15 يونيو 2016

سرد ماراثوني: قراءة في رواية "خرائط التيه" لبثينة العيسى

تبدأ رواية خرائط التيه (الدار العربية للعلوم ناشرون 2015) بجملة " قبل هذه اللحظة كل شيء كان على ما يرام" وخلال زمن الرواية الذي لا يتجاوز الاسبوعين يبدأ بالتاريخ الهجري 7 ذي الحجة 1431 وينتهي يوم 29 منه، نشهد مأساة أسرة مشاري الطفل الكويتي الذي ضاع أثناء مناسك الحج ومن ثم رحلة البحث عنه. كانت الساعة 12:26 ظهراً، اختفى مشاري في طوفان الحجيج، ومنذ تلك اللحظة الفاصلة نتوه في رحلة البحث.
في سباق سرد ماراثوني وخلال 400 صفحة من القطع المتوسط راهنت الروائية بثينة العيسى بجدارة على زمن مسلط كالسيف، وقدر لا يمكن تفسيره، وفجيعة أبوين ملتاعين (سمية وفيصل) لنلاحق معها -مقطوعي الأنفاس- مجريات الأحداث صفحة فصفحة، تنقلنا بين فصل وآخر في متاهة من الأمكنة، تحت كل خطوة لغم ومفاجأة. نجتاز مدناً ونقطع حدوداً مذعورين وراء أثر ولو بسيط لمعرفة مصير طفل بغرة كثيفة وشامة في الرقبة وفراغ في الأسنان الأمامية، اختطفته روينا احدى افراد عصابة تتاجر بالأطفال الفقراء وتستغلهم في التسول أو تبيعهم في صفقات تجارة الأعضاء ولا مانع من الاغتصاب أيضاً. مهمة بثينة لم تكن سهلة، وكان من الممكن أن تفقد بثينة البوصلة، فنفقد الحماسة وسط كل تلك التفاصيل، لكنها لم تفعل.


الألم يوحد البشرية:
في المتن امتد الفضاء المكاني من الحرم الشريف في مكة إلى عسير إلى جازان وأبها ثم البحر الميت ومن مطار شرم الشيخ إلى العريش على الحدود مع اسرائيل حيث ينتهي البؤساء إلى مصيرهم بين أيدي مهربين تديرهم شبكة إتجار بالأعضاء تضم وزراء وجنرالات وحاخامات، أدارت العيسى رحلة البحث بشقيها (الأب يتبع اثر ابنه، الام تنشد الخلاص السماوي) في بناء تداخلي وعملية تناوب سردي جعلتنا نتتبع على مستويين خريطة التيه بحمليها النفسي والروحاني، وتحركات العصابة التي فتكت ببعضها البعض، وفي مستو ثالث تكشف لنا بخطوة استباقية أن الطفل في مكان آخر. آلية القطع والوصل تلك جعلت من نسق الكتابة محرضاً للاستمرار ورفع مستوى التوتر حتى نكاد نصرخ: ماذا تفعلون هنا، عودوا إلى جازان فمشاري لم يتجاوز الحدود إنه سجين يتعرض للجوع والاغتصاب في غرفة نظام شجاع الدين.!
[أهلا بك في جحيم العدالة في المكان الوحيد الذي يساوي البشر؛ في عالم الجريمة]

فنية اطلاق الأسئلة:
إضافة إلى الحبكة المشوقة والموظفة درامياً، جاءت الشخصيات مرسومة بحرفية وموضوعية، وضمن ثنائيات تلتقي وتفترق (الأم والأب- الطفل الكويتي والطفلة الهندية) نواجه عالماً فاتكاً شريراً قاسياً. كما نجحت العيسى في التعامل بحياد مع الأشرار، فالخاطفان جرجس وروينا مجرمان لكنهما ضحايا العنف في مخيمات ليتشور في بلادهم، ونظام شجاع الدين الرجل المنعزل يغتصب طفلاً ولا يقطع صلاة ولا يهمل الأرض التي يعمل بها. هكذا تصبح النوازع البشرية جديرة بالتأمل والخط الفاصل بين أسباب الخير والشر أوهى من أن يُلحظ.
"خرائط التيه" مررت لنا مستو عال من الصراع الداخلي المؤثر، وأطلقت من خلال تصويرها للضعف البشري أسئلة مربكة حول حقيقة الوجود والإيمان واليقين والعدالة والشك دون أن تحاصرك باستنتاجاتها الخاصة.
الأبوان يواجهان الفكرة العبثية "لماذا ضاع مشاري؟" ما الذي فعلاه لينالا هذا المصير!. وهنا إن أردنا طرح الاشكالية على نحو مختلف، فهل المقصود بالرواية تيه طفل فقط أم أن المقصود متاهات موازية.!
لم يكن رد الفعل واحداً أمام المصيبة، فسمية الأم تتقوقع على نفسها، تنتظر الفرج بالدعاء، والمزيد من الاستغفار، وتتحول إلى كائن يهلوس تجلد ذاتها وتبحث عن الغفران لذنب لا تعرفه.
[ من المرعب أنك تبكين ويفترض أحد بأنك امرأة خاطئة؛ المرعب أكثر أنك تصدقين ذلك]
على نقيضها يتحرك الأب فيصل في سعي محموم لملاحقة الخاطفين، يفقد صحته وايمانه، ينهار ولكنه لا يستطيع إلا مواصلة البحث، محاصراً بالشكوك؛ لماذا فقد طفله أثناء الحج؟ وهل خُطف صغيره بسبب اهمال زوجته.!

ملاحظات أخيرة:
بثينة العيسى وفي كل إصدار لها تفاجئنا بإمكانيات جديدة، وأجزم بأن "خرائط التيه" انجاز يحسب لها، كي تبني عليه انجازات قادمة أكثر وقعاً في الكتابة السردية. ويحسب لها في هذا العمل جرأتها المدروسة بدقة والتي لم يكن بالإمكان الاستغناء عنها في مشاهد كثيرة صورتها دون أن تقع في فخ الابتذال. كما لا تخلو الرواية من جدية البحث قبل الكتابة حول المناطق وتقصي المعلومات اللازمة والكافية. إلى جانب إغناء العمل بالحوارات العميقة في بناء سردي حرفي. وتوزيع الفصول زمنياً ومكانياً دون إرباك داخل شبكة نسجت حكاية تيه بأشد الطرق تشويقاً على الاطلاق.
ربما؛ ومن وجهة نظري كان يمكن إنهاء الرواية عند العثور على مشاري، وحذف الباب الأخير الذي تضمن الرسائل، بحيث تترك الطعنة الأخيرة لخيال القارئ الذي تابع كل هذا الكم من الفجيعة.
#بثينة_العيسى

#خرائط_التيه

ليست هناك تعليقات: