ترصف القاصّة «سوزان خواتمي» في مجموعتها القصصية الثالثة، لوحات فسيفسائية للمرأة، وقد وفقت أيّما توفيق في إطلاق عنوان واحدة من قصص المجموعة على المجموعة كلها، لأنها استطاعت ومن خلال القصص الـ 24 في المجموعة أن تشكّل لوحات فرحة وحزينة، جميلة وقاتمة، متكبّرة ومظلومة، كلها من الفسيفساء، ومن ألوان قطعها الصغيرة بألوان زاهية تارة، وبألوان باهتة تارة أخرى، لكنها لا تخرج عن منظومة الكاتبة الأقدر على الحديث «من الرجل على الأقل» عن المرأة عبر مفاصل قد تبدو لنا عادية لكنها وكما قلت مراراً تلمس بذكاء تلك الخفقة التي تحاول أن تختفي وراء لفتة أو حركة عابرة للمرأة في كثير من أطوار حياتها.
وتمسك بتلك الومضة الخفيّة التي تفصل بشفافية بين الرومانسية والواقع في فكر وتصرفات المرأة، ومواجهتها لأحداث تمرّ في مسيرة حياتها، ولست أعني ما يتعلّق بالعاطفة فقط. وكأن الكاتبة تكشف لنا بعض أسرار عن المرأة في بعض تصرفاتها سواء باللفتة أو الحركة أو الكلمة.
ولست أحابي إذا قلت بأن القاصّة تمسك بالقارئ عبر ومضات يكتشف بعد أن يسبرها بأنها حقيقية لكنها كانت متوارية وراء قشّة، ولم ينتبه إليها أو أنه بأحسن الأحوال لم يفهمها من موقعه كرجل، لكنها تلك الومضة التي تعبر بجلاء عن المرأة، وبعض أسرارها.
وكسبيل لشرح فكرة لم تغادرني أبداً أستطيع أن أؤكد بأن الأدب وحدة لا يمكن أن يتجزأ إلى أدب ذكوري أو أدب نسوي، لكنها بالتأكيد قدرة أكبر من المرأة الأديبة التي تمتلك اللغة والفكرة والموهبة والذكاء والإمساك باللحظة لتعبر عن المرأة بما لا يمكن للرجل أن يتحسس تلك الأحاسيس التي تجاهد المرأة أيّ كانت على إخفائها، إما بسبب الخَفَر الفطري أو بسبب رغبتها كأنثى بعدم ظهورها ضعيفة ومستسلمة ولاهثة.
في قصّة فسيفساء امرأة، (وأنا آخذها هنا كأنموذج لمجموعتها) تشتغل الكاتبة على بناء الحدث من خلال أدوات فنيّة عالية الإدهاش، وبأسلوب حداثي، وتخرج من قيد التركيبات الكلاسيكية للقصة، وتلعب لعبة الارتداد والقفز فوق المساحات الزمنية والمكانية، فنكاد لا نستشعر الزمان ولا المكان، وتبقى مجموعة الرموز الهاطلة بين كل جملة وجملة تستنزف الكاتبة، وتعبر عن حرصها كشف المكنون غير المنظور ليس لبطلة القصة فقط ولكن للمرأة بالعام، تغرق أحياناً في شعرية اللغة، وتحرص أحياناً على توصيل فكرتها، فقد بدأت القصة بجملة مدهشة إذ قالت:
«جاء وقت الحب..!»
ونحسب أنها تلك البداية التي تستنفر مشاعر أيّ أنثى مقبلة على قصة حب، لكنها تفاجئنا بتفاصيل تبعدنا تماماً عن رومانسية الفكرة لنستغرق في مكنون تصاريف أخرى رغم أنها تنبض في صدر البطلة رغبة ولهفة لكنها تقطر خيبة وجفاء عبر رحلة عمر لطفلة «لم يكن مجيئها إلى هذه الحياة سهلاً»
حتى وهي في الخامسة تلعب مع «ابن الجيران الذي يشبه مايكل جاكسون» تستشعر ضعفها من خلال إرادة داخلية تستصرخها لتبدأ رحلة أنوثتها، وتقبل راضية أن تكون تحت وصايته.
«يدافع عني بضراوة، ألوذ خلف ظهره مدّعية الخوف، لأتقن ـ دون أن أدري ـ أول أدوار حوّاء المسرحية»
هنا تستوقفنا الجملة لنتساءل: هل حقّاً كانت تجهل الهدف من ذلك السلوك.؟ وهل حقّاً أتقنت الادّعاء بأنها لا تدري.؟؟ أم أنها تتقن ككاتبة وكأنثى تفسير الأنثى من خلال تلك اللفتة العابرة.؟ أو أنها تدلي بمؤشرات تعريف عن المرأة.؟ أو إعلان رفض صامت.؟ فقد وردت في مجموعتها كثير جمل قد تكون خارجة عن مسار النص لكنها تلفت بها إلى شيء يؤرّقها فتسيّلها بيسر.. في قصتها الأولى في المجموعة «أحدنا كان يرتعش» نستطيع أن نتبيّن هذا بجلاء من خلال ما أوردته في نهاية القصة كتعبير عن صمود ابنتها في أول يوم لها في عالم جديد.. المدرسة، فتقول كتعبير عن تمرّّدها هي:
«يطمئنني تعقّلها، صغيرتي تتصرّف كما يُنتظر من النساء.. هنّ خلقن للطاعة، وللآخرين حقّ الشغب»
وتعبّر بقسوة وبكلمات مشحونة بمعاناة مكبوتة طويلة تتفجّر لحظة مات زوجها في قصّة «فسيفساء امرأة»، وكان من المفترض أن تكون لحظة فقد قاسية عليها:
«غاب زوجي في مقبرة العظام إلى جانب ثلاثة أجداد ماتوا بالآفة نفسها، ذلك لم يعن لي إلا مكاناً أفسح من السرير، وصحناً أقل فوق المائدة»
وقبل أن نشعر بالغرابة من ذلك الاعتراف الدوني الخالي من الوفاء تقول:
«الحب الذي بدأت به حياتي معه تحوّل إلى خيبة، ثم إلى شفقة»
وبعدها لا يهمني أنا كقارئ أن أغوص في التفاصيل والأسباب فقد أوصلت لي فكرتها وفهمها ومشاعرها نحو العلاقة الزوجية كلها.
وهذا ما دفعها لتواصل رحلة حياتها مدفونة بالعمل والعمل وحده إلى أن وبعد أن بلغت الستين:
«أسافر في إجازات استرخاء أحتاجها بين الحين والحين، في صالة الانتظار لأحد المطارات الكبيرة شاب وسيم يجلس إلى جانبي...»
وتغادرنا القاصّة وبطلتها بجملة إشكالية مفتوحة :
«إنه جسد ينزع للهرم ـ لا حيلة لي ـ لكن تحت شيخوخة الأدمة حيوية امرأة شابّة بدأت للتوّ»
لقد استطاعت القاصّة سوزان خواتمي أن تؤكد بجدارة المرة تلو المرة قدرتها على التعبير عن أحاسيس المرأة، والدخول إلى المكنون الخفي الذي يبرز المرأة من خلال كثير مفاصل تمرّ بحياتها، وهذا ما كنت تحسسته منها منذ أول قراءاتي لأدبياتها.
ورغم ذلك، فإنني أعود ثانية لأقول بأنها وفي كتاباتها محاصرة بالنفس القصير، ولعّلها دون أن تخطط لذلك تبدو بعض قصصها تائهة تدور في لا مكان، ولا زمان، وكان يمكن أن تفرد أشرعة إبداعها أكثر في بعض القصص كي يشعر القارئ باكتمال الفكرة في إطار مكان وزمان، وفي أحايين أخرى وهذه مشكلة يقع فيها كثير من الكتاب المبدعين عندما تأخذهم جمالية اللغة فتطغى على الحدث، أو تأخذهم ديناميكية الحدث فتبعدهم عن جمالية اللغة.
قد لا أستطيع في هذه العجالة أن أفي المجموعة حقّها من القراءة ـ ولا أقول النقد أو الدراسة ـ لكنني بالتأكيد أجد من الواجب أن أمرّ بكثير من الشكر والعرفان وأنا أقرأ مجموعة قصص على هذا المستوى من الصدق، وهذا وحده ـ وسط طوفان الكتب الهابطة التي تغزونا بتفاهات من كل شكل ولون ـ مدعاة لنقول إن فنّ القصّة تحت عنوان الأدب النثري الحكائي الحديث «في دائرة حداثة لا تمتهن اللغة» سيبقى بخير ما دامت في حيواتنا الأدبية أقلام وأفكار نظيفة وصادقة.
ہ فسيفساء امرأة: مجموعة قصصية صادرة عن اتحاد الكتاب العرب 2004/24 قصّة 148 صفحة من القطع المتوسط
ہہ سوزان خواتمي: أديبة سورية من حلب صدر لها مجموعتان قصصيتان : ذاكرة من ورق 1999.. وكل شيء عن الحب 2001.
الشاعر والاديب عدنان كنفاني
جريدة تشرين
هناك تعليق واحد:
أجمل ما في فسيفساء امرأة انها تنبض بالمتناقضات الصادقة والحقيقة التي تهرب منها الامرأة لتعود لها عبر اوقات زمنية تحاصرها
إرسال تعليق