الخروج من (الخروج من المعاطف)
تجربتي في الكتابة الغيميارية
1- المرواة
تكرار الدوران في حلقة، أو تكراره في حلقات سكون آخر، والسكون انتهاء. والتشبث بالتسميات مع الرغبة في إنجاز المختلف تقديس للمسمى، أو هو احتماء بقدسيته، لضمان الانضمام إلى محرابه. من هذه القناعة جاءت الشجاعة في اختيار توصيف للمنجز الذي سعيت إلى الاختلاف فيه عما قرأت وتعلمت وكتبت منذ عام 1984 عندما طلب مني د. عمر الطالب أن أعطيه قصة لنشرها في جريدة الحدباء. ظلت الرغبة في الاختلاف مصدر قلق يشوبه حزن العاجز عن إيجاد فضاء تتنفس فيه كتابته هواءها، ولكن القلق ذاك لم يلوثه الإحباط، ولم أسمح له بأن يرضخ لسعادة الاطمئنان التي تنعّم بها من احتمى بالتشابه. أشد ما كان يقلقني هو أن يقال خرج عمار أحمد من معطف نجيب محفوظ، أو عبد الرحمن منيف، أو حنا مينا، أو الطاهر وطار، أو أن أكون امتدادا لمحمد خضير، أو محمود جنداري، أو يوسف إدريس، أو زكريا تامر، أو... أو...من الكتاب العرب أو العراقيين، وقبلهم تشيكوف، وموبسان، وإدغار ألان بو. ماذا سأفعل وهؤلاء جميعا في الساحة، وما قيمة التميز بينهم، بمعنى آخر ما قيمة أن أعد ضمن قائمة طويلة عريضة، حتى وإن كنت في موضع المدح، وأنا أستطيع أن أكون رقما وحيدا في قائمتي أزاءهم؟ فمهاجمتي في فضائي تسعدني، ومدحي في الفضاء المشترك يفقدني لذة الاختلاف، وفي فضائي سأدافع بوعيي بخصوصياتي، وهناك سأستعير وعيا هو ملك مشاع. من هنا جاءت - بعد القراءات الشخصية، والأكاديمية وهي الأهم- فكرة الانحراف بالبنية الكلية للقص، وذلك بمشاكلة السرد، بالتوازي مع مشاكلة الشعر الذي أعرّفه بأنه فن التكثيف في كلام متوتر، وهنا أضطر إلى إيراد هذا التعريف الشخصي؛ لأن السرد- في المرواة- يفيد منه بوصفه البنية المنحرفة التي ستأخذ خصوصياتها بعد أن تضم انحرافات بنائية مفارقة ستشكل حصيلة اختلافات المرواة بوصفها فضاء حكائيا يتأسس ازاء الرواية، والقصة القصيرة (سأعددها في نهاية شهادتي التوثيقية هذه) والسرد سمة الانحراف الأبرز عن المشاريع التي عملت خارج الإطار التقليدي للقصة؛ لأن المشاريع تلك عنيت بغرائبية الحدث، والعلاقات، وأبقت لغتها حاملا ينشط في وظيفة الإخبار، وأقصد بتلك المشاريع، مصاطب الآلهة، وبصرياثا.. على سبيل التمثيل لا الحصر. والخصوصية في سرد المرواة تكمن -إلى جانب خصوصيات أخرى- في غرائبية الأداء الكلامي، في لغة السرد. هذا المنطلق دفعني بثقة لكتابة (العاميار) نهاية عام 1989 وقرأها الأصدقاء في بداية عام 1990، وكانت بداية الأسطرة الشخصية، للاسم - لاحظ أنها مأخوذة من اسمي، دون الإحالة إلى أي مخزون في الذاكرة؛ لأني أفدت من تجربة الشاعر خزعل الماجدي عندما نشر (خزائيل) وقلت له في لقاء باتحاد الأدباء، ما زالت تسميتك تحيل إلى إسرافيل وميكائيل. مع قناعتي التامة بأن خزائيل هو ذلك النص السباق حداثيا، وهو تلك العلامة على بداية شعر جديد .
ومع بداية عام 1991 التحقت بالدراسة مرة أخرى لنيل شهادة الماجستير، وكانت تلك السنوات حاضنة مثالية، لإصدار بيان شخصي بعد كتابة عدد من النصوص التي كنت أحير بتسميتها، وهي: رائحة ظل، وبضع ألفة وخيانة، وصمت مموسق، ومن ضمنها شهادتي التي نشرت عام 1992، في كتاب هكذا يكون النشيد الصادر عن اتحاد أدباء وكتاب نينوى، وامرأة صوت - ضوئية واحتمالاته. فكتبت بيانا أسميته (عين الغيمة .. بيان شخصي) في عام 1993 وظلت فكرتي فيه قيد التداول بين الأصدقاء من الأدباء. هكذا امتلكت الجرأة على تسمية كتابتي بـ ( الكتابة الغيميارية) ناحتا التسمية من عين الغيمة واسمي؛ لأعاني الاستهجان سرا وعلانية، ولكني تجاهلت ذلك كله ونشرت ( يتفوضى هذا البريء الملغز) تحت موجه قرائي هو (كتابة غيميارية) وكان ذلك في جريدة بابل عام 1994. فضلا على ( عليّ بالقوس إذا أيتها الجوائح !!) التي كتبت بين عامي 1994- 1995. ومع مرور الوقت المشبع بالقراءة رأيت أن اسم (مرواة) على نشاطي الشخصي في السرد لائق ودقيق، وأطلقت على نشاطي الموازي الساعي للانحراف الحاد بالقصة القصيرة جدا اسم (التماعات)؛ ليكونا فضاءين للكتابة الغيميارية.
سأخصص الكلام- الآن- للمرواة، وقد تسنح الفرصة للحديث بإسهاب عن الالتماعات فيما بعد.
المرواة فضاء سردي يرتبط بروابط الانتماء إلى السرد الحكائي بوصفه البنية الفنية الأشمل للقص، ويقطع صلاته من ناحية أخرى بكل ما يؤدي به إلى الاشتراك بفن القصة رواية كانت أو قصة قصيرة، أو طويلة ...الخ في الوقت الذي يمنحني به هذا الموجه القرائي ( المرواة) حرية النشاط الكتابي في مشاكلة الشعر. وهذا -بحسب قناعتي- هو الذي سينقل أدائي الحكائي من موقع تتبع الأثر في الواقع الخارجي، ورصد الواقعة اليومية فيه، وسينقله من وظيفته السابقة المتمثلة بالانعكاس على وفق لوكاتش، أي إنشاء واقع نصي مماثل للواقع الخارجي، وتوصيفه وتحليله، إلى فضاء الرؤية بعين غيمة، وهي صاحبة الموقع الإطلالي الشامل، والشكل الدائب الذي لا قرار له، وهي إشارتي الأوضح للخروج من شكل تابوت ثبوت الجنس الأدبي، ويمنحني الفرصة الكاملة لإزاحة واجب التتبع وإعادة رصف العلاقات، كما سيسمح لي بحرية التصرف بوظيفة خلق الأثر الذي سيكون نصيا بالضرورة، لا صورة له بالذاكرة ولا صوت، وحرية الانحراف بأصله، ودلالته، إذا كانت للدلالة المحددة أهمية! فضلا على انتزاع الواقعة من سياقها العام، إذ لا بد من الأخذ من الواقع، فلا وجود لي إذا كنت وحيدا على هذه الأرض، هذا الانتزاع الذي سيحررها من علاقاتها القديمة، ويستنطقها، بما يؤدي إلى خلق واقع نصي يحمل الانعكاس ولا يتمثله؛ واقع نصي مفارق. ولا يمكن أن يكون كذلك إذا لم يكتب بأداء كلامي لا يشير إلا إلى تفرد الواقع الذي ينشئه، وهكذا تبتكر المرواة واقعا يتحكم بطرائق ابتكارها! وطموحها أن تغطس في الحكاية ولا تتبلل! وتغطس في الشعرية، ولا تتبدل!
إن الكتابة التقليدية، كتابة غير مكتفية بذاتها، فهي تحتاج إلى المعرفة لإعادة تصديرها، وتحتاج إلى الأثاث لتعيد ترتيبه، وإلى الشخصيات لترميزها، أو الإيهام بحقيقة الحدث والفكرة المتحركة؛ ليوافق عليها القارئ الخامل، فتنجح! لذا فهي قلقة على الرغم مما تحتمي به من تاريخ، وقبول؛ لأنها غير موجودة خارج دائرة التوافق تأليفا وتلقيا. أما الكتابة المفارقة، فهي تحتاج إلى ما يجب تأسيسه، وتأثيثه بما لا يحيل إلى الواقع الخارجي انعكاسا بالضرورة.
إن المرواة وهي نص مفارق، يتحرك خارج دائرة التميز والتنافس، نص مكتف بعلاقاته، وقوانينه. لذا فهي مصدر قلق وهذا أحد الفروق الجوهرية كذلك. وهنا يجب التذكير بأن التركيز على اكتفاء المرواة يشاكلها مع الشعر، ولا بد من الإشارة إلى هذا المحور؛ لأن الرواية والقصة القصيرة لم تكونا كذلك.
إن المرواة تحتاج – لتنوجد خارجها- أيضا إلى متلق نشط ومرن، وهو بعد لا يقل أهمية عن الاختلاف حد الافتراق في المنجز، فالمتلقي الفعال المرن متوازن البناء غيّب مرتين: في الأولى عندما أهمله التقليديون، وأشباههم، وفي الثانية عندما غيبته الحداثة- حداثة شعراء الثمانينيات، ولماذا هم مصرون على تسمية ما يكتبون شعرا لا أدري؟! التي سادت منذ نهاية السبعينيات في العراق، وتركت هوة واسعة بينها وبين القراء عاديين، ونخبويين، فلمن كانت تكتب؟ وإذا عدنا إلى النصوص التي نشرت في الصحف في تلك الفترة سنرى ذلك جليا.
إن المرواة محاولة مستمرة ودائبة، في فتح الطريق أمام الكتابة السردية الحكائية؛ لتتحرر من وظيفة الإفهام، أو واجبات المصلحين الاجتماعيين، مثلما هي دعوة للتحرر من التسمية التي ظلت مسيطرة على قاصين كبيرين مثل محمد خضير ومحمود جنداري، وهما السباقان في الاختلاف، والمرواة تشترك في محاور قليلة مع منجزيهما( مصاطب الآلهة، لجنداري، وبصرياثا لخضير من حيث توظيف الغرائبي، وإذابته بالواقعي مثلا، وإن اختلفنا بالأداء)، أحيانا. ولكن يبدو أن الحرص على إنتاج الأفكار، واقتراح بدائل للواقع الذي عانى كل من خضير وجنداري من ضغطه بوصفه قوة قمعية متواصلة ومتكررة عبر التاريخ لم يدفعهما إلى اجتراح موجه قرائي مختلف، لأن هذا الأخير متعلق بالشكل أكثر من تعلقه بالدلالات بمسافة ضوئية.
بعد هذا العرض النظري العام سأشير إلى عدد من المحاور البنائية التي تقوم عليها المرواة بوصفها فضاء حكائيا يسعى إلى أن يكون موازيا للرواية والقصة القصيرة، من حيث كونها نوعا نصيا في فضاء السرد الأشمل، منطلقا من قناعة هي:
إن الطيران فضاء حركي مستحدث في حياة الإنسان مثله مثل القصة الفنية، فعباس بن فرناس طار بجناحين، فالجناحان أول وسيلة لطيران الإنسان، والمنطاد وسيلة متقدمة، والطائرة وسيلة أرقى والمركبة الفضائية أرقى الوسائل لحد الآن، هنا أقول إن الطيران واحد، ولكن آليات تنفيذه متعددة وباختلاف الآليات، تعددت أسماء الوسائل، فالجناح جناح، والمنطاد منطاد، والطائرة طائرة، .... والمركبة الفضائية كذلك، والطيران واحد، من هنا أقول: إن السرد الحكائي واحد، وآليات تمظهره المختلفة إرسالا وتلقيا، مختلفة، فالمقامة حكاية توظف الشعر، من خلال شخصيات وهي مقامة، والمسرحية الشعرية توظف كل ما توظفه المسرحية النثرية إلا أنها كتبت الحوار شعرا، فصارت مسرحية شعرية، أي ثمة إضافة لازمة على الموجه القرائي التجنيسي، والرواية توظف السرد، بأنواعه وبتقنياته، والشخصيات في مكان وزمان، وهي رواية، والقصة الطويلة كذلك، ولا تسمى رواية؛ والحال كذلك مع القصة القصيرة، والفرق في طبيعة زمن الحدث فهو قصير جدا، وفي عدد الشخصيات، وعدد كلماتها يحدده الأوائل بعدد! وهي محاور مشتركة في النوع! وعليه فإن بنائي السردي يحتاج- لأسباب أراها موجبة- لاجتراح موجه قرائي خاص به،( عتبة رئيسة) يوثق صلته بالسرد الحكائي بوصفه فضاء لنشاط إبداعي أراه فذا، بالقوة التي ينفصل فيها، مؤصلا سردا حكائيا عربيا فوق حداثي؛ ليتموضع فيه إلى جانب الفنون القصصية المستوردة، هذا الموجه القرائي هو- بعد كل ما سبق من الطرح النظري العام - المرواة، لما يأتي من مظاهر انوجاده الرئيسة الخاصة:
1- المرواة نص مسرود يقوم على نص موسيقي، أو نص موسيقي يتألف فيه/ منه. في محاولة لإطلاق السرد الحكائي في فضاء الموسيقا. لقد أخطأ الأدباء عندما أضافوا الصورة إلى نصوصهم القصصية، أو الروائية، لأنهم حدوا من نشاط المخيلة الذي هو بالأساس محدود بسبب انشغالهم بالنقل من الواقع الخارجي، ولكن الموسيقا أضفت على تجريد المرواة تجريدا، وأضافت إلى تلقي المكتوب بصريا شكلا جديدا، فضلا على إضافتها العمق الذي يحمله النص الموسيقي، هذا العمق الذي سيؤجل مستوى من مستويات التأويل إلى زمن قادم، فتكون المرواة، حاملة حياتها باستمرار على محمل المؤجل المحصن ضد الحسم، والانغلاق. وبظني أكون في هذا الإنجاز سباقا، لأني لا أعرف أديبا/ موسيقيا أقدم على هذا قبلي في العالم.
2- إلغاء المقدمة الاستهلالية – عادة ما تكون وصفية- التي لم يخل منها نص حمل مفردة (قصة) أو (رواية)، والدخول بزخم سردي متوتر منذ العبارة الأولى، لتعزز صدمة الموجه القرائي المفارق. فالمقدمة الاستهلالية في النصوص القصصية، ضرورية لتهيئة متلقيها، وهي في هذا السلوك الكتابي المتوارث، مازالت تعنى باهتمامات التأليف التقليدية التي كان يحرص عليها الحكواتي القديم.
3- تشتت المتن الحكائي، وتغييمه لحساب المبنى الحكائي، وهذا مسار معاكس لمسار الرواية والقصة العربيتين، ولمسار ما اطلعت عليه من الروايات، والقصص العالمية، ولم أقرأ نقودا، أو تنظيرات تثبت عكس ما أذهب إليه. فالمعروف أن الأولوية في الرواية، والقصة، للمبنى الحكائي، أما المتن فهو البنية الثانية التي تغذي التّلقي بالتفاصيل، وترسخ علاقات المبنى المركب المترابط في الرواية، والمبنى البسيط في القصة القصيرة.، وهي منفذ السرد لتوظيف تقنياته كالارتجاع، والسبق، والقفز.. إلخ
4- النشاط الشخصي في الفضاء الحكائي: ويتلخص في انتزاع المكان من سياقه الجغرافي، والتاريخي، ووضعه في سياق ذهني، تحرره خصوصية السرد من علاقاته القارة، مثل افتراض تاريخ للاسم، واختلاق مبنى، ومتن لحكاية شعبية مختلقة أصلا! يستلزم بالضرورة اختلاق شخصيات، أحرص على أن لا تؤدي دور الدال الواضح والمباشر، وهذا لم أعهده في الرواية، ولا في القصة القصيرة من قبل، أصرح بهذا محتميا بما لا يقل عن خمسة عشر عاما من الدراسة الأكاديمية، بكالوريوس، وماجستير، ودكتوراه فلسفة في الأدب العربي الحديث، في تخصص دقيق هو : القصة والرواية، فضلا على الحرص الشخصي بتتبع (القص) تاريخا، ومنجزا. والانفتاح الزمني المحكوم بالأمكنة المنتزعة. فبنية الزمن في المرواة متعينة مكانيا، ومنضبطة على إيقاع التنقل بين الأمكنة منتزعة كانت - بفتح الزاي- أو مفترضة، ولم أقع في الفوضى زمانيا، بحيث تؤدي إلى إرباك في التلقي، كما حصل مع القاص الراحل محمود جنداري في مصاطب الآلهة.
5- ثمة شخصية رئيسة متكررة لم يعتمد عليها روائي، أو قاص، في تاريخ القص العربي الحديث، هي شخصية الموسيقار الأديب، النخبوية، التي تتمتع بثقافة تؤهلها لاتخاذ موقف من العالم، تمنح الواقعات، والأمكنة، والأحداث، والشخصيات المحيطة بها- هنا يحق لي أن أقول المرواتية- تمنحها تمظهرها الخاص بالفضاء السردي الذي تتحرك فيه/ به، بقدر نجاحها في انتزاع كل منها من سياقاته في الواقع الخارجي. إن الحضور الطاغي لهذه الشخصية، التي تساوي أحيانا الراوي العليم، مستوحى من الشخصية الرئيسة في فن المقامة العربي الخالص.
6- تداخل الراوي العليم، بالراوي الذي يساوي الشخصية الرئيسة (أنا) والاعتماد على التلقي البصري أولا في التمييز بينهما، من خلال توظيف الحرف (الغامق) ولا تهيئة لهذا التداخل، فثمة إلغاء لما ينبه إلى دخول الراوي بالضمير المنفصل (أنا) ما يبرر القول: إن المرواة تشتت انتظام السرد، بكسر أفق التسلسل المعهود في القص، على نحو يوازي تيار الوعي، ولا يشبهه في تفاصيله، أي ليس هناك ما يسمى تيار وعي. فضلا على توظيف الجذاذات التي يكتبها الراوي أو الشخصية الرئيسة، وأحيانا المؤلف، أسلوبا يتكرر في المراوي، بينما كانت النصوص الروائية، والقصصية ترتب السرد، وتقطع سياقه بسياقات أداء سردي يعرفها ذوو الاختصاص، تعززها اللغة النثرية الخالصة (الإخبارية) وتسهم في إيضاحها وهي مسألة منطقية جدا؛ لأن الوظيفة الأولى للقص هي الإخبار، وكان العرب- بحسب ما ذكر السيوطي في الإتقان- يطلقون على أخبارهم المتوارثة، وحوادث التاريخ ، القصص، ولعل هذا ما دفع محمود جنداري- وهذا ما أثبتّه في أطروحتي( البناء الفني في قصص محمود جنداري) 1997م لنيل درجة دكتوراه فلسفة في الأدب العربي الحديث- إلى تسمية مصاطب الآلهة بالقصص، لقد كان سرده عبارة عن تداعيات ترسلها ذاكرة راو عليم، يقطعها حوار المتحاورين، فالغرابة في سرد المصاطب لم تأت من تفرد صياغة الكلام فنيا بل كانت متأتية من غرابة العلاقات بين الشخصيات، التي جمعها من أزمنة متباعدة، وأمكنة مبعثرة، بعبارة أخرى؛ لقد حافظ القص (عند محمود جنداري في مصاطب الآلهة تحديدا) على الرغم من محاولة تشتيته للزمان والمكان، على راو واحد هو الراوي العليم، الذي ظل محافظا على لغته الإخبارية، التي لا تنزاح، بالجناسات، أو المجازات، أو التشبيهات الجديدة، بقدر انزياحها بالعلاقات (المكزمانية) التي غالبا ما تتمظهر بشخصيات من أزمنة مختلفة، وأمكنة متباعدة. من أجل توفير فرصة لوصف رؤيته الشاسعة لتاريخ الإنسان العراقي، واستعراض مأساته، في حين حرص خضير على بناء يوتوبيا، كل ذلك من خلال غرائبية الحدث والعلاقات، في حين حرصت المرواة على غرائبية الأداء الشخصي في السرد الحكائي. لقد قسمت مرسلي الحكي، في ندوة خاصة بالمرواة، أقامها اتحاد الأدباء والكتاب صيف عام 2004 إلى (حاكي) وهو ما نشترك به جميعا، في أدائنا اللغوي الاجتماعي العام، والحكواتي بمراحله الفنية المختلفة، بضمنها كتاب القصة المعاصرون، الذين يختلفون فيما بينهم، بقواميسهم الشخصية، وأساليبهم، وطبيعة اهتماماتهم، والمشاكل التي يعالجونها، ولا بد من أن أجعلهم ينضوون تحت يافطة الحكواتي، ولكن هناك حكواتي فني ما زال يصر على التمسك بتسمية نصه بالحكاية!! وهناك الصنف الثالث النادر، المفارق، وهو الحكّاء الذي يحمل، كل أدوات النقش في فضاءاته السردية البكر. وكل سمات خصوصياته، منجزا أولا، وقصدية ووعيا بهذا المنجز ثانيا.
7 - تبقى اللغة المنحرفة في المرواة، في بناء مفرداتها، وجملها، سمة سأحافظ على ديموتها، فثمة اشتغال شخصي في تفاصيل العبارة، يحرفها عن وظيفة الإخبار ولا يغربّها، وسأسوق على ذلك مثلا واحدا فقط، ففي (علي بالقوس إذا أيتها الجوائح) 1994- 1995م أراد الراوي أن يصف لحظة من طفولة المروي عنه في ظلام صالة سينما، وهي مقدمات السكائر الوامضة، فإذا قال تشبه نجوم الليل فإنه سيحيل إلى صورة مألوفة تماما، وهذا شأن الساردين التقليديين، وإذا قال نجوم السينما، فإنه سيحيل إلى الممثلين وتشترك الصورة بصورة لا يريدها في هذا المقام، و جملة ليل نجوم السينما لا تصح أيضا! فجاء الاشتغال ليؤدي غرضه، ويقول بطريقته: نجوم ليل السينما. إن توظيف الموسيقا في المرواة- في جانب منه- عامل استفزاز للغة للارتقاء، ولعل عنوان المرواة (أنت موسيقاي .. أو هذا البياض المحنك) المنشورة في جريدة الزمان العدد (1575) مثل يعزز الادعاء: أنت موسيقاي: الموسيقا هنا مسند- نحويا- فالمسند إليه في أعلى درجات التجريد، وأي بديل للموسيقا سينزل بالمسند إليه قيمة وصورة، وهنا يأتي تحدي الإداء الشخصي في اللغة، عندما يأتي مسند بديل، لا ينزل بالمسند إليه من مرتبتيه السابقتين، فكان: أو هذا البياض المحنك. إنها القصدية في الانحراف المركب، وإلا كان قولي أنت بيضاء مثل موسيقاي، أسهل، مع احتفاظه بقيمته بوصفه تعبيرا منحرفا.
إن استحالة الصورة، المتأتية من استحالة واقعية علاقة مكوناتها – كلاميا- مبررة وغير مفتعلة، بسبب هذا التعالق الوثيق بين فضائين إبداعيين، يسعيان إلى نقل المتلقي من منطقة الفهم، إلى فضاء الإدراك. وهذا يعطي انحراف الوصف شرعيته، مثلما يدفع بمن يعتمدون على التوتر في الوصف فقط – وهم تقليديون بناء -من حيث وجود بداية، ووسط وعقدة ونهاية- وتفاصيل، وموضوعات، إلى مساحة الأزمة،ويفضخ غياب وعيهم بخطورة الاختلاف.
والأمثلة الوصفية المشابهة المشتغلة- بفتح الغين- سمة تتكرر باستمرار، بما يعزز انحراف السرد الذي سينحرف بالمحاور سابقة الذكر، فضلا على توظيف الذاكرة النصية، سواء في المرواة الواحدة، أو اعتماد مرواة سابقة، بوصفها ذاكرة أخرى للمرواة الجديدة.
ألا يحق لي بعد تداخل هذه الإضافات النوعية على البناء بخصوصية الأسلوب، بما يمنح المرواة خصوصية أدائها الكاملة؛ ألا يحق لي أن أحيا خارج التوابيت التي تقبلتها الملايين، متلقين ومرسلين، دون اعتراض على الرغم من عدم مشروعية أغلبها، لعدم توافر الاختلاف الجذري والخصوصية، وأن أنعم بكبرياء المترفعين على الاحتماء بوضاعة خلافة الآخرين، وأتدفأ بالانفراد خارج انتظام آخرين في برد المعاطف؟!
ــــــــــــــــــ
* إن إيراد محمد خضير ومحمود جنداري فقط، لا يعني عدم وجود منجزات إبداعية أخرى مغايرة جديرة بالإضاءة. هذه الشهادة نشرت في ألف ياء جريدة الزمان الدولية نهاية آب 2005
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق