لم تكن لوثة القلب التي أصبت بها مؤخراً خطيرة ، وإن كانت في حكم الأعراف مستغربة .. وفي أذهان كثيرة مستهجنة ..
" فالعزيز غسان " كما أدعوه جدٌ وقور منذ أكثر من عقد ، وقد قرر أن يستسلم لشيبه بأريحية مناضل حقق منجزاته بهدوء يحسده عليها الكثيرون .
أما أنا فامرأة خمسينية ، أبدعت مذاقي الخاص ، أعايش وحدتي وأعرف ضوابطي ، لي تاريخ في مقاومة الأهواء ، وتجنب النزوات ، أختار دربي دون أن أجنح للتقاطعات الخطرة .. فكيف حدث كل هذا ، وفي مثل هذا العمر ؟..
رغم طيش الفكرة من أساسها ، فإننا لم نصب بها كحالة انفلونزا فجائية ، لسنا مراهقين غريرين ، حدث الأمر بهدوء شديد ، وروية أشد .
سنوات خمس مرت على ذلك النهار ، وقت التقيته أول مرة في نادي المتقاعدين ، كان جالساً على كرسيه المريح يتعافى من سطوة أحزانه ، ويتصالح مع ما بقي له من حياة ، بعد أن دفن الزوجة ..
كانت التحية بيننا خالصة بحسن النوايا ، والأحاديث التي يضطرم أوارها ، لا تشير إلا إلى تفاهم عميق ، أفكارنا على اختلافها كانت تلتقي ، كي يصير تبادل الرأي نقطة التقاء وليست داعي انفصال .
أترانا كنا نخمر عجيناً ، وقد حان موعد خبيزه . كل شيء بأوان .
خطوة بطيئة بود كبير ، دون أن يحمل الخاطر هدفاً أو مسعى ، صدفة وأحياناً بموعد متعمد ، كنا نلتقي في الندوات والمعارض والحفلات الموسيقية التي تهمنا ؟ وهل من شيء آخر يمكن أن يشغل العجوزين ، نحن ؟ .
كان يعشق كل الموسيقا يقول لي " أنصتي إنه صوت الماء " ، أما أنا فلم أكن أفهم سوى النغم الشرقي يشق عليه جهلي فيحاول معي من جديد .
كنت أتحزب لفيروز ، وهو يصر على محمد عبد الوهاب ، ألقى في حضني اسطوانة قديمة من مجموعته النفيسة ، فقد وجد الحل ، دارت الاسطوانة تحت إبرة المؤشر ، " يا جارة الوادي " جعلتنا نلتقي .
كان راقياً مهذباً ، يعرف متى يحضر دون أن يكون متطفلاً .. وكيف يغيب دون أن يصبح متهماً بالجفاء .
كنا نلتقي أحياناً ، في إحدى المتنزهات القريبة ، لنمشي بخطوة رياضية تحتاجها أجسادنا التي نسيت رشاقتها في مكان ما من زوايا هذا العمر . الوقت والمسافة تجعلنا نحكي ، كثيراً ما يغلبني فضولي ، فأحاصره بالأسئلة دون أن أزعجه ، فمن يتجرأ على قلب استعاض عن وريده بأنبوب ؟
الصداقة المتينة ، انقلبت شعوراً لاهثاً ، كأنه كان يلاحقنا طوال السنوات الخمس ، حين وصل أعلن عن نفسه رسمياً " هذا أنا الحب " ، المؤكد حتماًً أننا لم نصدق ، فالزمان ليس لنا .. والمكان لن يتسع .. والظروف غير ملائمة .
رغم كل الاحتجاجات ، فقد ترك يدي في كفه أكثر مما تحتاجه التحية بمعناها .. جلس إلى جانبي تماماً .. مسافة أصابع أربعة متراصة فصلت كتفه عن كتفي .. كان يدخن .. وكنت أهز قدمي .. أشياء كثيرة كانت تحدث دون أن تحدث حقاً .. حتى صار الصمت الذي لم نتوصل إلى قطعه كارثة ذهنية .
حين قام ليودعني ، لامس بشفاهه أطراف أناملي ، وقال : أشعر بأني أحبك .. مؤكد أني أحبك .
الأيام الثلاثة التالية كنت أستعيد حرفياً تلك اللحظات ، أغمض عيناي متعمدة لأعود إلى المكان نفسه ، لجلستنا القريبة ، لمتعة الصمت ، للكلمات القليلة الدافئة ، لتلك القبلة ، ثم تحترق أصابعي .
سمعت صوت ماء تك .. تك .. تك ، تفجر الينبوع ، نسيت ترهلي ، والعروق النافرة ، والهرم . فعل بي ما فعل وهو في فلك الستين ، كيف كانت الأمور أيام مجده الثلاثيني ؟ يا لحظ زوجته ، هاأنا أحسد الموتى في قبورهم !
غفر الله لي لوثتي ، فضول أكلني ، هرعت إلى الهاتف لأسأله ، يمنعني الوقت المتأخر ، فأعود لأغمض عيناي واستعيد ذاكرتي من جديد ..
لسعت أصابعي مرات ومرات ، حتى جاء يوم الجمعة .
غص البيت بهم ، أولاداً وأحفاداً ، الجميع مع عائلاتهم ، يقفز العدد إلى الثلاثين ، ضعت في الضجيج ، بعض الأولاد الصغار في الصالة بين أفلام الرسوم المتحركة التي اشتريها خصيصاً لهم ، والبعض الآخر الأكبر قليلاً يتسلى بلعب الورق .
الآباء والأمهات امتحنوا ذكاءهم ، فاختفوا خلف باب مغلق في غرفة الضيوف . كنت سعيدة بهم ، وكنت نشيطة ، صنعت الشاي وحدي ، ووزعت بينهم ما عندي من معجنات وحلوى ..
كنت أتحرك بشباب طارئ ؟ تراها حالة مؤقتة ؟ . قال لي أصغر أحفادي ، وهو يتحسس وجهي :
- ستو .. أنت حلوة اليوم .
غرقت في الضحك ، وقرصت خده ، يا للأطفال !!
لم أفكر بالمبررات التي سأقنع بها أولادي ، ليس لأني أخاف غضبهم ، فجسور التفاهم بيننا تسمح ، لكن لسبب أبسط ، فأنا لم أجد جملة مفيدة واحدة أبدأ بها الخبر .
خمسون عاماً هي سنوات عمري ، بحثت فيها عن الحب كثيراً .. وأعترف . التقيته وجهاً لوجه مرات .. ولست أدعي . عشته ذات مرة .. والكل يعرف .
لكنه الآن و مع العزيز غسان ، شعرت بأنه حقيقي أكثر من أي شيء آخر، فقد كان نقياً دون اختلاطات أخرى ، بريئاً من معانيه الملتبسة .
رغم يقيني بأني سأخسره حبيباً لا يعوض ، ورفيقاً بلا أحقاد ، فقد رفضت أن أعبر إليه ، وقلت له ، وأنا مطرقة أنظر إلى أطراف أصابعي المحروقة : - غسان ، اعذرني ، ربما في عمر آخر ، لو ..........
" فالعزيز غسان " كما أدعوه جدٌ وقور منذ أكثر من عقد ، وقد قرر أن يستسلم لشيبه بأريحية مناضل حقق منجزاته بهدوء يحسده عليها الكثيرون .
أما أنا فامرأة خمسينية ، أبدعت مذاقي الخاص ، أعايش وحدتي وأعرف ضوابطي ، لي تاريخ في مقاومة الأهواء ، وتجنب النزوات ، أختار دربي دون أن أجنح للتقاطعات الخطرة .. فكيف حدث كل هذا ، وفي مثل هذا العمر ؟..
رغم طيش الفكرة من أساسها ، فإننا لم نصب بها كحالة انفلونزا فجائية ، لسنا مراهقين غريرين ، حدث الأمر بهدوء شديد ، وروية أشد .
سنوات خمس مرت على ذلك النهار ، وقت التقيته أول مرة في نادي المتقاعدين ، كان جالساً على كرسيه المريح يتعافى من سطوة أحزانه ، ويتصالح مع ما بقي له من حياة ، بعد أن دفن الزوجة ..
كانت التحية بيننا خالصة بحسن النوايا ، والأحاديث التي يضطرم أوارها ، لا تشير إلا إلى تفاهم عميق ، أفكارنا على اختلافها كانت تلتقي ، كي يصير تبادل الرأي نقطة التقاء وليست داعي انفصال .
أترانا كنا نخمر عجيناً ، وقد حان موعد خبيزه . كل شيء بأوان .
خطوة بطيئة بود كبير ، دون أن يحمل الخاطر هدفاً أو مسعى ، صدفة وأحياناً بموعد متعمد ، كنا نلتقي في الندوات والمعارض والحفلات الموسيقية التي تهمنا ؟ وهل من شيء آخر يمكن أن يشغل العجوزين ، نحن ؟ .
كان يعشق كل الموسيقا يقول لي " أنصتي إنه صوت الماء " ، أما أنا فلم أكن أفهم سوى النغم الشرقي يشق عليه جهلي فيحاول معي من جديد .
كنت أتحزب لفيروز ، وهو يصر على محمد عبد الوهاب ، ألقى في حضني اسطوانة قديمة من مجموعته النفيسة ، فقد وجد الحل ، دارت الاسطوانة تحت إبرة المؤشر ، " يا جارة الوادي " جعلتنا نلتقي .
كان راقياً مهذباً ، يعرف متى يحضر دون أن يكون متطفلاً .. وكيف يغيب دون أن يصبح متهماً بالجفاء .
كنا نلتقي أحياناً ، في إحدى المتنزهات القريبة ، لنمشي بخطوة رياضية تحتاجها أجسادنا التي نسيت رشاقتها في مكان ما من زوايا هذا العمر . الوقت والمسافة تجعلنا نحكي ، كثيراً ما يغلبني فضولي ، فأحاصره بالأسئلة دون أن أزعجه ، فمن يتجرأ على قلب استعاض عن وريده بأنبوب ؟
الصداقة المتينة ، انقلبت شعوراً لاهثاً ، كأنه كان يلاحقنا طوال السنوات الخمس ، حين وصل أعلن عن نفسه رسمياً " هذا أنا الحب " ، المؤكد حتماًً أننا لم نصدق ، فالزمان ليس لنا .. والمكان لن يتسع .. والظروف غير ملائمة .
رغم كل الاحتجاجات ، فقد ترك يدي في كفه أكثر مما تحتاجه التحية بمعناها .. جلس إلى جانبي تماماً .. مسافة أصابع أربعة متراصة فصلت كتفه عن كتفي .. كان يدخن .. وكنت أهز قدمي .. أشياء كثيرة كانت تحدث دون أن تحدث حقاً .. حتى صار الصمت الذي لم نتوصل إلى قطعه كارثة ذهنية .
حين قام ليودعني ، لامس بشفاهه أطراف أناملي ، وقال : أشعر بأني أحبك .. مؤكد أني أحبك .
الأيام الثلاثة التالية كنت أستعيد حرفياً تلك اللحظات ، أغمض عيناي متعمدة لأعود إلى المكان نفسه ، لجلستنا القريبة ، لمتعة الصمت ، للكلمات القليلة الدافئة ، لتلك القبلة ، ثم تحترق أصابعي .
سمعت صوت ماء تك .. تك .. تك ، تفجر الينبوع ، نسيت ترهلي ، والعروق النافرة ، والهرم . فعل بي ما فعل وهو في فلك الستين ، كيف كانت الأمور أيام مجده الثلاثيني ؟ يا لحظ زوجته ، هاأنا أحسد الموتى في قبورهم !
غفر الله لي لوثتي ، فضول أكلني ، هرعت إلى الهاتف لأسأله ، يمنعني الوقت المتأخر ، فأعود لأغمض عيناي واستعيد ذاكرتي من جديد ..
لسعت أصابعي مرات ومرات ، حتى جاء يوم الجمعة .
غص البيت بهم ، أولاداً وأحفاداً ، الجميع مع عائلاتهم ، يقفز العدد إلى الثلاثين ، ضعت في الضجيج ، بعض الأولاد الصغار في الصالة بين أفلام الرسوم المتحركة التي اشتريها خصيصاً لهم ، والبعض الآخر الأكبر قليلاً يتسلى بلعب الورق .
الآباء والأمهات امتحنوا ذكاءهم ، فاختفوا خلف باب مغلق في غرفة الضيوف . كنت سعيدة بهم ، وكنت نشيطة ، صنعت الشاي وحدي ، ووزعت بينهم ما عندي من معجنات وحلوى ..
كنت أتحرك بشباب طارئ ؟ تراها حالة مؤقتة ؟ . قال لي أصغر أحفادي ، وهو يتحسس وجهي :
- ستو .. أنت حلوة اليوم .
غرقت في الضحك ، وقرصت خده ، يا للأطفال !!
لم أفكر بالمبررات التي سأقنع بها أولادي ، ليس لأني أخاف غضبهم ، فجسور التفاهم بيننا تسمح ، لكن لسبب أبسط ، فأنا لم أجد جملة مفيدة واحدة أبدأ بها الخبر .
خمسون عاماً هي سنوات عمري ، بحثت فيها عن الحب كثيراً .. وأعترف . التقيته وجهاً لوجه مرات .. ولست أدعي . عشته ذات مرة .. والكل يعرف .
لكنه الآن و مع العزيز غسان ، شعرت بأنه حقيقي أكثر من أي شيء آخر، فقد كان نقياً دون اختلاطات أخرى ، بريئاً من معانيه الملتبسة .
رغم يقيني بأني سأخسره حبيباً لا يعوض ، ورفيقاً بلا أحقاد ، فقد رفضت أن أعبر إليه ، وقلت له ، وأنا مطرقة أنظر إلى أطراف أصابعي المحروقة : - غسان ، اعذرني ، ربما في عمر آخر ، لو ..........
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق