الرجل الوفي للكتابة:
لا بدَّ من الاعترافِ بأن قصوراً شديداً في الاهتمامِ يمارسُ على الأدباءِ والمثقفين مقارنةً بما هو الحال عليهِ في الدولِ الأخرى، فمازال إيفائهم ما يستحقون من شكرٍ وما يحتاجونه من فرصِ تفرغ، ومأسسة كل ما يتعلق بالنشر والتوزيع والترويج، يمثلُ مجردَ اجتهادات محدودة، وغيرَ مؤثرة في الحركة الأدبية الثقافية.. الأمرُ الذي يؤدي إلى انهاكِ الكاتب من جهة.. وضَعفِ دورِه من جهة أخرى.
مؤخراً جاءت الجوائزُ لتخلقَ مناخاً جيداً ومهماً ليس على صعيدِ الانتشارِ وخلق روح المنافسة فحسب، ولكنها منحتنا فُرصةً طيبةً للالتقاء والاحتفاء بأدبائنا والامتنان لهم أولئك الذين يحملون همَّ الكتابة ويتحملون عناءَها، فالكتابة عملٌ شاق . أو كما يقول اسماعيل فهد اسماعيل (الكتابةُ مجاهدةٌ).
أتشرفُ اليومَ معكم بالاحتفاء بمثقفٍ يحمل على كاهله عبءَ الكتابةِ، يرتحلُ في النصِ وفي الإنسانِ. أديبٌ غزيرُ الانتاج بلغ عددُ كتبه ( 42) اصداراً.. حالمٌ.. يهدمُ الواقعَ ويبنيه من جديد.. أسس لروايةٍ غير تقليديةٍ.. لجأ إلى تنويعِ التكنيك والاسلوبِ مجدداً ومجرباً في البناءِ السردي والمشهديةِ السينمائيةِ ومسرحةِ الرواية، والاشتغالِ اللغوي ...أضافَ إلى المكتبةِ العربيةِ أعمالاً أرّخت لأحداثٍ ووقائعَ وعاداتٍ واسقاطاتٍ نقدية، ما جعلَ اسماعيل فهد اسماعيل أبَ الرواية الكويتية.
اسمحوا لي أن أسميهِ الرجلَ الوفيَ للكتابةِ. تنوعَ رصيدُه الأدبي بين السردِ الروائي والمجاميعِ القصصيةِ والأعمالِ المسرحية والنصوصِ الدرامية والدراساتِ النقدية، ولكن تبقى الروايةُ – كما يعترف - هوى قلبِه. يقول في إحدى الحواراتِ معه: كلُ شيءٍ يؤدي إلى الروايةِ، ففيها متسعٌ لطرح كلِ القضايا، التي تنوعت فتناول حيوات الغرباء والمسجونين والمقموعين والمهمشين والمطاردين والضعفاء والمستضعفين..
في رأيي الخاص، بأن ما يجعل اسماعيل فهد اسماعيل قادراً على هذا التنوع والاشتغال، هو ما يتيحه لنفسه من الاختلاط بالناسِ والثقافاتِ، فإسماعيل كما يعرفه الجميع عاشقٌ حقيقيٌ للسفر، وربما بسبب ترحاله منذ نشأته الأولى مقسوماً بين بلدين هما العراق والكويت، وأسفاره اللاحقة التي يقصد بها دولاً ومدناً وحواضر تتوزع بين الشرق والغرب استطاع أن يتماهى مع المجتمعاتِ والثقافاتِ الأخرى ويعود من رحلاته التي تطول وتقصرُ وفي جعبتهِ السردية أشكالاً مختلفةً لماهية الحياة، يجدد ذاكرتَه بأجواءَ وأفكارٍ وحكاياتٍ ومنمنماتٍ بصريةٍ ينقلها لنا لنعايشُها في رواياته.
هذا الولعُ بالأمكنة والتنقل يعكس في وجهه الآخر قضيةَ الهويةِ، ليس بمعناها التجريدي والتعريفي إنما بكونها شعوراً وممارسةً، أيضاً يقول اسماعيل بأنه لم يستعد إحساسه بأنّه كويتيٌّ مائة بالمائة إلا أيامَ الغزوِ الصّدامي لينضم الى المقاومة وبعد التحرير سافر الى الفليبين وزادُه حقيبةٌ وأوراقُ صديقِه اسماعيل شموط ليكتب خلال 7 سنواتٍ سباعيته.
لماذا الفليبين ؟ سألتُه. فأجابني بأنه كان يحلُم ويخططُ ليتقاعد في سن الخمسين في أحد البلادِ الاستوائيةِ، من أجل ذلك الهدف عمِلَ في التجارةِ ليوفّرَ لنفسه ما يستطيع به تحقيق حُلمِه والتّفرغِ للكتابةِ، وقعَ الغزو ولم يكن قد بلغ السنّ الذي حدَّدَه، لكنه في تلك الفترة العصيبة بدّد جنيَّ عُمرِه، وبعد تحرير الكويت جاء قرارُه بأنه الوقتُ المثاليُ للخطوة نحو الحلمِ، سافر إلى أوروبا ومنها إلى الفيلبين أسس هناك شركةً لسيارات الأجرةِ العمومية، وغامر مع أصدقائه، ففي البلدان المزدحمة يسهلُ نجاحَ المشاريعِ الصغيرةِ. أنهى مسوداتِ الرواية وبقي في الفلبين.. ولعلمِكُم يخطط الآن ليتقاعد في الثمانين ويقيمَ في بلد استوائي.!
الجانبُ الشخصي الذي أحبُ التحدثَ عنه، هو بدايةُ معرفتي بأستاذي اسماعيل فهد اسماعيل في رابطة الأدباء، حيث صادفته لأول مرةٍ ودار بيننا حديثٌ لا يتسقُ مع اللقاءاتِ المرتبكةِ الأولى، تذكّر اسمي من خلال القصصِ التي كنت أنشرها في الصحافة، كان بعيداً تماماً عما يفتعله بعضُ الأدباءِ حين يصابون بداءِ الغرور، كوّنَ عندي صورةً بأنه الصديقُ الذي يمكن أن ألجأ إليه في كل ما يخص الكتابة كرأيٍ واستشارةٍ. وبقيت تلك الصورةُ لصيقةً به في كل لقاءاتِنا لاحقاً، ومازال يسألني عما كتبتُ ويقرِّعُني لكسلي ويحثُني بمحبةٍ على الكتابة.
اسماعيل فهد اسماعيل كاتبٌ نبيلٌ، ومثقفٌ لا يترددُ بإبداءِ الرأيِ ولا يبخل في تقديمِ المعلومةِ ولا يقتصدُ في التشجيع، أعلمُ أنا شخصياً ذلك.. ويعلم أغلبُ الحضورِ هنا ما أعلمْ.
ما بين عام 1965 حين صدرت له أول مجموعةٍ قصصيةٍ ( بقعةٌ داكنةٌ ) وحتى آخرِ عملٍ منشورٍ (الظهور الثاني لابن لعبون ) يبقى اسماعيل فهد اسماعيل علامةً روائيةً فارقةً في سماء فنِ الروايةِ.
نفرحُ جميعاً لنيله جائزةِ العويس التي استحقها (الرجلُ الوفيُ للكتابة)... ولنا أنا وأنتم أن نتقاسمَ الاعتزازَ به..
سوزان خواتمي
مشاركتي في حفل تكريم الروائي اسماعيل فهد اسماعيل
الذي اقامه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بمناسبة فوزه بجائزة العويس الثقافية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق