09 يوليو 2008

المظلة الزرقاء: من مجموعة فسيفساء امرأة

لضجيج الأفراح غفرانها؛ صخب مختلط، ضحك عال، موسقى الأعياد الاحتفالية، أعلى.. أعلى.

أغني، والقلب ينتعل حذاء الرقص..

الإضاءة الغامرة عكست السعادة، فتألقت الوجوه.. وحفاوة المناسبة العامرة بلطفها حملت البالونات إلى الأعلى.

اشتهيتُ لو ارتفعت أكثر من غيمة طليقة، لكنها بقيت أسيرة سقف البيت..

بعدد سنوات العمر شموع مشتعلة، وأنا أنفخ بكل ما في رئتي من هواء.. يطير ذيل فستاني..

يومئذ كان عيد ميلادي.. تسعة عشرة عاماً والبقية تأتي.

" عقبال المئة "

سحب يده من وراء ظهره، وناولني مظلة زرقاء.

" لكن نيسان يتفتح.. ألا تشم زهر العسل يا أبي؟ "

كان أبي يشبه أبا الهول، نادراً ما يتكلم، أو يغضب، أو يجادل.. لكنه يمتلك صدر حنان يتسع برحابة لمساوئي الصغيرة وشقاوتي التي لا تضر..

خذلتني مظلته والمفاجأة، أيقنت بأن الآباء خلقوا خصيصاً كي يخيبوا رجاءات أولادهم، تمنيت لو أهداني مجموعة أحمر شفاه بكل درجات الأحمر والوردي والعنابي، لأبادلها القبلات.

نظرة حاسمة من عينيه غامقتي الزرقة أنهت نقاشاً لم يبدأ.. بسرعة الفرح الخاطف المسروق من لحظة هرعت إليه، أخفيت في حضنه ملامح خيبتي، سمعت دقات قلبه قريبة وعميقة، مرغت خدي بلحيته البيضاء، فتركت أثراً مما يفيض. الصبا عصي على الخذلان.. نسيت ما كنت أريده وقنعت بما تيسر..

عدت دون ضغينة إلى حفلتي أغني وأرقص بحماسة.

***

الحياة لا تَعد بالربيع الدائم، والمروج الخضراء تدوسها الأقدام العابرة من ضفة إلى أخرى، نسيت حفلات الميلاد الباذخة وتلك المظلة.

" يا أبي اشتقت إليك "

من بقعة قصية في ذاكرتي تلمع عيناه غامقتا الزرقة، ومظلته الزرقاء تعدني بالأمان.

تواصل الهطل مطراً بعد مطر.. جاء شتاء وراح ربيع، بردٌ ينخر العظم، جيوب المعطف لا تكفي الأطراف المتجمدة.

كان الوقت دامس العتمة يعدني بالضياع، خضت في برك الوحل، تسللت الرطوبة إلى حذائي.. جواربي.. صعوداً حتى الرئتين.. سعلت.

أصابني طقس الحياة الرديء.. وأقعدني المرض مهدودة بشراسة الوجع وأنينه.. أهلوس بالكلام وأناديه..

أقر الأطباء بأنها الحمى..

مرمية فوق الفراش بكامل ملابسي، منذ لم يعد النوم أماناً استغنيت عن منامتي المريحة وجواربي القطنية التي تدفئ قدمي، ولم يخطر ببالي يوماً أن ارتداء " البيجاما " ترف المطمئنين، فالمتعبون يسقطون في هوة النوم دون مقدمات، والمؤرقون يستجدون غفوتهم قطافاً بين لحظة هاربة وأخرى، وأنا وابني وبيننا منبه أخرق أتابع عقربيه، أذكره بمواعيد الدواء المزعجة، سيرن لو فعلناها ونمنا.

" التزمي الدقة في مواعيد الدواء ياسيدتي، ثم الأمر لله وحده. "

نهرا دمع يحفران ملحهما فوق الخدين.. امتلأت سلة القمامة بالمناديل المبللة والشهقات والانكسارات،

" ليس في اليد حيلة "..

حاصرتني واخترقت كل الموانع .. مادام الغرق يهددني، ما نفع القشة؟.

يرن المنبه.. لا أسمعه، صملاخ الأذنين كشمع الصمم، كموت مؤجل يتربص بفلذة كبدي، وينساني!..

يهزني قليلاً، يمسح دمعة متكلسة، تلمع عيناه غامقتا الزرقة، بنظرة كرحمة المسيح، يقول لي:

- " يا ابنتي .. أهدِه مظلتك الزرقاء. "

- " لهجتك تضحكني أيها العجوز.. كيف تفيده مظلتي الزرقاء؟.

يااااااااااه يا أبي.. كل الجهود هباء، والوقت بصالح الأسوأ.. انتفخ الملف الطبي بما لا يفيد: صور الأشعة بخيالات دخانية.. أرقام التحاليل المربكة بالأحمر والأسود.. وصفات دوائية بخط أطباء يخربشون تشخيصاتهم.. يحضرونني لكل الاحتمالات.. ولاشيء يجفف عرقه، أو يخفف شحوبه، أو يزيل بقع النمش المتزايدة فوق جلده..

يااا أبي.. تطلع إليه جيداً.. إنه يرقد مثل كيس عظام.. يخبأ صلع رأسه بقبعة مضحكة .. يقذف كل ما في معدته..

هل سمعت أنينه بين الوجع والوجع؟ .. وحش يأكله و لا يرحم، والمورفين يخمده دفعة واحدة في زاوية الفراش، ينام ما تبقى منه فوق شراشف السرير المبقعة..

مظلة زرقاء يا أبي! بماذا تفيده مظلة زرقاء؟.

ليس فصلاً شتوياً يا أبي.. إن ابني مريض بلوكيميا الدم.

أخذتني سماء عينيه، تلمعان بالإصرار، تماماً كما المرة السابقة، ولا مفر من طاعته.

تداركني صمته، وهيئة يقينه، خانني لساني، وتصمغ ببقية الكلام، تحشرجت الصرخة المكبوتة مع مخاض البكاء.

خرج الزمن من مواعيده المؤجلة، لاوياً عنقي عقربيه.

صغيري ابن العاشرة ينسى أعياد ميلاده المؤجلة، ينسى حضني، وينسى كرته، وبوابة مدرسته، يركض إلى حضن جده ليمسك يده.

أسرب له ابتسامتي، فيلتقطها بين أسنانه، أعطيه المظلة الزرقاء، أُطبق أصابعه الواهنة على مقبضها المفضض.. أضغط برقة.. فيتشبث بها.

يرتفع رويداً.. رويداً.. مخلفاً وراءه رائحة عرق، وعلب أدوية، وفتات قلب.

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

يسلم قلمك ... ياغاليه

الولد النزق .. لو تذكرين

غير معرف يقول...

سيكون المكان موحشا حقا لولا مرورك الدؤوب.
سوزان