05 مارس 2021

سوزان خواتمي: الأرز المطبوخ بالحليب

 جاء خريف ليس ككل خريف. أصابني الوهن وأمراض البرد الشتوية الواحد تلو الآخر. على الرغم من ذلك تحاملت على نفسي، ودخلت المطبخ. أشعلت الموقد وصببت مقدارين من الحليب، ثم أضفت ما يلزم من السكر ومسحوق الأرز مستغلة فرصة نومها، والهدوء الذي يسيطر على باقي سكان البيت.

عندما أنجبتها كانت تشبه صوصاً؛ خفيفة مثل ريشة بعظام هشة وحنجرة قوية. يوماً بعد يوم اتضحت ملامحها وتشكلت لتتحول إلى نسخة مصغرة عن أبيها. لو كانت تشبه سلطعوناً بحرياً، أو قرداً من أدغال أفريقيا، فذلك لن يؤثر على جرعة الحنان الأمومي، أو على در الحليب في صدري كلما أرضعتها، ولكنكم لا تعرفون بأنني كنت أرخي طرف حجابي فوق وجهها لأتحاشى رؤيتها. سوى أن ذلك لم يحل مشكلة الغثيان أو البرد أو عادتي في تعقب شقوق السقف كلما صرخت وذكرتني بوجودها الذي أريد تناسيه.

أمام القاضي بلحيته المحنأة، وعمامته التي تعود إلى ألف سنة قبل يومنا هذا اعترفت:

ماتت… ليس ذبحاً كما تفعلون أنتم في الساحة العامة إنما بسم الفئران. لقمة تلو اللقمة التهمت صغيرتي الأرز الحليب المغلي المخلوط بسم الفئران. تناولته بشراهة، وحين بدأت تتقيأ، كنت أمسح عن وجهها لعابها ودموعها وعصائر معدتها، أنظفها  متفادية عينيها الجاحظتين.

أنا لم أقتلها، فقد ولدت مقتولة منذ ولدتها. حصتي من طبق الأرز بالحليب قاطعه لسوء الحظ دخول أبيها الذي حال بيني وبين إنهائه. كان من المفروض أن تجدوا جثتين وتعفوني وتعفون أنفسكم من الجهد الذي تبذلونه لدراسة قضيتي. لا أخاف قراركم، فالمتأهب لنهايته لا يخشى العقاب، وإن كنت لا أحبذ طريقتكم. إن الدم ياسيادة القاضي يرعبني.

حين كنت أقلب الحليب المغلي بانتظار أن يسمك ويتماسك لم أفكر بأحد. كنت أجهل مصير أهلي تماماً كما يجهلون مصيري، فكتبت رسالة إلى الله. وضعتها في زجاجة، ودفنتها. ذات يوم سيجدها من يقرأها.

” اسمي مها.. عمري ستة عشر عاماً. طالبة في مدرسة على بعد أمتار من البيت. أحب صديقاتي ودروس الفلسفة، وأكره التاريخ والمديرة التي كانت بين الفترة والأخرى تفاجئنا بوقوفها عند البوابة. كانت تلوح بعصاها لتصطاد أية مخالفة في الزي المدرسي. لا أحب لمَ شعري بمطاطة، ولا تلقي ضربات مسطرتها، لذلك كنت أعود أدراجي وأدّعي المرض، لأتحاشاها.

أغرمتُ بالأستاذة مهيبة، وهي معلمة الفلسفة بقامتها الطويلة وملامحها الصارمة بحاجبين يرتفعان دهشة من فرط براءتنا. تُعلمنا المادة المقررة، وتطلب منا قراءة كتب خارج المنهج الدراسي، تثق بقدرتها على تثقيفنا وتوسيع مداركنا. كانت تترك غرفة المدرسات، وتقف تحت مظلة ساحة المدرسة لنلتم حولها. تسألنا وتناقشنا فيما قرأناه؛ الحرية التي تدق، المسألة الوجودية، مشكلة المعرفة، وإشكالية الأخلاق بأبعادها الثلاث.. نلتُ العلامة التامة متفوقة على جميع زميلاتي، وقررت بيني وبين نفسي ليس الإلتحاق بكلية الفلسفة كما تظنون، بل أن أكون ممثلة.. لكن الأقدار لاعتباراتها الخاصة جعلت حياتي تنقلب بين يوم وضحاها رأساً على عقب.

قبل عامين حاصر تنظيم  داعش قريتنا من جميع أطرافها، تخلى عنا العالم بأسره، وتركونا لمصيرنا. باعني أبي مرغماً، وقبض الثمن؛ تصريحاً بخروجه من المدينة المطوّقة مع باقي العائلة، وهل كان بوسعه أن يفعل غير ذلك.! بكت أمي بصمت، مسحت دموعها بصمت، وعانقتني بصمت. لم تعترض. سحبت خلفها أخويّ الصغيرين، وتركتني لمصيري. لطالما حيرني ذلك اللغز الذي يشبه دعابة مقيتة: لو انقلب قارب بابنك وأمك وأباك.. أضف ما شئت ممن تحب، وليس بإمكانك سوى إنقاذ أحدهم فقط من غرقٍ أكيد، فمن تختار؟

غرقتُ.. أصبحتُ سبية عند أحد رجال داعش. لم ير وجهي. لم يخترني لجمالي أو لعيناي الشمعيتين أو لشحوبي إنما لأنه -وبثمن بخس- يستطيع جمع قطيع من النسوة يسرح في باحة بيته. كانت بيننا طفلة ينتظرها أن تحيض ليضمها إلى فراشه. أحاطنا بسور عال وقوانين صارمة.

عالمٌ من النساء والأصوات والزعيق يستمر طوال النهار، وبقدوم الليل يهدأ الجميع لأن أبو عبادة الصهناوي وضع قدمه عند العتبة، فنقف رتلاً ليشير إلى إحدانا، وهذا يعني أنه اختارها لتقوم على خدمته تلك الليلة، ثم تنصاع لفراشه.

الضجيج يزعجني أتقيأ. أصاب بنوبات هستيرية. أدور في غرفتي. أدق رأسي بالجدار، وعندما تتصلب ساقيّ أرتمي على الأرض. أحشو أذنيّ بصوف الفراش، وأنام.

أسألك يا الله إن كان ما حدث يرضيك..! ما الذي اقترفته لأصبح زوجة رغماً عني، وأماً رغماً عني، وقاتلة رغماً عني..!

شرحت لنا مهيبة وهي تضع دائرة حول الأخلاق النسبية بأن الفرد هو الوحيد الذي يستطيع تحديد أفعاله و أفعال غيره إن كانت خيراً او شراً. لا أظنني اقترفت إثماً إلا إذا كان كرهي لإطاعة أوامر العصا يعد خطيئة، أو ربما حين أكذب وأدّعي المرض، أو لأني اخترعت حجة درس إضافي وتسكعت مع صديقتي عند ضفة النهر، أو لأني أردت أن أنقذ ابنتي من مصير السبايا..؟

هل تستحق تلك الخطايا أن أسحق تحت جسد رجل يملك لحية كالمقشة جعلت الحبوب تطفح فوق وجهي..!

عندما أصبح بين يديك يا الله..

ارحمني.

جبر مراد: الحب والانكسار في رواية “ربع وقت” لسوزان خواتمي

 تخوض الكاتبة السورية سوزان خواتمي في “ربع وقت” تجربتها الأولى في السرد الروائي بعد أعمالها القصصية، وسبق أن قرأت لها مجموعة “فسيفساء امرأة” الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، وكانت حافلة بعوالم نسائية متضاربة تحاكي جمال ومظلومية هذا الكائن الإنسي الرائع.

شخصيات مغلوب على أمرها بمصائر معلقة

“ربع وقت” رواية صادرة عن دار ميم للنشر في الجزائر، تحمل عنواناً موارباً يحيلنا إلى أكثر من معنى. يتنامى فيها السرد خلال فترة تمتد ما بين 1990 تقريباً و2012 أي فترة التحولات الحقيقية في سورية التي أسست لما هي عليه الآن .

شخصيات الرواية محدودة العدد بدت واقعية بسيطة في تعاملها مع الحياة، وفي ردود أفعالها، ومغلوبة على أمرها في علاقتها مع السلطة. يجدها القارئ مألوفة، وقد يكون في محيطه الصغير من يشبهها ويتقاطع مع سلوكياتها.

تحضر نائلة، كشخصية محورية، وهي الأكثر حضوراً وتنامياً مع الأحداث، والأغرب سلوكاً، ففيها التمرد والأنانية والخروج عن المألوف في حبها وعلاقتها. تملك روحاً حرة وثابة ترتبط بعلاقة زواج مع ثلاثة رجال، اثنان بقيا مولعان بها؛ وهما زوجها الحالي المحامي سليم، وطليقها الأول بكر الذي اقترنت به بعد علاقة حب في سن الفتوة، أما الطليق الثاني والذي تعرفت عليه وأحبته وهي على ذمة بكر عندما كانت في حالة حداد على والدتها، فقد تخلى عنها أول مرة في لندن ليلتحق بدورة لمدة اسبوعين ( حسب قوله: تفتح له آفاق جديدة ) والمرة الثانية عند دخولها السجن بسبب مقال صحفي نشرته عن فساد في بناء منشئة رياضية.

شخصية نائلة المركبة والتي تتراوح بين الأنانية والشهوانية والحرية والفشل في تجربة الأمومة، ليست باختصار ابنة مجتمعها في تعاملها مع الحياة، فهي لا تشبه مها زوجة طليقها بكر، أو جاراتها اللواتي ظهرت منهن أم حسام المرأة الثرثارة المغلوبة على أمرها مع زوجها.

أما الرجال الذين ظهروا في الرواية، فكانوا يخونون نسائهم بمبررات واهية، ومع هذا لا يفتقدون النبل والنخوة والمحبة .

بشيء قريب من الدقة تصور الرواية خروج المظاهرات في جامعة حلب من خلال مشهد مؤلم وعنيف، ونقلت الكاتبة الأحداث بعين المتابع الموضوعي إلى حد كبير، فلم تطلق أحكام قيمة، بل تركت ذلك للقارئ، ولكل قارئ قيمه الخاصة به.

توظيف الحوارات:

[من نافذة خليل يبزغ الفجر]

عبارة نقرأها في بداية الباب 12 من الفصل الأول لتُقحمنا في تعاطف علني مع هذا الشاب وتعقيدات حياته، وخلال فصلي الرواية لمعرفة مصير نائلة وسبب اعتقالها، جاء السرد خجولاً وتمهيدياً في البداية، إلا أنه تصاعد حتى النهاية بشكل سلس وغير معقد، وبدون الاستعراضات السائدة لبعض الكتاب.

تقول نائلة : [حلب ثمرة جوز قاسية ولكن ما أن تكسر قشرتها حتى يظهر لك لبها الطيب ].

في “ربع وقت” تم توظيف الحوار لينقل على لسان الأبطال نصوص ومعان تميزت بعمقها، يظهر ذلك في الحديث الذي دار بين جوانا ورفيقها خليل:

 – لم تنم ! النوم كائن جميل ومسالم .

– إن كان كذلك بالفعل فما الذي أيقظك ؟

– لا أعرف .. ربما لاكتشف لغة الصمت.

– الصمت أم السكون ! يقال وفق المذهب الصوفي: التمست قلة الحساب فوجدتها في الصمت أما سقراط فيقول : تحدث حتى أراك !

– ما من شيئ مضر بالصحة أكثر من الفلسفة على الريق .

– وفق رأي هيللر: الصمت له أنواع ، هناك صمت التريث واستقراء الواقع قبل الكلام ويدعى الصمت الحكيم، وهناك التوقف عن الفعل وعدم المشاركة والكف عن الانتقاد والذي يؤدي للاعتصام والعصيان ويسمى الصمت الفاعل، وهناك السكوت وتمارسها الأنا الحرة إما بسبب العجز عن التواصل أو بسبب الجهل بمايدور حولها ، أو بسبب الإحساس بالاغتراب عن المجموعة ويسمى صمت المتلقي….هذا إضافة إلى المراوغة التي يستخدمها المسؤولون والسياسيون، فتعابيرهم التي لا تفسر شيئاً تجعل الكلام كعدمه، ويسمى صمت المتحدثين.

كما احتوت الراوية على مقاطع لكتاب آخرين بشكل غير مقحم، وبدون عسر. تقول جوانا الابنة الوحيدة لنائلة مستعينة بمأثور لابن بطوطة ” فالسفر .. يعطيك منزلاً في آلاف الأماكن ويتركك غريباً في وطنك ” وفي موقع آخر ترد مقدمة رواية دروز بلغراد ” أيقظني الهدير وارتجاج الأرض. أين أنا ؟ “

ربما ستقدم لنا خواتمي عملاً جديداً آخر يستمر بنفس الشخوص، فهم لم يصلوا إلى نهايات يقينية، وبقيت مصائرهم معلقة، فنائلة تتعافى من السجن، وابنتها الوحيدة جوانا الغامضة اللا مبالية والمحبة للفن والمسرح تتحسن علاقتها بوالدتها، ولا نعرف ماذا جرى لباقي الشخصيات.!

لن أكشف تفاصيل العمل أكثر مما فعلت، ولكن أقول بأنها رواية تلتقط مشاهد الحياة وتنثرها في وجوهنا المرهقة، إنه عمل ابداعي متماسك يُقرأ بيومين بمتعة ومحبة.

#موقع_الكتابة

#ربع_وقت

#رواية

هل تعلم أن القانون السوري يقتل الأطفال؟

 لم تشطف الدرج! خطأ دفعت ثمنه هند أنس المصري، ولمن لا يعرفها هي طفلة في العاشرة من عمرها لم تكن مطيعة ما يكفي لتنجو بحياتها.

أشبعها أبوها ضرباً، فأصيبت بكدمات ورضوض في الصدر وخثرات دموية في الأنف تسببت بحالة غيبوبة ونزف دماغي ومضاعفات أدت إلى وفاتها بعد ثلاثة أيام من دخولها المشفى، ولم تكن المرة الأولى، فالتقرير الشرعي بيّن أن جسد الطفلة يحمل كدمات قديمة، تدل على تعرضها سابقاً للضرب وفي أوقات مختلفة.

 الحادثة المرعبة أثارت حالة استهجان عامة على الصعيد الإعلامي، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، لكن وكما يحدث عادة سرعان ما سيطويها الزمن، فمن يتذكر الطفل السوري في لبنان الذي تعرض للتحرش من قبل سبعة أشخاص واضطرت أمه للتنازل عن دعوتها ضدهم بعد تعرضها للضغوط.! وماذا حدث لقصي الذي تعرض للتعذيب خلال عمله في ورشة الحدادة أدى لكسر في جمجمته وضعف في بصره.!

مع مرور الوقت ستصبح القصة ماضياً منسياً لطفلة لم تتوقع أن تنتهي حياتها على يد أبيها، فالعواطف والمشاعر مهما كانت صادقة لا تستطيع أن تحدث تغييراً في البنية المجتمعية، وليست كافية لمواجهة حدث يحتاج إلى أكثر من التعاطف، حيث تقر إحصائيات اليونيسيف بأن هناك ملايين الأطفال حول العالم يتعرضون لأسوأ أشكال الإيذاء دون تلقي الحماية المطلوبة، وغالباً ما ينجو المعنف من العقاب لكونه شخصا مقربا من الطفل، غني عن التعريف بأن النسبة الأكبر من تلك الحالات تقع في منطقتنا العربية.

داخل مجتمعات تقدس الخنوع، وتشجع التربية القاسية، وتعتبر عدم الطاعة ذنبا شنيعا تصبح حكاية الطفلة هند حادثاً آخر من بين حوادث العنف الممارس ضد الأطفال، فالتعنيف والعقاب الجسدي ظاهرة شائعة تتكرر، وستتكرر.

الغريب أننا في سوريا لسنا بحاجة للتكتم على المُعنف، لأن القانون وبكل بساطة يحميه، فالمادة 185 من قانون العقوبات السوري “تجيز ضروب التأديب التي ينزلها الآباء والأساتذة بأبنائهم وتلاميذهم على نحو ما يبيحه العرف العام.”  

ليست نكتة في غير محلها أبداً، هو نص قانوني يرجع له القاضي عندما يُحكّم في قضايا عنف يمارسها الآباء والأمهات نحو أبنائهم، أما إذا أفضى التأديب “المبرر وفق العرف العام” إلى الوفاة، فهو غير مقصود ولا يمكن اعتبار الفاعل مجرماً.

فهل كان أبو هند مجنوناً أم أنه ضحية ظروف تربيته وما نشأ عليه من قيم وما أباحه له القانون من حق مشروع؟ وهل حاول أحدنا الإبلاغ عن حالة تعنيف صادفها في الشارع أو سمع بها من خلال الأصوات التي تعبر جدران بيوتنا وتدل على خطأ يُرتكب؟ وقبل كل ذلك هل هناك جهة مسؤولة وموثوقة تحمي الصغار وتؤمن لهم بيوتاً آمنة للإيواء؟

كل ما سبق من تساؤلات وإجاباتها المعروفة تجعلنا مكتوفي الأيدي أمام حالات العنف الممارس على الأطفال، والذي لا يقتصر على الإيذاء البدني بل يشمل منعهم من حقوقهم في التعليم والصحة، واستغلالهم بالعمل، والإهمال، وعدم تأمين الظروف المعيشية المناسبة، وتعرضهم للتحرش والعنف الجنسي، وزواج الطفلات.

نعم قد لا يموت الأطفال المعنفون جميعهم، لكن بعضهم يعاني من التبول اللاإرادي، وبعضهم يصاب بأمراض نفسية مزمنة، وبعضهم يمارس العنف على رفاقهم، وأغلبهم يكبرون ليتحولوا إلى آباء وأمهات مسيئين ومعنفين.

في بلاد السلطة والتسلط و غياب القوانين الرادعة يتحول العنف من سلوك فردي إلى منظومة اجتماعية وثقافية ممنهجة تمارسها الأنظمة الديكتاتورية على شعوبها، وتتكرر بصور مختلفة ضمن سلسلة الأقوى نحو الأضعف.

هند ليست الضحية الأولى ولن تكون الأخيرة، سنظل نسمع بقصص مشابهة أقل أو أكثر حدة حتى نكوّن رأياً عاماً يرفض ممارسة العنف ويضغط باتجاه تعديل القوانين المجحفة التي لا تنقذ الصغار من “حنان” آبائهم وأقربائهم، أما أساتذتهم فقد منعتهم وزارة التربية من الضرب في المدارس..!