ينتشر شعور عام في الاوساط الحلبية، عامة و(نخب)، ان حلب مستهدفة من السلطة بشكل اساسي ومن بقية السوريين بشكل عام ممن تشكل لهم حلب تحدي ما!!. ويقصد هنا ببقية السوريين على الأغلب" الشوام " أو التجار والصناعيين الشوام تحديداً. وانهم، (أي بقية السوريين والسلطة) ينامون وهم يفكرون كيف يقضون على حلب نهائيا، وكيف يخنقونها. ويتحالف في النوم واليقظة على هذا، السلطة مع بقية السوريين الذين يحاولون أن يهمشوا حلب وينهوا دورها ((التاريخي)) المتمثل بكونها عاصمة الحضارة والاقتصاد والفن وكذلك مدينة التسامح الديني والوحدة الوطنية.. كما تنتشر اللافتات على الطريقة البعثية للاحتفال بحلب عاصمة للثقافة الاسلامية هذه الايام.
والشعور أن حلب مستهدفة يتحول الى مسلمة لدى اهلها!!، ويجد مبرراته في أن حلب غدت مكروهة من السلطة الحالية بعد اشتباك السلطة مع الاخوان( المسلمين)، في أوئل الثمانينات، فقد كانت حلب احد معاقل الاخوان الرئيسية إضافة لحماة و المسرح الثاني لاشتباك السلطة مع الاخوان وهكذا من الطبيعي أن تقرر السلطة الحالية قطف رأس حلب بشكل نهائي.. ويزداد هذا المبرر شرعية عند من يعتقد ان هذه السلطة هي سلطة طائفية وهكذا يغدو طبيعيا أن يطلب رأس حلب في هذه الحالة. ولا يقبل الحلبيون مسائلة هذه المسلمة دون اعتبار المُسائل أما يخدم السلطة أو متحالف معها لاسباب اخرى تخص وحدة المعركة ضد حلب أو أنه يهرف بما لا يعرف، ويدرجون في هذه الخانة كل الكتابات التي عن حلب ولا ترضي أهلها.
هذا الذهنية التي تقوم على تصوير النفس مستهدفة وعلى ان القصور و/أو الخواء ذو سبب خارجي هي الاكثر قدرة على إراحة النفس في حلب اليوم. فهذه المدينة لولا أنها محاربة ومحاصرة من الجميع لبقيت على الداوم عاصمة للحضارة والفن والصناعة والتجارة ومنارة للتسامح الديني..
لن نتكلم عن التاريخ وليس الغاية في هذه العجالة سوى: تعالوا نتدبر الأمر ملياً.. إذن لست معنيا بالبحث وتقصي مسيرة حلب عبر التاريخ ودورها ومنجزها لكني اذكر حلب الان وتالياً قد يجوز سحب المقايسة هذه عبر منظومة القياس الى الخلف إذا شاء أحد ما أو شاءت الصدف..
فحلب أم التجارة يمكن إيجازها بـ: أن العقلية التجارية لدى الحلبية تقوم على سيادة الفكر الدكنجي وهو مصطلح مطروح ولا ادري الحدود التي اطلق لها هذا المصطلح. والفكر الدكنجي اقتصاديا يقوم على مبدأ الصفقة الواحدة. ويروي تجار حلب (مشافهة) حكاية عن مطعم في اسطنبول يقدم محشي. ميزته الاساسية (أي المحشي الذي يقدمه هذا المطعم) أنه لا يؤكل، الا ان المطعم دائم الازدحام وينتظر الزبون فترات طويلة كي يحصل على طاولة.. وروى لي أحدهم انه قال لصاحب المطعم: يا أخي لم لا تحسنون طعامكم كي لا تفقدون زبائنكم. فكان رد صاحب المطعم انه ورث هذا المطعم من ابيه وابيه ورثه من جده ولم يشاهد احدا اكل في مطعمهم وعاد مرة أخرى ومع ذلك كما ترى فقد انتظرت طويلا لتأكل هذا المحشي الذي لا يؤكل. ويبدو لي أنه مصدر المثل الحلبي " البيدوقا (الذي يتذوقها) ما بعيدها.. وياربي ما اكتر خلقك" وتبدو هذه المقولة الهادي لتجار حلب. وهكذا يغدو طبيعيا أن تقوم ((شطارة ))التاجر الحلبي على أن يبيع من يأتي اليه طالباً بنطلون جينز مقاس36 بنطلون آخر قماش وغير لون ومقاس أربعين ، أو يقنع نفس التاجر أو أبن عمه أو شقيقه، من أراد أن يشتري كاسات للشاي ليست في محله في تلك اللحظة ( التاريخية ) فناجين للقهوة إذ يقنعه أن لا احد يستخدم الان كاسات لشرب الشاي في هذه المدينة وأن الكاسات منذ سنوات طويلة لم يعد أحد يصنعها" ولا تتعب حالك " وهكذا عليك أن تشتري منه فناجين .. أو ربما طنجرة ضغط لا فرق.
أما التاريخ الصناعي لحلب الان وقبل قليل، ولا ادري عم قبل هذا لاني اعتقد أن السمعة التاريخية غالبا تصنع تزويرا ولا يقتصر هذا على حلب فقط، أقول أن الصناعة الحلبية يلخصها تاريخ صناعة الاحذية في حلب التي تمشي فيها كم متر وينقلع نعل الحذاء وتسير حافيا للدرجة التي عرضت كثير من تلفزيونات العالم تحذيرات من الصناعة السورية عامة لانهم لا يعرفون الخصوصية الحلبية وكذلك الصناعات الحلبية تخرج من بلادنا تحت اسم موحد: صناعة سورية ( بالتاء المربوطة وليس بالألف الممدودة). وللعلم: تشكل صناعة الاحذية جزءا كبير من الناتج الاجمالي الاسباني وكذلك الايطالي ويمكن ايجاد الرقم بدقة بقليل من الجهد لا أجد أن ايراده هنا يستحق هذا. ويمكن تلخيص مسيرة الصناعة الحلبية بأنها تلك الصناعة التي قامت باغلاق الاسواق التي فتحت امام المنتج السوري هبة من الله والظروف الدولية وتم هذا الاغلاق ببساطة شديدة نتيجة انتقال عقلية الدكنجي من التاجر الى الصناعي أو لانهم في حلب بالاصل شركاء فلم تؤسس حلب (المدينة العريقة) أية اخلاق صناعية
فتم تصدير أحذية وكأنها صنعت من أكياس النايلون ولمن يقول هذا الأمر حديث يمكن لنا أن نذكر له المثل الدارج في حلب :" حذاء حجي افندي .." وهو حذاء يبيعه حجي افندي للزبون ويرسل خلفه صانعه كي يلتقط" كعيب الحذاء " عندما تسقط بعد قليل ويعيدها كي يعاد انتاجها.
وفوق كل هذا وفيما يخص التقاليد الصناعية أو أخلاقها أو التزام قوانينها، وكي لا يكون كلامنا في الهواء نذكر أنه لا يوجد أي تأمينات مثلا لعمال الصناعة ولا يوجد منشأة في كل حلب عمالها مسجلين بالكامل في نظام التأمينات إلا اضطرار لبعض العمال يشكلون نسبة واحد بالمئة للتغطية على " كبسات التأمينات " التي يكون عادة الغاية منها أخد كم ورقة ...
أما عن الفن فعلى سبيل النكاية فقد قرأت ذات يوم مقالا عن أن القدود حمصية وليست حلبية وهذا ما يعترف به صباح فخري هذه القدود التي تعتاش عليها حلب طوال تاريخها الفني. وبكل الاحوال هي مدينة تعتاش منذ نصف قرن على صباح فخري ومقلديه وناسخيه ولم تنتج ظاهرة كأم كلثوم أو الرحابنة أو حتى نانسي
وإذا مضينا دون وجل الى قضية التسامح الديني التي تنتشر يافطاتها هذه الايام مترافقة مع " حلب عاصمة للثقافة الاسلامية " فيمكن أن نذكّر بهبة حلب ويمكن أن نذكّر بنصوص في الكتاب والسنة يرددها مسلمو حلب على منابرهم ليل نهار ويمكن أن نذكّر بمصطلح " المطورق " الذي كان يطلق على المسحيين واليهود في حلب والذي يعني أن عليه أن ينزل الى الطاروق (المجاري ) وينظفها... وإذا كان هذا ليس منشأً حلبيا بل يخص الاسلام أجمع لأن مصدره النص الاسلامي فإن موجب ايراده هنا هو التشدق بالتسامح في حلب ليس إلا. وكذلك يمكن ان نلاحظ أن مسيحيي حلب هم الاكثر انغلاقا من بين كل مسيحي سوريا ويسكنون في أحياء شبه مغلقة وللتذكير فإن بعض الاحياء المختلطة وهي التي تكون عادة مسيحية ويتسلل إليها المسلمون ينخفض فيها سعر المنزل بما لا يقل عن مئة الف في بناية مختلطة السكان عن منزل شبيه في بناية مجاورة غير مختلطة ولا يمكن لمسلم ان يشتري في بناية غير مختلطة ( وتعني هنا مسيحية كاملة ) وكذلك فإنا نواديهم ومطاعمهم ومقاهيهم شبه خاصة فلا يدخلها من يُشتبه أنه مسلم .. بمعنى من كان واضحا أنه مسلم من خلال أحد الرموز الاسلامية التي اشهرها الحجاب يتم تقليعه تحت حجج شتى
أما المطبخ الحلبي الذي اشتهرت به حلب حتى اصبح إسمها يجوب الافاق كــ " ام المحاشي والكبب " فهو مطبخا تركياً وبالكامل أيضاً.
ماذا بقي من حلب الان لم نقله؟ في حلب الان لا يوجد شعراء( حلبية) لديهم منجز وهذا قائم منذ زمن طويل فلم يكن هناك حلبي من المجددين في الشعر الكلاسيكي وأشهر اعلامها من الشعراء العموديين هو عمر أبو ريشة المنبجي وهي مدينة تتبع محافظة حلب حاليا، ولا يوجد شاعر حلبي واحد لديه منجز من جيل الحداثة.. وما بعدها. أما عن صنوف الابداع الاخرى فالارض شبه صفصف إذا استثنينا من هم غير حلبية وشبه صفصف لان هناك بعض الاسماء القليلة التي شكلت منجزا كمياً يمكن مسائلته سواء اختلفنا او اتفقنا على اهميته وليعفني (الجمع ممن ضم مجلسنا) من ذكر الاسماء كي لايتنطع لي حلبي ما ويقول من هذا النكرة الذي يقيم ابداع الحلبية؟!!! لكني يمكن أن اذكر بقليل من المغامرة أن واجهة حلب الثقافية الان هم الاستاذ محمد قجة والدكتور نضال الصالح..إضافة للاستاذ عبدو محمد رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب (بحكم المنصب) وكذلك مدير الثقافة الذي لا اذكر اسمه
وقد تبدو هذه الحالة استثنائية في تاريخ حلب إلا اني ودون عناء بحث أقول أن حلب عبر التاريخ كانت هكذا فلا البحتري حلبي ولا المتنبي ولا أبو فراس ولا سيف الدولة الحمداني التي تسمى المدينة باسمه ولا السهروردي ولا الفارابي ولا ... بل إنهم مروا بحلب وسكنوا فيها بعض الوقت.ولم تترك فيهم المدينة اثرا ولا تجد فيما تركوه أثرا لحلب التي سكنوها
كما ان هناك قول مأثور يردد لدى معارضي النظام على سبيل المثال ان حلب كانت تصدر فيها اكثر من خمسين صحيفة في فترة الاحتلال الفرنسي او بعده بقليل .. لكن لماذا لم يكرس اسم صحفي بارز او كاتب مهم من تلك الحقبة كـ كتاب الرواية الرومانسية المصريين؟.. الخ
وهكذا أخلص إلى أن ميزة حلب كما أراها هي أنها حاضرة تتوسط بادية تمتد حتى تتاخم الصحراء وهذا ما اعطاها ( أهميتها ) التاريخية
ويمكن بخش الكرسي وتقشيشه مرة أخرى حول مقولة قطف رأس حلب بالقول إن اكثر من استفاد من النظام الحالي وأليه الفساد التي نشأت داخل هذا النظام هم تجار وصناعي حلب ودمشق بحكم البنية الصناعية والتجارية لهاتين المدينتين لانه لا يمكن لمعلم مدرسة في الريف السوري ان يستفيد من الفساد مهما كان فاسدا ولا يمكن لفلاح أيضا أن يستفيد من بنية الفساد مهما سولت له نفسه!! وفي هذا المقام يمكن أن نذكرهم هنا بعقود تصدير سداد واردات الدولة من المجموعة الاشتراكية سالفة الذكر وخصوصا الاتحاد السوفيتي( الصديق) فلم يصدر أخوتنا الفِِِلح( الفلاحين ) قمحا أو قطنا عبر هذه العقود ونذكرهم بالتهرب الضريبي ونذكرهم بشبكات المشاريع التشاركية مع مسؤولي السلطة( الفاسدين) ونذكرهم بعقود التصدير الوهمية ونذكرهم بالافادة من نظام منع الاستيراد حتى أنهم كانوا يبيعون لنا ماءا ملوثا باصباغ وأشياء لزجة على أنه شامبو وكنا ندفع لقاء هذا السائل الملوث أكثر مما ندفعه الان ثمنا لأجود الماركات العالمية ونذكرهم ..ونذكرهم.. نعم لم تستفد المدينة كبنية تحتية مثلا مثلها في ذلك مثل كل المدن السورية، لكن التجار ( والصناعيين) الحلبية كانوا الاكثر إفادة من فساد النظام ومالحق بحلب كمدينة لا يزيد على ما لحق باللاذقية أو أي مدينة أخرى، بل إذا كان التقسيم مناطقيا وبهذه الطريقة يمكن القول ان مناطق الجزيرة هي الاكثر تهميشا عبر الفترات الزمنية التي تغنى بها النظام بأنه ثورة العامل والفلاح وإذا كانت الجزيرة السورية تغذي البلاد بالقمح والقطن والــ ... وكذلك النفط مؤخرا فإن قرى كثيرة فيها لازال يعتبر تأمين ماء الشرب معجزة إلهية، مع أنه يمر فيها أهم نهرين في المنطقة. ويبدو هذا مستغربا من الحلبية ان نقارن حرمان مناطق شاسعة من سوريا من أي تنمية حقيقية مع الحرمان الذي حل بحلب لأن أهل حلب لا يعتبرون أن المقارنة جائزة بينهم وبين بشر من الدرجة الثانية أساسا وفق نظرة الحلبية لأنفسهم بعراقتهم المديدة وجوارهم مُحدثي الوجود!!
ويسود اليوم لدى قسم من الحلبية الذين سميوا فيما بعد العائلات (العريقة) نظرة تقزز إلى العائلات الصاعدة من التجار والصناعيين الحلبية أيضاً عبر تحالفهم مع السلطة الحالية وفسادها ويتم الحديث عن إنتاج السلطة لهم عبر الية فسادها وإفسادها ليكونوا عونا أيضا على تدمير حلب لأن هؤلاء بعكس (العريقة) لا يهتمون سوى بمصالحهم الخاصة بينما (العريقة) ديدنها المدينة. وبقليل من التمحيص يمكن ذكر أن هذه العائلات التي أصبحت عريقة هي نتاج فساد السلطة العثمانية أيضا وإقطاعاتها التي منحت لموظفيها وللمتعاونين معها!! وقليل منها ظهر في فترة الاحتلال الفرنسي إذاً الفارق بين العريقة السابقة والطفيلية الحالية التي تتقزز منها تلك هو فارق زمني فقط وحدث عبر نفس الألية
وفي الصورة العامة للمدينة تُصدر حلب على صورة إسلامية أو كمدينة يتمسك أهلها بالاسلام وهذا ما يجعلها تتضاد مع السلطة الحالية التي هي في أخف تصنيف علمانية، وفي توصيف متطرف هي طائفية. وتطرح هذه الصورة كمسلمة إلا أن تاريخ الوقائع اليومية يقول أن هذه الصورة هي قشرة خارجية يمكن النفاد بسهولة إلى ما تحتها لنرى صورة أخرى مغايرة تتشكل من كون الاسلام في هذه المدينة هو شبكة علاقات مصلحية يتم عبره إيجاد مبرر شرعي لكل مخالفات القوانين والقيم والمستقر الأخلاقي ولكل مخالفة فتوى جاهزة فالتاجر الملتحي لا يتوان عن الغش ولايتوان عن أن يحلف كاذبا ويشهد زورا ولا يتوانى أن يصرخ كافرا بالله وبمحمد وشاتماً لهما. وكذلك ببساطة نرى أن العلاقات الاجتماعية ليس محددها إسلامي عبر منظومته الأخلاقية التي يطرحها بل المحدد إجتماعي يتم تغطيته اسلامياً إن دعت الضرورة
وفي الحيز الاجتماعي الديموغرافي حلب الآن وسابقا مدينة مصمتة ومدينة طاردة والمدن عادة تنجز هويتها ومنجزها عبر قدرتها على ادخال القادم الى نسيجها والنفاد الى نسيجه وما يمكن ملاحظته أن الدول الناهضة الان التي تشكل هوية حديثة لها هي دول مهاجرين وليست دول (عريقة ) .. وقامت أساسا على اعتبار الهوية التي انتجتها تخص الجميع ..