علاقتنا كانت تبدو وثيقة
جداً .. وحميمة جداً .. وأكثر من وطيدة .
لم يعرفنا المكان إلا متجاورين ، و نكاد لولا هنيهات غير مقصودة ، لا نفترق .
متقاربان .. متلاصقان ، ولكن رغم كل ما عرفته عن ولعها الفائض ، وتعلقها
المطلق ، هاهي قد خانت علاقتنا ، منحت الفراق فرصته بيننا ، وتركتني .
مرهقة بدت لي ، ومتوترة ، عقصت
خصلات شعرها بفوضى تنم على نزق داهمها ، ثم اختفت ..
قبلها بدقائق فقط ، كانت تبدو وكأن لا طاقة لها على فراقي ، تراها غضبت ؟..
ما عرفتها إلا حليمة هادئة ، تحتمل نزواتي ، وتلبي طلباتي ، حتى حين أشتط ،
وأزايد على صبرها .
حين رحلت .. هل كانت تفكر بعقابي ؟ هل تستطيع ؟.
لا .. لم تفعلها قبل الآن .. لكن قد
تفعلها هذه المرة !.. يا للمصيبة ! "
كانت تلك الأفكار الشريرة وغيرها : الأسوأ حتماً ، تراود " شوشو "
الطفل الصغير الذي حملته أمه من سريره وتركته وحده ليواجه مفاجأة غيابها ، فيحس
بالاختناق والرغبة العارمة في البكاء نحيباً ، لكنه يتماسك ويبتلع غصته ، فلازال
بعض الأمل يحدوه بأنها ستظهر بين لحظة وأخرى .
ذلك الصباح عرك عينيه وراقبها من خلال نعاسه ، بدت له لجوجة على غير العادة
، أحس بضيق يمفصل حركتها ، ويجعلها غريبة الأطوار بعض الشيء .
لكنها أقبلت نحوه وحملته بين ذراعيها ، ثم أجلسته في الركن القصي فوق
السجادة الملونة ، وأحاطته كما تفعل غالباً ، بوسائد كثيرة ، وأمامه كل الدمى التي
تعتقد أنه يحبها ..
مسحت بدفء كفها الناعم فوق شعره ، ورشفت قبلة ملحنة من خده ، ثم سارعت
مبتعدة .
لا يذكر أنها استأذنته لتغيب أو حتى لوحت له مودعة ، الحقيقة أنه لم يعد
يتذكر ، ربما تكون قد فعلت ، حين كان
لاهياً بألوان الأرضية ، مربعات من البني والأزرق متشابكة ومتعارضة ، فلم
يشعر بها حين غادرت ، لكنه حين رفع رأسه ثانية ، كانت قد اختفت نهائياً ، ليجد
نفسه وحيداً في الغرفة .. أفزعه اتساعها !
نظر شوشو حوله .. أمامه ..
خلفه .. في كل مكان ، وعلى القدر الذي تكشفه له عيناه الصغيرتان .
لا أحد ..
فاض صدره بالرهبة ، وطرق الخوف
قلبه ، تصبب عرقاً ، فالمكان رغم ألفته يصير بدونها موحشاً وكئيباً .
أين ذهبت ؟ إنه يعتمد عليها
بشكل مطلق ، هكذا عودته ، وليكتمل حظه العاثر ، شعر بقرصة جوع لم تمنحه رحمة
التأجيل .
في مثل هذه الأحوال ، قبل
اختفائها ، كانت تهيأ له صدرها المكور ، فتترطب شفتاه باللعاب ، ويتحلب حلقه، تضمه
إلى حضنها وتفيض فوقه بثديها المتحجر ،
تقربه منها أكثر.. فأكثر ، يتلاصقان حتى يكاد لا يميز من ملامحها سوى مبسمها ،
تحدق بوجهه طويلاً فيشبع هو قبل أن تفعل هي .
أما الآن ..
ذاكرته النشطة عنها ، تعكر
مزاجه ، فيقرر أن يرفع عقيرته بالصراخ ، يناديها " ماما "
يخرج من حنجرته صوت حاد ثاقب
ودون حروف .. لا تجيب .
محاولة أخرى ، أعلى قليلاً ..
حوله لا يتردد إلا السكون ، ألا تسمعه ؟ .
إنها تتجاهله .. إذن سيبكي
طويلاً .. سيبكي كثيراً .. ولن يهدأ حتى تعود .
كان ذلك قراره الأول الذي سيصر
عليه .
إن العالم الذي يعرفه أو الذي
كان يعرفه حتى ساعة خلت ، هو عالم حنانها الهنيء ، يتذكر أن بكائه كان يجزعها
فتتحول إلى حدأة تراقبه ، لا يغيب عن عينيها حتى تعرف ما به .
تظن أنه جائع فتعصر ثديها بين شفاهه وترضعه ..
تظن أنه متسخ فتشم رائحته وتنظفه .. تظن أنه متألم فتمسح بطنه وتدلكه .
كانت على كل حال تفيض بكل ما
عندها ، وبكل ما بوسعها حتى يضحك ويرضى ، وقتها فقط تبعده عنها تنظر إليه بعيون
مطمئنة وتستكين .
منذ التقيا وجهاً لوجه لأول
مرة ، حين خرج من أسر جدران بطنها الضيق إلى طوق ذراعيها الحانيتين ، على وجه
الدقة قبل ثمانية أشهر وعشرة أيام ، كانت تتصرف كأن لا طاقة بها على فراقه .
يقول لنفسه دون أن يجرؤ على
فقدان الأمل " الآن ستظهر
"
" ستهرع لحملي "
" ستشاغلني بغنوة ، ستصفر
وتنغم كعصفور متنكر بثوب أم .. النغم تلو النغم حتى يطيب خاطري "
كل شيء حول " شوشو "
الصغير اليائس يزعجه ويضايقه ، حتى الدمى القطنية التي تراقبه بعيونها الغبية
المفتوحة دون أجفان ، إنه لا يحبها ، يضربها بقدمه و يبعدها بيديه الاثنتين ،
يريحه تبعثرها ، تستقر بعيداً عنه ثم
يعاود البكاء ، فلا زال يريد أمه ..
لم يبق أمامه إلا التحرك في
محاولة جادة للبحث عنها ، فرغم عيوبه المفترضة يعرف الجميع أنه شخصها المفضل ، ما
الذي حدث ؟ لا يرتاح إلى غموضها ، ولا طاقة به على اختفائها .
ثقله المكوم يمنعه من النهوض
والتحرك على قدميه كما يفعل الآخرون ، فهو لازال صغيراً .
بذكاء استثنائي تخطر له فكرة
الاعتماد على مؤخرته ، يجعل منها نقطة ارتكاز ، يستعين بذراعيه دافعاً بقية جسده
نحو الأمام .. ينجح في التقدم سنتيمترات قليلة فقط .
التعب يجعله يلهث ، لكن
استنشاق رائحتها مرة أخرى يستأهل الجهد الذي يبذله .
بعد قليل من الوقت يصل إلى
منتصف الصالة ، يبدو سعيداً بإنجازه ، فقد تحرر من أسر الزاوية القصية ،
و تجاوز كومة الدمى المندهشة ،
إنها تحدق به بإعجاب فقد استطاع النجاة من مأزق قلة الحيلة ، سيخبر أمه حالما
يجدها ، إنه لم يعد صغيراً .
ما أجمل الحرية ! نسي بها
دموعه فوق خده حتى بردت ربما لأجل ذلك يبدو الكبار سعداء مبتسمين دائماً ، فهو لم
ير أبداً وجهاً كبيراً يبكي ..
يتذكر البكاء .. فيستجمع كل
صوته ويصرخ من جديد .
فجأة يسمع صوت أقدام فوق
البلاط ، ينصت وشيء من الاطمئنان يغمره ، لعلها هي ! كأنها تركض ، تطل أخيراً ..
ترفعه بين ذراعيها ، تضمه ملهوفة إلى صدرها ، يبلله وجهها الرطب ،
وتزعجه تلك الفوطة التي تلف رأسها بها فتبدو له من خلال بقايا دموعه غريبة بعض
الشيء ، محمرة الوجنات .
يشمها .. كانت تفوح منها رائحة
زكية .
سوزان خواتمي
قصة قصيرة من مجموعة( كل شيء عن الحب)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق