق. ص(46).
45/ زيدان، أكرم: سيكولوجية المقامر، سلسلة عالم المعرفة، 313، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 2005م. ص(101).
46/ المرجع السابق. ص(101).
47/ المرجع السابق. ص(101).
48/ المرجع السابق. ص(102).
49/ نيتشة، فريدريك: هكذا تكلَّم زرادشت، ترجمة: فليكس فارس، دار القلم، بيروت. ص(241).
50/ سعيد، إدوارد: الآلهة التي تفشل دائما، ترجمة: حسام الدين خضور، دار الكتاب العربي، دمشق-القاهرة، الطبعة الأولى، 2003م. ص(49).


الناقد السعودي حامد بن عقيل 
نشرت الدراسة في كتاب بعنوان عصر القارئ عصر القارئ

عشر خيبات لمولود
سوزان خواتمي
أطرافكِ مقيدة، وأضلاعكِ تؤلمك، كنتِ محشورة بين الغضب والذل دون مساحة إضافية ولو بسيطة للتحرك.‏ 
ها أنتِ تصرخين، وتكزين على أسنانك غيظاً، وتعاودين الصراخ بعلو صوتك لكن لا حظ لحنجرتك الناشجة.. لن يغيثوك.‏ 
تصلك ضحكة أمك المجلجلة فتتميزين قهراً... لماذا لا تشعر بآلامك؟ ألا تملك قلب أم؟‏ 
لو أنها ربتت على أوجاعك يوماً... لو سمحت لك بضرب قدميك على الأرض احتجاجاً، وصفق الأبواب غضباً، لهربت من فخ التهذيب المزيف إلى فضاء المشاكسة المغري، لكنها لم تتقن شيئاً كإتقانها للوعظ وإسداء النصائح الخرقاء. لطالما سمعتها تقول: "في مجتمع أصم لا فائدة من لسان بليغ، إياكِ أن تجعلي من نفسك النعجة السوداء".‏ 
تفوح تلك الرائحة النتنة التي ترافق الموت عادة، لتثير في رئتيكِ زوبعة لا تستطيعين لها منعاً.‏ 
كنت قد شرعتِ في البكاء حقاً حين هزتك اليد النحيلة لتوقظكِ.. جاهدتِ كي تنفصلي عن ذاك العالم وتستجيبي لتربيتها اللطيف.‏ 
زال الاختناق .. إذن كنت تهذين، لكن ما زالت تلك الرائحة الخانقة تنبعث من مكان ما وتحاصرك.‏ 
تفتحين عينيك ببطء شديد، الغرفة واسعة وبيضاء كغيمة صيفية تعبق بأنفاس الزهور، حولك باقات عديدة موزعة هنا وهناك في مواجهتك أكبرها على الإطلاق تحمل اسم سعد "زوجك".‏ 
في يوم زفافك، قبل خمس سنوات وأربعة أشهر وأسبوع من الآن، كانت هذه الزهور أو أخرى تشبهها تملأ المكان، حتى ثوبك كان موشى بزهر الأقحوان، ها أنت تتذكرين التفاصيل الرقمية دون أدنى خطأ، تستعيدين صوته: "إنني أحب الورود وأنت أجملها".‏ 
ذاك ما قاله لك سعد يوم كان يغازلك لوجه الحب وحده.‏ 
إلى اليسار الممرضة النحيلة التي تطفلت على كابوسك فأيقظتك.. تتطلعين إليها باستغراب حقيقي.‏ 
أيقظتكِ المسكينة كما تحتمه عليها أصول المهنة: افتعال حنان لا تخفي برودته، حين التقت نظراتكما ابتسمت هي، فانكشفت أسنانها الصفراء المتماشية كثيراً مع شحوب بشرتها.‏ 
قالت، وهي تجسُّ بطنك المنتفخ.‏ 
"الحمد لله على السلامة، كانت ليلة البارحة متعبة حقاً، نزفت كثيراً، فأنت لم تساعدينا لتخففي عن نفسك آلام المخاض".‏ 
كنت تقولين لها إنك تتألمين، حين لمحت خلفها سلة مبطنة بقماش لمّاع أزرق، مزينة بأشرطة ملونة كثيرة تشبه سلال الهدايا التي تنسق فيها حبات الحلوى، وإن كانت أكبر منها قليلاً.‏ 
ساعدتكِ كي تنهضي من استلقائكِ، ثم حملت إليك لفة قماش كانت مختفية داخل السلة المزركشة، ووضعتها في حجرك.‏ 
رفعت يدك المتكلسة كي تسندي رأساً صغيراً ظهر من فوهة اللفة، فأصابتك من ملامسة الجمجمة الصلعاء برودةٌ مفاجئةٌ.‏ 
قالت الممرضة وهي تبتعد:‏ 
"حاولي أن ترضعيه.. هو أيضاً متعب، وربما جائع".‏ 
انسلت منسحبة، وأغلقت الباب خلفها.‏ 
ها أنتما معاً.. في غرفة تكاد تتسع لكما وحدكما، إن له لون اللفت الذي تحتفظ به أمك خلف المدفأة قبل أن يتحول إلى مخلل، كان ضائعاً داخل ثوب طويل، كفاه مطبقتان، وعيناه كذلك.‏ 
لإطعامه توجب عليك أن تفكي أربعة أزرار من منامتكِ وتقريبه إلى صدرك، لكنك لا زلت تحدقين في تفاصيل وجهه الآسرة.‏ 
ملامحه تذكرك بوسامة سعد الممضة. تسللت إليه برودتكِ التي ازدادت صقيعاً. فتح عينيه وشرع في البكاء. أيقنت أنه يشبهه تماماً، حتى مسام جلده بدأ ينشرُ الرائحة نفسها: رائحة زهور.‏ 
تابعتِ حلَّ كل الأزرار التي تُبقي ثوب نومك عالقاً بك.. انزلق بسهولة عن كتفيك.. لمعت الفكرة في حمى رأسك، دون أن تقاوميها.. تخلعين منامتك، وترتدين ثياب الخروج الواسعة المعلقة فوق المشجب.‏ 
استجمعتِ كل ما يلزمك من جبن كي تصمي أذنيك عن صراخ الصغير الذي يزداد ارتفاعاً وحدة.‏ 
يا لتلك الحنجرة! لعله اكتشف خططكِ للرحيل.. كان ذهنك مشتتاً، وأفكارك فالتة.‏ 
أنتِ أيضاً كنت تبكين، وتستحين من ذرف دموعكِ أمامهم، لم تطيقي آلامك التي تتعرضين لها، في كل مرة تتمددين فيها أمام مجموعة الأطباء على اختلاف أسمائهم، تنكشفين أمامهم والخجل يقتلك، ودون أي كبرياء تصرخين بأدق أمورك السرية، يحاولون جهدهم لجعل رحمك اليابس يتقبل زرع البويضات المُخصبة.‏ 
حُشرتِ بين المطرقة والسندان.. أفظع الأوقات حين يرن المنبه ليعلن عن مواعيد الحب.. طفلُ الأنبوب أشد عناداً من ثور، ثم لا بد من دفع الفواتير الكثيرة كيفما كانت النتيجة.‏ 
كانت أمك تهمس في أذنكِ مواسية:‏ 
"لا تكوني حمقاء يا ابنتي، عليك أن تحاولي ولو مئة مرة، فالأطفال بالنسبة إلى الرجل أكثر أهمية من الزوجة، ألا تحبين سعداً! إنها الطريقة الوحيدة للاحتفاظ به".‏ 
انتظارك دون فائدة، يسيل الزئبق رغماً عنك، ما دامت الصّدفة فارغة إذن لا قيمة لك، سعد ينأى بوجهه، تنطفئ عيناه، ويؤكد لك الإحباط الذي تتصيدينه في ملامحه الواجمة عن ما تقوله أمك وأمه وجارتك هادية وحتى صديقتك رغد صحيح، هم يمثلون مجتمعك فمن أنت حتى تشذّي عن قوانينهم المقررة سلفاً. الرجال في العادة لا يشرحون وجهة نظرهم، إنهم فقط يقطبون، ذاك بالضبط ما واظب سعد عليه كل ليلة، وكأنه يحملك ذنب القحط. إنها الهزيمة التي لن يقبلها أحد.. بمن فيهم أنتِ أيضاً، كنت تهزين رأسك مؤكدة أنك ستحاولين تكراراً.‏ 
يحاصرِك الهدف: هدفهم، لماذا يصير عليك أن تؤكدي رغباتهم دون احتجاج ولو مهذب بأنك تتوجعين، وبأن الأمومة لا تعني لك أكثر من المعاناة.. مرغمة تدورين في تلك الدائرة المغلقة ما بين المنزل وتلك العيادة أو غيرها.. لا فرق، وما بين عناوين ومواعيد الإخصاب المسجلة في دفتر قرب رأسك. تقطبين.. فما الذي استطعتِ عمله؟ وهل كان ثمة حلول بديلة؟‏ 
تجرين قدميك المتعبتين، لم ينتبه إليكِ أحد، حتى الممرضة التي كانت تنتزع الصغير الذي سيشبه أباه عن صدرك وتعيده إلى سلته، كأنك تمشين فوق الهواء وتلبسين طاقية الإخفاء، وفيما أنت تخلفين باب المستشفى وراءك، وتشيرين إلى سيارة الأجرة كنت تحصين في ذهنك ما مر بك: المرات الست الأولى خجل.. كل مرة ألم.. وعشر خيبات..‏ 
كانت نظرات السائق المتعجل المتصبب نزقاً تتسلط فوق تفاصيلك النائية، فقد استغرقتِ من الوقت ما لا يطيقه صبره النافد، حبيبك سعد لم يتسع صدره، فما بالك بالغريب؟‏ 
يسطع النسيان، تسبحين في عرقكِ، كنت تبحثين في ذاكرتك المحمومة عن عنوان لا يسعفك تذكره، لكنه الطريق الذي لا يضل عنه أحد.‏ 
يعود صوت البكاء إلى أذنيك الخدرتين.. يد باردة تتلمس جبينك المشتعل.. ترينها من بين أهدابك المتقاطعة مقطبة وشاحبة.‏ 
تقولين لا على الرغم من أنك لا زلت تتألمين.‏