22 يونيو 2016

شوشو لم يعد صغيراً

 علاقتنا كانت تبدو وثيقة جداً  .. وحميمة جداً .. وأكثر من وطيدة . لم يعرفنا المكان إلا متجاورين ، و نكاد لولا هنيهات غير مقصودة ، لا نفترق .
متقاربان .. متلاصقان ، ولكن رغم كل ما عرفته عن ولعها الفائض ، وتعلقها المطلق ، هاهي قد خانت علاقتنا ، منحت الفراق فرصته بيننا ، وتركتني .
 مرهقة بدت لي ، ومتوترة ، عقصت خصلات شعرها بفوضى تنم على نزق داهمها ، ثم اختفت ..
قبلها بدقائق فقط ، كانت تبدو وكأن لا طاقة لها على فراقي ، تراها غضبت  ؟..
ما عرفتها إلا حليمة هادئة ، تحتمل نزواتي ، وتلبي طلباتي ، حتى حين أشتط ، وأزايد على صبرها .
حين رحلت .. هل كانت تفكر بعقابي ؟ هل تستطيع ؟.
لا .. لم تفعلها قبل الآن  .. لكن قد تفعلها هذه المرة !.. يا للمصيبة ! "

كانت تلك الأفكار الشريرة وغيرها : الأسوأ حتماً ، تراود " شوشو " الطفل الصغير الذي حملته أمه من سريره وتركته وحده ليواجه مفاجأة غيابها ، فيحس بالاختناق والرغبة العارمة في البكاء نحيباً ، لكنه يتماسك ويبتلع غصته ، فلازال بعض الأمل يحدوه بأنها ستظهر بين لحظة وأخرى .
ذلك الصباح عرك عينيه وراقبها من خلال نعاسه ، بدت له لجوجة على غير العادة ، أحس بضيق يمفصل حركتها ، ويجعلها غريبة الأطوار بعض الشيء .
لكنها أقبلت نحوه وحملته بين ذراعيها ، ثم أجلسته في الركن القصي فوق السجادة الملونة ، وأحاطته كما تفعل غالباً ، بوسائد كثيرة ، وأمامه كل الدمى التي تعتقد أنه يحبها  ..
مسحت بدفء كفها الناعم فوق شعره ، ورشفت قبلة ملحنة من خده ، ثم سارعت مبتعدة .
لا يذكر أنها استأذنته لتغيب أو حتى لوحت له مودعة ، الحقيقة أنه لم يعد يتذكر ، ربما تكون قد فعلت ، حين كان  لاهياً بألوان الأرضية ، مربعات من البني والأزرق متشابكة ومتعارضة ، فلم يشعر بها حين غادرت ، لكنه حين رفع رأسه ثانية ، كانت قد اختفت نهائياً ، ليجد نفسه وحيداً في الغرفة .. أفزعه اتساعها !
نظر شوشو حوله .. أمامه .. خلفه .. في كل مكان ، وعلى القدر الذي تكشفه له عيناه الصغيرتان .
 لا أحد ..
فاض صدره بالرهبة ، وطرق الخوف قلبه ، تصبب عرقاً ، فالمكان رغم ألفته يصير بدونها موحشاً وكئيباً .
أين ذهبت ؟ إنه يعتمد عليها بشكل مطلق ، هكذا عودته ، وليكتمل حظه العاثر ، شعر بقرصة جوع لم تمنحه رحمة التأجيل .
في مثل هذه الأحوال ، قبل اختفائها ، كانت تهيأ له صدرها المكور ، فتترطب شفتاه باللعاب ، ويتحلب حلقه، تضمه إلى حضنها  وتفيض فوقه بثديها المتحجر ، تقربه منها أكثر.. فأكثر ، يتلاصقان حتى يكاد لا يميز من ملامحها سوى مبسمها ، تحدق بوجهه طويلاً فيشبع هو قبل أن تفعل هي .
أما الآن ‍‍‍‍..
ذاكرته النشطة عنها ، تعكر مزاجه ، فيقرر أن يرفع عقيرته بالصراخ ، يناديها " ماما "
يخرج من حنجرته صوت حاد ثاقب ودون حروف .. لا تجيب .
محاولة أخرى ، أعلى قليلاً .. حوله لا يتردد إلا السكون ، ألا تسمعه ؟ .
إنها تتجاهله .. إذن سيبكي طويلاً .. سيبكي كثيراً .. ولن يهدأ حتى تعود .
كان ذلك قراره الأول الذي سيصر عليه .
إن العالم الذي يعرفه أو الذي كان يعرفه حتى ساعة خلت ، هو عالم حنانها الهنيء ، يتذكر أن بكائه كان يجزعها فتتحول إلى حدأة تراقبه ، لا يغيب عن عينيها حتى تعرف ما به .
 تظن أنه جائع فتعصر ثديها بين شفاهه وترضعه .. تظن أنه متسخ فتشم رائحته وتنظفه .. تظن أنه متألم فتمسح بطنه وتدلكه .
كانت على كل حال تفيض بكل ما عندها ، وبكل ما بوسعها حتى يضحك ويرضى ، وقتها فقط تبعده عنها تنظر إليه بعيون مطمئنة وتستكين .
منذ التقيا وجهاً لوجه لأول مرة ، حين خرج من أسر جدران بطنها الضيق إلى طوق ذراعيها الحانيتين ، على وجه الدقة قبل ثمانية أشهر وعشرة أيام ، كانت تتصرف كأن لا طاقة بها على فراقه .
يقول لنفسه دون أن يجرؤ على فقدان الأمل  " الآن ستظهر " 
 " ستهرع لحملي "
" ستشاغلني بغنوة ، ستصفر وتنغم كعصفور متنكر بثوب أم .. النغم تلو النغم حتى يطيب خاطري "
كل شيء حول " شوشو " الصغير اليائس يزعجه ويضايقه ، حتى الدمى القطنية التي تراقبه بعيونها الغبية المفتوحة دون أجفان ، إنه لا يحبها ، يضربها بقدمه و يبعدها بيديه الاثنتين ، يريحه تبعثرها ، تستقر بعيداً عنه  ثم يعاود البكاء ، فلا زال يريد أمه ..
لم يبق أمامه إلا التحرك في محاولة جادة للبحث عنها ، فرغم عيوبه المفترضة يعرف الجميع أنه شخصها المفضل ، ما الذي حدث ؟ لا يرتاح إلى غموضها ، ولا طاقة به على اختفائها .
ثقله المكوم يمنعه من النهوض والتحرك على قدميه كما يفعل الآخرون ، فهو لازال صغيراً .
بذكاء استثنائي تخطر له فكرة الاعتماد على مؤخرته ، يجعل منها نقطة ارتكاز ، يستعين بذراعيه دافعاً بقية جسده نحو الأمام .. ينجح في التقدم سنتيمترات قليلة فقط .
التعب يجعله يلهث ، لكن استنشاق رائحتها مرة أخرى يستأهل الجهد الذي يبذله .
بعد قليل من الوقت يصل إلى منتصف الصالة ، يبدو سعيداً بإنجازه ، فقد تحرر من أسر الزاوية القصية ،
و تجاوز كومة الدمى المندهشة ، إنها تحدق به بإعجاب فقد استطاع النجاة من مأزق قلة الحيلة ، سيخبر أمه حالما يجدها ، إنه لم يعد صغيراً  .
ما أجمل الحرية ! نسي بها دموعه فوق خده حتى بردت ربما لأجل ذلك يبدو الكبار سعداء مبتسمين دائماً ، فهو لم ير أبداً وجهاً كبيراً يبكي ..
يتذكر البكاء .. فيستجمع كل صوته ويصرخ من جديد .
فجأة يسمع صوت أقدام فوق البلاط ، ينصت وشيء من الاطمئنان يغمره ، لعلها هي !  كأنها تركض ، تطل أخيراً ..
ترفعه بين ذراعيها ،  تضمه ملهوفة إلى صدرها ، يبلله وجهها الرطب ، وتزعجه تلك الفوطة التي تلف رأسها بها فتبدو له من خلال بقايا دموعه غريبة بعض الشيء ، محمرة الوجنات .

يشمها .. كانت تفوح منها رائحة زكية .
سوزان خواتمي
 قصة قصيرة من مجموعة( كل شيء عن الحب)

ليست هناك تعليقات: