في شهر أيلول، قبل كذا وعشرين عاماً جئت الكويت، تركت خلفي مدينة وأهلا وأصدقاء.. كنت مبعثرة ومتعثرة، وعلى رغم الهواء الساخن الذي لفحني فور مغادرتي الطائرة، الا أني شعرت بالبرد، فقد صرت في المكان الآخر، شعرت بمعنى ان أكون( غريبة)، وقتها لم اكن قد سمعت بعد بكلمة (وافدة).. احتجت للعديد من السنوات، والكثير من الصبر، لتأقلم لم يأت بعد.. ونقاشات أيا كانت بدايتها الا ان نهايتها تدور حول تحديد موعد للعودة، مازال يتأجل أمام واقع متغير، وأسباب تصر على التزايد للبقاء.. كان على (مي) ان تتعايش مع فقداني للتوازن، كلما تأرجحت على حافة الحنين، وان تشد من عزيمتي كلما نازعتني «رائحة المنازل» تلك التي قال عنها أمجد ناصر» وعندما يأخذنا الحلم/ الى رائحة المنازل/ يحلو لنا ان نغامر/ وبكلمة واحدة.. وطن» . في بداية الرحيل عن المكان تزعم كمغترب (للتو) أنها مجرد فترة مؤقتة، سنة او بضع سنين لا تتجاوز نصف أصابع اليد لا أكثر..! هذا يبقيك حياً في فترة حياتك المؤقتة حتى وإن استهلك عمرك كاملاً.. وأتخيل ان من يغادر الحياة وهو غريب يتمتم مع آخر انفاسه: «لقد كانت فترة مؤقتة».. في الغربة يأخذ المكان طابعا فيزيائيا، انه مجرد حيز، ليبقى اندماجك على الأطراف ولا يصل الى المركز أبداً، اذ لا يجدر في الفترة (المؤقتة) ان نؤثث لها منزلاً في الذاكرة .هكذا يمكنك التنصل بسهولة من تهمة السذاجة، حين لا تتذكر (أو تتذكر) كيف ختمت جواز سفرك لأول مرة مغادراً، وختمته لأول مرة قادماً مهملا الارصفة القديمة والروائح العتيقة وحكايات المدرسة وصباحات الشبابيك التي تطل.. تهز كتفيك - بعد ربع قرن- من فترتك المؤقتة، كونك لست مسؤولا عن هذا الاهمال، لم يكن الأمر بيدك، لم تظن ذلك، لستَ.ولا تتوقع على الاطلاق ان سنوات التيه والبعد ستتركك على حالك، مطمئن الحنين. تمضي في عمرك مكتمل اليقين، فالصورة ستبهت ألوانك، والأبعاد ستعبث في قياساتك، البلاد كانت أطيب وأجمل، والأصدقاء لم يبقوا أصدقاء. وملامحي لم تعد سوى متاهة للأسئلة: فمن أنا.. وما قيمتي.. وماذا فقدت.. وما الذي اكتسبت.. وهل أنا غريبة وطن أو في وطن غريب، وهل حين تركت وطنا اكتسبت آخر..؟ هكذا لن يسعفك سوى كافافيس في «ايثاكا».لا تتوقع ان تقدم لك ايثاكا الثرواتلقد منحتك ايثاكا رحلة جميلة،فلولاها لما شرعت في رحلتك لم يعد لديها شيء آخر تمنحك اياه، وان وجدتها فقيرة، فايثاكا لم تخدعك،فبعد ان أضحيت حكيماً،وبعد ان تمتعت بهذه التجربة المديدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق