تردد س.ر بثقة: المرأة نالت من حقوقها أكثر مما تستحق. ذلك الاعتقاد الذي يصل اليقين عند الكثير من النساء يجعلهن واثقات بأن المرأة في وضعها الحالي تنعم بما لا تحلم به مثيلتها الأوروبية والأميركية حتى باقي أصقاع الأرض، فهي زوجة محصنة، وابنة مدللة، وأم مقدسة، وأخت لها حظوتها في البيت.
تقيس س.ر أوضاع النساء من منظور النعيم الخاص الذي تعيشه، فهي شخصياً لم تتعرض للتعنيف، ولم يسبق لها أن وقفت في ردهات محاكم الأحوال الشخصية، كما أن إمكانياتها المادية الميسورة جعلتها بعيدة عن تصور المصاعب التي تتعرض لها المرأة العاملة، وليست قوانين إجازة الأمومة إلا مثالاً. امتيازاتها الخاصة تحفزها لمهاجمة المنظمات النسوية والحقوقية، فترفض المطالب المحقة بالمشاركة السياسية، وبالتعديلات الدستورية لتشمل حقوقها فيما يخص منح الجنسية، والحضانة، والطلاق التعسفي بل وتعتبرها سباحة ضد التيار… فما الذي نريده أكثر مما هو موجود…!
إلا أن رأي س.ر القطعي انتهى بغتة بعد اعتقال ابنتها في سوريا. بدت شاحبة صامتة، وقد فقدت الكثير من منطقها السابق، إذ لم يكن الاعتقال هو الكارثة الوحيدة التي ألمت بالعائلة، فزوج ابنتها باشر إلى إجراءات الطلاق، ورغم أنه لا يعرف خبراً عن مكان زوجته، ولا موعداً لإطلاق سراحها إلا أنه يبرر موقفه: ما الذي يؤكد لي أنها لم تتعرض للاغتصاب؟
وقوف المرأة ضد نفسها
اخترت قصة س.ر من بين قصص ربما تكون أشد قتامة توضح بدلالاتها على مدى الإجحاف الذي تتعرض له المرأة في المجتمع، وتُظهر رأي شريحة لا يستهان بها من نسائنا اللواتي يعتقدن بأننا الأفضل حالاً بين قطبي الأرض، بسبب نصيبهن من حسن الطالع فقط!.
إن إلقاء نظرة أكثر شمولاً وتعمقاً، وربما مجرد وقوع حادثة لم تكن بالحسبان تجعلنا ندرك أننا نعيش في مجتمع تسوده أعراف ذكورية على درجة قاسية من التمييز، ونحن هنا لا نواجه فقط نوازع الرجال وآرائهم في قيمة المرأة، سواء كانت زوجة أو ابنة أو زميلة عمل أو معتقلة في سجون الأسد، بل نواجه أيضاً تبني النساء لتلك الأعراف، وحقنها في أوردة أبنائهن وبناتهن فيبخسن دور المرأة، وينكرن عليها حقوقها بما يضمن تربية أجيال تتعايش مع الظلم الاجتماعي، وعدم تساوي الحقوق والواجبات سواء في القانون أو في سبل الحياة المجتمعية.
لذلك تصطدم جهود التغيير بموقف ملتبس لوقوف المرأة ضد نفسها، واستسلامها لتقاليد وقوانين تنكل بها، وقد انتشر منذ مدة فيديو لتجمع نسائي في مدينة الخليل الفلسطينية يعترضن على تطبيق اتفاقية سيداو [اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة] التي تطالب بالقضاء على جميع أنواع التمييز ضد المرأة، واعتبرن أن شعارات تحرير المرأة وتمكينها، والمطالبة بحقوقها ضمن شرطي العدل والمساواة ليست سوى صورة غير لائقة لدعم الغرب المستعمر، وخطراً على الأحكام الشرعية، كما اعتبرن بعض بنود الاتفاقية ما هو إلا تسهيل للحرام ضمن ذريعة حقوق الإنسان والجمعيات النسوية القانونية وواجهة للعلمانية والفوضى الأخلاقية والانهيار الأسري… وقد صدر عن ذلك الاجتماع النسائي بياناً رافضاً من تسعة بنود!.
المشاركة الفعالة
على الرغم من أن المرأة في الثورات عموماً وفي الثورة السورية على وجه الخصوص وقفت مواقف مشرّفة، وشاركت في المظاهرات، وتعرضت للاعتقال والتعذيب والتهجير ما يجعلها شريكاً موازياً للرجل، ولكنها مازالت تُواجه بقائمة من التحفظات حين تطالب بحقوقها في التعديلات الدستورية، وبالكاد تستطيع التواجد ضمن نسبة الكوتا المفروضة في القوائم الانتخابية لتجاوز فراغ المشهد السياسي من الوجوه النسائية، بل ويصبح الحديث عن وضع المرأة مؤجلاً وغير لازم وغير مدرج ضمن الأولويات، فما السبل التي تؤدي إلى التغير العميق في الأفكار والتصورات المسبقة في مواجهة المخزون الإرثي والتقليدي والعقائدي لكيان المرأة التي تشكل نصف المجتمع؟
يقول المفكر الفرنسي غوستاف لو بون “في مرحلة التحول والتبدل هناك عاملان أساسيان يشكلان الأساس الجذري للتحول، الأول تدمير العقائد الدينية والسياسية والاجتماعية، والثاني خلق شروط جديدة كلياً بالنسبة للوجود والفكر”.
الإرث التاريخي
ِفي محاولة لفهم تواطئ المرأة ضد مصالحها، وتقبلها لتنميط صورتها تحت وصاية الرجل إلى درجة اعتزازها بمظاهر قهرها علينا البحث في إرثها التاريخي الذي صنع منها كائناً مستلباً يحتال على الواقع، فيبتكر وسائل دفاعية غير مباشرة تحصنه من خلال التأقلم مع الوضع الراهن، وتبريره، والحفاظ عليه.
إن الخوف من الرفض والإقصاء المجتمعي ودفع الضريبة المتوقعة من الخروج عن الملة أو القبيلة أو العائلة يسيطر على ذهنية المرأة… يجعلها أكثر رضوخاً للطبيعة الأبوية والقوانين المتحكمة في مصير النساء. إذ تبقى ثلاثية أحكام الدين وأعراف المجتمع وسيطرة الرجل مخاوف كامنة لا تستطيع مواجهتها بل تدفعها لتقديم الأعذار عن جملة الاعتداءات التي تتعرض لها، فتدافع عن كونها في مرتبة أدنى، وترفض التوصيات والقوانين المقترحة للتمكين والمساواة، مفضلّة لعب دور الضحية المحصنة بعجزها وضعفها عن خوض غمار التمرد والمواجهة. إن الطبيعة الإنسانية تتغير ببطء وإلى أن يأتي التحول الواعي ستكتفي المرأة بنصيبها من التضامن والتعاطف الذي يتعلق في بعض الحالات بحسن الطالع فقط.
يقول إيرك فروم في كتابه الخوف من الحرية “التحرر من العوائق الخارجية لا يغني عن التحرر من الزواجر الداخلية التي كثيراً ما تكون أبهظ من سابقتها“.
*مقال نشر في موقع الحركة السياسية النسوية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق