نذير جعفر: روايتي ليست تصفية حساب مع السلطة بل محاولة لفهمها
نذير جعفر، ناقد وروائي سوري، عاش في الكويت، وشغل منصب أمين تحرير مجلة «البيان» الصادرة عن رابطة الأدباء على مدى عشر سنوات. كما عمل محرّرا ومشرفا على الصفحة الثقافية في جريدة «السياسة». صدر له ثلاثة كتب نقدية، ورواية جديدة بعنوان: « تحت سقف واطئ». وهو الآن يقيم في سورية، ويعمل أمين تحرير مجلة «صروح» التي تصدر في اللاذقية. وقد أثارت روايته الجديدة كثيرا من ردود الفعل المتباينة، لكنها تصب جميعها في مديح جرأتها واقترابها من المحظور ومحاولتها نبش الماضي. ومعه كان لجريدة «النهار» هذا الحوار الذي أجرته في مدينة حلب. عنوان روايتك: «تحت سقف واطئ» ينفتح على دلالات متعددة. ما الذي أردته من هذا العنوان بالتحديد؟
عنوان أي عمل إبداعي يشكّل العتبة الأولى للدخول في عالمه ومراميه، ولا تتوقف وظيفة العنوان على ذلك بل تتعداه إلى إغواء القارئ، وجذبه، وممارسة تأثير خفيّ على آليات تلقيه للعمل. ومن هنا جاء اختياري لعنوان روايتي متناغما مع محتواها في التعبير عن سقف الحريّات المتدني، وسقف حياتنا المهدّدة بالاعتقال والقمع، هذا السقف الضاغط على الروح والجسد، والذي يحجب الرؤية ويعمي البصر والبصيرة، ويحوّلنا في ظل الرقابة السلطوية والدينية المتطرفة، إلى كائنات ممسوخة،لا تقوى على الحلم أو على تغيير شروط حياتها نحو الأجمل والأفضل.
بين السيرة الذاتية و«رواية السيرة» خيط رفيع. ما مدى حضور سيرتك وتجربتك الشخصية في عملك الروائي، لاسيّما أن الراوي الأساسي يتحدّث فيها بضمير المتكلم ما يوحي بالتطابق بينه وبين المؤلف الحقيقي؟
لكل روائي عالمه وتجربته ومرجعياته الذاتية، والواقعية، والتاريخية، والأسطورية وسواها. ولا يكفي أن يكتب بجرأة وصدق حتى يقدّم رواية. لأن التخييل شرط الفن الأول في تقديري. لذلك تتواشج التجربة الفردية مع المخيّلة لتبني فضاء روائيا بعناصره المتعدّدة من شخصيات وأحداث وصراع ومكان وزمان ومصائر متباينة في نهاياتها. وبقدر ما تتناغم التجربة الواقعية مع سحر المخيّلة، وتعدّد النبرات والأصوات في السرد، تحقّق الرواية أحد شروط نجاحها الرئيسة. لذلك فقد حاولت توظيف أطياف وملامح من سيرتي وسيرة عدد من أبناء جيلي مثل الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين، والشاعر بشير البكر، في بناء عالم روايتي، ولكن في حيّز من التخييل الفنّي الذي لا يطابق بين صوت الراوي وصوت المؤلف الضمني أو الشخصية الحقيقية التي ينطق باسمها بأي شكل من الأشكال. وعلى هذا النحو فكل شخصية من شخصيات الرواية لها وجودها الواقعي ووجودها الفنيّ في الوقت نفسه، والذي يجعل منها في المقام الأول شخصيّة روائية.
تقترب في روايتك من مناطق محظورة، فتستعيد مرحلة السبعينيات ومطلع الثمانينيات في حلب مركّزا على الصراع الدامي بين السلطة من جهة والاتجاهات المتطرفة من إسلامية وماركسية من جهة ثانية. ألم يحدّ الرقيب الداخلي على فكرك من تناول هذه المرحلة الخطرة والمغلقة حتى الآن. ثم كيف سمحت لك الرقابة بطبع روايتك وتداولها؟
لا شك في أن للرقيب الداخلي على فكري ومشاعري وسلوكي دورا في تحجيم رؤاي، وتحجيم اختياراتي في السرد لكثير من المواقف والمشاهد والاندياحات، لأننا أبناء تربية شمولية، قائمة على الاستبداد بدءا من الأب في البيت، ثم المعلم في المدرسة، فالأعراف والتقاليد، وصولا إلى سطوة الدولة بأجهزتها ورقابتها. فقد يدفع الكاتب ثمن جرأته غاليا إن حاول التحرّر الكلي من الرقيب المعشّش في داخله. ولكن مع ذلك فلا بدّ من الجرأة والمواجهة في الحدود التي يتيحها الفن عامة والرواية خاصة. إذ ليس من الضروري وتحت ذريعة الجرأة أن أهاجم السلطة أو أشتمها، كما ليس من الضروري أن أصور لقطات جنسية أو إباحية، أو حتى أن أصور العلاقات المثلية، أو أمسّ بالثوابت العقائدية لأي دين أو مذهب. ولكن يمكن سرد كل ذلك بشكل فنّي غير مباشر، وبلغة شفّافة غير مثيرة للغرائز أو الأحـقاد, وأكون بذلك قد أوصلت رسالتي بطريقتي، وبأدواتي الفنية الخاصة. أما كيف سمحت لي الرقابة بطبع روايتي وتداولها على الرغم من حساسية موضوعها وأجوائها فذلك يعود باعتقادي إلى أن روايتي ليست تصفية حساب مع السلطة وماضيها بل محاولة لفهم هذا الماضي وآثاره، كما يعود إلى التوجه الجديد للرقابة من ناحية،وإلى جرأة القارئ الذي أجاز الرواية من ناحية ثانية. وقد يكون الأمر بمحض المصادفة. إذ لو وقعت في يد قارئ متزمت ممن تحال إليهم الأعمال في اتحاد الكتاب العرب لرفضها كما حدث لبعض زملائي. وقد أسعدني قرار الموافقة على النشر والتداول بعد انتظار طويل، وإلا لكنت سأطبعها في الخارج ما سيحرم أبناء بلدي من تداولها.
تنقلت ما بين سورية والكويت، وعشت ثلاث عشرة سنة بعيدا عن بلدك. أي أثر للمكان في كتابتك، وكيف تتعامل معه في سردك الروائي؟
أرغمت على البقاء أربع سنوات متتالية في الكويت خوفا من العودة إلى سورية وعدم السماح لي بمغادرتها لأنني كنت موظفا ولم تقبل الجهة المعنية طلب استقالتي. وفي هذه الفترة أصبت بما يسمى بالنوستالوجية ( الحنين إلى مسقط الرأس) فاكتشفت سحر المكان وجاذبيته, وكنت في أوقات فراغي أجلس وأرسم مدينة حلب بقلم الرصاص على الورق، أرسمها بكل أحيائها وأزقتها إلى الحدّ الذي كنت أندهش فيه من ذاكرتي العجيبة التي لم تترك تفصيلا مهما كان صغيرا إلا واستحضرته ! فالإنسان ابن المكان، والكاتب ليس بوسعه الكتابة من دون فضاء مكاني تتفاعل فيه أحداثه ويتحرك في جنباته أبطاله حتى لو كان يكتب رواية خيال علمي عن الفضاء الخارجي أو عن عالم السحر والجان، أو حتى عن حلم رآه. والمكان عندي لا يقدم بأبعاده الواقعية وأسمائه الحقيقية فحسب، بل بما تضفيه عليه كل شخصية من الشخصيات من ألوان ومشاعر تصل إلى حد التناقض أحيانا. وأعكف الآن على كتابة رواية جديدة تدور أحداثها في الكويت، ويلعب فيها المكان ببحره وصحرائه، بحضره وبداوته، بمواطنيه ووافديه، دورا رئيسا في توجيه السرد ومساراته.
ما الذي تركته فيك الكويت ثقافيا وإنسانيا، وما مدى علاقتك بمثقفيها وكتّابها؟
الكويت منحتني فضاء حرّا تفتّحت فيه إمكانياتي وتعمقت خبرتي الحياتية وتجربتي الأدبية والنقدية. لكن حجم التناقضات الحادة الذي يعصف ببنيتها الاجتماعية تركت في الروح أسى لا ينسى. أما عن علاقتي بمثقفيها وكتّابها فقد مدّتني بكل ما هو جميل ونبيل، باستثناء بعض المواقف العرضية المؤسفة التي تعرضت إليها من بعضهم والتي كانت السبب المباشر لمغادرتي لهذا البلد الذي تعلقّت به أسرتي، وأحبته. وما زلت أحفظ الود والعرفان بالجميل لكل من تعرّفت إليه ووقف إلى جانبي في الأيام الصعبة.
