لم تشطف الدرج! خطأ دفعت ثمنه هند أنس المصري، ولمن لا يعرفها هي طفلة في العاشرة من عمرها لم تكن مطيعة ما يكفي لتنجو بحياتها.
أشبعها أبوها ضرباً، فأصيبت بكدمات ورضوض في الصدر وخثرات دموية في الأنف تسببت بحالة غيبوبة ونزف دماغي ومضاعفات أدت إلى وفاتها بعد ثلاثة أيام من دخولها المشفى، ولم تكن المرة الأولى، فالتقرير الشرعي بيّن أن جسد الطفلة يحمل كدمات قديمة، تدل على تعرضها سابقاً للضرب وفي أوقات مختلفة.
الحادثة المرعبة أثارت حالة استهجان عامة على الصعيد الإعلامي، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، لكن وكما يحدث عادة سرعان ما سيطويها الزمن، فمن يتذكر الطفل السوري في لبنان الذي تعرض للتحرش من قبل سبعة أشخاص واضطرت أمه للتنازل عن دعوتها ضدهم بعد تعرضها للضغوط.! وماذا حدث لقصي الذي تعرض للتعذيب خلال عمله في ورشة الحدادة أدى لكسر في جمجمته وضعف في بصره.!
مع مرور الوقت ستصبح القصة ماضياً منسياً لطفلة لم تتوقع أن تنتهي حياتها على يد أبيها، فالعواطف والمشاعر مهما كانت صادقة لا تستطيع أن تحدث تغييراً في البنية المجتمعية، وليست كافية لمواجهة حدث يحتاج إلى أكثر من التعاطف، حيث تقر إحصائيات اليونيسيف بأن هناك ملايين الأطفال حول العالم يتعرضون لأسوأ أشكال الإيذاء دون تلقي الحماية المطلوبة، وغالباً ما ينجو المعنف من العقاب لكونه شخصا مقربا من الطفل، غني عن التعريف بأن النسبة الأكبر من تلك الحالات تقع في منطقتنا العربية.
داخل مجتمعات تقدس الخنوع، وتشجع التربية القاسية، وتعتبر عدم الطاعة ذنبا شنيعا تصبح حكاية الطفلة هند حادثاً آخر من بين حوادث العنف الممارس ضد الأطفال، فالتعنيف والعقاب الجسدي ظاهرة شائعة تتكرر، وستتكرر.
الغريب أننا في سوريا لسنا بحاجة للتكتم على المُعنف، لأن القانون وبكل بساطة يحميه، فالمادة 185 من قانون العقوبات السوري “تجيز ضروب التأديب التي ينزلها الآباء والأساتذة بأبنائهم وتلاميذهم على نحو ما يبيحه العرف العام.”
ليست نكتة في غير محلها أبداً، هو نص قانوني يرجع له القاضي عندما يُحكّم في قضايا عنف يمارسها الآباء والأمهات نحو أبنائهم، أما إذا أفضى التأديب “المبرر وفق العرف العام” إلى الوفاة، فهو غير مقصود ولا يمكن اعتبار الفاعل مجرماً.
فهل كان أبو هند مجنوناً أم أنه ضحية ظروف تربيته وما نشأ عليه من قيم وما أباحه له القانون من حق مشروع؟ وهل حاول أحدنا الإبلاغ عن حالة تعنيف صادفها في الشارع أو سمع بها من خلال الأصوات التي تعبر جدران بيوتنا وتدل على خطأ يُرتكب؟ وقبل كل ذلك هل هناك جهة مسؤولة وموثوقة تحمي الصغار وتؤمن لهم بيوتاً آمنة للإيواء؟
كل ما سبق من تساؤلات وإجاباتها المعروفة تجعلنا مكتوفي الأيدي أمام حالات العنف الممارس على الأطفال، والذي لا يقتصر على الإيذاء البدني بل يشمل منعهم من حقوقهم في التعليم والصحة، واستغلالهم بالعمل، والإهمال، وعدم تأمين الظروف المعيشية المناسبة، وتعرضهم للتحرش والعنف الجنسي، وزواج الطفلات.
نعم قد لا يموت الأطفال المعنفون جميعهم، لكن بعضهم يعاني من التبول اللاإرادي، وبعضهم يصاب بأمراض نفسية مزمنة، وبعضهم يمارس العنف على رفاقهم، وأغلبهم يكبرون ليتحولوا إلى آباء وأمهات مسيئين ومعنفين.
في بلاد السلطة والتسلط و غياب القوانين الرادعة يتحول العنف من سلوك فردي إلى منظومة اجتماعية وثقافية ممنهجة تمارسها الأنظمة الديكتاتورية على شعوبها، وتتكرر بصور مختلفة ضمن سلسلة الأقوى نحو الأضعف.
هند ليست الضحية الأولى ولن تكون الأخيرة، سنظل نسمع بقصص مشابهة أقل أو أكثر حدة حتى نكوّن رأياً عاماً يرفض ممارسة العنف ويضغط باتجاه تعديل القوانين المجحفة التي لا تنقذ الصغار من “حنان” آبائهم وأقربائهم، أما أساتذتهم فقد منعتهم وزارة التربية من الضرب في المدارس..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق