ميَّزته تلك الضحكة التي كان يصر عليها في كتاباته، لسعة من حس ساخر، صادمة وخادعة، تضحكك والمفترض بها أن تبكيك؛ محملاً بتلك الروح جاء كتابه الأخير «هارب من الإعراب»، وأظنه من أجود ما كتب، بدأه بإهداء وفي إلى أستاذه وصديقه سعيد تقي الدين، ومقال عنه ألقاه في احتفالية بمرور مئة عام على ميلاد سعيد ألقاه في جمعية متخرجي الجامعة الأميركية يختم المقال بقوله: «واليوم أقول لكم.. مازلت ناطراً سعيد».. وحسبي أنهما يلتقيان الآن روحان ترويان المقالب؛ سعيد بالبروتيل والشحاطة والسيجارة، وخالد القطمة خلف مكتبه في دار سعاد الصباح، وعلى بابه علقت تلك اليافطة، «أنا أكتب إذن أنا موجود». كان يعلم بأن مكانه كمدير عام دار سعاد الصباح لا يفي بطاقته وقدراته الصحافية، لذلك عاد بعد توقف طويل لغوايتها، وصار يكتب افتتاحية جريدة النهار، ومن تابعها تلك الفترة، يلمس نباهة حسه الصحفي، ومتابعته التي لم تفتر، وأدواته التي امتلكها بمهارة الحواة.. وذلك لأنه في الحقيقة لم يتوقف عن الكتابة في الشأن العام يوماً، كان يقول لي إن مقالات بأكملها، حول مواضيع الساعة، وكل ما يقلقه يكتبه ذهنياً من الحرف الأول حتى نقطة السطر الأخير قبل أن ينام.. ولكنه نادرا ما ينشر.
ومن موقعه خلف المكتب، كما عرفته أول مرة، بقي خالد شيخاً للصحافيين ومآلهم، يزورونه، ويعقدون عنده جلساتهم، ويأخذون بمشورته، ويطلبون مساعدته.. ولا يتهرب إلا من ثقلاء الظل، فهم كما يقول ناقلو عدوى، ورأس الحكمة توخّي الحذر..! وكي يبقيني بقربه كصديقة كان عليّ أن أتفهم مزاجه أولاً، والأهم أن أستوعب قفشاته الطائرة..
عام كامل مضى على رحيل خالد القطمة. قرر بهدوء أن يدير ظهره لصور معلقة على حائط مكتبه، تروي سيرة أيامه الحافلة بالحزب والسياسة ومعارك الشباب ومغامراته وأصدقائه الذين رحلوا، والذين بقوا. نبهه الطبيب ليخفف وزنه، ولاحقته زوجته نور بملاحظاتها الصحية، فكان يطلب من محمد طبق الخس، ويوفر لبعض الوقت فقط، أنفاس السيجارة.. ثم يشعلها.. فقد أتم بربع ساعة كاملة نضاله ضدها، لم يكن مريضاً مطيعاً، تماماً كما لم يكن طالباً مسالماً في الجامعة الأميركية في بيروت، فقد دخل السجن بتهمة انتمائه الحزبي للقوميين السوريين، هواه الدائم حتى آخر أيام حياته.. كان وافر الحيوية، ضاجاً بالحياة حتى وهو يقاوم الشيخوخة والمرض.. وجل ما ظهر عليه من اختلاف، ميله للصمت، ولم يكن كذلك!
لم أجرؤ على زيارة مقر دار سعاد الصباح بعد وفاته، الغياب يفزعني، إلى أن مررت قبل أسابيع، وندمت.. الموت لا يورثنا إلا الحزن الذي يستيقظ بكامله دون أن نحسب حسبته، غرفته مازالت خالية وكأنها بانتظاره.. وسمعت صوته مرحباً.. قلت له: كن سعيدا حيث أنت. بالنسبة لي سيكون من الصعب ملء مكانه، ليس لأنه مختلف فحسب، بل لأنه ما من أحد يشبهه..
ومن موقعه خلف المكتب، كما عرفته أول مرة، بقي خالد شيخاً للصحافيين ومآلهم، يزورونه، ويعقدون عنده جلساتهم، ويأخذون بمشورته، ويطلبون مساعدته.. ولا يتهرب إلا من ثقلاء الظل، فهم كما يقول ناقلو عدوى، ورأس الحكمة توخّي الحذر..! وكي يبقيني بقربه كصديقة كان عليّ أن أتفهم مزاجه أولاً، والأهم أن أستوعب قفشاته الطائرة..
عام كامل مضى على رحيل خالد القطمة. قرر بهدوء أن يدير ظهره لصور معلقة على حائط مكتبه، تروي سيرة أيامه الحافلة بالحزب والسياسة ومعارك الشباب ومغامراته وأصدقائه الذين رحلوا، والذين بقوا. نبهه الطبيب ليخفف وزنه، ولاحقته زوجته نور بملاحظاتها الصحية، فكان يطلب من محمد طبق الخس، ويوفر لبعض الوقت فقط، أنفاس السيجارة.. ثم يشعلها.. فقد أتم بربع ساعة كاملة نضاله ضدها، لم يكن مريضاً مطيعاً، تماماً كما لم يكن طالباً مسالماً في الجامعة الأميركية في بيروت، فقد دخل السجن بتهمة انتمائه الحزبي للقوميين السوريين، هواه الدائم حتى آخر أيام حياته.. كان وافر الحيوية، ضاجاً بالحياة حتى وهو يقاوم الشيخوخة والمرض.. وجل ما ظهر عليه من اختلاف، ميله للصمت، ولم يكن كذلك!
لم أجرؤ على زيارة مقر دار سعاد الصباح بعد وفاته، الغياب يفزعني، إلى أن مررت قبل أسابيع، وندمت.. الموت لا يورثنا إلا الحزن الذي يستيقظ بكامله دون أن نحسب حسبته، غرفته مازالت خالية وكأنها بانتظاره.. وسمعت صوته مرحباً.. قلت له: كن سعيدا حيث أنت. بالنسبة لي سيكون من الصعب ملء مكانه، ليس لأنه مختلف فحسب، بل لأنه ما من أحد يشبهه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق