27 فبراير 2011

حارتنا ( ياسر خوجة)

مرّ على حارتنا يوماً كف فيه أطفالها عن اللعب بالألعاب المعتادة, كلعبة الشرطة واللصوص التي يتحول فيها الشرطة إلى لصوص تطارد أناساً أبرياء, ولعبة الاختباء التي يطول فيها الاختباء سنين وسنين, ولعبة الغني والفقير التي تحول الغني إلى إله والفقير إلى جاهل, ولعبة العروس والعريس التي يتخيل فيها العريس عروساً تصبح فيما بعد خفاشاَ، وتتخيل العروس عريساً يصبح فيما بعد حذاءاً.

مرّ على حارتنا يوماً، ضاق الجامع بمرتاديه، فتدفقت جموع المصلين إلى الأرصفة وعتبات الدكاكين، لأن العلم الحديث أثبت أن الجنة موجودة، والحوريات ينتظرن بلهفة وصول جيش من المؤمنين.
مرّعلى حارتنا يوماً، استغنت فيه النساء عن الرجال، ( فمص ) الأركيلة لساعات طويلة و ( مج ) السيكارة، أفضل من بلاهة الرجال.
مر على حارتناً يوماً، استغنى فيه الرجال عن النساء، فأصبحوا ينامون باكراُ، ويستيقظون باكراً..ويتحججون بالعمل الشاق والمصائب، فقط لكي يتهربوا من النساء...
مرّ على حارتنا يوماً، أضحت فيه السخرية مهنة،والكسل مهنة، والتشويه مهنة, والشماتة مهنة، والنعيب مهنة، والمذلة مهنة، والبكاء سراً..مهنة.
مرّ على حارتنا يوماً, أضحت فيه الثقافة مستنقعاً, والسياسة عهراً, والفرج شرفاً, أضحى فيه الضمير منفصلاً..والإنسان غائباً..
مرّ على حارتنا يوماً كف فيه أطفالها عن اللعب بالألعاب المعتادة, فاتفقوا أن يلعبوا لعبة أخيرة, لعبة يغضب فيها الجميع, يهدر فيها صوت الجميع, يثورون فيها جميعاً..هذا أنهم يريدون إعادة الحياة إلى الحياة... لكنهم لم يعرفوا من منهم سيبدأ هذه اللعبة الغريبة.. فعادوا إلى منازلهم خائبين .وشكراً لهذه المهزلة.!


القول خطفاً

أريد توقاً وجناحين ونافذة و.............. جهة للطيران
su

22 فبراير 2011

اضحك.. ينجلي النظام! ( سوزان خواتمي)

كل من تابع ثورة 25 يناير في مصر التي رفعت بإصرار شعار «إسقاط النظام» تأكد من أن الشعب المصري لا يمكن أن يتخلى عن قدرته على الضحك حتى في أحلك الظروف، عبّر أحدهم عن ذلك قائلا: «عمركم شفتم ثورة دمها خفيف زي ثورتنا؟!» الحقيقة ليس بعد.

يبدو أن ثورات التغيير تهب مختلفة عما اعتدناه، فثورة يناير تميزت بانضباطها، وما كان يحدث في ميدان التحرير من إيثار و تضامن لم يكن متاحاً في سالف الأيام. ولا ننسى بأن الثورة السلمية المدهشة، كانت أيضاً ثورة غضب شعبي، لكن؛ ولأنها في مصر، فقد كان غضباً مختلفاً، امتزج بمستوى عال من حس الدعابة وتجليات النكتة، ذلك بحد ذاته كان مضحكاً. فالمتظاهرون المعتصمون في ميدان التحرير وأولئك الذين مشوا في مظاهرات كانوا يعبرون عن أوضاعهم ومطالبهم بهتافات لاذعة، وسخرية فريدة تضمنتها لافتاتهم التي حملوها. أحدهم كتب «مبارك يتحدى الملل». فيما رفع عاشق شكواه فوق ورقة قائلاً «ارحل، مراتي وحشتني».
تلك اللقطات من الانتفاضة «الضاحكة» وغيرها كثير استأثرت باهتمام الكاميرات؛ فتناقلتها نشرات الأخبار، وصفحات الانترنت، وتسجيلات اليوتيوب، مبرزة روحاً ساخرة ينعم بها شعب كامل.
لكن؛ لماذا في مصر بالذات، هل هو تأثير مياه النيل؟ لا أظن؛ فأنا أعرف أصدقاء يقيمون هناك منذ سنوات، ومنسوب خفة الدم عندهم مازال في الحضيض!
لقد توصل الباحث الألماني راينر شتولمان إلى أن الشعوب الافريقية عموماً، وم.صر على وجه الخصوص، أكثر ميلاً للضحك، رغم أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. فالنكتة الجيدة -حسب رأيه- «تحتاج إلى لحظة مدهشة وإلى تناقض يحيرنا من دون أن يصرف انتباهنا، ولفهم النكتة يجب أن تحتوي على توازن بين الشيء المعروف والشيء الغريب»، إذ تعتبر النكتة وسيلة لماحة لاحتمال ضغوط الحياة ومتطلباتها الصعبة، ومن خلال ذلك الفهم يحق لمصر أن تكون رائدة، على اعتبار أن التناقض اللازم لمفارقة النكتة موجود في كل مشهد، وفي كل لحظة من تدابير الحياة المصرية اليومية.
نجاح الثورة أيقظ أفراحاً نائمة في شوارع العواصم العربية، والقلوب التواقة للحرية، وظهرت «القفشات» الجديدة، يقول أحد الأصدقاء ممن كانوا في الميدان «آسف يا جماعة غيابي عن الفيسبوك، كنت رايح في مشوار صغير أسقّط النظام وأرجع تاني»
ويقول آخر: «المصريون بعد سقوط النظام يرفعون السقف، ويطالبون بإسقاط اوباما»
الحقيقة ان المصري ليس الأمهر في إطلاق النكتة فقط، بل وبحُسن تلقيها بكل قهقهة ممكنة. لاحظت ذلك أثناء حضوري عرضاً مسرحياً، كان المصريون ممن حولي يستسلمون لنوبات الضحك، إلى درجة أنستني النكتة المفترضة فوق خشبة المسرح، لأصاب بعدوى القهقهات.
أخيراً؛ إن كانت النكتة بالفعل تدفع ضغوط الواقع المزمنة، فمن المتوقع سريان عدوى خفة الدم قريباً إلى باقي شعوب المنطقة. وهذا جيد، لكن أكثر ماأخشاه أن يتأثر منسوب خفة دم أخواننا المصريين بعد تحسن أوضاعهم في مرحلة مابعد الثورة!



16 فبراير 2011

الخروج من (الخروج من المعاطف): د. عمار أحمد


الخروج من (الخروج من المعاطف)



تجربتي في الكتابة الغيميارية


1- المرواة
تكرار الدوران في حلقة، أو تكراره في حلقات سكون آخر، والسكون انتهاء. والتشبث بالتسميات مع الرغبة في إنجاز المختلف تقديس للمسمى، أو هو احتماء بقدسيته، لضمان الانضمام إلى محرابه. من هذه القناعة جاءت الشجاعة في اختيار توصيف للمنجز الذي سعيت إلى الاختلاف فيه عما قرأت وتعلمت وكتبت منذ عام 1984 عندما طلب مني د. عمر الطالب أن أعطيه قصة لنشرها في جريدة الحدباء. ظلت الرغبة في الاختلاف مصدر قلق يشوبه حزن العاجز عن إيجاد فضاء تتنفس فيه كتابته هواءها، ولكن القلق ذاك لم يلوثه الإحباط، ولم أسمح له بأن يرضخ لسعادة الاطمئنان التي تنعّم بها من احتمى بالتشابه. أشد ما كان يقلقني هو أن يقال خرج عمار أحمد من معطف نجيب محفوظ، أو عبد الرحمن منيف، أو حنا مينا، أو الطاهر وطار، أو أن أكون امتدادا لمحمد خضير، أو محمود جنداري، أو يوسف إدريس، أو زكريا تامر، أو... أو...من الكتاب العرب أو العراقيين، وقبلهم تشيكوف، وموبسان، وإدغار ألان بو. ماذا سأفعل وهؤلاء جميعا في الساحة، وما قيمة التميز بينهم، بمعنى آخر ما قيمة أن أعد ضمن قائمة طويلة عريضة، حتى وإن كنت في موضع المدح، وأنا أستطيع أن أكون رقما وحيدا في قائمتي أزاءهم؟ فمهاجمتي في فضائي تسعدني، ومدحي في الفضاء المشترك يفقدني لذة الاختلاف، وفي فضائي سأدافع بوعيي بخصوصياتي، وهناك سأستعير وعيا هو ملك مشاع. من هنا جاءت - بعد القراءات الشخصية، والأكاديمية وهي الأهم- فكرة الانحراف بالبنية الكلية للقص، وذلك بمشاكلة السرد، بالتوازي مع مشاكلة الشعر الذي أعرّفه بأنه فن التكثيف في كلام متوتر، وهنا أضطر إلى إيراد هذا التعريف الشخصي؛ لأن السرد- في المرواة- يفيد منه بوصفه البنية المنحرفة التي ستأخذ خصوصياتها بعد أن تضم انحرافات بنائية مفارقة ستشكل حصيلة اختلافات المرواة بوصفها فضاء حكائيا يتأسس ازاء الرواية، والقصة القصيرة (سأعددها في نهاية شهادتي التوثيقية هذه) والسرد سمة الانحراف الأبرز عن المشاريع التي عملت خارج الإطار التقليدي للقصة؛ لأن المشاريع تلك عنيت بغرائبية الحدث، والعلاقات، وأبقت لغتها حاملا ينشط في وظيفة الإخبار، وأقصد بتلك المشاريع، مصاطب الآلهة، وبصرياثا.. على سبيل التمثيل لا الحصر. والخصوصية في سرد المرواة تكمن -إلى جانب خصوصيات أخرى- في غرائبية الأداء الكلامي، في لغة السرد. هذا المنطلق دفعني بثقة لكتابة (العاميار) نهاية عام 1989 وقرأها الأصدقاء في بداية عام 1990، وكانت بداية الأسطرة الشخصية، للاسم - لاحظ أنها مأخوذة من اسمي، دون الإحالة إلى أي مخزون في الذاكرة؛ لأني أفدت من تجربة الشاعر خزعل الماجدي عندما نشر (خزائيل) وقلت له في لقاء باتحاد الأدباء، ما زالت تسميتك تحيل إلى إسرافيل وميكائيل. مع قناعتي التامة بأن خزائيل هو ذلك النص السباق حداثيا، وهو تلك العلامة على بداية شعر جديد .

ومع بداية عام 1991 التحقت بالدراسة مرة أخرى لنيل شهادة الماجستير، وكانت تلك السنوات حاضنة مثالية، لإصدار بيان شخصي بعد كتابة عدد من النصوص التي كنت أحير بتسميتها، وهي: رائحة ظل، وبضع ألفة وخيانة، وصمت مموسق، ومن ضمنها شهادتي التي نشرت عام 1992، في كتاب هكذا يكون النشيد الصادر عن اتحاد أدباء وكتاب نينوى، وامرأة صوت - ضوئية واحتمالاته. فكتبت بيانا أسميته (عين الغيمة .. بيان شخصي) في عام 1993 وظلت فكرتي فيه قيد التداول بين الأصدقاء من الأدباء. هكذا امتلكت الجرأة على تسمية كتابتي بـ ( الكتابة الغيميارية) ناحتا التسمية من عين الغيمة واسمي؛ لأعاني الاستهجان سرا وعلانية، ولكني تجاهلت ذلك كله ونشرت ( يتفوضى هذا البريء الملغز) تحت موجه قرائي هو (كتابة غيميارية) وكان ذلك في جريدة بابل عام 1994. فضلا على ( عليّ بالقوس إذا أيتها الجوائح !!) التي كتبت بين عامي 1994- 1995. ومع مرور الوقت المشبع بالقراءة رأيت أن اسم (مرواة) على نشاطي الشخصي في السرد لائق ودقيق، وأطلقت على نشاطي الموازي الساعي للانحراف الحاد بالقصة القصيرة جدا اسم (التماعات)؛ ليكونا فضاءين للكتابة الغيميارية.

سأخصص الكلام- الآن- للمرواة، وقد تسنح الفرصة للحديث بإسهاب عن الالتماعات فيما بعد.

المرواة فضاء سردي يرتبط بروابط الانتماء إلى السرد الحكائي بوصفه البنية الفنية الأشمل للقص، ويقطع صلاته من ناحية أخرى بكل ما يؤدي به إلى الاشتراك بفن القصة رواية كانت أو قصة قصيرة، أو طويلة ...الخ في الوقت الذي يمنحني به هذا الموجه القرائي ( المرواة) حرية النشاط الكتابي في مشاكلة الشعر. وهذا -بحسب قناعتي- هو الذي سينقل أدائي الحكائي من موقع تتبع الأثر في الواقع الخارجي، ورصد الواقعة اليومية فيه، وسينقله من وظيفته السابقة المتمثلة بالانعكاس على وفق لوكاتش، أي إنشاء واقع نصي مماثل للواقع الخارجي، وتوصيفه وتحليله، إلى فضاء الرؤية بعين غيمة، وهي صاحبة الموقع الإطلالي الشامل، والشكل الدائب الذي لا قرار له، وهي إشارتي الأوضح للخروج من شكل تابوت ثبوت الجنس الأدبي، ويمنحني الفرصة الكاملة لإزاحة واجب التتبع وإعادة رصف العلاقات، كما سيسمح لي بحرية التصرف بوظيفة خلق الأثر الذي سيكون نصيا بالضرورة، لا صورة له بالذاكرة ولا صوت، وحرية الانحراف بأصله، ودلالته، إذا كانت للدلالة المحددة أهمية! فضلا على انتزاع الواقعة من سياقها العام، إذ لا بد من الأخذ من الواقع، فلا وجود لي إذا كنت وحيدا على هذه الأرض، هذا الانتزاع الذي سيحررها من علاقاتها القديمة، ويستنطقها، بما يؤدي إلى خلق واقع نصي يحمل الانعكاس ولا يتمثله؛ واقع نصي مفارق. ولا يمكن أن يكون كذلك إذا لم يكتب بأداء كلامي لا يشير إلا إلى تفرد الواقع الذي ينشئه، وهكذا تبتكر المرواة واقعا يتحكم بطرائق ابتكارها! وطموحها أن تغطس في الحكاية ولا تتبلل! وتغطس في الشعرية، ولا تتبدل!

إن الكتابة التقليدية، كتابة غير مكتفية بذاتها، فهي تحتاج إلى المعرفة لإعادة تصديرها، وتحتاج إلى الأثاث لتعيد ترتيبه، وإلى الشخصيات لترميزها، أو الإيهام بحقيقة الحدث والفكرة المتحركة؛ ليوافق عليها القارئ الخامل، فتنجح! لذا فهي قلقة على الرغم مما تحتمي به من تاريخ، وقبول؛ لأنها غير موجودة خارج دائرة التوافق تأليفا وتلقيا. أما الكتابة المفارقة، فهي تحتاج إلى ما يجب تأسيسه، وتأثيثه بما لا يحيل إلى الواقع الخارجي انعكاسا بالضرورة.

إن المرواة وهي نص مفارق، يتحرك خارج دائرة التميز والتنافس، نص مكتف بعلاقاته، وقوانينه. لذا فهي مصدر قلق وهذا أحد الفروق الجوهرية كذلك. وهنا يجب التذكير بأن التركيز على اكتفاء المرواة يشاكلها مع الشعر، ولا بد من الإشارة إلى هذا المحور؛ لأن الرواية والقصة القصيرة لم تكونا كذلك.

إن المرواة تحتاج – لتنوجد خارجها- أيضا إلى متلق نشط ومرن، وهو بعد لا يقل أهمية عن الاختلاف حد الافتراق في المنجز، فالمتلقي الفعال المرن متوازن البناء غيّب مرتين: في الأولى عندما أهمله التقليديون، وأشباههم، وفي الثانية عندما غيبته الحداثة- حداثة شعراء الثمانينيات، ولماذا هم مصرون على تسمية ما يكتبون شعرا لا أدري؟! التي سادت منذ نهاية السبعينيات في العراق، وتركت هوة واسعة بينها وبين القراء عاديين، ونخبويين، فلمن كانت تكتب؟ وإذا عدنا إلى النصوص التي نشرت في الصحف في تلك الفترة سنرى ذلك جليا.

إن المرواة محاولة مستمرة ودائبة، في فتح الطريق أمام الكتابة السردية الحكائية؛ لتتحرر من وظيفة الإفهام، أو واجبات المصلحين الاجتماعيين، مثلما هي دعوة للتحرر من التسمية التي ظلت مسيطرة على قاصين كبيرين مثل محمد خضير ومحمود جنداري، وهما السباقان في الاختلاف، والمرواة تشترك في محاور قليلة مع منجزيهما( مصاطب الآلهة، لجنداري، وبصرياثا لخضير من حيث توظيف الغرائبي، وإذابته بالواقعي مثلا، وإن اختلفنا بالأداء)، أحيانا. ولكن يبدو أن الحرص على إنتاج الأفكار، واقتراح بدائل للواقع الذي عانى كل من خضير وجنداري من ضغطه بوصفه قوة قمعية متواصلة ومتكررة عبر التاريخ لم يدفعهما إلى اجتراح موجه قرائي مختلف، لأن هذا الأخير متعلق بالشكل أكثر من تعلقه بالدلالات بمسافة ضوئية.

بعد هذا العرض النظري العام سأشير إلى عدد من المحاور البنائية التي تقوم عليها المرواة بوصفها فضاء حكائيا يسعى إلى أن يكون موازيا للرواية والقصة القصيرة، من حيث كونها نوعا نصيا في فضاء السرد الأشمل، منطلقا من قناعة هي:

إن الطيران فضاء حركي مستحدث في حياة الإنسان مثله مثل القصة الفنية، فعباس بن فرناس طار بجناحين، فالجناحان أول وسيلة لطيران الإنسان، والمنطاد وسيلة متقدمة، والطائرة وسيلة أرقى والمركبة الفضائية أرقى الوسائل لحد الآن، هنا أقول إن الطيران واحد، ولكن آليات تنفيذه متعددة وباختلاف الآليات، تعددت أسماء الوسائل، فالجناح جناح، والمنطاد منطاد، والطائرة طائرة، .... والمركبة الفضائية كذلك، والطيران واحد، من هنا أقول: إن السرد الحكائي واحد، وآليات تمظهره المختلفة إرسالا وتلقيا، مختلفة، فالمقامة حكاية توظف الشعر، من خلال شخصيات وهي مقامة، والمسرحية الشعرية توظف كل ما توظفه المسرحية النثرية إلا أنها كتبت الحوار شعرا، فصارت مسرحية شعرية، أي ثمة إضافة لازمة على الموجه القرائي التجنيسي، والرواية توظف السرد، بأنواعه وبتقنياته، والشخصيات في مكان وزمان، وهي رواية، والقصة الطويلة كذلك، ولا تسمى رواية؛ والحال كذلك مع القصة القصيرة، والفرق في طبيعة زمن الحدث فهو قصير جدا، وفي عدد الشخصيات، وعدد كلماتها يحدده الأوائل بعدد! وهي محاور مشتركة في النوع! وعليه فإن بنائي السردي يحتاج- لأسباب أراها موجبة- لاجتراح موجه قرائي خاص به،( عتبة رئيسة) يوثق صلته بالسرد الحكائي بوصفه فضاء لنشاط إبداعي أراه فذا، بالقوة التي ينفصل فيها، مؤصلا سردا حكائيا عربيا فوق حداثي؛ ليتموضع فيه إلى جانب الفنون القصصية المستوردة، هذا الموجه القرائي هو- بعد كل ما سبق من الطرح النظري العام - المرواة، لما يأتي من مظاهر انوجاده الرئيسة الخاصة:

1- المرواة نص مسرود يقوم على نص موسيقي، أو نص موسيقي يتألف فيه/ منه. في محاولة لإطلاق السرد الحكائي في فضاء الموسيقا. لقد أخطأ الأدباء عندما أضافوا الصورة إلى نصوصهم القصصية، أو الروائية، لأنهم حدوا من نشاط المخيلة الذي هو بالأساس محدود بسبب انشغالهم بالنقل من الواقع الخارجي، ولكن الموسيقا أضفت على تجريد المرواة تجريدا، وأضافت إلى تلقي المكتوب بصريا شكلا جديدا، فضلا على إضافتها العمق الذي يحمله النص الموسيقي، هذا العمق الذي سيؤجل مستوى من مستويات التأويل إلى زمن قادم، فتكون المرواة، حاملة حياتها باستمرار على محمل المؤجل المحصن ضد الحسم، والانغلاق. وبظني أكون في هذا الإنجاز سباقا، لأني لا أعرف أديبا/ موسيقيا أقدم على هذا قبلي في العالم.

2- إلغاء المقدمة الاستهلالية – عادة ما تكون وصفية- التي لم يخل منها نص حمل مفردة (قصة) أو (رواية)، والدخول بزخم سردي متوتر منذ العبارة الأولى، لتعزز صدمة الموجه القرائي المفارق. فالمقدمة الاستهلالية في النصوص القصصية، ضرورية لتهيئة متلقيها، وهي في هذا السلوك الكتابي المتوارث، مازالت تعنى باهتمامات التأليف التقليدية التي كان يحرص عليها الحكواتي القديم.

3- تشتت المتن الحكائي، وتغييمه لحساب المبنى الحكائي، وهذا مسار معاكس لمسار الرواية والقصة العربيتين، ولمسار ما اطلعت عليه من الروايات، والقصص العالمية، ولم أقرأ نقودا، أو تنظيرات تثبت عكس ما أذهب إليه. فالمعروف أن الأولوية في الرواية، والقصة، للمبنى الحكائي، أما المتن فهو البنية الثانية التي تغذي التّلقي بالتفاصيل، وترسخ علاقات المبنى المركب المترابط في الرواية، والمبنى البسيط في القصة القصيرة.، وهي منفذ السرد لتوظيف تقنياته كالارتجاع، والسبق، والقفز.. إلخ

4- النشاط الشخصي في الفضاء الحكائي: ويتلخص في انتزاع المكان من سياقه الجغرافي، والتاريخي، ووضعه في سياق ذهني، تحرره خصوصية السرد من علاقاته القارة، مثل افتراض تاريخ للاسم، واختلاق مبنى، ومتن لحكاية شعبية مختلقة أصلا! يستلزم بالضرورة اختلاق شخصيات، أحرص على أن لا تؤدي دور الدال الواضح والمباشر، وهذا لم أعهده في الرواية، ولا في القصة القصيرة من قبل، أصرح بهذا محتميا بما لا يقل عن خمسة عشر عاما من الدراسة الأكاديمية، بكالوريوس، وماجستير، ودكتوراه فلسفة في الأدب العربي الحديث، في تخصص دقيق هو : القصة والرواية، فضلا على الحرص الشخصي بتتبع (القص) تاريخا، ومنجزا. والانفتاح الزمني المحكوم بالأمكنة المنتزعة. فبنية الزمن في المرواة متعينة مكانيا، ومنضبطة على إيقاع التنقل بين الأمكنة منتزعة كانت - بفتح الزاي- أو مفترضة، ولم أقع في الفوضى زمانيا، بحيث تؤدي إلى إرباك في التلقي، كما حصل مع القاص الراحل محمود جنداري في مصاطب الآلهة.

5- ثمة شخصية رئيسة متكررة لم يعتمد عليها روائي، أو قاص، في تاريخ القص العربي الحديث، هي شخصية الموسيقار الأديب، النخبوية، التي تتمتع بثقافة تؤهلها لاتخاذ موقف من العالم، تمنح الواقعات، والأمكنة، والأحداث، والشخصيات المحيطة بها- هنا يحق لي أن أقول المرواتية- تمنحها تمظهرها الخاص بالفضاء السردي الذي تتحرك فيه/ به، بقدر نجاحها في انتزاع كل منها من سياقاته في الواقع الخارجي. إن الحضور الطاغي لهذه الشخصية، التي تساوي أحيانا الراوي العليم، مستوحى من الشخصية الرئيسة في فن المقامة العربي الخالص.

6- تداخل الراوي العليم، بالراوي الذي يساوي الشخصية الرئيسة (أنا) والاعتماد على التلقي البصري أولا في التمييز بينهما، من خلال توظيف الحرف (الغامق) ولا تهيئة لهذا التداخل، فثمة إلغاء لما ينبه إلى دخول الراوي بالضمير المنفصل (أنا) ما يبرر القول: إن المرواة تشتت انتظام السرد، بكسر أفق التسلسل المعهود في القص، على نحو يوازي تيار الوعي، ولا يشبهه في تفاصيله، أي ليس هناك ما يسمى تيار وعي. فضلا على توظيف الجذاذات التي يكتبها الراوي أو الشخصية الرئيسة، وأحيانا المؤلف، أسلوبا يتكرر في المراوي، بينما كانت النصوص الروائية، والقصصية ترتب السرد، وتقطع سياقه بسياقات أداء سردي يعرفها ذوو الاختصاص، تعززها اللغة النثرية الخالصة (الإخبارية) وتسهم في إيضاحها وهي مسألة منطقية جدا؛ لأن الوظيفة الأولى للقص هي الإخبار، وكان العرب- بحسب ما ذكر السيوطي في الإتقان- يطلقون على أخبارهم المتوارثة، وحوادث التاريخ ، القصص، ولعل هذا ما دفع محمود جنداري- وهذا ما أثبتّه في أطروحتي( البناء الفني في قصص محمود جنداري) 1997م لنيل درجة دكتوراه فلسفة في الأدب العربي الحديث- إلى تسمية مصاطب الآلهة بالقصص، لقد كان سرده عبارة عن تداعيات ترسلها ذاكرة راو عليم، يقطعها حوار المتحاورين، فالغرابة في سرد المصاطب لم تأت من تفرد صياغة الكلام فنيا بل كانت متأتية من غرابة العلاقات بين الشخصيات، التي جمعها من أزمنة متباعدة، وأمكنة مبعثرة، بعبارة أخرى؛ لقد حافظ القص (عند محمود جنداري في مصاطب الآلهة تحديدا) على الرغم من محاولة تشتيته للزمان والمكان، على راو واحد هو الراوي العليم، الذي ظل محافظا على لغته الإخبارية، التي لا تنزاح، بالجناسات، أو المجازات، أو التشبيهات الجديدة، بقدر انزياحها بالعلاقات (المكزمانية) التي غالبا ما تتمظهر بشخصيات من أزمنة مختلفة، وأمكنة متباعدة. من أجل توفير فرصة لوصف رؤيته الشاسعة لتاريخ الإنسان العراقي، واستعراض مأساته، في حين حرص خضير على بناء يوتوبيا، كل ذلك من خلال غرائبية الحدث والعلاقات، في حين حرصت المرواة على غرائبية الأداء الشخصي في السرد الحكائي. لقد قسمت مرسلي الحكي، في ندوة خاصة بالمرواة، أقامها اتحاد الأدباء والكتاب صيف عام 2004 إلى (حاكي) وهو ما نشترك به جميعا، في أدائنا اللغوي الاجتماعي العام، والحكواتي بمراحله الفنية المختلفة، بضمنها كتاب القصة المعاصرون، الذين يختلفون فيما بينهم، بقواميسهم الشخصية، وأساليبهم، وطبيعة اهتماماتهم، والمشاكل التي يعالجونها، ولا بد من أن أجعلهم ينضوون تحت يافطة الحكواتي، ولكن هناك حكواتي فني ما زال يصر على التمسك بتسمية نصه بالحكاية!! وهناك الصنف الثالث النادر، المفارق، وهو الحكّاء الذي يحمل، كل أدوات النقش في فضاءاته السردية البكر. وكل سمات خصوصياته، منجزا أولا، وقصدية ووعيا بهذا المنجز ثانيا.

7 - تبقى اللغة المنحرفة في المرواة، في بناء مفرداتها، وجملها، سمة سأحافظ على ديموتها، فثمة اشتغال شخصي في تفاصيل العبارة، يحرفها عن وظيفة الإخبار ولا يغربّها، وسأسوق على ذلك مثلا واحدا فقط، ففي (علي بالقوس إذا أيتها الجوائح) 1994- 1995م أراد الراوي أن يصف لحظة من طفولة المروي عنه في ظلام صالة سينما، وهي مقدمات السكائر الوامضة، فإذا قال تشبه نجوم الليل فإنه سيحيل إلى صورة مألوفة تماما، وهذا شأن الساردين التقليديين، وإذا قال نجوم السينما، فإنه سيحيل إلى الممثلين وتشترك الصورة بصورة لا يريدها في هذا المقام، و جملة ليل نجوم السينما لا تصح أيضا! فجاء الاشتغال ليؤدي غرضه، ويقول بطريقته: نجوم ليل السينما. إن توظيف الموسيقا في المرواة- في جانب منه- عامل استفزاز للغة للارتقاء، ولعل عنوان المرواة (أنت موسيقاي .. أو هذا البياض المحنك) المنشورة في جريدة الزمان العدد (1575) مثل يعزز الادعاء: أنت موسيقاي: الموسيقا هنا مسند- نحويا- فالمسند إليه في أعلى درجات التجريد، وأي بديل للموسيقا سينزل بالمسند إليه قيمة وصورة، وهنا يأتي تحدي الإداء الشخصي في اللغة، عندما يأتي مسند بديل، لا ينزل بالمسند إليه من مرتبتيه السابقتين، فكان: أو هذا البياض المحنك. إنها القصدية في الانحراف المركب، وإلا كان قولي أنت بيضاء مثل موسيقاي، أسهل، مع احتفاظه بقيمته بوصفه تعبيرا منحرفا.

إن استحالة الصورة، المتأتية من استحالة واقعية علاقة مكوناتها – كلاميا- مبررة وغير مفتعلة، بسبب هذا التعالق الوثيق بين فضائين إبداعيين، يسعيان إلى نقل المتلقي من منطقة الفهم، إلى فضاء الإدراك. وهذا يعطي انحراف الوصف شرعيته، مثلما يدفع بمن يعتمدون على التوتر في الوصف فقط – وهم تقليديون بناء -من حيث وجود بداية، ووسط وعقدة ونهاية- وتفاصيل، وموضوعات، إلى مساحة الأزمة،ويفضخ غياب وعيهم بخطورة الاختلاف.

والأمثلة الوصفية المشابهة المشتغلة- بفتح الغين- سمة تتكرر باستمرار، بما يعزز انحراف السرد الذي سينحرف بالمحاور سابقة الذكر، فضلا على توظيف الذاكرة النصية، سواء في المرواة الواحدة، أو اعتماد مرواة سابقة، بوصفها ذاكرة أخرى للمرواة الجديدة.

ألا يحق لي بعد تداخل هذه الإضافات النوعية على البناء بخصوصية الأسلوب، بما يمنح المرواة خصوصية أدائها الكاملة؛ ألا يحق لي أن أحيا خارج التوابيت التي تقبلتها الملايين، متلقين ومرسلين، دون اعتراض على الرغم من عدم مشروعية أغلبها، لعدم توافر الاختلاف الجذري والخصوصية، وأن أنعم بكبرياء المترفعين على الاحتماء بوضاعة خلافة الآخرين، وأتدفأ بالانفراد خارج انتظام آخرين في برد المعاطف؟!

ــــــــــــــــــ

* إن إيراد محمد خضير ومحمود جنداري فقط، لا يعني عدم وجود منجزات إبداعية أخرى مغايرة جديرة بالإضاءة. هذه الشهادة نشرت في ألف ياء جريدة الزمان الدولية نهاية آب 2005

قطار الليل السريـ ...يـ ...يـ ...ر: د. عمار أحمد

قطار الليل السريـ ...يـ ...يـ ...ر



*مرواة*

إلينا ونحن نتفاجأ يوميا بأننا ما زلنا على قيد الحياة!!
كان يرمم- كعادته- بعين عصيّة على النوم، والصحو، والبكاء، والابتسام ما تخلف من نظر الساهمين إلى المساء، والساهين فيه كذلك، وهم مذهولون من هول هذا الجحيم المدفون في ثنايا نهارات مذعورة من غرابة شيخوخة ضيائها، وكأنه يترنم!! وكان يرمّض مسارات البرد المترفة بفقدان الصوف، ونأي الصيف، في رحلة الحتوف إلى حيواتها، أليس هو من أوقد الدفق الدؤوب في طريق السخونة وطرائقها في النضوب؟ وجفف الدفء من عروق الهروب؟ أليس هو من حاول أن يغرق مؤرقه عندما وقفت على حافة دجلة وانحنيت لأراه على صفحة الماء وفرّ ليتركه في غرقه؟ رغبة منه في إنهاء هذا الخصام العتيد؟.

يا هذا الذي لا يعرف أحد لحزنه ملمحا، ولا لخزيه سببا، يا سيد الهزائم المنتصرة على ذهنه- في ذهنه- وذهوله يثير الذهول حقا، لماذا قوّست أيامي، وتركتها طائعة للذبول، والحموضة، والاسوداد مثل أي حلم أيقن أنه لن يتحقق؟ يا رديف هزائمه، وتاريخه المعاق، لماذا تتألق ضغائنك، كلما اقتربنا مما كنا نتمنى، وكنت تتمنى اقترابنا من الانطفاء، إذا كان لا بد من عدمه؟

كنا إذا أردنا المكوث في زوايانا النيّرة بعشقنا، وبهذا الإصرار على الجمال، يؤطرنا طيفك الجاحظ، وسمرتك الآيلة إلى خريفها بصمتها الملغوم الذي صار جارحا ومؤسفا -فيما بعد- يؤطرنا بالكلمات التي كنت تستنفر أقصى طاقات إحساسك باكتمال النقص،وتقذفنا بها، كما كانت تحاصرنا العيون الخفية والأذان الواسعة، وكلاهما يورّم جموحنا باللكمات!! ولكن سأستحلفك بموتك اليابس هذا: ألا تأخذك المتاهة إلى تلك المساحات الشاسعة من أعمارنا- تلك الشائخة بشبابها- وتجر عمرك من أذنه وتوبخكما توبيخا بهول المحنة الذي خلفتها، نعم هذه المحنة العصماء، أنا لا أنكر أني كنت أراود الأيام عن نفسها، ولكن ما يشفع لي، مقاصدي التي تشبه ولعي! نعم كنت أريدها أن تنجب أعمارا لانبكي فيها على أعمارنا، ولا يبكي علينا فيها أحد، كنت أرى فيها امرأة بحسن يحزن من فرطه، وكيف يكون الحال أقل والرائي هو، رديف تطلعاته، وسميّ غيميّته، وخساراته- فيما بعد- وجساراته- الـ (ما تزال). ألا يحق له، أن يبلل تجاعيد أيامه بالنحيب، ويتوشح بحزنه الدؤوب، وأن يكيل لك مثل هذا الغيظ يا ....؟ والريح تشحط تجاعيدها، وتؤرخ ككل يوم، كل يوم، كل ساعة، كل دقيـ...يـ...يـ...قـ...ـة، تناص الأحداث، وتراص الأوجاع، في محنة نهاية الـ مائة عام.

(تعال اقترب في- من هذا الصباح المترع بالقهوة، وهدوئي، والأخبار العاجلة التي تزف القنوات الفضائية نجاحها بالسبق من خلالها؛ لترف بأجنحة سوداء، تعال وهذا صباح مثقل بالخمول، والنحول المرصعين بذكراها، وذكراها سر سعادته التي لا تتجدد الا بتذكرها. تعال اقترب، يا اختصار الخسارات، والحسرات، والهفوات التي ما تفتأ تتكرر،على الرغم من النأي عن مسبباتها، نعم تعال اقترب مني أيضا أيها السؤال المبهم، المتهم، المتيّم بما يحزنني، وضع ساقا على ساق، واقرأ- بتركيز- المارين وهم يفوقون شمس هذا الصباح حذرا، وترددا. تعال نتصفح التقلبات الخرافية هذه، ونقلب الصفحات، بعد تقليب الصحف، يمينا وشمالا؛ للتأكد من عدم وجود ما يستحق أن نفتتح به نهارنا الذي سيتأثث بما يتأثث به يوميا، لأقل: بما تأثث كل غد، وليغفر لي النحاة، والنحاتون يزيلون عن الحجر كل ما ليس له علاقة بما يصبون إليه، وشكرا لبشار عبد الله ولكن لا النحاة ولا النحاتون يدلون بإعراب (عن) تحجر الأيام في المساحات الشاسعة على جوانب هذا الصباح النحيف من شدة تكرّره.) لماذا لا تؤجل هذا الكلام إلى آخر المرواة؟

ما زال يسمع شظايا أصوات الأطفال الذين كان أكثرهم لا ينعم بألوان سعادة الثياب، إلا إذا لاح في فضاء أحاديث الكبار قوس عيد، يسمع شظايا أصواتهم في (العوجات) التي هجرها اللعب، وفي تلة (ريما) المترعة بالعيد، عيدنا ذاك؛ المدجج بـ (العيدانيات) وبوادر الرجولة، بالذهاب إلى مصاريف السوق، واستطعام حلاوة روائح المطبوخات، في مطعم (الشباب) قبل الاندساس الملهوف لرؤية الأبطال على صدر ليل صالة السينما المضيء، وروائح المطبوخات التي كانت ترفرف أمام رجوع الجائعين في العوجات لها هدف آخر فمنها- بها كانت تتسلل النساء إلى جيوب أزواجهن المتعبة ببقايا روائح مهنهم. ويضحك ملء نفسه من نفسه؛ لأنه تعجب من الشيخ (أبو العلا) عندما قال في وقت مبكر من عمري! إن النساء يدخلن بالأكل إلى معدات الرجال؛ ليعبروا من هناك إلى قلوبهم، ويجرونهم جرا إلى غرف النوم شتاء، أو إلى (الكلاّت)، تلك الغرف القماشية اللامعة على أسطح المنازل صيفا، ثم ينطفئوا عند احتدام اللحم.. بالعسل، ليبدأن اتقادا جديدا مع شمس صباحهن.

...... ولكن شظايا الأصوات بددت كل ما تأثثت به الذاكرات في زمن التفاح، والفراولة، واللوز، والفراشة، والأقمار الملونة وهي تشع على البياض الخبيء( هذه رموزي رجاء) والملابس الشفافة التي لم تقلّ –أبدا- عذوبة عن موسيقا السعادة! وما تزال. يا سيد التعاسات في هذا الزمن الذي تثقل بشرته الثآليل، ويقوّس ظهره ثقل السكون، ويربّت الحزن عليه من حزنه عليه!! ألا كففت عن أغنياتي، وولعي بما يكمن في المساحة الشاسعة بين ماء الموسيقا، وجدب الجنون؟ أنا لا أريد الوقوف على ذكراك طويلا، ولا أريد الرجوع إلى ضياع الوقت في البحث في أسبابك، فأنا سميّ ولعي بما يربو على الوردة الثرثارة بصمتها، الثرة برشاقتها الملونة، لم أعد أقدر على التواطؤ معك في هذا الضرب من الائتلاف؛ لأنك لا تعرف عطر بهاء (عسل)ي، الذي تنبض به (بيبونا)ي، أنت تعالج الأكاذيب بالاختلاق، وأنا أعاود إلى مفازات الصدق بالتخليق، أووووووه أي فرق؟ أنت تضع عجزك وراءك، وأنا أضع عثراتي خلف ظهري. لماذا تحف بك العتمة كلما مشيت، وأنا تعج فضاءاتي بالموسيقا؟ سأجيب وأوفر عليك هذا الصمت الناطق بما لا تستطيع البوح به؛ لأنك ناء عن الوردة، وشحيح حب:

لأن الموسيقا لا تعرف الكذب، ولأنها ستعاني التجاعيد كلما اقتربت منه، تضاريس الموسيقا صقيلة، ولامعة، تأكد من ذلك -إن شئت- بالإصغاء إليها في العتمة. ولكن عفوا.. عفوا .. نسيت أن عينيك عاطلتان عن النور، وأذنيك لا تجيدان الإصغاء في العتمة، وإحساسك أشد عطلا من حواسك، ولعلي ألتمس لك الأعذار، فأنت عاطل أساسا عن ثلاثة أرباع مساحة الجمال في الحياة، أنت عاطل....... عن المرأة/ قل له اشرب قهوتك واخرجا معا، يدا بيد، وحزنا بحزن، وولعا بولع، ودعوها تتأنث بما يليق بهذا البهاء، وهذا النقاء، وهذا الشرود الذي يلفّني، وتتأثث بما يديم سطوتها على قلبه.... وعلى سلالم ارتقائها المهيب –عندما تقتحم عزلته- كل آيات الترحيب والأمن والسلام.

دعوه نافرا -كشعاع باسل أفلت من حشود الغيم في شتاء فاحم- يلتمع... ويرجح كفة الاحتمال دائما، ويناور على الوضوح دائما، ويستدرج أحلامه إلى بداياتها دائما .. دائما، إلى البدايات تلك، عندما كان كل شيء ينهض بالبريق، والبراءة، والفرح المترع بدأبه الذي يليق بطفل يفيق ليجد نفسه كل يوم أنه لم يكن مؤتلفا تماما/ كان يراقب ذلك القط المترف بشباطه، المستمتع بصوته المتورم الجذاب- بذائقتها- مؤقتا، ويدبّج له تاريخا حافلا باللحم، والقطط العابرات، ويفترض له قصة تعجن الحب بالحرب، والحزن بالفرح، والصوت بالماء، وتخلق منه قطا أسطوريا، تقطع سيرته نسل الفئران إذا تليت على مسامعهم المرهفة، وتدفع بالمهارة إلى أقصى نقطة في فضاء الروعة غير متناهي الروعة، ولكن قطة مسرعة مرت، عبرت الشارع بقفزتين، رافعة ذيلها الذي يؤدي دور السجادة المنفرشة عموديا نهاية الطاووس في الغرفة التي تضيء صدر الحوش، الطاووس الذي سقط خيطا فخيط... لعل العابرة المسرعة كانت تقصد أن تستدرج هذا البطل -السعيد بداية كل سنة- إلى مساحة لذتها ، إذا كانت قصدت ذلك فقد نجحت! لأنه فهم عبورها رسالة مفادها:

ليس بيني بينك أكثر من قفزتين.

كان يفكر في كتابة تاريخ سري لهذا العري المعلن على رؤوس الأشهاد، ويؤسس لفلسفة افتضاح التفاهة، ويسأل لمَ لمْ يعن المؤرخون والفلاسفة ببعدين كهذين، مع أنهما عنوانان لجوانب كثيرة في الحياة؟ حياتنا التي تتقافز مذعورة تارة، وحزينة دائما بين أصوات الانفجارات، وتتقزز من يافطات تبرير مأساتنا داكنة الزرقة، التي فاجأتنا بأننا خسرنا مائة عام من الألفة! والموظفون بدرجة رئيس وملك من الزعماء، مازالوا مصرين على التظاهر في وسائل الإعلام بمظاهرات مليونية -كونهم مؤازرين بأفراد الحماية العتاة كليل شتوي مثخن بالرعود- ليطلقوا من خلال اليافطات المؤمّنة شعاراتهم: كلا.. كلا يا أحرار!!

كان يوما أعلن عن برده بيافطة بيضاء غطى بها تل الحب في (أنت موسيقاي...أو هذا البياض المحنك) وعن بطئه، بترتيب ثواااانييييه، ودقااااائقه بثقل ورتاااااابة تخنقاااان. ولعل ابتسامة بيبونا وهي ترتب الوقت من فوضويته، وتزيل الحزن عن وجهه بوهج سحري تفيض به عيناها الثرثارتان، لعل ابتسامتها تلك هي الحيوية اللامعة الوحيدة في ذلك الانطفاء العتيد، نعم هي التي كانت تنسيه القلق الذي تعج به المغامرات في مكان كهذا.. ووقت كهذا، وتلون فضاءهما برائحة نبراتها الشهية، وتعيد إلى ذاكرته حقيقة أن هناك ما يستحق العناء، والحرص على مقاتلة الهباء وهو يغزو مخازن السرور، كانت ترطب سخونة انتظارها بعطر صوت فيروز:

يادارة دوري بينا

وظلي دوري بينا

......

......

وذا سألوا وين كنتو*

وليش ما كبرتو انتو

بنقلن نسينا

وتنسيان أيتها (البيبونا).. الناعمة.. الناعسة.. الوحيدة.. العاااااااااطرة.

لكنه - يا فيروز- لا يدوم طويلا؛ لأننا نصحو بعد كل نسيان على موعد دام، عفوا، مواعيد مكتظة بما لم نتواعد معه، ولكنها تتوعدنا كل يوم، وفي كل مرة ندرأ الموعد بما يتيسر من وسائل الهروب النبيل، والآن.. يلوذ بصوتها البارد من سخونة ضجيج الذكريات، ويتعطر بذكراها بعد فتح الشبابيك؛ ليطرد عفونة خوف التهيؤات، ويلوّن فراغ هذا الصباح الشائخ بـ( سماعي نهاوند) ويعقّله بجنون تأليف جميل.... بشير !!

وما زال يراود العود عن أوتاره، ويعود إلى ريادة الصوت في توثيق الوجع على موسيقا زوال التوتر.

- وماذا تقصد بهذه الجملة؟!

لا تتدخلي، حديث النساء عن العود قاس أحيانا، ومثل لطافتهن أحيانا أكثر(عزلة).. إنصاتهن لغزله يذكره بفرحته الأولى عند استلامه أول رسالة حب دائما.. دائما / نعم رسالة الحب تلك، في الشهر الخامس من تلك السنة مترامية الجمال، في الأسبوع ما قبل الأخير من الامتحانات النهائية، للصف الخامس الابتدائي، في الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم المترع بما لم أجد ما يعبر عنه في ذلك الوقت، من تلك التي جمعت الكلمات كلها ووضعتها في فمي وأحكمت إسكاتي، دون أن أدري - تدري وظلت تفوح صورتها عطرا يراود أذنيّ وعينيّ، وظلت طفلة في ذاكرة ذاك الطفل الذي صار بعد ثلاثين عاما أو يزيد... طفلا بالغا، وظل. ما أجمل إنصاتهن، ولغة عيونهن التي يسمعها أحيانا أجمل بكثير من عزفه على العود.. عجيب!!

جده كان يأنف من الاقتراب من الاثنين!! النساء والعود بل قل الموسيقا، وأبوه يستهجن (العود) وربما كان يستهجنني أنا فقط؛ لعشقي له، ولخوفه مما سيقوله الأصدقاء بعد صلاة المغرب، أو العشاء، لأني طالما ضبطته متلبسا بسماع محمد عبد الوهاب ظهرا_ الذي كنت أكرهه أكثر من كرهي لأم كلثوم- عندما كان يستعين على فراغ وقته بصوته، وألحانه، وربما كان يستدرج به النوم إلى عينيه، تعينه وشوشة الراديو؛ ويدندن معه ضابطا الوزن بدقة، أما موقفه من النساء فقد ظل غائما في ذاكرتي، مثل الكثير من قناعاته./ ارجع إلى صباحك، ورتب ارتباكه من تفخيخ النوايا وسط أمان الرغبات البيض، وروّج للضغينة رغبتك في امّحائها من الذاكرات والمخيّلات، ودروس الحب الزائفة، ومن زخارف تروس العداء. وتمعن في تداول الأيام لمراتبها، يا هذا العاشق العتيد الذي يكاد (يطق) من فرط رهافته، وترنم بما يلوذ من الكلام بحنان صوتك الذي اصطاد امرأة تشبه فرادتها بالضبط!!! ودع الربيع يترنم بألوانه، وراقبه عن كثب، من فوق نظارة القراءة، ولملم أوصال موسيقاك الموزعة على الجذاذات التي أيبسها انزواء العود. رتّب – يا أخي- أوقاتك المبعثرة الناشفة، وكأنها ثكنات. احزن على الضحايا، واغزل من حزنك لحنا يدندنه العابرون المعطلون – بفتح الطاء- عند نقاط الحدود... أوووووه..... الليل عند نقاط الحدود ذو قدرة عجيبة على اجتثاث الموسيقا، والمرأة، والطفولة منك، اثبت فليل نقاط الحدود زائل، قاوم فليل" الحدائق" المحصنة بأكياس الرمل، الدائرة في الشوارع المحنطة بفقدان الأمان زائل، ولكن ..لا تدع الأفكار الشوكية تنمو في رحم القادم من أيامك. نعم دعه، مثلما سأطلب منك أن تدع الصيف يستعرض شبابه، وراقبه عن كثب، من فوق نظارة القراءة أيضا، وهو يغوي الأجساد بالعري، والعرق بالتصبب، والقرف بالتجلي، والعزوف عن الاستمتاع بنزيف الكتابة، دعه يربت على حزن الأنهار عندما تشكو غيابنا، فهي تنتظر انطفاءنا بها فرحا بمجيئه، ودع الخريف يهنأ بهدوئه ويرتب ماضيه، وشعره الأشيب، وتهيأ فيه (معه) لسبات اختياري ناشط، يقولون: إن الربيع رقص، والصيف طبل، والخريف ينفرد مثل آلة ( تشلو) في استراحة أيام السنة.. لأني سأقولك لك: دجّج شتاءك بالكتابة، وحرّك مفاصل الوقت الباردة، برغبة فائرة بإرسال الكلام إلى أقاصي موسيقاه. يا تلك الأيام التي فرت الدقائق والساعات منها هلعا، هل كنت أياما حقا، أم أن الأوهام، نالت منك أيضا فصحوت على نهار بلا ضياء وليل بلا عتمة أو قمر؟/ يا يقيني الذي كاد يتحطم على جدران مهارة الوهم، غالبا ما كنت تؤرقني، وتدفعني إلى حافة الهيام، ونادرا ما كنت تأمن جانبي فتورق لي ساعات اليابسة وترفعني إلى برج بلوغ اخضرار المرام. / جذاذة

لا تجيد (العوجات) سوى الالتفاف على نفسها، والالتفات إلى البداية كلما سمح البناء، وهو يحرص على الاستقامة الواضحة في استدراج الالتفات إلى نهايات تتجدد كسعيه إلى ذاك النغم المستحيل، ولفافات التبغ تتناوب بين شفاهه، لتطفئ بنارها احتراقه، أو هكذا يظن المدخنون، ويعود إلى ساعات اللقاء الأولى، يستدعي قلقها، ويستمتع بما يتيسر له من بقايا كلام، أو ابتسامة ظن طويلا أنها ما تزال عالقة في الفضاء الضيق بين مصراعي باب دارها عندما اختلست دقائق ليراها، وكان – حينها- لا يعرف أنها اختلسها لتراه. ففي آراء الخامسة عشرة لا ذكر لرغبتهن فينا؛ لأن ذلك( عيب ... البنات غير شكل يمعود) كنّ يقتربن من الملائكية، والفوز بابتسامة من إحداهن نصر باهر، واعتراف يرفع الذي يفوز به إلى منصات التوسيم.

لطالما أخفق في تقصي آثار ما تلوكه أفواه النساء من حديث في النساء، وهو يعبق بدخان تبغه، وأدخنة الأخبار المتتالية من أعماق سوء الإدارة والحظ، فضاء الشرفة المطلة على الفراغ الناشط حتف أنف المنازل، المعطلة – ربما مؤقتا – عن الإطلال على ما يستحق بأن يصفه جميلا. ما الذي يتقصاه وكلما وصل إلى احتمال (يتملّص) مثل تملّصهن عندما يتناسين المرآة؛ مع أنها مدخلهن الأوسع، والأجمل إلى الفراش، وفشله أكبر في تقصي ما يلكنه من أحاديثهن في الرجال... لغة تشترك بها العيون، والخدود، وتشتبك الأصابع بالشفاه والألسن، ولا سلامة لأحد من سهام وصفهن، وتعليقاتهن التي تترتب بانسيابية الرشيقات منهن؛ لأن إحدى الجارات، التي تتردد كثيرا على أمه كانت بدينة، والأخريات لسن أنحف منها بما يجعلهن متميزات، ونادرا ما كان يرى من يصفها بـ (جت هذي الضعيفي!!)، نعم تلك البدينة هي الأكثر ترددا، والأعلى صوتا، وهي نادرة البدانة، وعندما كان يلثغ بالسين والصاد والزاي، والفهم، كان يتخيلها تشرب الماء بالجردل، وتلفّ ضبة الكرفس بأكبر رغيف خبز، وفيما بعد- بملايين التهيؤات، صار يتخيل زوجها المعلم الأنيق، الشديد، القاسي، الفاهم، المخلص، يتخيله في خلوته بها؛ كأنه قلم بين دفتي دفتر سميك مفتوح، أو غصن شجرة على ظهر سلحفاة أبيض، وذي تضاريس، وليّن طبعا!! أيام اللثغ كان يحبها لأسباب، ويخاف منها لسببين: صوتها عند احتدام الموقف مع القلم أو الغصن، وعيناها مع أنهما كانتا عاديتين ..

يحبها:

• لأنها كانت تقبلني كلما وجدتني( أنوّر) فضاء مدخل الحوش المؤدي من، النوم والأكل إلى اللعب.

• ولأنها كانت تقول لأمي ابنك (يفتهم)، فهي لا تتكلم مثل الشديد ، القاسي، القلم الذي يقول لأبي سيكون له شأن هذا البطل!

• والأهم مما سبق أنها ما كانت تسمح لابنها، وابنتها (المضيئة) باللعب فوق السطح إلا معي.

ولكن جدته كانت تكرهها وتقول لأمه أخاف عليه من عينيها، وتخاف على إخوتي أيضا، وكم من مرة استرق النظر إليها في الليالي المعطرة باقتراب العيد، عندما تندمج مع أمه في سير نساء الجيران وبناتهن، ووضع اللمسات الأخيرة على حقائب الجوز والتمر العجينية الصغيرة، وملامح العيد الذي يقلن إنه وصل باب لكش وهاهو يطرقه، وسيبات في خان المفتي- الذي طالما نسج له صورا، وأحداثا، وليالي تفيض بالسحر- وسيصل صباحا. وما كان يعزز قولهن رؤيتي الشيخ أبو العلا يرتب نفسه، ويصقل (دشداته) فأراه ينتظره، ونتبجح بتحليلاتنا الصغيرة مثل أجسادنا، القاصرة مثل أعمارنا، ونبرر للشيخ ضرورة استعداده؛ لأن العيد سيأخذ موافقته في الدخول إلى بيوتنا.

نعم كان يسترق النظر بعيني جنيّ؛ ليجد سببا يجعل (ماما أوم)- التي أخافت الجنية في (على بالقوس إذا أيتها الجوائح!)- تخاف منها، فلم يجد، وإذا ما انتبهت تضحك، وتغطي ساقيها بعد لم انفراجهما، وهي تبسبس في أذن أمه ما يضحكها، ويجعلها تطلب منه انتظار العيد على الباب، فيشوب فرحة انتظاره حزنا ما زلت أجهله.

ولعه بابنتها المضيئة هو سبب كل تلك المعارك الداضمة !!* راح أناشيد الآلام، وبطولاته الفارهة في منع وصول الغزاة! الذين كانوا يتصببون من العوجات المؤدية للشيخ أبو العلا- العوجات مزاغل، ومزاريب عملاقة آنذاك- وكل الذين كانوا يرومون تحطيم باب لكش على أهله، واختطاف مضيئتي نعم كل تلك المعارك التي كانت تدور عندما يدرس واجباته اليومية خوفا من مسطرة المعلم اللماعة مثل صلعه، أو عندما تحمّمه أمه، أو في أثناء خلوته مع قصص الأطفال التي كان يقتنيها له أبوه إكراما له على موافقته على الحلاقة، في شارع النجفي الذي ظل -على مدى عقود مزخرفة بالأفراح، ومعلمة بالأحزان- عاطرا بنظافة أهل المدينة، وألوان ورق تغليف الكتب عند اقتراب فرحة موعد المدارس الغريبة، وبالعناوين الملونة لتلك المجلات التي طالما همّ بقضم قطعة من غلافها مثلما قضم الممحاة المعطرة .. آآآه يا ألفة تشكيلة تلك الروائح التي تنفثها دكاكين الحلويات والمكتبات... وأي سحر في فضاء عطر المكتبات! سحر لا يقل ندرة عن تلك الألوان السرية التي لا تعطر إلا في السرية التامة، إنها رغبة باعتراف لا يخلو من وحشية؛ لكنها وحشية غرابة العاشق اللطيفة/ ويرشف من فنجان قهوته، أو قهوة فنجانه أراه تعبيرا أدق، ويرفعه ذاك النبوغ الناعس في عينيها إلى بلوغ هدوء المرام.. تلوح بثبات من أقاصي الغياب، وتخاتل كأنها حلم باهر، وحائم في هذه المسافة المهولة بين الحلم واليقظة، يحاول أن يتقرب بوسائل تليق بهذه الغرابة المألوفة، ويناور على إحجامه، وجموحه:

فأكذب وأقول لتنشغل بحقائق كالأوهام، ولكني أعود فأصدق وأكتب: أشغل خيالك واصنع أوهاما كالحقائق، وبعد استغراق تؤازره سيكارة لم أدر حتى هذه اللحظة إن كانت من النوع الجيد أو الرديء، و ( نتصل غدا حبيبي) والتجاء طارئ إلى العود .. عودي المزخرف بنقش أصابعي وحنانه، أعود وأقول: شغّل مخيلتك واصنع حقائق مما يراه الآخرون أوهاما / جذاذة..

ويرشف من مرارتها المغلفة برغبته باستمرار هذا النسيم المفاجئ الذي تهديه المساحة المترامية خلف سهوم تل الحب، في غفلة من ضجيج الطبل وهو يملأ الفضاء سخونة تعززها أعمدة الدخان المشدودة إلى أعلى، التي يتصاعد خفوت انشدادها، وتترهل بالتكرار.. وهل ثمة داع لأن أقول.. كل مرة؟

يستهويها اللون البنفسجي، لا أعرف مدى دقة هذا الوصف؛ لأن حضورها في ذاكرتي مقترن بهذا اللون. كانت تأتلق به، ولمَ كانت ؟! ما زالت تأتلق به وتثير مكامن هذا الحزن النادر فيّ ( عاجل ... عاجل.. مقتل سبعة عراقيين وجرح سبعة وعشرين آخرين فضلا عن إلحاق أضرار بعدد من المباني المجاورة) وتفتت خلوتي الهانئة بقهوتها وهدوئها واستعدادها لصعود سلالم موسيقية شاهقة الألحان.. إذن، يستهويه اللون البنفسجي وورده على التنورة، قبل إسدال الحذر وبعده ؛ حذره من سطوة بهائها، وحذرها من وضعها ثقتها في من لا يستحقها..أوووه عيناها مثل أحزاني واسعة، وشائكة، وغامضة أحيانا. وهي جميلة جدا.. جدا كأنها من موسيقا عرائس النور.

حاول أن يضع جليد علاقاته مع الناس في كأس عزلته، و(يقشط) الصدأ عن مفاصل عاطلة عن المحبة والألفة، يقشطه عن مفاصل تعمل فيها الضغينة، وإحساس العاطلين عن المرأة، الملوّثين بالكدية، والتلفيق وطعن أقرب الأحباب. أولئك الذين ظلت الأرصفة تمشي تحتهم، وهم مشغولون بمكافأة السيد الرئيـ..يـ..ف( من الرأفة..طبعا!)، وظل يمشي على امتداد الأرصفة، وكلما تركهم رصيف أو شارع أو وقت، اكتظ- هو- بما يدفعه إلى ترك ما وصل إليه. كانت المسافة أثرا، والأثر اجتراحا، والاجتراح مرايا تطوق مساحات شاسعة من ماء/ وأبوه يريد ماء لزحلقة الشفاء في جوفه، وأمه تريد ماء لغسل آثار جوعنا من الأواني/ وهو يريد ماء لإطفاء بقايا الحلويات، وعجبا كيف صار الماء حلما عصيا في نهر جاسم.. فيما بعد، أتدري لماذا؛ لأنه كان ناشفا من الحياة تماما!!

قال المدرس: رمز الماء H2O ، وسأل أحد الطلاب، بعد حديث سري عن التدخين ساعة وقوف (أبو الكيميا) في قاعة الدرس بهيبته كلها.... تخيّلوا. يا جماعة: أستاذ وما رمز الدخان؟ كتم غضبة: من يجيبه؟ وأضاف أنت. أنت (الآن) تعني أنا :

-أستاذ رمز الدخان ليس H2O .

قمع الضحك المكبل- أصلا- فينا بسبب هيبته، قمعه بـ : غادر الصف.

وطرد صاحب السؤال. وهل لي سوى المغادرة يا معلمين. ربما ظلت أروقة المدرسة معلّمة بضحكاتنا الثرة تلك، أو ضلت ضحكاتنا طريق الخروج من تلك السعادة التي عزّ فراقها، وربما أسرفنا على أنفسنا بالسعادة، ولم ندّخر منها شيئا لليوم الأسود.. عفوا الأسبوع الأسود .. عفوا الشهر الأسود.. أوووه السنة السوداء .. السنين السود .. العقود السود..والعقول السود أيضا، وفقدنا الإحساس بالعيون السود في بلدنا – يا بليغ- التي كانت تسترق النظر إلينا، وتسرق أنظارنا في رجوعاتها الناعسة، ظهرا، أو عصرا، من اليقظة للبنات. /دع القهوة وإطلالة جلستك على الشارع، والتل، ونتف الماضي التي مازالت ترصع أيامك، والحمد لله على النسيان سيد الذاكرات، الذي لولاه لفقدت العزيز والأغلى من ذكرياتك/ جذاذة

ولكن هل أقول شكرا لهذه التعاسة التي جعلتني حبيس اللحظات التي حبسها جمالها فيّ. نحن بقايا العقود المترهلة قبل الأوان، باغتنا فوات الأوان، ولم نكن نعرف أن الرتابة- مع كل إحساسنا ببطئها- سريعة إلى هذا الحد. وبوابة نركال التي ترسم على جبينها موكب الموت، تبدو اليوم خائفة جدا من هذا الموت، وخوف الأمهات الآن يطال كل الأوقات، ويجعلها مسكونة بمرض الإحساس بفقدان الوقت، أو مرض فقدان الإحساس بالوقت، كل منهما أخطر من الثاني، ولكننا ما زلنا نأكل، ونشرب، ونخرج، ونتخرج، ونزور ونتزوج ونكتب ويرسم النهار التعب بدقة بارعين على أرواحنا، ولا نكلّ من الرغبة، وكأننا زوار في هذا الظرف الناشف من ماء الاستمرار، ألسنا مخطئين- مصيبين من وجهة نظر ما!! كيف يقدر على التلويح للصبر مودعا بكف، وللجزع المائع بكف، ويناور على الهزيمة والانتصار معا، ويناصر الضحية والجلاد، ويعاقب الجلاد والضحية.. وإذا ما نصرته استطاعته على ذلك كله، فلم لا يقاطعه ويمنحه فرصة الانتصار على تفوقه..فهو ..هو رديف تطلعاته، وأعداؤه في مطحنة عباءات المنصة العالية يعرفون ذلك جيدا .. والوهم وهم في أحسن حالاته!!

وحياة صديق أبيه كانت وهما أيضا، فبعد ثلاثين سنة من زواجه استطاع أن يتأكد من أنه غير قادر على الإنجاب، وبعد تأكده بثلاثين يوما حملت زوجته في ليلة سماوية كما كان يسميها، واستطاع أن يلصق الفرح بحياته مدة ثلاثين يوما، حتى فكر أن يبدل اسمه بسعيد الفرحان وواظب على حلاقة وجهه، وصبغ شعره الذي طالما تندر أبي عليه بقوله: كان رأسا فحوّلته إلى حذاء!! أفرغ ثلاثين سنة من عمره في مجاري الانتظار. تحولت أيامه طيلة الثلاثين الفارغة – من وجهة نظره- إلى نهارات يعوزها ضوء يريده هو؛ لتدارك عتمتها، بينما يعاني قلبه تخمة في الحزن، صار كل ذلك قبل أن يغرقوا أهل محلة الشيخ أبو العلا بالحزن عليهم جميعا! ولكن أثقل أنواع الحزن ذاك الذي لا تعرف له سببا، تفتش في زوايا عقلك ونفسك، وتنبش قلبك ولا سبب يفك اللثام عن وجهه ويقول أنا.. ولكن أي قدر هذا الذي فرش صبح – الفرحان- بحفيف رمادي.. ونثر فرحه تحت حجر مطحنة النهاية تلك!!

تا تا تا/ تا تا تا/ تا تا/ تا تا تتّي تتّي تا، أين سمعها من قبل؟ وأي ارتباك هذا الذي ينسيه جملة كهذه، إنها من الكوكب، ولكن أين؟ حاول أن يتذكر، وما أن كاد ،حتى سحق بائع الغاز اللحن كله من ذاكرته. شارع الجامعة كعادته يعج بالأغاني، سواء التي تفيض بها المقاهي، أو محلات التسجيل، ولكن ثمة ألحانا لا مناص من اختزانها. قال أحد أصدقاء عمليات تهريب الكتب من المدرسة قبل هروبنا منها- ذلك الذي غرق في الموسيقا تماما؛ لأنه أجاد العوم فيها- في لحظات انفلات مخيلاتي: أظن أن للذاكرات وسائلها في حماية مخازنها من الفايروسات اللحنية، بما أستطيع أن أسميه (melody anti- virus)، وأعتقد أن الذين تربوا لحنيا على السنباطي، عبد الوهاب، والموجي، وعباس جميل، وتلك الأعمال اللحنية والتأليفية العالمية، وتحصنوا بأصوات مثل أم كلثوم وأبو كلثوم فخري، وفيروز، والعندليب، والغزالي، امتلكوا ذاتيا هذه الحماية، وقفز فجأة على طاولة القراءة التي لا نجتمع عليها، إلا بعد اقتراب فوضى الكتب المنهجية قبيل الامتحانات، وقال:

- اقتراح- ولوح بيديه طالبا السكوت- اقتراح: على النخبة من الأطباء، والموسيقيين، والحاسوبيين، التآزر لحماية النوع البشري من الاندثار الموسيقي، وطغيان الأعمال الهابطة، والمقلدة- بكسر اللام- بما يجعلهم يتقيؤون عند سماع أعمال من هذا النوع أو المستوى، ويولّد عندهم رد فعل مضادا ومزمنا، ضدها، وذلك من خلال تغذية أدمغة الأطفال في الشهور الأولى من أعمارهم، بهذا الـ(melody anti- virus) وهو عبارة عن منتخبات من الأعمال العربية والعالمية التي تتفق النخبة على تميزها، ورقيها. هذا كلامه بالنص.

ومقهى (أبو إيلاف) الذي لا يسميه أحد باسمه ما زال يروّج للماضي نكاية بهذا الحاضر العاثر،( مقهى الكرم ) هذا المبنى الذي يقبع تحت هذا الحر المعفو من التخفيف، والحوارات الساخنة، مازالت عنوانا لخارجين على القوانين، يتزحلقون على الأيام التي يرونها لامعة ستأتي، نعم الأيام التي تتزحلق من تحت آخرين أوقفهم انشغالهم بإيقاف الزمن، وهو غير منشغل بسكونهم على الإطلاق، وقد نكون أول دولة بالعالم تسمح لحمار بالوقوف أمام بوابة الجامعة، في وقت يختنق به الشارع من الحر والازدحام، هذه اللقطة حصلت أمامي الآن..عفوا./ أي قوة كامنة في هذه البقع التي نسميها المكان، كيف تقدر هذه البقعة محدودة المساحة على أن تجمع كل هذا الاختلاف والتمايز، تعال معي وانظر من هذه الغيمة الساحرة بطيرانها الواقف- كأنها تائهة من شتاء ما- انظر منها إلى حزم الكلام المنبعثة من مقهى(أبو إيلاف)، كيف له أن يكون!! ولطالما تخيلت انفجاره من هول التقاطع:

- والله هذا العامل (خوش) ولد.

- يا أخي.. الحرارة غير طبيعية.. وفي الشتاء برد غير طبيعي

- ولكن الـ تويوتا نجحت.

- والله صحيح الأسئلة كانت موت أحمر.

- لا .. لا أصفر أريده أصفر أخي لا تشوه كل ما فعلناه رجاء.

- الشبكة ضعيفة..ماكو تغطية

- فنجاني قهوة وماء يا ..

بعد آخر لقاء بالغارق في موسيقاه- كان لقاء سريعا ومفاجئا، سافر بعده، وانقطعت أخباره -ولا أستبعد أنه التحق بماجد في ( بيبونا)- كما ينقطع الصوت في اتصالات الأغراب المضنية، انقطاع حزين وباهض، بعد ذلك اللقاء تذكر ما لا ينسى، وانداح البرد في صيف صارخ، وكأنه غطس في حوض أمان ساعة إحساس بالفقد، لقد تذكر... مكتبة الدخان!!

في غفلة من نسيج التعاسات- الذي يسميه الآخرون زمنا- ومشاهد أسراب حزن القتلى في سماء الرحيل ( اختر تاريخا لهذا الوصف مبتدئا بالعام 1980 وحتى 13- تموز-2005 ، واطمئن لدقته !!) هيأ غرفة الاستقبال، للتهيؤ لاستقبال قلق الامتحانات، وتسريبه بما يشبه الدرس، وقال: سأريكم مكتبة أبي النادرة. ولاقى عرضه استهجان المشدودين إلى اغتنام فرصة ضياع الوقت بالفيديو أو المجلات الموبوءة بالشعر!!حسب وصف أبيه، وليس (بالكآبة!!) حسب توصيف من اشترى سيارة أجرة أنجبت له بيتا وسيارة أخرى، وزوجة، وأطفال، ودفعت بطنه إلى أمام قليلا، بعد التخرج في الخدمة الإلزامية، أيضا، فقال الغارق: مكتبة الدخان. تهيأت لإطفاء الضوء، وهيأت أنفي للروائح، وعيني لألوان تستحق الانتباه، وتعجب من غرابة اهتمام الأغنياء أحيانا، بما لا يجدر الاهتمام به، ولكن ما جعله خارج دائرة الاستهجان التام، تعدد المكتبات في منزله، مكتبة فيديو، مكتبة صور، وأخرى للطوابع، ورابعة للموسيقا، وهي التي كانت سببا في غرق ابنه فيها؛ لأن من مبادئ أبيه: لا نظافة للروح بلا إيمان، وبلا غطس دائم في بحور الموسيقا، وكان يقول: كل الغطس نزول فقط، والغطس فيها صعود على السلالم، مرافق للنزول، وكنت أتخيلها كرة كبيرة مائجة، وملونة، وأثيرية، واعترف بأنه أول من أراني الموسيقا، وأوقفني بحذر على رمال شواطئها المرصعة بالأنغام الفيروزية.

-متى ستطفئ الضوء

أي ضوء ....

مكتبة الدخان هذه.. وأشار إلى مكتبة منسوجة بالأرابيسك، فتحها على أكداس من علب السيكائر! قد يكون أبوه جمع أنواعها كافة!! معروف عنه ولعه بتاريخ الأمم، والأفكار، والنساء، والحروب، وتاريخ الملوك بالصور، سواء أكانت حقيقية حظيت بثورة الكاميرات، أو مفترضة حبستها ريشة طائعة لخيال رسام ، أعداد كبيرة من العلب، والعناوين، والألوان، ومصادر الصناعة.. والمفاجأة التي أبطلت مكتبة الدخان من دخانها، وألوانها، هي تلك اليافطة، النابضة بخط الثلث:

أفضل سيكارة- على الإطلاق- تلك التي ... لن أدخنها.

يصر أبوه على تعاطي العراقيين القدماء، التدخين، ويؤكد بثقة وجود رسوم سومرية وآشورية، وبابلية، وأكدية تثبت تعاطيهم الدخان، وتصديره إلى العالم عبر الغزوات العظيمة، التي كانوا يشنونها، لفرض بلل جنون السيطرة على اليابسة، ويصر على أن أبشع وسيلة تعذيب اكتشفها المولعون بالتعذيب، هي إجبار السجين على تعاطي سيكارة كاملة في اليوم، وأقول في سري أي مخيلة في هذا المخ، ولم يسمح لنا بأن نستغرب من هذا التعذيب اللطيف !! فقال: كانت سيكارة بغلظ هذه الشجرة- إحدى المعمرات- يقول إن جده زرعها- ولا تقولوا كيف يمسك بها! أو يضعها بين شفتيه! كانوا يدخلون السجين في غرفة من غرف السجن القصية، بعد أن يربطوه بحبل، ويحرقونها؛ ليبقى داخلها دقيقة أو أكثر، أي ما يضمن اضطراره على الاستنشاق، ويسحبوه بقوة. ولكن ما علاقة هذا بالتدخين؟ إنه نوع من أنواع الضغط، وهو يشبه تغطيس السجين في حوض ماء، وإخراجه بقوة، كما نرى في الأفلام، وقال سائق التاكسي: أو كما يتحدث الأصدقاء الذين ظنوا أنهم يحلمون من هول ما عاشوه في السجون! مع مرض أفلام السجانين، ليست المشكلة، في الاستنشاق لحظة ما قبل السحب، ولكنها في الإدمان على الدخان، فبعد خروجه من السجن، يقول عنه السومريون: تلبسه سيد الدخان من الجان، وسيظل دائخا، حتى يخرج منه. ويقول الآشوريون: هذا الدخان لعنة من الملوك العظام، لتفتيت عظام المتطاولين عليهم من المملوكين/ والملكة – بفتح اللام- جناح والإدمان على التطلع جناح في هذا الفضاء المؤجل بتجدده، والمتدرج – على الأغلب- بمراتب النبوغ في ماراثون الرياح، تسابق من؟! ونحن نؤجل حيواتنا الشخصية منذ زمن التدخين الجنيّ، إلى ليلنا هذا!! الذي (نتخوّع) فيه ولا نتقيأ، ونزيد من احتساء همومنا بلا ثلج!!.. وحر المحنة أي حر..( عاجل .. عاجل .. تدمير سترايكر، ومقتل جندي أمريكي، والأمريكان يفرضون طوقا أمينا!حول جنودهم، ( ليس أمنيّا مع الشكر للمصحح اللغوي) حول مكان الحادث)/ أهذا ليل، وليلها ليل؟ تنضح صفاء وهي تداري ابتسامة بعد إعجابي المفروش على المسافة بين فمي وأذنها، فيفضحها وهج أنوثتها العصي على المداراة، فتداري عينيها بالالتفات، فيلتفت الوقت بي نحوها:

استريحي على تعبي

ورتقي حزنك بأفراحي

يا سر الحزن الوردي

يا لحن عازف القيثار الأبدي

يا نور القصر بعدما تغيب الشمس

ونبض النصر الأبدي على أعداء

الملك الشاب عامور – دمحا

أنت حبيبته، قبل منتصف السنة

في احتفالات المملكة بعودة نبض الربيع

عندما يغطي حزن الأرض فرح البيبون

الذي منحته اسمك العظيم

بعد الهروب من القصر في فضاءات

أنت موسيقاي

عندما احتفت بك العذارى

الطاعنات بالحرمان/ المطعونات بأطواق العطش

قرب الآبار/ أو في آبار القريبين

لك مني الحب، والفوز بالحرب، كما يليق بهذا البهاء العظيم.

( هذا النص لمحارب وشاعر قديم، يناجي به بي– آبو– نان.. بعد سنين من اختفائها المهيب، و "أنت وموسيقاي ...." مرواة سابقة وهي مصدر الخبر، وثمة رواية تقول إن الملك الشاب هو عازف القيثار الهارب نفسه.. لم يدقق أحد صحتها بعد.)

يغمرها الحزن فتضحك، ويغمز لها الوقت فتبتسم، تلك التي كانت قمرا ناحلا يضج حوله الليل بالبهاء! هي التي كانت تروض أحزاني بما يتيسر لها من الابتسام، وانسياب القامة، واتساع العينين الكفيل باستدراجي إلى فضاءات الحزن النبيل، هي التي أوقدت فيه جذوة الرفض، والانفلات من المتفق عليه في منابر البيوت، والمنازل ما تزال تعب من الدخان والشظايا، والقنوت، والسكون ملمحها الرمادي، فضلا على فقدان الذاكرة. نعم فقد شارع الدواسة ذاكرته، وباب جديد نسي العيد، بغياب المراجيح من (تلة ريمة) وريمة امرأة لم تنل حظها من سعادتهما! بسبب فقدانها من كانت تسميه سبع الباب- باب جديد- وإذا ما كتب الاسم عروضيا يكون: بابج ديد. بتسكين الباء الثانية، وتسكين الجيم، وكسر الدال، وتسكين الياء، والدال.

اسم أطلق باللهجة العامية وأصله ( الباب الجديد). كان اسم المنطقة الشعبية هذه، الواقعة في قلب الموصل تقريبا، (باب الموت) أيام الحكم العثماني، وحتى جلاء القوات البريطانية عن الأرض فقط! أما اسم بابج ديد، فهي تسمية مختصرة بحكم تداول الناس اليومي من جهة، وموقف أهالي الموصل من التسمية الجديدة وهي (باب الحب الجديد) فعلى هذا الباب نزف سبع، وهو أحد رجالات مدينة الموصل الشعبية آنذاك، بعد أن هاجم مجموعة من العسكريين الإنكليز، بعصا غليظة ذات رأس مدبب، واستطاع أن يقتل منهم واحدا، ويفر بنصره الجريح، عائدا إلى التلة الصغيرة التي تتوسط هذا الحي الشعبي، وكانت ريمة راجعة إلى البيت، محملة بـ (خاطوغ) – الواو هنا تقرأ كما يقرأ حرف( o ) في الإنكليزية، وملابس ما بعد الغسل؛ لأن النساء الموصليات كن يغسلن الملابس في فرصة التحرر على حافة دجلة، ويضربن المغسولات بقطعة خشبية مستطيلة تنتهي بمقبض، لا يتجاوز طوله ثلاثين سنتمترا تعرف بـ (الخاطوغ)؛ لتلقين الأوساخ درسا في النظافة، و(ماما أوم) تقول: الخاطوغ يضرب (فريش الأقرع)حرف القاف قرأ كما يقرأ في كلمة قلب التي ينطقها البغداديون بالعامية، هذا الخاطوغ يضربه من بعيد؛ ليكف عن قلة حيائه. وهو شخصية كانت النساء تؤكد ظهورها، كلما تأخرن في مهرجان الغسيل على مشارف هدوء دجلة وهو يستعد لاحتضان المساء، الذي سيحتضن بدوره جلسات الشباب المكتظة بالشايات، وبأمنياتهم، وستزخرفه أضواء (اللمبات) والفوانيس، التي تضفي ألوانا على أحاديث الصبايا، وفريش يعاكس النساء، ويغيضهن بحركات جنسية يمقتنها في العلن! ويخفين وجوهن بوجهه الصغير، وطوله الذي لا يتجاوز خاطوغين.. (يخوّف!!)، ويضرب السحر الذي تدبره الحسّادات في ملابس أزواجهن الخارجية، والداخلية وهي الأهم، وملابسهن أيضا. واختفى فريش مع وصول الماء والكهرباء إلى البيوت.

رأت ريما السبع جريحا، وخبأته بعد الإسراع بالمسير خلف باب الحوش الذي صار منطقة مهملة يرى أهالي (بابج ديد) أنها مصدر مخاوف الأطفال، تأتي مخاوف الأطفال مما يسمعونه من الكبار! ومعين فتّاح الفأل- بفتح الميم- تذكرني بمرارة ساعات معين جبهة- يسخّر من خلاله أعوانه ممن يقطنون باطن الأرض كما كان يعتقد الموصليون .. بابج ديد أنموذجا!، فضلا على انفتاحه على مقبرة. نعم جرحته نيران الإنكليز، الذين دخلوا من الجنوب، عندما ظنوا أن الشمس لن تغيب على مستعـ(مرا- بدا)تهم، واليوم دخلوا من الجنوب أيضا، و(ريما) جرحت غياب موضوع المرأة عن حياته/ في حياته جرحا بليغا، وكأن صورتها مسحت ذاكرته، وصارت الذاكرة كلها. لم ينس استلالها الخاطوغ، وهي ترافقه وتتلفت لحين إخفائه. اندمل جرحه، ورحل الإنكليز، وظلت ملاكا يكركر حسنا على التلة. أقام الأهالي لزفافهما احتفالا لم تشهده منطقة باب الموت من قبل، وكان يسأل السبع نفسه، ترى هل يصلح هذا الحذاء للزواج؟ كان سعيدا بالتحدث السري بالحب مع الأصدقاء، وفرحا بقدومه النبيل إلى حياته، وأصر أن تكون الدبكات، ووليمة العشاء بجوار الباب نفسه الذي جرح فيه، لينجرح بها، وفي تلك الحفلة ألقى شاعر قصيدة ورد فيها باب الحب، وشاعت التسمية، إلا أن هذه التسمية كانت تثير خجلها حتى بعد مرور شهور على زواجها، والأهالي لم يسبق لهم أن تداولوا اسم الحب علنا، وباتفاق لم يعقدوه، صارت التسمية الباب الجديد، الذي تحول إلى بابج ديد. (ريماتي) هكذا كان يلاطفها، لم يثمر زواجها من السبع أبناء أو بنات، والسبع صرعه مرض لم يعرف له علاج، وظلت مخلصة لذكراه، تكرر لقاء التلة الجريح، الذي صار ذكرى يغلفها غبار حزن الفقد، وتلطف تصحر حزنها بالبكاء وحدها.

وقبل أحد الأعياد بأسابيع أعدت، مراجيح، ودواليب هواء، ونصبتها على التلة، ونسجت فضاءها بالورق الملون وبفرحها، وأعدت طبالا، وزمّارا، فتزخرفت التلة بالأطفال بعد صلاة العيد، وهي تنظر من شباك غرفتها على ألوان فرحهم المتناثر كأمنيات تلمع. كانت تلك الساعات هي الساعات الأولى لذلك الاختلاف في شكل العيد في حياة أطفال الموصل، وعيدا بعد عيد يزداد عدد المراجيح في مناطق مختلفة من الموصل، ولكن ظلت تلة ريمة ذات فضاء مشبع بالحب، ولا عيد لطفل لم يقضه على التلة، حتى إنشاء مدينة الألعاب، تلة ريما الكهربائية!!/ وبعد كل ما جرى هل ثمة جديد؟ كان يناور على الوقيعة، ويلتمس للعاطلين، سبعين ألف فشل، ولا يكل من التلذذ بفشله؛ لأنه الخطوة الأوثق، في هذه الطريق العصية على الاتضاح، وكيف لا وهو يتفاجأ بأن للأمكنة ذاكرات تنسى، باب جديد، الطفولة بملابس الأعياد، والدواسة، أناقة الفتوة والشباب، وسعادة المستطيل المضيء في صدر غرناطة، وأضواء صوت فريد الأطرش في ليل أشبيلية، وترف العندليب في استراحات الأندلس. يعرفها تماما ، ولكن من أين يأتي هذا الإحساس بأنهما لم يعرفاني.. ها... أأكون تغيرت إلى هذا الحد؟ أيكون هذا البياض الحزين في رأسي، قد سوّد ذاكرة الدواسة، وأحالني إلى طارق طارئ على ذاكرة الباب؟ أيصرخ ويقول من سبب هذا الغياب؛ ليسبّه مثلا؟ كانت الأمنيات تتراكض أمام يومه، ويتهور في الاندفاع صوبها، ويلاوي ذراع المساء، وهو ينسدل على النهار، يريد إضاءة أطول لعتمة رؤيته، فكل ما حوله مناخ حافل بفرح الخفافيش بالصيف، وأنت أيضا لا تسألي عن السبب، وتعالي غلّـفي الوقت بعطر صمتك الذي لا يقل نبوغا عن صوتك، وامنعي عني فيض الدخان هذا، ورتبي شظايا النهار في متحف أملنا التاريخي، وأرّخي لهذا الصبر الاستثنائي، في هذا المكان الاستثنائي، والوقت الاستثنائي، ورممي معي في الجذاذة الأولى، وجذّي معي وقتا أطول، لنحتمي بنا: من هذا الغياب البطيء الذي يفاجئنا كل ساعة بأن تعودنا عليه ليس إلا غطس في دوامة الغياب، ومنا كذلك. أكتب:

اقرأ..

يا سيدي الذي يكبل سعادتي عما يعز على الآخرين أن ينالوا قسطا منها.

يا باسطا وهجك على هذه الساعات الكافرة برغيف خبز الأمن، زمن شحة تأمين الخبز.

يا رافعا سقف المحبة إلى مدى يعز بلوغه، حين تتقطع أجنحة القلوب.

أغثني من سقط اللسان، والخيال، والسقوط في مغبة الأفول.

وارفع عن يومي هذا في مكاني هذا، هذا الدخان.

ومكّنّي من رفع المداخن، لئلا يغرق الساهمون- الساهون

في متاهات النضوب، ونظائر الغياب.. ما أقساها.

وله في دأبه أمنية تتعطر بتأجلها، حرصا منها على:

1.تكررها

2.عدم التيبس في هذا الوقت الغارق بعطشه.

ويمشي، ويسهو، ويصحو، ويسهر، ويستحضر كلامها وألبستها، وحديثها، وحدائق مثولها الرقيق أمام صحرائي، وحداثة وجهها الدائمة، ويناجي؛ لينجو من ذوبان عظيم في هذا النشاف:

لماذا لا تترفق رهافتك بقسوة حبي، ولماذا لا تبعدين استرخاء بهائك عن توتر تعبي، ألأني أعلق أحزاني يوميا على حبل ضاج بالنحيب، والدهشة، ظننت أني مشنوق بحبالك؟ أنا فاقد الانطفاء في مهرجان العتمة، واحتدام الأنين نعم أنا، فمن (يدليني) أو يدليني بحبل ضوء متين؟.. / جذاذة

هو الاحتراز المشذب مثل ولعه وعشقه، هو الذي أطلق فيها الأنوثة، والبكاء من فرط الحب، والموسيقا، نعم هي التماعات من موسيقاي المؤجلة، المؤللة بمشاغل الكلام، فلماذا لا يكون مشمولا بسفر اللعنة والملام، أو الغناء مثلا؟ يحنّ إليها ويفز عندما يراها بقربه، لكن ثمة عائقا ما، يشبه تعثر قلقه المعتاد في مشيه صوب بياض اليقين. لملم أوراقه، للمرة الأخيرة في يومه ذاك، وأجّل هذا العناء اليومي الجميل- هو يصفه بالجميل- كما يؤجل كل مرة، التأسيس لفلسفة التفاهة، ويتعذر بالتشبع بها، فلو كانت مفقودة لبحث عنها، وكلما رأى الطائرات يؤجل الحديث عن العري، للسبب ذاته. أكل، وشرب، وصفن:

- سأسافر.

طموحه مثل أطماعه في أن ينأى عن ماء الخديعة، والخيانة، والتلفيق، من أجل أن يرد – وحيدا- ورودا أشف، ويلتمع ليرتفع.. أكثر، ويترك القمة لمكتفين أقل قناعة.هو الذي تكرره أوجاعه ولا تكل، وتمرره أيامه بمنزلقات بريئة وخبيثة، ولا تمل، ولا يكل ولا يمل من تكرار هفواته النبيلة تلك، وتمريره كرات غير ملونة، ولا شفافة بممرات يبطنها زيت رجاحة، ومهابة. هاهو الآن يشرف على بعيدين وأكثر بعدا... يرى البعيدين دوائر سوداء، وأخرى يشوبها بياض يتنكر، وصلعان حائرين ملغومين، والخيانة المؤجلة، بعدما اكتشفوا مشطا( كان جارحا) وظلوا متأزمين.. يمر غيمة، وكلما انقضى عصر عاد لينظر إلى أسفل، فيرى أهل القمة قانعين أيضا، وهادئين، وإذا ما رفعوا رؤوسهم، رأوه وهجا آخر فيضحك ملء وهجه، وافتراقه، ليقول: أنا لست نبيلا. فيسمع صوتا متناسقا، ومتآلفا، يرتقي كضوء عظيم هادئ :

عامور – دم – حا.. يا سيد الرماح، والألواح

يا هذا الصوت المضيء الملثم بحزنه

يا سيد الهفوات.. يا عابر العثرات

يا حاملا لحنا شفيفا لسنا ندريه

ثقّب بضوئك، وضوعك ظلام الكلام

واجرح ليلنا هذا...

هكذا رددوا جميعا صامتين، مبتهلين؛ شيوخا، وتلاميذ، ونسّاخين، ونسّاجين، وأبناء سبيل.. ولكنهم إذا ما جهروا.. قذفوه – في مجالسهم البعيدة عن الأعين والأذان- بمجانيق كلمات مدججة بأوصاف لاهبة.. تراه، ولا تبلغه.

ثم أطفئ الضوء/ ويصحو على صوت أمه أيضا، ذلك الصوت الذي ينطفئ عند إطفائها النور، وهو الذي ينبه الديكة إلى واجبها بإعلان ولوج الليل تحت ستائر الصباح. وهذا الصباح مقوس- يوميا- بحكم نهاية الشباك المشرقي، ذي اللمسة العربية الأليفة، الشباك المطل على سعال العابرين إلى العمل قبل نهاية الخريف المزين بعباءته العجاج، وعمامته الغيم أحيانا، ويخرج الفراغ الدؤوب إلى صباحه الخامل كذلك مثل ريح بائسة تلملم –وئيدة الخطى- حظها من العلب الفارغة، والأكياس، والأمنيات اليابسة، ومن بقايا أغان أو نصوص بائسة، انطفأت فيها أصوات نقود الأبواق، وبقايا أنفاس تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد انطفاء اللهاث، ريح شائخة تبحث عن بقايا اختلاف في محاولة يائسة!! يسد الشباك قبل الستارة؛ ليلغي تقوس أعلى الضوء، ويقوّس جسده استعدادا لاستقامة نهوضه من فراشه الذي لمّا يزل- على الرغم من فورة هذا التكرار- ينضح برؤى خرساء.



نص يحيى بطاط. اللوحة لـrenata Brzozowska

واقف على حافة اليقين الذي أخذني مرة إلى بئر الله، تلك البئر المكتظة بشتائم الموتى.



من هناك أرفع سبابتي وأشيرُ إليكِ،..


معلـّقة كل الكلمات بحبل الخذلان. ماذا عساني أن أفعل تحت ظلـّي الطويل، سوى أن أرقـّع غيابك بشجرة تشبهك..


واقف، منذ أن بذرني العدم في رحم يتّسع لموتي القادم، لا أفقه من اتجاهاتي سوى تلك السبـّابة التي حملتني إليكِ.. ولا أعرف من الحكمةِ سوى وقاحة القول.


ومع كل عثرة أتذكركِ، مع كل امرأة تعوي على صدري يستبد بي جوعٌ إليكِ.


أنا خالق الندم،


ومبدّد النوم،


وقرين الخطايا.


أنا الولد العاق، نافخ القصب،..


أنا الهذيان الذي استيقظ في سوادِك،


والمسرة التي سرقتكِ من أبويكِ.


واقفٌ هناك، مثل نهرٍ مبتلّ بالمرايا... مثل سرابٍ يتوهم نفسه، مثل جثةٍ تتحسر على أيامها... مثلي أنا،


واقف أعضّ على سنواتي، وأغني تحت دخانك يا حبيبتي،...


أغنـّي، وأرسمكِ في كل امرأة لأخونها بكِ،


ثم أصطفيكِ أميرة على الندم.

ماذا أفعل بهذه الجثة التي ألهمتني سرَّ التفسخ؟ ماذا أفعل هنا وحدي؟ سوى أن أبدّد ملامحي في شخير الليل، أنفخ البالونات الملونة، وأطلقُها في سماء تستبدل كل ليلة قمرها بذئب...


ماذا أفعل بقصيدة، لا تستنزل أمطارك..؟


ماذا أفعل بنساء يكفرن بي أمام كل ذكر..؟


ماذا أفعل ببحر مالح من فرط ما يتكرر؟


ماذا أفعل بنسيان لا يتذكرك؟


هكذا يمكن لرجل عاق مثلي، أن يعلـّق ريشة على صدر أيامِهِ، ويقول انظروا إلى طيراني..


ليس لديه بين قربه وبعدكِ سوى حفنة من الأخطاء المدهشة

حتى وأنا أحفر قبراً يليق بحياتي القصيرة،


أدفن فيه مسراتي،


ينكسر فأسي ويشرخني الندم.


موحش هذا العراء الذي يستأثر بي، ويتملقني مثل مكيدة.


لا وقت يكفي لغضبٍ آخر، ولا لشجيرةٍ تنحي على ظلـّي، وليس لدي متـّسع من الوقت للـّغو مع الملائكة..


هنا أرسّخ راية ترفرف مثل كف غريق،


وهناك..


هناك.. وليس في أي مكان آخر،


على حافة اليقين الذي أخذني إلى بئر الله الموحشة،


تلك البئر المكتظة بشتائم الموتى،


أستطيع أن أدعي أنني كنت مبهجاً، وقادراً على إطلاق الضحكات التي تزين حياتك








15 فبراير 2011

الانترنت وثورة الفيس بوك

لم يكن العالم قد تفاجأ بعد بتأثير وسائل الاتصال الحديثة في نجاح ثورة كل من تونس ومصر، ومع ذلك استغربت رأي أحدهم بالمواقع الالكترونية ومستوى جديتها، بل وقيمة ما ينشر على صفحاتها، قائلاً بأنها "لا تعدوا على أن تكون تضييع وقت وبديلاً لمن لم يتسن لهم النشر الورقي، ومكاناً رحباً لتبادل حفنة مجاملات" مستهتراً – بقلة دراية - بكل ما أتاحته فضاءات الانترنت؛ كالمجموعات البريدية والمدونات والصحافة الالكترونية والمواقع الاجتماعية من حراك تحول مؤخراً إلى منابر تصدّر الأفكار وتؤثر في الشارع العام.



ذلك الشخص الذي لا ريب يتابع الآن القنوات الفضائية و تطورات أحداث انتفاضة مصر، ومن قبلها ثورة تونس، صار يعرف بأنه في الحالتين كانت فعالية شباب الانترنت وراء إعادة المعنى المنسي لإرادة الشعوب، فالمتعاطون مع الشبكة العنكبوتية في كلا البلدين حولوا أفكارهم من شعارات ونداءات افتراضية إلى أرض الواقع، وتحولوا إلى مراسلين من موقع الحدث، ومنسقين، وفاعلين ومتفاعلين، وبفضل ما يتيحه الانترنت من إمكانيات سحرية، تم بسرعة فائقة إنشاء شبكات على الفيس بوك وتويتر ترصد الأحداث لحظة بلحظة، فيما أعلنت مجموعة غوغل تعاونها مع موقع تويتر الاجتماعي لإطلاق نظام يتيح للمصريين الاتصال بواسطة الهاتف العادي، كي تفتح قنواتٍ كسرت الحظر والتفت على الحجب الذي مارسته السلطة المصرية حين قطعت الاتصال عن مستخدمي الشبكة العنكبوتية مع الخارج، للحد من تنظيمهم. لكن التعتيم الذي مورس على تجارب شبيهة سابقة - لم ننسها بعد - لم يعد مناسباً أمام طرق الاتصال الحديثة؛ المحمول والانترنت وفضائيات البث المباشر.


على شاشة إحدى القنوات ظهرت سيدة مصرية عجوز تقول [كنت بقول شباب مصر بتوع الانترنت بايظ، دلوقتي أنا جاية أبوس رجليهم]
إن الجيل الجديد الخارج من قمقم الوصاية، بنقرات من أصابعه على (الكي بورد) استطاع أن يُحسِّن سمعته، بما أظهره من وعي وجرأة، فهم لا يقدمون دمائهم -بحسب الشعارات الايديولوجية البائدة- لكنهم يدافعون بسلم وهدوء عن صوتهم وقضيتهم ومطالبهم في الحياة بلا خوف.
فالشبان الذين حملوا على عاتقهم رهانات المستقبل استطاعوا لملمة صفوفهم، والقيام بأكبر احتجاج سلمي في التاريخ الحديث للمنطقة، رافعين شعار إسقاط النظام دون أن يوجههم حزب أو شعائر عقائدية أو دينية، الأمر الذي أيقظ أحلاماً غافية وربما ميتة ما كان لها أن تصحوا بسهولة، كما جعل الأنظمة الاستبدادية (تتحسس على رأسها) بعد أن كان الظن كل الظن أن الشعوب العربية تدجنت إلى الأبد.

في عودة لصديقنا الذي جزم بعدم جدوى (الانترنت) التواصلية، وسواء كان يراجع نفسه الآن، أم يتسمر عند رأيه، باعتباره مواطناً سورياً من جيناته العناد الفكري، فأنا أعذره كونه، لم يتعامل البتة، أو تعامل بشكل عابر مع الشبكة العنكبوتية، وهو أمر شائع ومبرر في ظل خدمات الاتصال الالكترونية المتاحة في سورية، والتي تعاني من الضعف والبطء والغلاء والحجب !
إن عدد المتعاملين السوريين مع خدمات (الانترنت) أقل من 4 مليون شخص، أي 20% من عدد السكان، وهو مستوى أدنى من باقي الدول المحيطة، ما جعل المواطن عموماً يكتفي بحكم الضرورة بهيمنة الصحافة الورقية وتوجهاتها المحدودة وضوابطها الكثيرة في تصدير الخبر، أما الشبان والشابات ممن يتعاملون مع الانترنت، فهم يكسرون الحجب المفروض، حيث يبلغ عدد المواقع المحجوبة حوالي 244 موقعاً، لكن باستخدام وتناقل (البروكسيات) يصبح المنع مسألة تحصيل حاصل، لا تحتاج إلا للصبر، والتحايل الالكتروني للوصول إلى كل المواقع المطلوبة، سواء كانت مدونات يتابعونها، أو مصادر إخبارية، أو مواقع اجتماعية لا تعجب الرقيب، أو تحديداً لأنها لا تعجب الرقيب، فيشاركون بحماسة منقطعة النظير، متابعين المقالات والمدونات، ومتضامنين مع ثورات الجيران، منادين إلى اعتصامات سلمية، وإلى مسيرات غضب، وفي الوقت نفسه تطلق مجموعات أخرى صوتها المخالف، فتنادي إلى مواجهة صوت الطائفية، وترفض كل ما يفتت (وحدة الصف).
يبدو كل ذلك مؤشرات دالة على أن التقاط كل شاردة وواردة أولاً بأول أمر ممكن سواء رضي بذلك الرقيب أم لم يرض، وعلى أن الثورة (الحداثية) ما عادت افتراضية ولا مستبعدة بوجود ما صار يسمى (ثوار الفيس بوك)
سوزان خواتمي

12 فبراير 2011

الصورة الفائزة بجائزة الصحافة العالمية لعام 2010

التقطها جودي بيبر، عن افغانية تعرضت للعنف الجسدي من قبل زوجها. الصورة نشرت على غلاف مجلة تايم في عدد اغسطس

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد : نبيل صالح

كان القط يركض بحماسة والفئران تفرّ مذعورة منه.. الجميع كان يجري، وكلما اقتربت الفئران من رأس المثلث ضاقت الجدران عن جانبيها. قال الفأر عباس لرفيقه حكيم وهو يلهث: قل لي ياحكيم، إلى متى سوف نركض أمام الخوف؟ قال حكيم: سوف نبقى خائفين وهاربين مادمنا نعتقد بأننا مجرد فئران!


قال الفأر عباس: وهل نحن إلا كذلك؟ قال الحكيم: ولكن تقدير معنى كلمة فأر يختلف بيننا وبين القط، فنحن بالنسبة له مجرد طعام واستثمار، بينما في نظر أنفسنا فإن الفأر أكثر ذكاء من الفهد والنمر، وأكثر إنسانية من الذئب والدب. ومع نطق كلمة دب تعثّر الفأر حكيم وأصدرت دحرجته واصطدامه بالجدار صوت دب دب دب دج آي يا أمي. غير أن يد الفأر عباس تلقفته من عثرته فأنهضته وأخذ يجرّه خلفه لاهثاً. قال حكيم: اتركني ياعباس، اتركني لعلّي أكون فداء لكم. قال عباس: لن تكون سوى وجبة تؤخر وجبة قادمة؛ لقد صلبوا المخلّص يوماً، ولكنهم لم يتوقفوا عن الصلب والقتل إلى الآن. هيا اجرِ بسرعة يا صاحبي.. وكان القط يتقدم والمسافة تقصر إلى درجة أن ظلاله أدركت الرتل الأخير من الفئران المنداحة أمامه والجدران الشاهقة تضيق عن جانبيها دون أن تترك لها منفذاً تتسرّب من خلاله، وكان الفأر حكيم يقصّر في جريه، الأمر الذي دفع صاحبه عباس لأن يردفه على ظهره ويتابع الجري به. قال عباس مخاطباً حكيم: لطالما سخرتَ من أهمية العضلات يا صاحبي مفضلاً الحكمة عليها. قال حكيم وذيله بين ساقيه: الحكمة لا تنفع أصحابها، وهي ليست شيئاً إذا لم يتلقفها الشعب، الحكمة بحاجة إلى جمهور والجمهور يحتاجها ولطالما أكلت الحكمة أصحابها. ‏






نظرة من الأعلى إلى أسفل: كانت الحياة تجري، والفئران تجري، والقط يجري، كل منها لهدف مختلف، لم يكن القط ليبذل كثير جهد في جريه لعلمه أن رأس المثلث مغلق بينما الفئران تجهد نفسها بأمل أن تجد منفذاً في النهاية. ‏


قال حكيم لصاحبه: أنزلني يا عباس فقد صار باستطاعتي أن أجري. قال عباس: نعم فالسرعة أهم من الحكمة في وضعنا الحالي، ثم راحا يجريان مع الجموع المتدفقة نحو المجهول بينما قهقهات القط المرعبة تلطم شغاف الفئران وتضاعف من سرعتها. ‏ أخيراً عندما انحشرت الفئران في الزاوية ووصلت القصة إلى ختامها ورفع القط كفّه وأبرز مخالبه وامتدّت ظلالها فوق أرواح الفئران العزيزة عليها، نظرت الفئران عن يمينها ويسارها وخلفها فلم تجد سوى الجدران وجموعها المحاصرة. لحظتذاك صرخ الفأر حكيم: أيتها الفئران ياإخوتي، انظروا إلى أعدادكم الهائلة مقابل قط وحيد! وفجأة أدركت الفئران قوتها فهجمت على القط ومزقته وأكلته حتى لم تترك منه سوى ذيله الملتوي لكي تتذكر سائر القطط أن تترك منفذاً عندما تحاصر الفئران..




نقلا عن موقع ( الجمل بما حمل)
http://www.aljaml.com/node/67521

06 فبراير 2011

القول خطفاً


* إنه القطار فاركبه.. وإلا مافائدة أن تحزم حقائبك كلما سمعت الصفير؟
                                                       سوزان

01 فبراير 2011

مرثية لحفار القبور... احمد محجوب



اليه قريبا جدا


وبعدك من ذا يصافحنا في الجنازة


ويشرب ماء القتيل؟

ومن ذا يحدد أحلامنا بالحرام


إذا ما ارتكبت البعاد قليلا


فمن ذا سنكتب في الدفتر المدرسي سواك

وأنت المصاب الجميل؟

ماذا سيفعل أطفالنا كل عيد


وماذا سيكتبه الضابط الآن بعد اختفاء التهم؟


وكيف نربي الضفيرة والخوف والانحناء؟

وأنت البعيد / البعيد؟
*
سنخبر أعدائنا اليوم أن البلاد استحمت


وأنك لم ترفع القيد عن وجهنا المحترق

سنخبرهم في الإذاعة أن الزعيم سيخرج للطور عما قليل


يعلمه الرب كل الكلام المملح


ولن نعبد العجل قط


سنصرخ

" خبز المعونة أشهى "


وأن يداك التقتنا كثيرا


وأنك لن تترك العشب يحتل صدر الوطن

سننفخ وجه الشهيد لمنطاد ظلك

ونجتر سيدنا في المباحث

ونخبرك اليوم أن البلاد استقرت على مقلتيها

فلا غضبة في المساء المقدس


ولا رعشة الخوف تفلق وجه الوثن
*
سنذهب عما قليلٍ إلى خطونا المرتعش

ونركض في عمرنا مرتين ولسنا نخالف ظلك أبدا


سنكتبك اليوم في ساحة الجامعة


" نحبك كي لا يعود المغني يغني


و كى لا تهدهدنا كل يوم ٍ جفون السماء


نحبك قبل الولادة

بعد المنام

نحبك كي لا نمل من الانتظار"

*
سيسألنا الرب يوما

كيف احتملت سخافتنا كل هذا الزمان


ونحن التردد والموت جوعا لكسرة خبز بصدر الوطن


وكيف أقمت الرحيل جهارا ووجهك في الليل يغسلنا بالمسد

كيف تركت البلاد لتنمو ضفيرتها المهملة




وكيف تركت العدو ليبكي عليك


تتركه دون وعدٍ أخير؟


سيسألنا الرب يوما


كيف وقفنا نرتب أحقادنا بأنتظار المجيء

وكيف تناسى الصغار طعام المعونة


وكيف انتظرنا الرحيل بلا نهنهاتٍ جديرة


بلا أغنيات جديرة

بلا علم ٍ يحفر الأرض بحثا عن الماء والطمي في أعين الحافيات؟


*
من ذا سيعرف بعدك أسماء أولادنا

ومن ذا سيخرج من ساعة الوقت يزرع فينا العساكر


لمن يقرع العسكري الجرس؟


لمن ترتدى الأمهات الجديد؟


لمن يسجد العاشق الجامعى؟


ومن نكره الان بعد المصيبة ؟

كيف تكون النكات على من يليك ؟


وكيف نحدق فى ظهرنا كى نفكر فى راحتيك ؟


كيف نبيع الحياة ولست هناك لتخبرنا بالثمن ؟؟؟؟؟


*


نقسم بالمدح والسيف والسوسنات القتيلة

بأنا نحبك

نحبك تفرحنا كل عام بوجه العدو


نحبك تنهرنا فى المساجد


تنهرنا فى البيادر


تتنهرنا فى الضحك

لا تخش شيئا

لم يعد الموت يدهش أطفالنا الان أكثر

وجهك صار التفاتا إلينا بلا معجزات

وهذا الجدار توتر بعد اختفاء الوثن


- تمنى ولو مرة كي يعود الزمان المجيد ويحفره الصبية العابثون بحد الرغيف -

وتصرخ هذي البلاد الثقيلة


"يا ربنا المتكلس الصخري

عد


يا ربنا المعقوف ذو الكتف العريضة لا تلمنا


سنقاتل الأعداء بعدك لا تلمنا

سنزيل أغشية العساكر لا تلمنا

مرة في العمر نكره أن نلام على الضحك


مرة فى الليل نذهب للنساء بلا عسس


مرة يحبو الصغير بلا مغبة


سنذهب للتل نعبدك الآن جهرا


فلا تنتظرنا بعيدا


فأنت البعيد / البعيد "


الخبز الكافر

سوزان خواتمي: فجأة، بدأ الاهتمام بالجوع والجائعين بعد أن تبين بأنه السبب الوحيد الذي هزم الخوف، وأشعل الثورة، فانتبه المعنيون الذين يقتصر نظامهم الغذائي على الكاتو إلى رغيف الخبز؛ مسعى الجياع، والفقراء، وحلم البطون الخاوية.



مؤخراً بثت قناة اورينت التلفزيونية تحقيقاً تناولت فيه تدني الدخل في سوريا وارتفاع الأسعار، ونتائج ذلك على المواطنين، جاء فيه نقلاً عن جريدة الوطن بأن مهندساً اضطرته الظروف للعمل سائقاً لسيارة تاكسي، ما جعل نقابته تطالب بفصله ! والحقيقة لم أفهم لماذا لم يعدّل ذلك البائس خياراته، وينضم لجماعة (تدبير الراس) الشائعة ؟ هل بسبب معايير الشرف الرادعة، ونظافة اليد، أم لأن مواقع (البلع) مشغولة بالكامل، على حد تعبير أحد الخبثاء !


إن انتباه ملتهمي الكاتو للغلاء المعيشي بما لا يتناسب مع دخل الفرد، جعل وزارة الصحة تتراجع عن خطتها في رفع أسعار الدواء، كما تم تخفيض أسعار بعض المواد التموينية من غير أن يلتزم التجار بذلك فعلياً.


بحسب مجلة جلوبال فاينانس صنفت سوريا باعتبارها من البلاد الأقل دخلاً، محرزة المرتبة 11 عربيا و111 عالمياً، وفي المقابل لم يقع تحت يدي دراسة رسمية تحدد نسبة دخل الأغنياء ومصادر رزقهم، لا عالمياً ولا عربياً، كي نتعاطى مع مقارنات منهجية. ومع ذلك تزداد الفروق وضوحاً بين ذوي الدخل المحدود الذين لا يستطيعون التكفل بتأمين حاجياتهم الضرورية من مأكل ومسكن وتدفئة، وبين طبقة الأثرياء وأصحاب المال وميزات الترف التي يعيشونها، بحيث صار التفاوت الطبقي سمة واضحة في النسيج الاجتماعي السوري، خاصة بعد أن ذابت الطبقة الوسطى وتلاشت.


إن حالات الفقر والعوز يتسعان في بلادنا بحيث يصبح الكلام عنهما ليس مجرد حديث رمزي عن تدني الدخل، في مقابل زيادة ثراء البعض، ولو استمر الحال بالإيقاع نفسه فسيكون مصيرنا كمصير دول أفريقيا الأشد فقراً.


ربما لن يصدق أحد أن امرأة مسكينة توفاها الله منذ أيام، كان ابنها يضربها (هي مبالغة صحفية، إذ أنه كان يكتفي بنحرها في رأسها فقط) كلما طلبت رغيفاً إضافياً عن حصتها اليومية ! وهنا يمكن تفسير القصة بعدة وجوه، إذ يمكن للابن العاق (وما أكثرهم) قد وصل أخلاقياً إلى الدرك الأسفل، أو ربما هو جشع الأم، وجوعها المبالغ به، وكان عليها أن تتفهم بأن ثمن ربطة الخبز بلغ 15 ليرة ! فإذا رجعنا إلى نموذج المهندس السائق الغلبان بشقائه، يتضح بأن الفقراء مازالوا يصرون على الحياة، ليس بالصبر على الأوضاع المعيشية، والتحايل عليها فقط، بل وبالاضطرار أحياناً إلى ضرب الأمهات، لتقنين الأرغفة !


وفي ظل استمرار هكذا ظروف تصبح المطالبة برفع المستوى المعيشي، والحفاظ على الكرامة الإنسانية ليس مجرد ترف، بل حاجة، لأن هناك من يريد أن يكفيه عمله قوت يومه؛ وهناك من لا يقبل بضرب أمه.