أثناء تجوالك في معارض الكتب قد تمسك بورقة تحتوي على عناوين قرأت عنها وترغب باقتنائها، إلا أن تلك الورقة تغدو على الأغلب هامشية عندما تراودك نفسك لشراء كل ما تعرضه الرفوف من أغلفة الكتب المشوقة، بل وتصبح عديمة الفائدة حالما ينصحك صديقك صاحب دار النشر مشيراً إلى كتاب بعينه.
وفق إرشاد من الصديق الشاعر محمد النبهان وهو صاحب دار النشر “مسعى” اشتريت رواية “أخف من الهواء” للروائي الأرجنتيني فيديريكو جانمير.
أجل.. أنا أيضاً لم أسمع قبل اليوم باسم الكاتب الحاصل على جائزة كلارين عام 2009 ونقل الرواية عن الاسبانية المترجم محمد الفولي ، وذلك تقصير لا يمكن تفاديه أمام آلاف الآلاف من المنشورات السنوية.
لنعد إلى الرواية ذات الـ 175 صفحة، والتي يمتد خطها الزمني إلى أربعة أيام مفصلية غير محددة تبدأ بتاريخ 29 نوفمبر تحتوي على تقاطعات استرجاعية بين الحاضر والماضي، إلا أنها تنطلق منذ لحظة محاولة لص شاب في الرابعة عشر من عمره هاجم عجوزاً في الثالثة والتسعين بقصد سرقتها لكنها تمكنت من إقناعه بأنها تخبئ ثروتها في الحمام. حنكتها تقلب موازين القوى بينهما ليتشاركا مكاناً محدوداً لا يتعدى مساحة الحمام حيث يقبع الصبي سانتي سجيناً، وباقي أرجاء منزل ليتا كما تحب أن يناديها، فهل كانت الصدفة هي البداية؟
“لا وجود للصدفة سواء تعلق الأمر بهذا أو ذاك، فالرب كان يدرك أنك أنت وأنا كنا في حاجة متساوية لتعارفنا، وحينها دبر ما دبره من ترتيبات. الرب يرى كل شيء، حتى ولو لم تصدق، ووفقاً لما يراه وما يعلمه، يقرر ما هو أكثر ملاءمة لكل امرئ منا في كل لحظة من حياتنا.”
العجوز الضحية ومن ثم السجانة تغتنم الفرصة لتروي، فيأتي على لسانها:
” أقسم لك كنت أظن دوما أنه ليس من المستحب أن أقص على شخص آخر شيئا يهمني أنا وحدي، إذا أمعنت النظر فإن عدم رؤيتي لوجهك وأنا أحكي يجعل المسألة تبدو كاعتراف في الكنيسة.
السرد المغاير والمثير يتصدر الأحداث، فالعمل منذ سطره الأول وحتى نقطة النهاية مبني على مونولوج حاد وصادم لعجوز تعاني الشيخوخة والوحدة تجبر اللص المسجون في حمامها سواء رغب أم لم يرغب على سماعها، وتمده عبر فتحة الباب برقائق البسكويت وشرائح اللحم الرقيقة.
“أعتقد أن بإمكاني مسامحتك، لكن امنحني بعض الوقت من فضلك. دفعتني لتذكر وحدتي في اللحظة التي ظننت أنني أخيراً عثرت على من قد يهمه حقاً معرفة ما حدث لأمي. الوحدة قبيحة.”
لا فائدة ترجى إذا ما صرخ أو ضرب الباب، فالشاب عليه أن ينصاع ويصغي إلى حكاية أمها ديليتا الشغوفة بالطيران والتي تلتقي بطيار يعد بتعليمها ثم يستغل رغبتها الجامحة ليحصل على ما يريده. تنصله من وعده يجعلها تهدده وتطلق عليه الرصاص ثم تقلع بطائرته رغم صعوبات التحليق في ظل وجود الرياح، وتموت أثناء الهبوط. لا يتوقف السرد عند تلك الحكاية فقط بل تتفرع عنها حكايات صغيرة تأتي على تفاصيل حياتها البائسة واغتصابها ومعاناتها وآرائها وانتقادها لجماعة الغاتشو وهم رعاة الأبقار في الأرجنتين.
“ماحدث فقط أنهم غيروا ملبسهم. أحدثك عن مسألة أكثر عمقاً، عن طبيعة انسانية معدية تنتقل من جيل إلى آخر…. أكره الماتي وعشبته. أعتقد أنهما المذنبان في كل مساوئ الوطن ومساوئنا”
تمر العلاقة بين السجانة والسجين بمستويات مختلفة من الانفعالات؛ كالغضب والملل والإذعان والتوسل والوعود وأيضاً التعاطف، وقد اعتمد الكاتب بجرأة على تمرير كامل العمل الروائي ليأتي على لسان العجوز وحدها، فتتولى نيابة عن الطرف الآخر سرد تعابيره وما يقوله رغم ذلك يظل القارئ مرتبطاً بشغف لمعرفة ما سيحدث في مفاجأة النهاية، وما حدث في النهاية أتركه لمن سيرغب بقراءة هذا العمل الجميل.
موقع رابطة الكتاب السوريين
جريدة اشراق