ارتبط معنى الرومانسية بالنساء دون الرجال، وبجيل التلفزيون عن جيل الانترنت، وببعض المهن كالأدباء والشعراء والفنانين عن سواهم ممن يعملون في مهن أخرى، كالجزارين والقضاة وأصحاب الأطيان والأملاك، ولكني أجد أن هذا الربط يفتقر إلى الدقة، إذا ماأخذنا بعين الاعتبار استثناءات كثيرة تنقض الفرضية، ويجعلها نظرية غير دقيقة بالمرة، أو لنقل ليست صحيحة مائة بالمئة.
فعلى سبيل المثال تسجل الإحصاءات أن نسبة المنتحرين من الرجال أو أولئك الذين هددوا بسكين الانتحار، أو بـ(بندوله)، أكثر بكثير من النساء، اللاتي يفضلن الطرق السلمية للنحيب، ويفرطّن حتى الشهقة الاخيرة ببهاء بشرتهن الذي تسببه أورام القلب، بل نادراً ماتصاب المرأة بالجنون من فرط الحب، ولم يسجل التاريخ اسم مجنونة، فإن كان في ذلك عارا، ليحاسب التاريخ وليس انا، فيما سجل مجنون ليلى اسمه خالداً في تاريخ العشق والأدب كرجل ساح في رمال الضياع باحثا عن ليلاه او هارباُ منها. كما انتحر روميو لانه لم يتوخ الحقيقة وظن إثما أن جولييت المغمى عليها قد ماتت..
صحيح أن الرومانسية ارتبطت بجيل أفلام الستينات والسبعينات، وتحولت عن تجسيدها أفلام التسعينات المسوقة للتنطيط العفاريتي والمروجة لالفاظ ليس لها اي جذر لغوي معروف، لكنها لم تستطع ان تسقط نهائياً الحب كتهمة مستحبة عن جيل شبابنا ، شباب التسعينات، فهم مأخوذون حتى البله، بالوله المبثوث عبر الماسنجر والمنقول عبر ايميلات الانترنت، متسمرين في مكانهم، ومن مكانهم بإمكانهم التعبير عن عواطفهم من خلال مسجات الموبايلات، التي تسمح بإرسال الصوت والصورة والرموز التعبيرية وأغاني الساعة، كنشرة عاطفية تبث أولاً بأول ، دون أن يتكلف عناء الملاحقة بحذاء يتآكل نعله، و"اللطعة" لساعات غير محدودة امام المدرسة او امام الكلية. هذا لايشبه البتة الساعات التي استغرقها عبد الحليم في بث لواعجه في أذن حبيبته لبنى عبد العزيز في فيلم – الوسادة الخالية- شاغلاً خط الهاتف، ومربكاً معه قسم المحاسبة في شركة الاتصالات ليحصلوا منه فاتورة لن يستطيع دفعها.. الفرق بين الحبين : فاتورة الهاتف والحس العملي، .!
اما الحب كلغة مشاعر صاعقة ، لها أول ولها آخر، فهو نفسه لم يخفت وهجه، وإن تغيرت امكانياته وتعددت مستوياته، بالعكس هذه الأيام ليس من الضرورة افتعال مشاعر الحب كي يتحدث شاب إلى فتاة، فمن الطبيعي علاقات الزمالة والصداقة والاخوة والمعرفة والتحية من بعيد لبعيد، ولن يكون هناك خطر على الشرف الرفيع إلا برضى الطرفين..
الأمر نفسه يقاس على منطقة الحب التي يسطرها ادباء الحداثة، فالشاعر الغارق في الحب، وحتى يشفى سيظل يكتب عن حبيبته، مغمساً خبزه في زيتها، مشعلاً ليلها بالأمنيات، متقرباً ،متزلفاً ، مقارباً مباعداً، لكنه يحب .. وربما من دواعي حسن الحظ تخففهم من الفخامة اللغوية التي جعلت لأسماء الحب وصفاته مايتعدى الخمسين لفظاً،وجعلتنا "نحتاس" في تقليب القواميس، فمن المحبة والوله والصبابة والشغف والكلف والتتيم والعشق وغيرها...إلى تساؤل واضح: بتحبيني أم لا ..تلك هي المسألة.!
مختصرين على أحمد شوقي طريقته طويلة الانفاس :
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فسلام فموعد فلقاء
ان اختصار طريق العشاق وطرقهم حاجة ضرورية تناسب عصر السرعة، والحياة التي لايمكن أن تنتظر، لكنها لم تبخل في المقابل فقدمت بدائل مفيدة ، خاصة أن أي روح ( مش اي روح اوي) تحتاج لمنفذ تهرب منه من فجاجة الواقع، وقهر اليومي، لترتمي ولو قليلاً في حضن الحلم، والرومانسية بتحولاتها التي تنعش الفؤاد على حد تعبير شاعر مات بحسرتها.
ومازال بإمكاننا حال رغبنا ، ابتكار رومانسيتنا الخاصة، التي تتلاءم مع ظروفنا الخاصة، كأن نسعد صباحاتنا الراكضة بأغنية فيروزية، أو نتبادل الابتسامات المشرقة، أو نستمر في الاعتقاد أن الحظ الجيد من نصيبنا، أو نسامح لأننا جميعنا مخطئون، أو نربت على الجرح حتى يشفى، أو نعثر لمرة واحدة أو أكثر من مرة إن تعذر الرقم الأول، على من يشاركنا فرشاة الاسنان، ووسادة الاحلام، والرغبة في اشعال شمعة رومانسية لاتنطفئ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق