لا أدري لماذا كَثُر الحديث عن حوار الحضارات في منطقتنا، مادمنا كشعوب ودول معافين تماما من آفات التطرف الايديولوجي، والعنجهية الفكرية، والاستبداد بالرأي، ولا داعي لإيراد الأمثلة فهذا الأمر يظهر جلياً وواضحاً في كل الحالات المحتملة لاختلاف وجهات النظر، ابتداء من الحوار الحضاري الذي يُبسط على النطاق الأسري بين الأزواج ومع الأولاد، فلا يسمعه الجيران، ولا تستخدم فيه الأسلحة البيضاء من شباشب وصحون.. أو في العمل حيث لكل زميل الحق في إبداء الرأي والاعتراض بأريحية، ومن ثم القبول بالأريحية نفسها، أو في البرامج التلفزيونية الحوارية إذ تتقاذف الأطراف المتنازعة وجهات النظر على طريقة لعبة التنس (الأكابرلية)، فلا ضرورة لشد الشعر ولا لرفع الصوت، أو في الندوات الثقافية حيث يكون الحضور خليطاً من تعددية فكرية لافتة، فالسلفيون يهرعون الى سماع الفكر الليبرالي، والعكس صحيح..!الحقيقة استغرب الاشاعة التشهيرية التي تحيطنا بأننا أمة (خدوهم بالصوت لا يغلبوكم) فالحوار بيننا وبين الآخر، يتسم بالهدوء والرزانة والموضوعية والإصغاء المهذب، دون عداءات مسبقة، ولا إجابات تهكمية، ولا أحكام تكفيرية، ولا تشنيعية، ولا تعجيزية، فما اصطلح على تسميته العقل العربي يؤدي مهماته على الوجه الأكمل، من حيث تقليب الأفكار والتعمق بمسوغاتها، وشرعية التساؤل، والتشكيك، في مناخ ربيعي من الحرية، يسعى ويهدف إلى إنتاج معرفي ثقافي، وهذا ما يجعله (أي العقل ما غيره) عضواً لا يضمر من قلة الاستعمال، ولا يصاب بالعطب، فالعقل ملكة استدلال، وهو في حالة الانغلاق - وهذه حالة نادرة اسمع عنها، ولم أصدفها أبداً - يعتد بصوابه ويقينه، ولذلك مازلت في حيرة من جملة المفكر محمد أركون في محاضرته التي ألقاها أخيراً في احتفالية (التنوير ارث المستقبل) حول وضع مجتمعاتنا التي تعاني مما أسماه (طغيان الجهل المؤسس)، فمامعنى الطغيان؟ ومامعنى الجهل؟ ومامعنى مؤسس؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق