منذ إطلاق جائزة الرواية العربية (البوكر) في دورتها الأولى 2007 وأنا أتابع القوائم الطويلة والقصيرة لقوائم الترشيح، وإن كنت لم أحتفظ بالقدر ذاته من الحماسة، فأحياناً يخيب رجائي ببعض الأعمال التي قد لا تعجبني، وقد لا أكملها، وربما لا أتذكرها لاحقاً.
على أهمية الجائزة، فإنها تتعرض لسيل من الانتقادات بدءاً من اتهام لجنة التحكيم بعدم الموضوعية، أو بأن معايير الجائزة لا تخلو من المحاصصة الجغرافية والمهادنة السياسية، أو بأحقية العمل الفائز والمعايير الفنية التي رجحته، مع إشارات ضمنية وعلنية لدور النشر وعلاقاتهم في الترشيح!
لا تنكر الزوابع والانتقادات المحق منها والباطل أهمية البوكر، فالمسابقة تنعش الساحة الثقافية بنشاط إعلامي سرعان ما يخبو، وتنشّط حالة القراءة المتدنية في بلادنا الناطقة بالعربية، كما تضعنا في حالة ترقب ورهانات حول توقع النتيجة، إضافة إلى توفير عناوين تشغلنا إن لم يكن لقراءتها، فللاطلاع على فحواها.
موازين النجاح
يقول الكاتب بول سويني: “إذا شعرت وأنت تقلب الصفحة الأخيرة في الكتاب الذي تقرأه أنك فقدت صديقاً عزيزاً، فأعلم أنك قرأت كتاباً رائعاً”.
كم مرة فقدت عزيزاً؟ وهل ينسحب رأيك في روعة الكتاب بموضوعه وأسلوبه على غيرك بالضرورة؟
لا يمكننا الإجماع المطلق على تقييم مستوى الإبداع وتفرده، فنحن نختلف بزوايا رؤيتنا للعالم ودرجات أهمية قضاياه، ومستويات المتعة المتحصلة، ووعينا الجمالي والمعرفي.
إن الأعمال الأدبية ليست معادلة كيميائية دقيقة تفضي إلى نتائج محددة لا يمكن رفضها أو النقاش حولها، وهذا ما يجعل تحديد القيمة الأدبية وجودة العمل تختلف من قارئ لآخر، ومن ناقد لآخر، بل وتتغير عبر الزمن، فهناك نصوص ساذجة بل ورديئة حالفها الحظ في الشهرة ، وتمت طباعتها أكثر من مرة، كما أن أعمالاً على قدر كبير من الأهمية لم يسلط الضوء عليها إلا بعد وفاة كاتبها، فأعمال الكاتب كافكا لم تنشر إلا بعد موته فقيراً مسلولاً، وهو اليوم رائد الرواية الكابوسية!
يتشابه الحال إلى حد ما مع الشاعر أبو القاسم الشابي الذي مات معوزاً، وزادت شهرته وأهميته بعد وفاته.
رواية محمد النعّاس
لم تنج رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” للكاتب الليبي محمد النعّاس من حالة اللغط الأدبي بعد أن حازت على جائزة البوكر العربي للعام 2022 فتعرضت للاستحسان المطلق من بعضهم، باعتبارها عملاً استثنائياً في مضمونه وأسلوبه، كما جوبهت باستياء آخرين، فهناك من اعتبرها تعارض المنظومة الأخلاقية، وتتهجم على الذات الإلهية ليصل المنتقد في النتيجة إلى أن الأعمال التي تنال الجوائز هي تلك التي تحطم المعايير، وتشوه قيم المجتمعات، وتنال من قدسية الأديان، وهناك من رأى أنها رواية جيدة سوى أن الروايات المنافسة كانت أجدر باللقب، وهناك من أطر اعتراضه لأن العمل هو تجربة الكاتب الأولى، وتقنيات كتابة الرواية تتطلب الخبرة!
أرى كل ذاك التعارض حالة صحية، على عكس الإجماع العام الذي يذكرني بنسب الزعماء في الانتخابات الرئاسية.
تدور رواية النعّاس حول التوزيع النمطي للأدوار بين الرجال والنساء في مجتمعاتنا المعتدة بأعرافها، حيث مساحة الحرية والخيارات الشخصية معدومة أمام سلطة التقاليد والعادات والأعراف التي ترفض كل ما لا يشبهها، وذلك من خلال عرض لسيرة البطل “ميلاد” صانع الخبز الذي يعاني من بنيته الضعيفة وميله لعالم النساء، ورغم محاولاته لعلاج ليونته إلا أنه فشل.
بعد زواجه يرضى بأن يقوم بمهام زوجه زينب عوضاً عنها، فيما تخرج هي للعمل، وتتولى مهمة الإنفاق. هذا الانقلاب في الأدوار يعرضهما للسخرية والرفض، حتى يتسلل الشك إلى حياتهما المستقرة، وتتراكم المشكلات وتتصاعد ليمسك ميلاد سكيناً ويجز عنق زينب.
الرواية ذات طرح منفتح وجديد، وإلى حد ما عانيت في فهم بعض المفردات الدارجة باللهجة الجزائرية، كما صدمتني النهاية الموجعة وغير المتوقعة فهي لا تتوافق مع طباع ميلاد.
عند مستوى عال من الضغط تولد القسوة والعنف وهذا ما خلصت إليه في رواية استندت إلى الطحين والعجين والخميرة لخبز عليه أن يرضي ذائقة الآخرين، وإن لم يتناسب بالضرورة مع رغبة الخباز ذاته.
الرواية صادرة عن دار مسكلياني