شغلت مهمة أمين تحرير مجلة البيان الصادرة عن رابطة الأدباء في الكويت على مدى مئة عدد. كيف تنظر إلى هذه التجربة الآن؟
البيان مجلة عريقة ولها حضورها قبل أن أعمل فيها، ولذلك كانت مهمتي صعبة فيها، لأنني كنت معنيا بالمحافظة على مستواها الرفيع من ناحية، وبإغنائها وتطويرها وتوسيع شبكة قرائها في الوطن العربي من ناحية ثانية. وقد أتاح لي التعاون الإيجابي والخلاق مع رئيس تحريرها د. خالد عبداللطيف رمضان، ومستشاريها د. خليفة الوقيان، ود. سليمان الشّطي، أن أنجز تلك المهمة الصعبة، وأصبحت «البيان» على كل لسان، فاستقطبت أقلاما مهمة، وامتد تأثيرها النوعي من الخليج إلى المحيط، حتى أن بلدا مثل المغرب كانت تطلب فيه شركة التوزيع ألف عدد منها ! وهو ما لم يتح لأي مطبوعة عربية أخرى حتى تلك المطبوعات التي تقف وراءها مؤسسات ودول لا جمعية نفع عام محدودة الإيرادات والإمكانيات مثل رابطة الأدباء. وبتقديري إن «البيان» تملك كل مقومات الاستمرار والنجاح لما لها من رصيد في وجدان كل مثقّف عربي، وذلك يتوقّف على الإدارة المتفرّغة، والدعم المالي المناسب، وتوسيع دائرة التوزيع.
تشهد الساحة الثقافية السورية طفرة في كتابة الرواية، وهناك جيل جديد بدأ يأخذ مكانه ويخطف الأضواء. كيف تنظر إلى المشهد الروائي الحالي في سورية؟
تحاول التجارب الجديدة في الرواية السورية أن تخرج عن وصاية المنجز السردي الذي شكّلته كوكبة من الأصوات الروائية والقصصية على مدى نصف قرن بتنويعاتها وخطاباتها الفنيّة والإيديولوجية المتباينة. كما تضرب هذه التجارب عرض الحائط الترسيمات النقدية التي حاولت تأطير القصة والرواية وتحديد التخوم التي تفصلها عن باقي الأجناس الأدبية. فالمتأمل فيما قدّمه كل من فواز حدّاد، وإبراهيم صموئيل، ومحمد أبومعتوق، وفيصل خرتش، وممدوح عزّام، وخليل صويلح، وخليل الرّز، وروزا ياسين حسن، وخالد خليفة، وعمر قدور، ومنهل السرّاج، وسمر يزبك، وابتسام تريسي، وعبدالرحمن حلاق، في السنوات الخمس المنصرمة سيجد على الرغم من التحفّظات التي أبداها بعض النقّاد أن حساسية جديدة وتيارا مختلفا في الكتابة الروائية والقصصية بدأ يفرض حضوره وسماته العامة على الرغم من الخصوصية التي تتمتع بها كل تجربة بمفردها.
ولعل أبرز ما يميز هذا التيار ابتعاده عن النمطية وانحيازه إلى التجربة الذاتية في محاولة ( لتذويت ) السرد، وانفتاحه على المسكوت عنه اجتماعيا وسياسيا، وجرأته في مقاربة تابوه الجنس والدين والسياسة، والدخول إلى الأماكن المغلقة والمهمّشة، والتحرّر من سطوة الرقابة بكل أنواعها.
ويلاحظ في المشهد الروائي السوري المعاصر تنوّع الحقول التي ارتادها كتاب الرواية ما بين التاريخ وترهينه، والسيرة المستعادة، وصور المدينة بأبعادها الاجتماعية والعمرانية والتراثيـة، وأشكال الصراع المختلفة. كما استمرت البنى الفنية الكلاسيكية إلى جانب أحدث موجات التجريب فنرى الواقعية تتجاور مع الرمزية والغرائبية والتسجيلية، بين كاتب وآخر أو عند الكاتب نفسه أحيانا. وبالقدر الذي يبشّر فيه هذا المشهد ببروز أصوات وتجارب جديدة، وترسيخ أسماء أصبح لها حضورها، فإنه لا يخلو من بعض السلبيات التي تتمثّل في التهاون في اللغة، والاجتراء على استخدام العامية في الحوار، والميل إلى الانثيالات الشعرية التي تضعف بنية السرد وتحيد به عن مقاصده، والغموض المصطنع أحيانا تحت ستار التجريب ومشروعيته الفنية.
لك كتابان في النقد: «رواية القارئ» و «ملامح من المشهد القصصي والروائي في الكويت». والآن انتقلت من النقد إلى الإبداع، فما سرّ هذا الانتقال، وكيف تجد تقبّل المبدع للنقد الموجّه إلى تجربته؟
بدأت قاصا ومازلت أكتب القصة وإن لم أصدر مجموعة بعد، وقد استأثر السرد باهتمامي في المقام الأول لأنني ابن بيئة وثقافة شفوية مشبعة بحكايات الشطّار والجنّ والسحرة التي ألهبت مخيّلتي في الطفولة. لكن نتاجي النقدي جاء مواكبا لدراستي العليا للغة العربية وآدابها وبتأثير هذه الدراسة. وأنا أحاول أن أجمع بين مخيّلة وإحساس وذائقة المبدع وعقلانية الناقد في كل ما كتبته من قراءات ودراسات نقدية. ولأنني أنطلق من منظومة فكرية جمالية متكاملة فقد ساعدني ذلك على مقاربة بعض الأعمال الشعرية وبعض الأعمال التشكيلية أيضا، لكن الرواية تكاد تستحوذ الآن على مجمل نشاطي ونتاجي النقدي والإبداعي. أما عن تقبل المبدع لما يقوله الناقد في تجربته، فإنني أعتقد بأن كل مبدع أصيل لا يخشى النقد بل يتفاعل معه، ويتعلّم منه، أو يتجاهله على أقل تقدير. لكن المبدع الطارئ يحاول إثارة الزوابع والنيل ممن لا يمدحه، ويجعل من النقد والنقاد دريئة لسهامه، وهو ما نراه مستشريا في ساحتنا الثقافية.
بعض الروايات الصادرة حديثا نالت شهرة واسعة مع أنها ساذجة شكلا ومحتوى. ما تفسيرك لهذه الظاهرة، وهل للقارئ من دور في ترويج وتسويق العمل الأدبي؟
رواج بعض الروايات الساذجة تعبير عن الفقر المعرفي، وتدني الذائقة الفنية، وهو ما نراه أيضا في رواج الأغاني الهابطة. فالقراء العاديون قد يروّجون لرواية لأنها تتحدّث عن مجتمع مغلق وتكشف أسراره وأسرار بناته، بغضّ النظر عن مستواها الفنيّ. لذلك لا يعدّ الرواج مؤشرا حقيقيا على قيمة العمل الروائي، إلا إذا اقترن هذا الرواج بدراسات نقدية تكشف عن بنية العمل ومحتواه وتقنياته، وتضعه في موقعه المناسب من المشهد الروائي السائد.
هل للثقافة جنسية محدّدة، كأن نقول الثقافة الكويتية أو السورية أو الفرنسية وهل ينظر إلى العمل الأدبي من خلال انتمائه لمكان محدّد أم بالقياس إلى الثقافة الإنسانية عامة؟.
ليس للثقافة جنسية محدّدة، ولكن لها خصائص أو سمات محدّدة تطبعها بطابع البلد أو المجتمع الذي تنتمي إليه. فالثقافة الإنسانية واحدة، ونحن نقرأ ونتأثر بالمسرح اليوناني كما نتأثر بالرواية الروسية والشعر الفرنسي، لكن ثقافتنا ونتاجنا الإبداعي له خصوصيته التي تميزه عن سواه من الآداب العالمية. وفي تقديري إن العمل الأدبي ينظر إليه من منظارين: الأول من خلال انتمائه المكاني وما يشكله قياسا إلى التجارب المجايلة أو المماثلة له، والثاني من خلال موقعه من تطور الفنون الأدبية في الساحة العربية والعالمية أيضا.
نشرت في جريدة النهار الكويتيةجريدة النهار
نذير جعفر، ناقد وروائي سوري، عاش في الكويت، وشغل منصب أمين تحرير مجلة «البيان» الصادرة عن رابطة الأدباء على مدى عشر سنوات. كما عمل محرّرا ومشرفا على الصفحة الثقافية في جريدة «السياسة». صدر له ثلاثة كتب نقدية، ورواية جديدة بعنوان: « تحت سقف واطئ». وهو الآن يقيم في سورية، ويعمل أمين تحرير مجلة «صروح» التي تصدر في اللاذقية. وقد أثارت روايته الجديدة كثيرا من ردود الفعل المتباينة، لكنها تصب جميعها في مديح جرأتها واقترابها من المحظور ومحاولتها نبش الماضي. ومعه كان لجريدة «النهار» هذا الحوار الذي أجرته في مدينة حلب. عنوان روايتك: «تحت سقف واطئ» ينفتح على دلالات متعددة. ما الذي أردته من هذا العنوان بالتحديد؟
عنوان أي عمل إبداعي يشكّل العتبة الأولى للدخول في عالمه ومراميه، ولا تتوقف وظيفة العنوان على ذلك بل تتعداه إلى إغواء القارئ، وجذبه، وممارسة تأثير خفيّ على آليات تلقيه للعمل. ومن هنا جاء اختياري لعنوان روايتي متناغما مع محتواها في التعبير عن سقف الحريّات المتدني، وسقف حياتنا المهدّدة بالاعتقال والقمع، هذا السقف الضاغط على الروح والجسد، والذي يحجب الرؤية ويعمي البصر والبصيرة، ويحوّلنا في ظل الرقابة السلطوية والدينية المتطرفة، إلى كائنات ممسوخة،لا تقوى على الحلم أو على تغيير شروط حياتها نحو الأجمل والأفضل.
بين السيرة الذاتية و«رواية السيرة» خيط رفيع. ما مدى حضور سيرتك وتجربتك الشخصية في عملك الروائي، لاسيّما أن الراوي الأساسي يتحدّث فيها بضمير المتكلم ما يوحي بالتطابق بينه وبين المؤلف الحقيقي؟
لكل روائي عالمه وتجربته ومرجعياته الذاتية، والواقعية، والتاريخية، والأسطورية وسواها. ولا يكفي أن يكتب بجرأة وصدق حتى يقدّم رواية. لأن التخييل شرط الفن الأول في تقديري. لذلك تتواشج التجربة الفردية مع المخيّلة لتبني فضاء روائيا بعناصره المتعدّدة من شخصيات وأحداث وصراع ومكان وزمان ومصائر متباينة في نهاياتها. وبقدر ما تتناغم التجربة الواقعية مع سحر المخيّلة، وتعدّد النبرات والأصوات في السرد، تحقّق الرواية أحد شروط نجاحها الرئيسة. لذلك فقد حاولت توظيف أطياف وملامح من سيرتي وسيرة عدد من أبناء جيلي مثل الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين، والشاعر بشير البكر، في بناء عالم روايتي، ولكن في حيّز من التخييل الفنّي الذي لا يطابق بين صوت الراوي وصوت المؤلف الضمني أو الشخصية الحقيقية التي ينطق باسمها بأي شكل من الأشكال. وعلى هذا النحو فكل شخصية من شخصيات الرواية لها وجودها الواقعي ووجودها الفنيّ في الوقت نفسه، والذي يجعل منها في المقام الأول شخصيّة روائية.
تقترب في روايتك من مناطق محظورة، فتستعيد مرحلة السبعينيات ومطلع الثمانينيات في حلب مركّزا على الصراع الدامي بين السلطة من جهة والاتجاهات المتطرفة من إسلامية وماركسية من جهة ثانية. ألم يحدّ الرقيب الداخلي على فكرك من تناول هذه المرحلة الخطرة والمغلقة حتى الآن. ثم كيف سمحت لك الرقابة بطبع روايتك وتداولها؟
لا شك في أن للرقيب الداخلي على فكري ومشاعري وسلوكي دورا في تحجيم رؤاي، وتحجيم اختياراتي في السرد لكثير من المواقف والمشاهد والاندياحات، لأننا أبناء تربية شمولية، قائمة على الاستبداد بدءا من الأب في البيت، ثم المعلم في المدرسة، فالأعراف والتقاليد، وصولا إلى سطوة الدولة بأجهزتها ورقابتها. فقد يدفع الكاتب ثمن جرأته غاليا إن حاول التحرّر الكلي من الرقيب المعشّش في داخله. ولكن مع ذلك فلا بدّ من الجرأة والمواجهة في الحدود التي يتيحها الفن عامة والرواية خاصة. إذ ليس من الضروري وتحت ذريعة الجرأة أن أهاجم السلطة أو أشتمها، كما ليس من الضروري أن أصور لقطات جنسية أو إباحية، أو حتى أن أصور العلاقات المثلية، أو أمسّ بالثوابت العقائدية لأي دين أو مذهب. ولكن يمكن سرد كل ذلك بشكل فنّي غير مباشر، وبلغة شفّافة غير مثيرة للغرائز أو الأحـقاد, وأكون بذلك قد أوصلت رسالتي بطريقتي، وبأدواتي الفنية الخاصة. أما كيف سمحت لي الرقابة بطبع روايتي وتداولها على الرغم من حساسية موضوعها وأجوائها فذلك يعود باعتقادي إلى أن روايتي ليست تصفية حساب مع السلطة وماضيها بل محاولة لفهم هذا الماضي وآثاره، كما يعود إلى التوجه الجديد للرقابة من ناحية،وإلى جرأة القارئ الذي أجاز الرواية من ناحية ثانية. وقد يكون الأمر بمحض المصادفة. إذ لو وقعت في يد قارئ متزمت ممن تحال إليهم الأعمال في اتحاد الكتاب العرب لرفضها كما حدث لبعض زملائي. وقد أسعدني قرار الموافقة على النشر والتداول بعد انتظار طويل، وإلا لكنت سأطبعها في الخارج ما سيحرم أبناء بلدي من تداولها.
تنقلت ما بين سورية والكويت، وعشت ثلاث عشرة سنة بعيدا عن بلدك. أي أثر للمكان في كتابتك، وكيف تتعامل معه في سردك الروائي؟
أرغمت على البقاء أربع سنوات متتالية في الكويت خوفا من العودة إلى سورية وعدم السماح لي بمغادرتها لأنني كنت موظفا ولم تقبل الجهة المعنية طلب استقالتي. وفي هذه الفترة أصبت بما يسمى بالنوستالوجية ( الحنين إلى مسقط الرأس) فاكتشفت سحر المكان وجاذبيته, وكنت في أوقات فراغي أجلس وأرسم مدينة حلب بقلم الرصاص على الورق، أرسمها بكل أحيائها وأزقتها إلى الحدّ الذي كنت أندهش فيه من ذاكرتي العجيبة التي لم تترك تفصيلا مهما كان صغيرا إلا واستحضرته ! فالإنسان ابن المكان، والكاتب ليس بوسعه الكتابة من دون فضاء مكاني تتفاعل فيه أحداثه ويتحرك في جنباته أبطاله حتى لو كان يكتب رواية خيال علمي عن الفضاء الخارجي أو عن عالم السحر والجان، أو حتى عن حلم رآه. والمكان عندي لا يقدم بأبعاده الواقعية وأسمائه الحقيقية فحسب، بل بما تضفيه عليه كل شخصية من الشخصيات من ألوان ومشاعر تصل إلى حد التناقض أحيانا. وأعكف الآن على كتابة رواية جديدة تدور أحداثها في الكويت، ويلعب فيها المكان ببحره وصحرائه، بحضره وبداوته، بمواطنيه ووافديه، دورا رئيسا في توجيه السرد ومساراته.
ما الذي تركته فيك الكويت ثقافيا وإنسانيا، وما مدى علاقتك بمثقفيها وكتّابها؟
الكويت منحتني فضاء حرّا تفتّحت فيه إمكانياتي وتعمقت خبرتي الحياتية وتجربتي الأدبية والنقدية. لكن حجم التناقضات الحادة الذي يعصف ببنيتها الاجتماعية تركت في الروح أسى لا ينسى. أما عن علاقتي بمثقفيها وكتّابها فقد مدّتني بكل ما هو جميل ونبيل، باستثناء بعض المواقف العرضية المؤسفة التي تعرضت إليها من بعضهم والتي كانت السبب المباشر لمغادرتي لهذا البلد الذي تعلقّت به أسرتي، وأحبته. وما زلت أحفظ الود والعرفان بالجميل لكل من تعرّفت إليه ووقف إلى جانبي في الأيام الصعبة.
شغلت مهمة أمين تحرير مجلة البيان الصادرة عن رابطة الأدباء في الكويت على مدى مئة عدد. كيف تنظر إلى هذه التجربة الآن؟
البيان مجلة عريقة ولها حضورها قبل أن أعمل فيها، ولذلك كانت مهمتي صعبة فيها، لأنني كنت معنيا بالمحافظة على مستواها الرفيع من ناحية، وبإغنائها وتطويرها وتوسيع شبكة قرائها في الوطن العربي من ناحية ثانية. وقد أتاح لي التعاون الإيجابي والخلاق مع رئيس تحريرها د. خالد عبداللطيف رمضان، ومستشاريها د. خليفة الوقيان، ود. سليمان الشّطي، أن أنجز تلك المهمة الصعبة، وأصبحت «البيان» على كل لسان، فاستقطبت أقلاما مهمة، وامتد تأثيرها النوعي من الخليج إلى المحيط، حتى أن بلدا مثل المغرب كانت تطلب فيه شركة التوزيع ألف عدد منها ! وهو ما لم يتح لأي مطبوعة عربية أخرى حتى تلك المطبوعات التي تقف وراءها مؤسسات ودول لا جمعية نفع عام محدودة الإيرادات والإمكانيات مثل رابطة الأدباء. وبتقديري إن «البيان» تملك كل مقومات الاستمرار والنجاح لما لها من رصيد في وجدان كل مثقّف عربي، وذلك يتوقّف على الإدارة المتفرّغة، والدعم المالي المناسب، وتوسيع دائرة التوزيع.
تشهد الساحة الثقافية السورية طفرة في كتابة الرواية، وهناك جيل جديد بدأ يأخذ مكانه ويخطف الأضواء. كيف تنظر إلى المشهد الروائي الحالي في سورية؟
تحاول التجارب الجديدة في الرواية السورية أن تخرج عن وصاية المنجز السردي الذي شكّلته كوكبة من الأصوات الروائية والقصصية على مدى نصف قرن بتنويعاتها وخطاباتها الفنيّة والإيديولوجية المتباينة. كما تضرب هذه التجارب عرض الحائط الترسيمات النقدية التي حاولت تأطير القصة والرواية وتحديد التخوم التي تفصلها عن باقي الأجناس الأدبية. فالمتأمل فيما قدّمه كل من فواز حدّاد، وإبراهيم صموئيل، ومحمد أبومعتوق، وفيصل خرتش، وممدوح عزّام، وخليل صويلح، وخليل الرّز، وروزا ياسين حسن، وخالد خليفة، وعمر قدور، ومنهل السرّاج، وسمر يزبك، وابتسام تريسي، وعبدالرحمن حلاق، في السنوات الخمس المنصرمة سيجد على الرغم من التحفّظات التي أبداها بعض النقّاد أن حساسية جديدة وتيارا مختلفا في الكتابة الروائية والقصصية بدأ يفرض حضوره وسماته العامة على الرغم من الخصوصية التي تتمتع بها كل تجربة بمفردها.
ولعل أبرز ما يميز هذا التيار ابتعاده عن النمطية وانحيازه إلى التجربة الذاتية في محاولة ( لتذويت ) السرد، وانفتاحه على المسكوت عنه اجتماعيا وسياسيا، وجرأته في مقاربة تابوه الجنس والدين والسياسة، والدخول إلى الأماكن المغلقة والمهمّشة، والتحرّر من سطوة الرقابة بكل أنواعها.
ويلاحظ في المشهد الروائي السوري المعاصر تنوّع الحقول التي ارتادها كتاب الرواية ما بين التاريخ وترهينه، والسيرة المستعادة، وصور المدينة بأبعادها الاجتماعية والعمرانية والتراثيـة، وأشكال الصراع المختلفة. كما استمرت البنى الفنية الكلاسيكية إلى جانب أحدث موجات التجريب فنرى الواقعية تتجاور مع الرمزية والغرائبية والتسجيلية، بين كاتب وآخر أو عند الكاتب نفسه أحيانا. وبالقدر الذي يبشّر فيه هذا المشهد ببروز أصوات وتجارب جديدة، وترسيخ أسماء أصبح لها حضورها، فإنه لا يخلو من بعض السلبيات التي تتمثّل في التهاون في اللغة، والاجتراء على استخدام العامية في الحوار، والميل إلى الانثيالات الشعرية التي تضعف بنية السرد وتحيد به عن مقاصده، والغموض المصطنع أحيانا تحت ستار التجريب ومشروعيته الفنية.
لك كتابان في النقد: «رواية القارئ» و «ملامح من المشهد القصصي والروائي في الكويت». والآن انتقلت من النقد إلى الإبداع، فما سرّ هذا الانتقال، وكيف تجد تقبّل المبدع للنقد الموجّه إلى تجربته؟
بدأت قاصا ومازلت أكتب القصة وإن لم أصدر مجموعة بعد، وقد استأثر السرد باهتمامي في المقام الأول لأنني ابن بيئة وثقافة شفوية مشبعة بحكايات الشطّار والجنّ والسحرة التي ألهبت مخيّلتي في الطفولة. لكن نتاجي النقدي جاء مواكبا لدراستي العليا للغة العربية وآدابها وبتأثير هذه الدراسة. وأنا أحاول أن أجمع بين مخيّلة وإحساس وذائقة المبدع وعقلانية الناقد في كل ما كتبته من قراءات ودراسات نقدية. ولأنني أنطلق من منظومة فكرية جمالية متكاملة فقد ساعدني ذلك على مقاربة بعض الأعمال الشعرية وبعض الأعمال التشكيلية أيضا، لكن الرواية تكاد تستحوذ الآن على مجمل نشاطي ونتاجي النقدي والإبداعي. أما عن تقبل المبدع لما يقوله الناقد في تجربته، فإنني أعتقد بأن كل مبدع أصيل لا يخشى النقد بل يتفاعل معه، ويتعلّم منه، أو يتجاهله على أقل تقدير. لكن المبدع الطارئ يحاول إثارة الزوابع والنيل ممن لا يمدحه، ويجعل من النقد والنقاد دريئة لسهامه، وهو ما نراه مستشريا في ساحتنا الثقافية.
بعض الروايات الصادرة حديثا نالت شهرة واسعة مع أنها ساذجة شكلا ومحتوى. ما تفسيرك لهذه الظاهرة، وهل للقارئ من دور في ترويج وتسويق العمل الأدبي؟
رواج بعض الروايات الساذجة تعبير عن الفقر المعرفي، وتدني الذائقة الفنية، وهو ما نراه أيضا في رواج الأغاني الهابطة. فالقراء العاديون قد يروّجون لرواية لأنها تتحدّث عن مجتمع مغلق وتكشف أسراره وأسرار بناته، بغضّ النظر عن مستواها الفنيّ. لذلك لا يعدّ الرواج مؤشرا حقيقيا على قيمة العمل الروائي، إلا إذا اقترن هذا الرواج بدراسات نقدية تكشف عن بنية العمل ومحتواه وتقنياته، وتضعه في موقعه المناسب من المشهد الروائي السائد.
هل للثقافة جنسية محدّدة، كأن نقول الثقافة الكويتية أو السورية أو الفرنسية وهل ينظر إلى العمل الأدبي من خلال انتمائه لمكان محدّد أم بالقياس إلى الثقافة الإنسانية عامة؟.
ليس للثقافة جنسية محدّدة، ولكن لها خصائص أو سمات محدّدة تطبعها بطابع البلد أو المجتمع الذي تنتمي إليه. فالثقافة الإنسانية واحدة، ونحن نقرأ ونتأثر بالمسرح اليوناني كما نتأثر بالرواية الروسية والشعر الفرنسي، لكن ثقافتنا ونتاجنا الإبداعي له خصوصيته التي تميزه عن سواه من الآداب العالمية. وفي تقديري إن العمل الأدبي ينظر إليه من منظارين: الأول من خلال انتمائه المكاني وما يشكله قياسا إلى التجارب المجايلة أو المماثلة له، والثاني من خلال موقعه من تطور الفنون الأدبية في الساحة العربية والعالمية أيضا.
نشرت في جريدة النهار الكويتيةجريدة النهار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق