05 سبتمبر 2020

الحالة السورية… حبر على ورق

 حددت الجمعية العمومية للأمم المتحدة منذ العام 2014 المنتصف من شهر تموز كيوم عالمي لمهارات الشباب، ووضعت تبعاً لذلك خطة مستدامة تمتد إلى العام 2030 تهدف إلى رسم خطط وآليات مناسبة في الدول النامية لتكتسب الشابات/الشباب من عمر 15_24 المهارات والخبرات اللازمة للتمكين والمنافسة في سوق العمل.

هكذا تتوالى علينا الأيام الدولية والمناسبات العالمية ضمن ظروف تنحدر بنا نحو الأسوأ، فأجندة الاحتفالات التي تسلط الضوء على جوانب هامة من حياة الإنسانية، تضعنا أمام تحديات تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، فالخطط المرسومة نظرياً والمساعدات التي تقترحها أو تقدمها الجهات الدولية والإنسانية لفئة الشباب سواء في التعليم أو في إتاحة فرص العمل تكاد تكون بلا أثر أمام كارثة انسانية تتفاقم مع استمرار الحرب السورية التي وللأسف ما من جهة جادة تعمل على وقفها.  

إن الطفلة/ الطفل الذي دخل المدرسة عند قيام الثورة عام 2011 يفترض أنه صار شاباً اليوم ويدخل عتبة التعليم الجامعي في حال كان محظوظاً، إلا أن الأمر ليس على تلك السوية من المثالية، فوفق تقديرات اليونيسيف الصادرة لعام 2019 “نصف الأطفال السوريين بين سن خمسة و17 عامًا بلا تعليم، أي أن هناك 2.1 مليون طفل بالداخل وسبعمئة ألف طفل لاجئ بدول الجوار محرومين من التعليم، كما أن 1.3 مليون آخرين عرضة للتسرب من المدارس أو عدم تلقيهم التعليم”.

مع تهاوي بنية المجتمع السوري بكافة قطاعاته وأحدها الجانب التعليمي تصبح النظرة نحو المستقبل بالغة القتامة، إذ تتفشى الأمية بسبب التهجير وحركة النزوح والفقر وتدمير المدارس والمنشآت التعليمية، ففي شهر شباط الماضي قتل 9 أطفال وثلاثة مدرسين في هجوم استهدف 15 مدرسة في إدلب، ولم تكن المرة الأولى وليست الأخيرة للأسف.

نظرة إلى الماضي

في عودة سريعة إلى تاريخ التعليم في سوريا، نعرف أن المناهج التعليمية استهدفت حشو  أدمغة الطلاب منذ المرحلة الأساسية بأدبيات حزب البعث، وانحصر التعليم بالتلقين والحفظ ونسب النجاح، كما ظهرت المعاهد الخاصة التي تنافس المدارس وتحقق مرابح هائلة تحت أنظار الدولة ومباركة وزارة التربية، إذ يلتحق الطلبة بتلك المعاهد للحصول على شهادة الثانوية العامة مستغنين عن الالتزام بالتسلسل المدرسي والانتقالي الطبيعي في سنوات المرحلة الثانوية، ويكاد يكون الأمر مشابهاً في مرحلة التعليم الجامعي بعد إفراغ الجامعات من مهماتها العلمية وتفشي الرشاوى للنجاح في المواد، ما جعل جامعة دمشق اليوم تحتل المركز 3785 على مستوى العالم في التقييم.

الواقع اليوم

حالة الفوضى العارمة والعنف والسلاح ومناطق فرض القوى طرحت أساليب جديدة لفرض مناهج تعليمية مختلفة تبعاً لجهة السيطرة، ففي مناطق النظام وقع وزير التعليم الايراني محسن حاجي ميرزائي وثيقة تفاهم تقضي بتعديل المناهج السورية وطباعتها في إيران، وستكون اللغة الفارسية اختيارية في الثانوية العامة، كما عقدت وزارة التربية السورية اتفاقاً مع نظيرتها الروسية لإدخال اللغة الروسية للصفوف الاعدادية، وسيتم افتتاح كليات اللغة الروسية في جامعتي اللاذقية وحمص.

أما في مناطق سيطرة المعارضة فقد عدلت المناهج لتتبع وزارة التربية التركية في شمال سوريا، وفي إدلب تدخلت الحكومة المؤقتة في المناهج السورية إلى أن سيطرت الحكومة التابعة لتحرير الشام وفرضت منهاجها الخاص، في حين تضمنت المناهج في مناطق سيطرة الادارة الذاتية شمال شرقي سوريا أهداف حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، وأضيفت مادة علوم المجتمع والحياة، وقسمت المدارس إلى ثلاث لغات الكردية والعربية والسريانية.

لا تقف صورة المخرجات التعليمية عند هذا الحد، بل تتعداها إلى عدم اعتراف كل منطقة بشهادات المناطق الأخرى، ليأتي وباء كوفيد 19 هذا العام ويلقي ظلاله غير الاعتيادية  بقرار إغلاق المدارس، وفي هذه الحالة المفترض أن تتوفر امكانيات التعليم عن بعد لإمداد التلاميذ بالمعلومات الأساسية للعام الدراسي الحالي، ولكن ما تحقق في العديد من الدول المتقدمة يصعب تطبيقه وفق الظروف الراهنة داخل سوريا سواء من ناحية توفر خدمات الاتصال أو استعداد الكادر التعليمي لتطبيق هذا الشكل من الدروس، ما أدى إلى حالة عطالة، ولأول مرة في تاريخ البشرية ينتقل الطلبة من صفوفهم دون خوض امتحانات تقدير المستوى، وتحول التراجع في المستوى التعليمي إلى مناسبة للنجاح الاتوماتيكي والتلقائي، فبفضل جائحة الكورونا… الكل ناجح!.

حبر على ورق

الصورة المؤسفة للوضع التعليمي في الداخل السوري يترافق مع العبء الاقتصادي، إذ تشير بعض التقديرات إلى تجاوز نسبة البطالة في سوريا الـ 50 بالمئة من قوة العمل بسبب تراجع قيمة الليرة السورية وارتفاع تكاليف الإنتاج، حيث يعاني الشباب من عدم وجود فرص للعمل من جهة، وعدم القدرة على السفر والعمل في الخارج من جهة ثانية. وبحسب احصائيات الأمم المتحدة يعيش 83% من الشعب السوري تحت خط الفقر، وقد رفعت جائحة كورونا من نسبة البطالة بسبب شلل العديد من القطاعات والخدمات لتزداد المصاعب التي تواجه فئة الشباب، ووفق منظمة العمل الدولية فإن “فئتي الشباب والنساء مهددتان بالبطالة بنسبة أكبر بسبب ضعف الحماية والحقوق الاجتماعية، وبسبب زيادة النساء بنسب كبيرة في الوظائف متدنية الأجر وفي القطاعات المتضررة.” هكذا يتضح بأن الانكماش الاقتصادي وما ترتب عليه أشد وأقسى على الشابات اللواتي اندفعن إلى سوق العمل بسبب الحاجة وفقدان المعيل إلا أنهن عرضة للفصل أو لتخفيض الراتب، حيث تقدر نسبة البطالة بين النساء بعد الجائحة بخمسة أضعاف عنها بين الرجال.

أمام واقع الحالة السورية تصبح النقاط التي دعا إليها الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره حول الشباب والسلام والأمن قبل ثلاثة أشهر، وتتلخص بمواجهة التحديات والاستثمار في قدرات الشباب لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ليست أكثر من حبر على ورق.

*المصدر: موقع الحركية السياسية النسوية السورية

قطار

 رنَّ المنبه معلناً بداية أخرى لدوامته. وكعادته مدَّ يده وضغط الزر.  بجَفنٍ واحدٍ مفتوحٍ وآخرَ مغلقٍ ألقى على الساعةِ نظرةً نَعْسى. كانت العقاربُ تشيرُ إلى الثانية عشرة وعشر دقائق..!

تنبهتْ أعصابُه الخدِرةُ، استيقظَ ذِهنُه متحولاً دفعةً واحدةً من الخمول إلى الصحو. هل سرقه النوم وفوّت الباص الذي يحشر جسده فيه محاطاً بعشرات الركاب متأرجحاً كالبهلوان حتى يصل مركز عمله.

فتح عينيه على اتساعهما، وجال ببصره مستطلعاً ما حوله؛ ظلال غريبة كانت تنعكس فوق جدران تقشر طلاؤها، لم يستطع التكهن بالوقت. تلمس فراغ الفراش في جهته اليمنى. 

ألم تنم بعد..! أم أنها كعادتها هربت من شخيره ونامت بجانب ناصر ابنها المدلل..!

سأل نفسه، وغرق في تخميناته.

لم يحدث أن استيقظ متأخراً، كما لم يحدث قط أن نهض قبل موعده. أما استعانته بالمنبه فليست إلا عادة مزمنة تتحكم به.

زميلته في العمل سمر.. سهى.. ثريا، أو شيءٌ من هذا القبيل- الحقيقة أنه لا يتذكر اسمها- تستغرب دقته وانضباطه بمواعيد الحضور والانصراف. حاولت الإثناء عليه ومجاملته برِقّة ذكرته بالسحالي، قالت: كأنك ساعة بغ بن. أهنئك.. تحضر دائماً قبل الجميع.. لم تتأخر مرة واحدة.

أجاب متهكماً، منهياً محاولاتها التي يسيء الظن بها: ليس حباً بالعمل.

انفرجت شفتاها المثقلتان بأحمر شفاه داكن، دون أن تفهم تماماً ما يقصده.

بقيّ متجهماً.

متى تجد زميلته الملونة الوقت لتضع كل هذه الزينة.؟ رموشها المثقلة بالكحل وأقراطها الكبيرة، شفتاها بشكل خاص ترعبانه. النساء مكانهن البيت، لماذا يزاحمن الرجال فرص العمل، ويتبرجن كأنهن في محل لبيع الدمى!.

بعض السلاحف تعيش مئة عام، الحوت يعيش أطول من ذلك، لكن هناك نوع من أنواع الفراشات لا يتجاوز عمرها 24 ساعة، يا للخفة .! ليته كان فراشة.

بانتظار محطته الأخيرة يمضي قطار عُمُرِه مُلتزماً بالسِكّة، وبذاك الصفير المدوي في رأسه. يعمل محاسباً في أحد البنوك يراجع حسابات الأثرياء ويحسدهم دون طائل، ثم يستلم في فترة بعد الظهر نوبته في قيادة سيارة أجرة. وما بين أوجاع ظهره وعملين يستهلكانه، يُأمن حاجيات بيت لا تنتهي طلباته.

التوقف أمنية لا يطالها. كان عليه أن يعيش انكساراته كاملاً، يتذكر قبل أن يغفو صفعات أبيه ليعلمه الأدب، ضربات عصا أستاذه ليحفظ دروسه، السجن في الزنزانة الانفرادية أثناء خدمة الجيش الالزامية ليتعلم حب الوطن والطاعة العمياء.

حين بلغ الثلاثين لم يعد يفرح ولا يحزن، طرأت عليه تبدلات واضحة، كان قد استسلم لقدره، زاد وزنه و تخلت عنه فتاة قلبه. ارتبط بزوجة متجاوزاً عبء الوقوع في الحب، أنجب ثلاثة أطفال صبياً وابنتين يصفعهم ليعلمهم الأدب والامتثال، أما زوجه فتعودت تجهمه في وجهها، دون أن تعرف بأنه يهرب منها ومن عالمه إلى جنة يبتدعها لنفسه ليعيش في كوخ بنوافذ حمراء، يطل على غابة شاسعة برفقة جميلة لا تشبه زوجته المملة ولا تشبه حبيبته الخائنة، لا يذهب إلى وظيفة بالكاد تفي متطلبات بيته، ولا يضطر إلى أن يجوب شوارع خانقة، ولا يعكر صفو يومه أحمر شفاه زميلته السحلية، أما أسوأ ما في ذلك الحلم، فهو  اضطراره لإسكات صوت المنبه والعودة الاضطرارية إلى دوامته، ففي الأحلام فقط كل شيء ساحر ومبهج وحقيقي.      

رنَّ المنبه.!

لم يرن.!

يشعر بهوة عميقة في رأسه، لن يعرف إجابة لتساؤلاته إلا إذا نهض. كان يهم برفع الغطاء عنه حين دخلت زوجته بوجه متعرق شاحب وبملامح تنبئ عن كارثة.

ابتلع ريقه وسألها: خير انشالله؟

قالت بصوت جزع: انهض يا رجل، اسمع الخبر يبث في كل مكان.

هب واقفاً وقد أصابته عدوى القلق. بحث عن قناة الإذاعة المحلية. تردد صوت موسيقا غريبة انقطعت فجأة ليعود صوت المذيع:

“نكرر.. السادة المستمعين يؤسفنا أن الشمس ولسبب غير معروف لم تشرق، ما استدعى إعلان حالة الطوارئ. وحرصاً منا على سلامة المواطنين ننصحهم بالبقاء في منازلهم، حتى يتم تحديد الجهة المسؤولة عن هذا الخلل الكوني. ولمعرفة معلومات أكثر يمكنكم متابعة برنامجنا التالي الذي نستضيف فيه نخبة من المبصّرين والفلكيين والباحثين والمحللين.” غمرته غِبطة لم يستطع منعها. تنفس الصعداء. رجع إلى فراشه، سوَّى الوسادة تحت رأسه، سحبّ الغطاءَ حتى حدود ابتسامته، واستسلم إلى النوم .

من المجموعة القصصية : امنحني 9 كلمات

إن كنتِ بخير… فلا يعني أنهن جميعاً بخير

 تردد س.ر بثقة: المرأة نالت من حقوقها أكثر مما تستحق. ذلك الاعتقاد الذي يصل اليقين عند الكثير من النساء يجعلهن واثقات بأن المرأة في وضعها الحالي تنعم بما لا تحلم به مثيلتها الأوروبية والأميركية حتى باقي أصقاع الأرض، فهي زوجة محصنة، وابنة مدللة، وأم مقدسة، وأخت لها حظوتها في البيت.

تقيس س.ر أوضاع النساء من منظور النعيم الخاص الذي تعيشه، فهي شخصياً لم تتعرض للتعنيف، ولم يسبق لها أن وقفت في ردهات محاكم الأحوال الشخصية، كما أن إمكانياتها المادية الميسورة جعلتها بعيدة عن تصور المصاعب التي تتعرض لها المرأة العاملة، وليست قوانين إجازة الأمومة إلا مثالاً. امتيازاتها الخاصة تحفزها لمهاجمة المنظمات النسوية والحقوقية، فترفض المطالب المحقة بالمشاركة السياسية، وبالتعديلات الدستورية لتشمل حقوقها فيما يخص منح الجنسية، والحضانة، والطلاق التعسفي بل وتعتبرها سباحة ضد التيار… فما الذي نريده أكثر مما هو موجود…!

إلا أن رأي س.ر القطعي انتهى بغتة بعد اعتقال ابنتها في سوريا. بدت شاحبة صامتة، وقد فقدت الكثير من منطقها السابق، إذ لم يكن الاعتقال هو الكارثة الوحيدة التي ألمت بالعائلة، فزوج ابنتها باشر إلى إجراءات الطلاق، ورغم أنه لا يعرف خبراً عن مكان زوجته، ولا موعداً لإطلاق سراحها إلا أنه يبرر موقفه: ما الذي يؤكد لي أنها لم تتعرض للاغتصاب؟

وقوف المرأة ضد نفسها

اخترت قصة س.ر من بين قصص ربما تكون أشد قتامة توضح بدلالاتها على مدى الإجحاف الذي تتعرض له المرأة في المجتمع، وتُظهر رأي شريحة لا يستهان بها من نسائنا اللواتي يعتقدن بأننا الأفضل حالاً بين قطبي الأرض، بسبب نصيبهن من حسن الطالع فقط!.

إن إلقاء نظرة أكثر شمولاً وتعمقاً، وربما مجرد وقوع حادثة لم تكن بالحسبان تجعلنا ندرك أننا نعيش في مجتمع تسوده أعراف ذكورية على درجة قاسية من التمييز، ونحن هنا لا نواجه فقط نوازع الرجال وآرائهم في قيمة المرأة، سواء كانت زوجة أو ابنة أو زميلة عمل أو معتقلة في سجون الأسد، بل نواجه أيضاً تبني النساء لتلك الأعراف، وحقنها في أوردة أبنائهن وبناتهن فيبخسن دور المرأة، وينكرن عليها حقوقها بما يضمن تربية أجيال تتعايش مع الظلم الاجتماعي، وعدم تساوي الحقوق والواجبات سواء في القانون أو في سبل الحياة المجتمعية.  

لذلك تصطدم جهود التغيير بموقف ملتبس لوقوف المرأة ضد نفسها، واستسلامها لتقاليد وقوانين تنكل بها، وقد انتشر منذ مدة فيديو لتجمع نسائي في مدينة الخليل الفلسطينية يعترضن على تطبيق اتفاقية سيداو [اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة] التي تطالب بالقضاء على جميع أنواع التمييز ضد المرأة، واعتبرن أن شعارات تحرير المرأة وتمكينها، والمطالبة بحقوقها ضمن شرطي العدل والمساواة ليست سوى صورة غير لائقة لدعم الغرب المستعمر، وخطراً على الأحكام الشرعية، كما اعتبرن بعض بنود الاتفاقية ما هو إلا تسهيل للحرام ضمن ذريعة حقوق الإنسان والجمعيات النسوية القانونية وواجهة للعلمانية والفوضى الأخلاقية والانهيار الأسري… وقد صدر عن ذلك الاجتماع النسائي بياناً رافضاً من تسعة بنود!.

المشاركة الفعالة

على الرغم من أن المرأة في الثورات عموماً وفي الثورة السورية على وجه الخصوص وقفت مواقف مشرّفة، وشاركت في المظاهرات، وتعرضت للاعتقال والتعذيب والتهجير ما يجعلها شريكاً موازياً للرجل، ولكنها مازالت تُواجه بقائمة من التحفظات حين تطالب بحقوقها في التعديلات الدستورية، وبالكاد تستطيع التواجد ضمن نسبة الكوتا المفروضة في القوائم الانتخابية لتجاوز فراغ المشهد السياسي من الوجوه النسائية، بل ويصبح الحديث عن وضع المرأة مؤجلاً وغير لازم وغير مدرج ضمن الأولويات، فما السبل التي تؤدي إلى التغير العميق في الأفكار والتصورات المسبقة في مواجهة المخزون الإرثي والتقليدي والعقائدي لكيان المرأة التي تشكل نصف المجتمع؟ 

يقول المفكر الفرنسي غوستاف لو بون “في مرحلة التحول والتبدل هناك عاملان أساسيان يشكلان الأساس الجذري للتحول، الأول تدمير العقائد الدينية والسياسية والاجتماعية، والثاني خلق شروط جديدة كلياً بالنسبة للوجود والفكر”.

الإرث التاريخي

ِفي محاولة لفهم تواطئ المرأة ضد مصالحها، وتقبلها لتنميط صورتها تحت وصاية الرجل إلى درجة اعتزازها بمظاهر قهرها علينا البحث في إرثها التاريخي الذي صنع منها كائناً مستلباً يحتال على الواقع، فيبتكر وسائل دفاعية غير مباشرة تحصنه من خلال التأقلم مع الوضع الراهن، وتبريره، والحفاظ عليه.

إن الخوف من الرفض والإقصاء المجتمعي ودفع الضريبة المتوقعة من الخروج عن الملة أو القبيلة أو العائلة يسيطر على ذهنية المرأة… يجعلها أكثر رضوخاً للطبيعة الأبوية والقوانين المتحكمة في مصير النساء. إذ تبقى ثلاثية أحكام الدين وأعراف المجتمع وسيطرة الرجل مخاوف كامنة لا تستطيع مواجهتها بل تدفعها لتقديم الأعذار عن جملة الاعتداءات التي تتعرض لها، فتدافع عن كونها في مرتبة أدنى، وترفض التوصيات والقوانين المقترحة للتمكين والمساواة، مفضلّة لعب دور الضحية المحصنة بعجزها وضعفها عن خوض غمار التمرد والمواجهة. إن الطبيعة الإنسانية تتغير ببطء وإلى أن يأتي التحول الواعي ستكتفي المرأة بنصيبها من التضامن والتعاطف الذي يتعلق في بعض الحالات بحسن الطالع فقط.

يقول إيرك فروم في كتابه الخوف من الحرية “التحرر من العوائق الخارجية لا يغني عن التحرر من الزواجر الداخلية التي كثيراً ما تكون أبهظ من سابقتها“.

*مقال نشر في موقع الحركة السياسية النسوية

15 مايو 2020

النساء السوريات... صانعات الخير


أول احتفال يخص تكريم المرأة أقيم في باريس، قبل ما يقارب 75 عاماً من اليوم. حدث ذلك إثر انعقاد مؤتمر الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، إلا أن تخصيص الثامن من آذار جاء لاحقاً بعد سلسلة من الجهود الدؤوبة والوقفات الاحتجاجية والمطالبات المحقة تعود إلى ما قبل ذلك التاريخ بكثير لتتحول المرأة من كائن غير مرئي إلى مواطنة تنال بنجاحها وإصرارها احترام مجتمعها والمساواة والعدالة في حقوقها السياسية والدستورية. الجدير بالذكر أن منظمة الأمم المتحدة لم تتبن تلك المناسبة بشكل رسمي سوى سنة 1977 لتتحول إلى يوم عالمي يرصد إنجازات المرأة ويتذكر نضالها، وقد اعتمدت بعض الدول هذا التاريخ كعطلة رسمية.
ماذا لو استسلمت الحركات التي أسست لحقوق المرأة منذ بدايتها أي في القرن السابع عشر، فالطريق شاقٌ وصعبٌ، والتأثير في المجتمع لتغيير المفاهيم والأوضاع القامعة للمرأة بطيء ومحبط.
لن نتخيل ذلك إلا من باب خلاصة القول: الآمال وحدها لا تكفي، والأهداف المحقّة ستتحقق ولو بعد حين.

دعونا اليوم نحتفل
الأعياد هي مناسبة جيدة للاحتفال، على الرغم من المآسي التي تحيط بالمرأة السورية ضمن ظروفها الحالية، سواء في المدن التي تتعرض للقصف أو في بلاد اللجوء أو داخل المخيمات، إلا أن حضورها الفاعل والمؤثر لم يغب، فالكثير من الشخصيات النسائية تحدّين المعوقات والصعوبات، واستطعن لفت أنظار العالم إليهن، ولعل هذا اليوم مناسبة للإشارة إلى بعض تلك الأسماء.
نبدأ بفيلم "من أجل سما" الذي حصد منذ فترة قريبة جائزة أفضل فيلم وثائقي في احتفالية الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون "بافتا"، ورشح لجائزة الأوسكار، كما فاز بجائزة العين الذهبية في مهرجان كان. مخرجته وعد الخطيب عاشت أوقاتاً صعبة حين كانت المشافي الميدانية في حلب تقصف بعنف. لم يكن الخوف خيارها الوحيد، فبكاميرتها التقطت صوراً من الواقع لجرائم النظام ضد الإنسانية خرجت بها إلى العالم لتثبت أن المرأة منذ الأزل قادرة على صنع الحياة بما بين يديها من مواد أولية مهما كانت متواضعة.
أما ياسمين مرعي وهي مديرة تحرير مجلة " سيدة سوريا" فقد ترأست قبل شهور قليلة حزب "أحرار" المعارض، لتكون بذلك أول امرأة سورية تؤسس حزباً سياسياً جديداً يضم أكثر من 30% من النساء، ويسعى في أحد أدواره إلى تعزيز دور المرأة كشريك وند في الثورة.
وعلى صعيد جماعي، يأتي كورال "حنين" الذي بدأ في مدينة غازي عنتاب التركية، وأسسته مجموعة من السيدات إحداهن رجاء بنوت، كتحدٍ للزمن الصعب. كانت الغاية منه مساعدة النساء على تخطّي حالة اليأس والإحباط وتخفيف آلام التهجير والتشرّد التي يعشنها. اليوم يطوف كورال حنين في بلاد اللجوء ليُسمع العالم تراث بلد يعيش الحرب.
على صعيد مختلف تمنح وزارة الخارجية الأميركية كل عام جائزة المرأة الشجاعة لعدد من النساء المتميزات في مجال حقوق المرأة ومناصرة قضايا بلادهن، هذا العام حظيت آمنة خولاني بالجائزة، وهي إحدى الناجيات من سجون الأسد، تكرس حياتها لقضية المختفين قسراً، ومساعدة عائلاتهم. سبقتها إلى نفس الجائزة رزان زيتونة، ومجد شربجي التي تعمل على تمكين النساء وتعليم الأطفال في لبنان، وتم تكريمها من قبل منظمة أوكسفام العالمية.
قبل سنوات في العام 2015 منحت منظمة صحافيون بلا حدود ووكالة الصحافة الفرنسية جائزة بيتر ماكلر للصحافة الشجاعة للصحافية "زينة أرحيم" التي قامت بتدريب نحو 100 مواطن صحفي داخل سوريا، ثلثهم من النساء للإلمام بالصحافة المكتوبة والمرئية. كما ساعدت على تأسيس صحف ومجلات مستقلة في الشمال السوري.
الناشطة مزون المليحان تسلمت جائزة السلام الدولية "دريسدن"، لإسهاماتها في مجال تعليم الأطفال في مناطق الأزمات، وتعتبر المليحان سفيرة خاصة لمنظمة اليونيسف. شاركت في أنشطة تعليم الأطفال في مخيم للاجئين في الأردن منذ أن كانت في الرابعة عشر من عمرها.
كما حصلت الطفلة السورية نور ابراهيم 12 عاماً والتي تعيش في أحد مخيمات اللجوء على المركز الأول في مسابقة عالمية أقيمت في ماليزيا، بعد تفوقها على 3000 طفلة/طفل إذ تمكنت من حلّ 235 مسألة خلال 8 دقائق، لتحقق فوزاً على بقية المنافسات/ين من أطفال العالم.
مُنحت جائزة مصطفى الحسيني للمقال العام الماضي للصحافية فلك فرج الحسين عن مقالها "سجن داعش في الطبقة: شهادة شخصية" إذ عملت فلك مراسلة لعدد من مواقع الإعلام البديل في مدينة دير الزور عندما كان تنظيم داعش يسيطر عليها، وشاركت في تأسيس جريدة "صدى الثورة". أهدت جائزتها لمن شاركها الزنزانة في سجن تنظيم الدولة "داعش"، وللنساء السوريات في المعتقلات ولسكان المنطقة الشرقية في سوريا.
في العام 2018 قدمت منظمة Nurses With Global Impact  (NWGI) ، جائزة أفضل ممرضة في العالم لـ "مليكة حربلي". خلال عملها النبيل تعرضت مليكة، المعتقلة السابقة لدى النظام السوري، لإصابات وجروح نتيجة القصف على المشافي التي تعمل بها، وكانت تهمتها الإرهاب ومعالجة الإرهابيين.   
في المجال العمل الطبي الإنساني حصلت طبيبة الأطفال أماني بلور هذا العام على جائزة مجلس أوروبا "راؤول والنبرغ" لشجاعتها في إنقاذ الأرواح في مشفى “الكهف” والذي كان يخدم 400 ألف مدني خلال حصار الغوطة الشرقية 2012-2018. تم تصوير الحياة اليومية للطبيبة أماني مع زميلاتها أثناء عملهن، ورشح فيلم "الكهف" من إخراج فراس فياض لجائزة الأوسكار.

من المستحيل رصد جميع الأسماء منذ بداية الثورة وحتى الآن، وإن كان توثيق ذلك حاجة ملّحة على مراكز المعلومات العمل عليها، فالسوريات أكدن تميزهن على عدة أصعدة، وقدمن نموذجاً غير نمطي لقدرات المرأة العربية عموماً والسورية على وجه الخصوص.
بعيداً عن اعتراف العالم والجوائز... لعلنا لا ننسى الهاربات من القصف الهمجي على قرى وبلدات إدلب يسحبن أولادهن إلى المجهول. ينمن في العراء أو يحتمين بشجرة تحت مرأى ونظر العالم.
آلاف الآلاف من النساء يستحقن في يوم المرأة العالمي التحية والاحترام، فهن يتعرضن لشتى أنواع الانتهاكات تحت القصف وفي المخيمات، ويقاومن قهر اللجوء والنزوح، ويمارسن الأعمال الشاقة لإعالة أسرهن، ويتحايلن على الأوضاع المعيشية الصعبة، يدفعن ثمن اختياراتهن الحرة، ويحاولن بالقليل مما يملكن إدارة دفة الحياة.

كل عام وأنتن صانعات الخير... أصل البقاء

ضحايا التعنيف في زمن العزلة

خلقت التدابير المشددة للحجر المنزلي مشكلة انصبت أضرارها في نسبها الأعلى على النساء والأطفال، إذ يشهد العالم ارتفاعاً ملحوظاً من حالات العنف الأسري، والتي يصعب التعامل معها في ظل انشغال إدارات الشرطة بتطبيق قوانين عدم التجول الصارمة.
منذ أن وصفت منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا المستجد بأنه جائحة، والعالم يقف على شفا هاوية في مواجهة وباء يحصد آلاف الأرواح، ويهدد بانهيار المنظومة الصحية، لكن يبدو أن أخطاره لم تقف عند حد الهلع من العدوى وجهود إنقاذ المصابين.
بشكل متواتر تطفو على السطح مؤشرات العجز الاقتصادي من جهة، وتصاعد العنف الأسري من جهة أخرى، فمع فرض قانون الحجر الصحي وعزل الناس لأنفسهم أوردت التقارير ارتفاعاً ملحوظاً في عدد ضحايا التعنيف.
العزل وتغيير أنماط الحياة الاجتماعية المعتادة جعلت البيت بالنسبة للمعرضات للتعنيف مكاناً غير آمن لا يخلو من الخطر، فالتواجد بين الجدران وخلف الأبواب المغلقة أدى إلى تفاقم الخلافات الزوجية وتوتر العلاقات العائلية، وتسبب في ظهور حالات عنف أسري تصدرت عناوين الأخبار.

العنف في زمن كورونا
تجاوز التعنيف في بعض الأحيان حدود الإهانة أو الضرب، ففي منطقة التل التابعة لمدينة طرابلس اللبنانية توفيت يوم 7 نيسان 2020 الطفلة السورية مهى التي تبلغ من العمر خمس سنوات، نتيجة تعرضها للضرب المبرح من قبل والدها وزوجته، نقلت على أثرها إلى المستشفى الإسلامي وفارقت الحياة، ومازالت التحقيقات جارية حول الجريمة.
كما عرضت الأردنية إيمان الخطيب في بث مباشر عبر صفحتها على موقع الفيس بوك تشكو تعرضها للتعنيف من قبل أخيها ووالدتها، إلى أن عملت إحدى الجمعيات على نقلها إلى أحد مراكز الإيواء مع ابنها.
وفي محافظة النجف في العراق أقدمت الشابة ملاك الزبيدي على حرق نفسها جراء ما تتعرض له من قبل زوجها وأهله، كمنعها من إكمال دراستها ومن زيارة أهلها، بل كان زوجها وأخيه يقومان بضربها باستخدام "الكابلات". سكبت ملاك البنزين على نفسها في محاولة للتهديد، فما كان من زوجها إلا أن قدم لها "الولاعة". لم ينقلها أحد إلى المستشفى خوفاً من الاستجواب والمساءلة، وخلال ثلاثة أيام كانوا يصبون الماء على جسدها للتخفيف من حدة الحروق، إلى أن تدهورت حالتها الصحية ونقلت إلى المستشفى وتوفيت هناك.
أمثلة لوقائع مؤسفة تحدث حولنا. قتل وضرب وتعنيف وتنمر إضافة إلى حالات طرد الزوجات من بيوتهن حيث لا مكان يلجأن إليه بسبب ابتعادهن عن الأهل، واستحالة السفر، أما الحالات غير المعلنة، فهي أكثر بكثير من تلك التي يتم الكشف عنها، لأن أغلب ضحايا العنف يلتزمن الصمت إما بسبب الخوف أو العجز أو خشية الفضيحة.
الحقيقة لا يقتصر العنف على الإيذاء الجسدي إذ تتعرض النساء إلى الإيذاء النفسي بتحويلهن إلى مادة للسخرية، أو للتنفيس عن الغضب، وهذا يوضح نظرة المجتمع القاصرة والمهينة للمرأة.

الأمم المتحدة تطالب بحماية النساء
تضاعفت نسب العنف المنزلي وازدادت مخاوف النساء المعنفات وعذابهن اليومي، حيث شهدت لبنان زيادة قدرت بنسبة 100%، وفي فرنسا ازدادت الشكاوى بنسبة 32% خلال أسبوع، تكررت الظاهرة في معظم الدول الأجنبية والعربية على حد سواء. ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى إطلاق نداء عالمي لحماية النساء في المنازل إثر ما سماه "الطفرة العالمّية المروّعة في العنف المنزلي" محفزاً المجتمع الدولي على التحرك وإيجاد الحلول المناسبة.
ومن جهتها قالت روث غلين رئيسة التحالف الوطني ضد العنف المنزلي في الولايات المتحدة: "في هذا الوقت بالتحديد، مع كوفيد-19، المنزل قد يكون صعباً جداً بالنسبة لضحايا العنف الأسري والناجين، لأن المعتدين يستطيعون استغلال الوضع للتحكم بشكل أكبر في ضحاياهم".
وأضافت غلين: "العزل يسمح للمعتدين بمزيد من التكتيكات التي يمكنهم استخدامها للحفاظ على سيطرتهم وتقييد حركة الضحية وحتى حرمانها من الوصول إلى هاتف وجهاز كمبيوتر أو مغادرة المنزل".
تلبية لتلك التحذيرات تم في تونس تفعيل قانون 58 الذي يجبر المعتدي على إخلاء المنزل لصالح الزوجة المعنفة وأولادها، ووفرت الكثير من الدول وبينها لبنان خطوطاً مجانية للتبليغ عن العنف وتقديم الخدمات النفسية والقانونية، كما خصصت بلدية بروكسل في بلجيكا فندقاً لإقامة ضحايا العنف الأسري بعد تزايد أعدادهن، ودعت منظمات نسوية إلى تعتيم الصور الشخصية كحملة تضامن على شبكات التواصل الاجتماعية لرفض العنف ضد المرأة.   
من المؤسف عدم وجود أية نسب أو دراسات تخص النساء المعنفات في سوريا، ويبقى السؤال في ظل دولة لم تعترف بالأرقام الحقيقية للإصابات بفايروس كورونا، ترى هل زادت حالات العنف خلال هذه الفترة؟ وهل من وسائل للإبلاغ عنها واتخاذ التدابير اللازمة، أم علينا أن نقف عاجزين/ ات بانتظار أن نسمع عن ضحايا منسيات؟ ونحن كنسويات هل يمكننا اتخاذ أية اجراءات مفيدة وإن عن بعد؟

نظرية البالون
ماالذي يحدث إذا ما نفختَ بالوناً أكثر مما يحتمل... سينفجر في وجهك بالتأكيد. تقودنا الدراسات إلى عدة عوامل أسهمت في تحويل حوادث العنف المنزلي إلى ظاهرة تشغل المنظمات والجمعيات المختصة، فالتحذير من الخروج من المنزل وتقييد حركة التنقل ومنع السفر والابتعاد عن الأهل وتوقف الدوام الوظيفي وعدم مقابلة الأصدقاء جعل المعنفات سجينات بيوتهن، بحيث يتعذر في كثير من الحالات الوصول إلى أية وسيلة اتصال تنجدهن على الفور... كما أن السكوت والتستر يوفران فرصاً للمزيد من الاعتداء، فصفعة المرة الأولى قد تؤدي إلى كسر الفك في المرات التالية، وإلى ما هو أشد وأخطر وأكثر إيذاءً لاحقاً...
وربما يجدر بنا كأمهات وآباء العمل على التوجيه التربوي منذ الصغر بعدم التهاون مع الميول العدوانية، ومنع استخدام الضرب مهما يكن السبب، وغرس احترام وتقدير المرأة باعتبارها كائن لا يقل أهمية عن الرجل، أما حالياً فيبقى السبب الرئيس لتصاعد العنف غياب القوانين الصارمة والمجرّمة والآنية لحماية كل من المرأة والطفل.

المنصة.. عين على قبح العالم

كيف ينجح فيلم في عرض مفاهيم مجردة، كالمسؤولية الجماعية وإرادة التغيير والبنية المجتمعية واستبداد السلطة من غير أن يخل بأدواته التشويقية كالحبكة وحركة الكاميرا وحيز المكان. ؟! 
نتحدث هنا عن [the platform-المنصة]
وهو فيلم خيالي إسباني من إخراج غالدير غاستيلو أوروتيا عرض –بحسب ويكيبيديا-في مهرجان تورونتو السينمائي عام 2019، ويتواجد ضمن القائمة التنافسية في موقع نتفلكس باعتباره أحد الأفلام الأكثر مشاهدة في معظم بلدان العالم. 
تدور الأحداث بطريقة سيريالية في سجن عمودي يتألف من 333 طابق. كل طابق يحتوي على سجينين اثنين يتقاسمان منصة طعام تهبط يومياً بدءاً من الأعلى نزولاً نحو الأسفل، وهذا يعني أن المائدة الزاخرة بما لذ وطاب تتناقص محتوياتها تدريجياً، إذ لا يستطيع السجناء الاحتفاظ بلقمة إضافية عما يأكلونه في المدة الزمنية المحددة والتي لا تتعدى الدقيقتين. الطعام يكفي كل الطوابق فيما لو وزع بشكل عادل، ولكن الأمر لا يحدث على هذه الصورة العقلانية النموذجية، فغريزة البقاء، وربما الشرّ والأنانية والنهم، تجعل مكونات المائدة تتناقص وتتحول إلى نفايات ثمّ تتبدّد بحيث لا يبقى لمن هم في الطوابق الدنيا ما يسدّ رمقهم، فيلجؤون إلى قتل شركائهم في الزنزانة وأكلهم، أو يتعرضون للموت جوعاً بكل بساطة. لحسن الحظ أو لسوئه فإن موضع السجناء يتغير كل شهر بشكل عشوائي، إذ يتم نقلهم بين الطوابق، إلا أن هذا التبديل لا يحسن سلوكهم، فمن نجا من معاناته سابقاً لا يفكر بمن احتل مكانه. 
بطل الفيلم "غورينغ" والذي دخل السجن برغبته في سبيل الحصول على شهادة دبلوم، بما يوحي أنه من الطبقة المثقفة، يسعى إلى إيجاد وسيلة تضامن تؤمن حياته خلال فترة سجنه وتنقذ المقيمين في الطبقات السفلية من مصيرهم المحتوم، ولكن هل هناك من يسمعه داخل هذا الحيّز المرعب من العزلة ومن خوف الجوع؟ وما الذي سيتعرض له حين يحاول إقناعهم؟ 
يصعب توصيف الفيلم على أنه جميل أو ممتع، فخلال 94 دقيقة من الأحداث السوداوية لا تخلو من مشاهد مقززة، يتحتم علينا التعامل معها باعتبارها رمز لواقع بشع يظهر جلياً عندما تنكشف طبقة الحضارة الهشة خلال الأزمات، فالإنسان ينقلب إلى وحش عندما يتعرض إلى ما يهدد حياته. الصراع يعري وجه العالم القبيح ويفتح باب التفكير لطرح تأويلات عدة تحتملها القصة، ما أعتبره إنجازاً يستحق متابعة الفيلم المثير للأعصاب، فمسألة طبقية المجتمع واستبداد السلطة، قضايا سبق أن تناولتها عدة كتب أذكر منها على سبيل المثال رواية 1984 لجورج أورويل عندما يتحول الإنسان إلى رقم في قطيع بشري.
لعل مسألة توزيع الثروات قضية قديمة شغلت البشرية، فهل هناك ما يكفي الجميع بين أغنياء (القوى العظمى المتحكمة) وفقراء (الدول الأقل شأناً)؟ 
نعم بالتأكيد. إلا أن القواعد الأخلاقية تتلاشى عندما ترتكز الحياة على غريزة البقاء الشرسة (إما أن تأكل أو تؤكل). لماذا يصعب إقناع الآخرين بضرورة توزيع الحصص؟ ولفرض إرادة التغيير من أين نبدأ وكيف؟ هل يمكن للتضامن الإنساني أن يكون إرادياً وطوعياً، أم أن القوة وحدها قادرة على تأسيس نظام ينقذ البشرية...؟ هل يبدأ إصلاح الأوضاع من أعلى الهرم أم من الأسفل أم هي قضية تخص الطبقة الوسطى؟ كيف للتغيير أن يحمل رسالة مقنعة، وهل نحتاج القوة فقط أم للحكمة أم للأمل؟ 
يحفل الفيلم بالعديد من الإسقاطات، فأية محاولة لتفتيت الأنظمة القائمة ستبوء بالخسران، وسيبدو فرض ذلك على أصحاب السطوة المستغلين والمتنعّمين، أو إقناع من يتضور جوعاً أمرين مستحيلين، ما يدفع غورينغ السجين المثقف لأن يضحي بنفسه ليفرض "بالقوة" توزيع حصص الطعام. 
حسناً.. في النهاية يبدو أن من يصنع التغيير لا ينعم بالنتائج، بل يتركها للأجيال القادمة التي قد تبشر بمستقبل ما.