صفعة
واحدة .. ثقيلة .. قاسية .. ظالمة .. و كافية
لتنبئه بما قد يليها .
قليل
من العنف ، كمزاح ثقيل من صديق سمج جعله يعترف .
-
ستنطق يا ابن الكلب .
الكف
القاسية هوت فوق صدغه مثل سيخ النار ، أزَّ خيط الألم ، اتقد خده ، فصرخ مستجيراً
.
-
أرجوك يا سيدي .. سأعترف .
وقد
اعترف لسببين ، أولهما انه ابن كلب كما كانت تصرخ والدته حين تفور بغضبها ،
والثاني أنه يستطيع احتمال برودة بلاط السجن لسنتين إن وقع بين يدي قاض رحيم أو
ثلاث كحد أقصى ، ولكنه لن يحتمل صفعة أخرى من كف الضابط الأخطبوطية ..
سالت
دموعه ..
روى
تفاصيل سرقاته على مسامع الضابط :
- أما ما بقي من المال والذهب فقد خبأته داخل كيس
خام في (طاقة ) حمام بيتي ، خوفاً من اللصوص .
-
أعطني عناوين البيوت التي سرقتها يا ذكي
زمانك .
كخطف البرق تذكر : فيلا في الشهباء ، و أربعة
بيوت في المحافظة ، وواحد في منطقة الشيخ طه ، ومحلان في التلل ، وأشرطة كاسيت من
سيارة كانت مفتوحة أمام أحد دور السينما ، محفظة صبية في إحدى سيارات السيرفيس ،
هاتف نقال .. سطل لبن من دكان جارهم أبو يوسف ..
استغرق
الاستجواب الليل بطوله .. وحين غمر ضوء النهار صفحة السماء .. أغلق الضابط المحضر
على أقواله ، أطفأ المصباح الجانبي ..
تمطى متثائباً لاعناً حرامية منتصف الليل
.
رماه
الشرطي في زنزانة رطبة ، وناوله بطانية تفوح منها رائحة عرق حادة ، بين عظام جسده
المتكومة و البلاط البارد المتسخ ، بساط لا لون له ، ذاك تفصيل لا أهمية له ،
فالإعياء نال منه ، ثنى مرفقه تحت رأسه ، لملم باقي جسده على نفسه ، أغفى متعباً ،
وشوق حثيث لحضنها الدافئ يتسرب بين مفاصله ، يهدهده حتى ينام .
*******
ظهيرة
البارحة فقط كان أسعد رجل في العالم . يطحن بين أضراسه لقمة ساخنة تغلي ، فهو يحب
محشي الملفوف المحمّض بدبس الرمان الذي تطبخه زوجته نجاح وتقدمه له ملهلباً .
نجاح ست بيت شاطرة ولا كل الستات ، لها نفس طيب
في الطبخ والنفخ ، حمامها ومطبخها يشعان نظافة ، إضافة إلى أنها تنقلب امرأة مثيرة
حين تقشر له التفاح وتلقمه الفصوص بيدها ، فيقضمها ثم يأتي على الأصابع الملونة
بالأحمر القاني .
قال
له أبوها : خذها بالثوب الذي عليها ، وزغردت زوجة أبيها .
أحبها
منذ كانت تلعب على رصيف الحارة ، وانتظرها بعين قلقة حتى تكور نهداها .
حين
ضمها إلى صدره صار أكثر الرجال سعادة .
غرفة
فوق السطوح بملحقاتها كانت كافية آنذاك ليعيشا نعيم الحب .. متى كبرت أحلامهما ولم
يعد المكان يتسع ؟
حين
تزوج نجاح ، كان يعمل سائقاً لشاحنة المعلم حسن يسافر بحمولة الخضار والفواكه من
حلب إلى السعودية ، جلوسه وراء المقود في عتمة الليل وغبش الطرقات الموحشة لم
يكسبه الثروة التي تذيقه طعم الملذات ، بل إن صوت أم كلثوم الذي يرافق دربه كان
يجعل من قلبه خرقة بالية يعتصرها الشوق إلى دلال نجاح وغنجها .
تقول
له وهي تدلك وتاب رقبته : البيت فاضي من غيرك يا حمودة ...
كانت
تتشيطن تحت لحافه وتسأله بهمس مبحوح : متى ستشتري لي مبرومة الذهب التي وعدتني بها
؟.
يرتجف
فؤاده هلعاً . ما أقسى زعلها حين يتلاقى قوسا حاجبيها ويتغضن جبينها على هم الوعود
التي لا تتحقق!
نجاح تستاهل سوق الصاغة بأكمله ، لكن " العين
بصيرة واليد قصيرة " فكل ما اشتراه لها : حلق تخشخش كراته في أذنيها كلما
حركت رأسها .
ظل
فقيراً ..
عاد
ذات ليلة ، ورأى نجاح تبكي وبدنها يرتجف من الحرارة .. لم يكن يملك ثمن الدواء
حملها وركض بها إلى العيادة الليلية المجانية .. ساعة انتظار ، وتكشيرة الممرضة ، وتثاؤب
الطبيب المناوب ..
اتخذ
قراره : سيشتري لنجاح الأساور التي تريدها .
حظه
العاثر جعل جرس الإنذار يرن وهو يحاول دخول أحد البيوت ، وبغمضة عين أحاط به كل
شرفاء العالم .
*******
نخز
الشرطي خاصرته فانتفض مرعوباً .. عرك نعاس عينيه .. لملم أطراف سترته حول صدره ،
وتبع خطوات الشرطي الثقيلة .
ضابط
الليلة الماضية ، يرتشف الشاي الساخن وبجانبه مدفأة تتقد نيرانها .. شعر بالحرارة
تفكفك عظامه المتجمدة .. أراد أن يقترب أكثر ، خده الأزرق والجرح الصغير عند زاوية
فمه جعلتاه يتراجع عن الفكرة .
أنار
الضابط ثريا ابتسامته العالقة فوق فمه ثم لعقها بلسانه قائلاً :
-
لديك زيارة ..
حرك
حاجبيه بخبث ثم أضاف :
-
حريم .
غيظ
يتقد برأسه كجمرة في مهب الريح : لحن قديم
.. خشخشة أساورها .. برد عظامه .. دفء حضنها .. ليل الطرقات الموحش ..
الصفعات المؤلمة .. رائحتها .. ولقمة ساخنة من محشي الملفوف تحرق سقف حلقه .
ما أن لمح وجه نجاح الطافح الحسن يطل بشبابه
من شق الباب حتى وثب إليها كنمر غاضب .. رفع يده إلى الأعلى .. وهوى صافعاً
اندهاشها ، ومن غير أن يكترث لدموعها النافرة وصرخة الألم التي فلتت منها ، أدار وجهها
نحو باب الغرفة ، ودفعها بقسوة من بين كتفيها إلى الخارج .
زعق
بصوت جهوري هز جدران غرفة المحقق الضيقة :
-
إياك أن تأتي إلى هنا مرة أخرى لأي سبب .. أتفهمين ؟ ... لأي سبب .
سوزان خواتمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق