انتظرتك طويلاً ولا وقت إلا للوداع
ظلمةٌ دامسةٌ لأحدِ احتمالين
إما أنهُ ليلٌ مطبقٌ لا يعرفُ الرحمةَ
أو لأني أغمضتُ جفنَّي بضرواةٍ
كنتُ أهِمُّ بمعرفتِكَ حين تخلى عني العالمُ
لأجدَ نفسي وحيدةً و معَكَ
وجهاً لوجهٍ تقابلنا
اتسعَ الأفقُ بيننا كالمستحيلِ بعينِهِ
وانقلبَ صبري صفحةً بيضاء َلجوجٌ تنتظرُ حِبرَ كلماتِكَ
:الرغبةُ كلَ الأشياءِ التي تخفي بذاءتَها بزيفِ أهميتِها
الفصاحةُ العرجاءُ
التمتمةُ المفهومةُ
الهمهمةُ المدعيةُ
والنقاشُ بالأيدي
والساحرُ الذي من فرطِ سذاجتِهِ لايسحَرُ أحدا
والموسيقا المتهمةُ بالشروعِ في قتلِنا حُزناً
من الجرحِ إلى الجرحِ
صمتَ الكونُ
دارتْ طواحينُ الغوايةِ
كان طعمُ التفاحةِ تحتَ الضرسِ الشرهِ
مزاً .. حامضاً ، ولذيذاً لايقاوم
كانت القضمةُ الأولى كافيةً
لينتفضَ الجوعُ وحشاً مفترساً لا يعرفُ الشبعَ
حين ظهرتْ الحقيقةُ عاريةً
احمرَ وجهانا خجلاً
وبدا الصدقُ أقصرَ الطرقِ بين قلبين
كانت شهقةُ الولادةِ لعمرٍ سيكتبُني من جديدٍ
خفقةً .. خفقتين
كطبولٍ افريقية
تعلنُ انتصارَها المجنونِ للحياةِ
انحنيت لألملمَ كلَ ما سقطَ مني
عنقي والقلادةُ
أقنعتي والكفنُ
رشدي وأنفاسُ روحي المقتضبةُ
ضريرةٌ تلكَ اليدُُ لا حولَ لها ولا قوةً
ومذعورةٌ حتى النفسِ الأخيرِ قبل الموتِ
تتوجسُ مهابةً
تندفعُ لهفةً تتلمسُ الطريق
يا للأصابعِ المشتعلةِ شوقاً في تحسسِها المعجونِ بالفضولِ
وشغفِها لكشفِ ما استعصى على الفهمِ الخجولِ
كانت تجوسُ في خفايا الحبِ
تمارسُ لذتَها الأولى
حين اكتشفتْ اللحظةُ الحاسمةُ
ذابتْ قاراتِ الجليدِ القطبيةِ
فاضَ التنورُ
اضطربتْ الحواسُ لذهولِ الاكتشافِ
تجلى الحبُ ناعماً كجدرانِ الوهمِ الزلقةِ
حنوناً كقطرةِ ندى
مفطوراً على الأوجاعِ
تبادلنا الألمَ المقسومِ على اثنين
وما تذكرناه من قاموسِ الشتائمِ
اتهمتَني بأني بطيئةٌ كسلحفاةٍ تختفي تحت صندوقِها الصدَّفي
واتهمتُك بأنكَ مجردَ أرنبٍ مذعورٍ هاربٍ
سوزان خواتمي
تمهيد
في الحب ، نحن محكومون ، عادةً ، بأن نعيش " داخل التجربة " فننفعل للبعد ، و القرب ، و الرضا ،و الخصام ... إلخ ..
لكن من منا يملك " ترف " إضاءة هذه التجربة ، كما لو كان خارجها ؟ لكن من منا يحتاج هذا الانفصال عن التجربة ؟ بل هل من السهل تحقيق ذلك ، لو أراد ؟
قد يرغب أحدنا بذلك إذا تعرض لضغط تجربته في الحب ، و ضغط مشاعره ، إلى حد أنه يريد فهم ما الذي يحدث له ؟
ما الذي يجعل هذه التجربة استثنائية إلى درجة سلْب راحته ، و حريته التي يعتد بها ، و يحد من فاعليته التي يجدها من ذاته ، ليكون " منفعلاً " في علاقته مع ( آخر ) .الحب ، أولاً و آخراً ، هو علاقة مع آخر ، و هذا الآخر – دون غيره – يملك حق امتلاك مفاتيحنا ، و أسرارنا ، و أقبيتنا ، و غرفنا الخلفية ، و زوايانا المعتمة ..
.يملك ذلك باسم الحب
و فيما نحن ذاهلون في هذه التجربة قد تتاح لأحدنا فرصة مترفة بإضاءتها ، فهو " داخلها " و " خارجها " في آن معاً . يضئ الانفعالات الصافية التي يولدها هذا الحب .. فماذا قد يجد ؟
/ 1 /
هذا – باختصار – هو ما فعلته " الأنثى " في نص " انتظرتك طويلاً ، و لا وقت للوداع " لسوزان خواتمي ، و هي تعبر عن ذلك
بقولها " كانت تجوس في خفايا الحب "
تقول الأنثى ، إن الظلام الذي أحاط بها يعود إلى أحد أمرين : إما وقوعه ، فعلياً ، خارجها ، أو إنه حدث بإرادتها عندما أغمضت جفنيها
و لسنا نعرف أيهما الأكثر سطوة في هذه الصورة : هل هو العالم الذي يختفي عنا بليل مطبق ، أم هي الذات التي تملك أن تخفي العالم بمجرد إغماض الجفنين ؟
يا لهذه العلاقة الغربية بين الذات و العالم : يمكن لأحدهما ، ببساطة ، أن يوقع الآخر في مطبّ العزلة عنه ، فيبقى كل طرف وحده ، دون أن يتمكن حتى من معرفة ما حدث ؟
لكن النص يقرر أي الحالتين هي التي حدثت :
( كنت أهم بمعرفتك ، حين تخلى عني العالم ، لأجد نفسي وحيدة ، و معك ) .
فالأنثى تأكد لها أن العالم هو الذي أعتم ، و الظلام مرده إلى هذا لا إلى " فعل " منها بالإغماض ، و قد حدث هذا بالضبط ، في الوقت الذي همت ، فيه ، بمعرفة الحبيب ( كنت أهم بمعرفتك حين تخلى عني العالم ) ..
و النتيجة كانت عزلتها عن العالم ، لكن لا لتكون " منعزلة " بل ليحدث تماماً ما أرادته : أن تكون معه
( وحيدة ، و معك ) !!
بداية معرفة الحبيب تكون بالعزلة عن العالم – هذا ما قاله النص حتى الآن ـ و العزلة قد تأتي لأحد السببين المذكورين أعلاه : إما أن يغمض المرء عينيه عن العالم ، فيحذفه ( و هي حالة إيجابية ) ، أو أن " يتخلى " عنه العالم ،
فيجد نفسه وحيداً – نسبة إلى العالم – لكن مع حبيبه – نسبة إلى نفسه – ( و هي حالة سلبية في جوهرها ) لكن الأمرين يقودان إلى النتيجة نفسها .هذه نقطة بداية : حذف العالم ، و البقاء معه ، وجهاً لوجه .. ثم ماذا ؟
/ 2 /
ذاتها تنتظر الأنثى الخطوة الأولى من الحبيب، صامتة ، فيما هو صامت ، أيضاً ، و بين صمتها ، و صمته يتسع بينهما الأفق – حسب تعبيرها ، و هو تعبير لم يعجبني – و صبرت هي لتسمع منه ، حتى تحول صبرها إلى صفحة بيضاء تنتظر أن يحبرها بكلماته .الذي حدث هنا أن ( الكشف ) بدأ .. رغم الصمت المتبادل .. و هذا الكشف بدأ من " الرغبة " التي " ابتلعت كل الأشياء التي تخفي بذاءاتها بزيف أهميتها "
و هذه جملة مغرقة في الفلسفة تحرض على طرح السؤال التالي :من الذي يسبغ الأهمية على الأشياء ؟ و هل هو متواطئ معها بحيث يمكن لها بعد اكتسابها الأهمية أن " تخفي بذاءاتها " إذ من الواضح في النص أن " البذاءة " هي صفة حقيقية في الأشياء ، بينما " الأهمية " صفة مكتسبة مزيفة .
تعالوا نر هذه الأشياء أولاً :
- الفصاحة العرجاء .- التمتمة المفهومة .- الهمهمة المدعية .- النقاش بالأيدي .- الساحر الذي من فرط سذاجته لا يسحر أحداً .- الموسيقا المتهمة بالشروع في قتلنا حزناً من الجرح إلى الجرح .
هنا يخطر لي :
هل هذه صفات الأشياء في حالتها الصّرف ، أي أثناء امتلاكها صفة البذاءة ، قبل إسباغ صفة الأهمية ؟ أم هي كذلك في حالتها النهائية ؟( الفصاحة – التمتمة – الهمهمة – النقاش – الساحر – الموسيقا ) كل هذه كلمات مجردة لها " أهميتها " فمن لا يرى الفصاحة – التي هي الإيضاح – مهمة ؟
و من يمكنه اتهام الهمهمة ، و التمتمة ، و النقاش ، و الموسيقا ، و السحر بعدم الأهمية ، بغض النظر عن جوهر هذه الأهمية ؟
لكن مكمن البذاءة في الفصاحة أنها عرجاء ، و في التمتمة أنها مفهومة ، و في الهمهمة أنها مدعية ، و في النقاش أنه بالأيدي ، و في الساحر أنه لا معنى له ، و في الموسيقا أنها " متهمة " .
و على هذا فالأشياء خادعتنا بأهميتها الزائفة ، بإخفاء بذاءتها . لكن هل تريد الأنثى أن توضح لنا " فلسفتها " حول هذا كله ؟ النص لا يريد هذا ، كل الأمر أن النص استعمل طريقة " ملتوية " لتجد الأنثى لنفسها ، و لحبيبها عذراً في الصمت ، الذي لم تكن تتوقعه بدلالة انتظارها لكلماته أن تحبر صفحتها ،
فالذي يجمع الأشياء أعلاه أنها كلها " وسائل تواصل " شائعة :
فصاحة ، تمتمة ، همهمة ، نقاش ، سحر ، موسيقا .. ( أوضح فقط أنني استندت في اعتبار السحر وصيلة تواصل على أساس معنى السحر الذي هو إظهار الباطل أو الزائف بصورة الحق ، و هذا لا يعدو كونه خداعاً بصرياً ، فهو وسيلة تواصل على بصرية هذا الأساس ، فيما الوسائل الأخرى سمعية ) .
و هكذا أرادت الأنثى إقناعنا – و ربما إقناع نفسها – أنه لا مشكلة لديها مع الصمت ، و من الملاحظ أن خلفيتها هنا هي " إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون " و أخذت تلتمس الأسباب لذلك بذم اللغة ، و تدافع عن صمته باتهام النطق ،
و هذه نقطة سلبية أخرى تضاف إلى عدم إلغائها العالم إرادياً .و بصمتهما( صمتَ الكون ) - كما تنهي المقطع – فاكتمل إلغاء العالم على مرحلتين ، بصرية ( ظلمة ) و سمعية ( صمت الكون ) ..
و كل إلغاء جديد يقتضي إغراقاً أكثر في " الكشف " .و كانت العلاقة تزداد " حسية " ، فيما يظهر حتى الآن ، ففي حين أدى الإلغاء الأول إلى تضخم الرغبة حتى درجة ابتلاع الأشياء ، انتهى الإلغاء الثاني إلى أن " دارت طواحين الرغبة " .
/ 3 /
بعد إلغاء حاستين هما البصر و السمع ، و هما الحاستان التان تنتقلان بوسيط خارجي ( الضوء ، و الهواء )
تبقى ثلاثة حواس لا تنتقل بوسيط ، بل هي حواس " تماسية " مع الآخر ، و هذا إيغال أكثر في الحسية التي ذكرت ، و إيغال في الآخر / الحبيب ،
و لاحظ كيف ظهرت حاسة الذوق بعد ذلك مباشرة " كان طعم التفاحة..." أضف إلى ذلك أن التفاحة تحيل بسهولة إلى " تفاحة الغواية " التي أظهرت الذكر و الأنثى أحدهما للآخر : أظهرت " جوعهما " و " حقيقتهما " .
فهل بعد هذا كله : أي بعد إلغاء " حواس البعد " و إبقاء حواس التماس ، ثم بعد ظهور الرغبة ، و الغواية و الجوع – هل بعد هذا كله يحتاج المرء إلى لغة أكثر من أن يكون صادقاً مع نفسه ؟ و هل ثمة لغة أكثر إفصاحاً ، في هذه الحال ، من " لغة الجسد " .المقدمات السابقة أوصلت إلى هذه النتيجة الطبيعية ، بما فيها من إلغاء رقابة العالم ، و اللغات المفتعلة ، بحيث لم يبق سوى ذكر و أنثى ، و جسداهما .. و " لحظة الكشف " هذه كانت " شهقة الولادة لعمر سيكتبني من جديد " ..
فكان هذا اكتشافاً للحياة ، و كان انتصاراً للحياة .كان انتصاراً إذا ، فما هي خسائره ؟ - العنق و القلادة ؟- أقنعة و كفن ؟- رشدي و أنفاس روحي المقتضبة ؟و هل هذه خسائر ؟ العنق الذي قد يحمل نير المفاهيم ؟ أو يرمز لمكان القتل ؟ القلادة التي قد تكون طوق المر الذي يربطه بالعالم ؟ الأقنعة ؟ الكفن ( خصوصاً في حالة انتصار الحياة )؟ أن يخسر المرء هذه الأشياء فهذا مكسب جديد يضاف إلى المكسب الأساس الذي هو الحب ،و هنا يستمر الحب اندفاعاً حسياً بيد ضريرة على جسد الآخر ، و رغم خوفها و توجسها ، و تهيبها : تظل مندفعة في ما هي فيه بأصابع مشتعلة ، معجونة الشوق بفضول كشف الجسد . و شغفها هو محركها في هذا الكشف ..
حتى نهاية معرفة الآخر الذي هو الحبيب حين ( فاض التنور ، و اضطربت الحواس لذهول الاكتشاف ) .
/4/
مغامرة الكشف تلك انتهت إلى اتهامات متبادلة بين الطرفين بالتقصير . فهل هذه الخاتمة منطقية مع ما حدث ؟إلغاء العالم ، و إلغاء اللغة التواصلية المعتادة بكل أثقالها .. ثم إبقاء لغة الحس و التماس و التلاصق .. ثم الانتقال المنطقي – تحت هذا المعنى – إلى لغة الجسد ، و الدخول في حالة حب / كشف منسجمة تماماً لنفاجأ ، بعد هذا كله ، بألم مقسوم على اثنين ، و قاموس شتائم ، و اتهامات متبادلة تشير إلى سرعة ما حدث ؟ و باختصار إلى عدم رضا الأنثى ، و كل
واحد يحمل المسؤولية للآخر ؟ أتساءل مرة أخرى هل هذه الخاتمة منطقية ، و منسجمة مع ما سبق ؟
التفات النص
المفاجأة هنا ، في هذا المكان : أن الخاتمة منطقية ، و منسجمة مع .... " العنوان " !!! بل يخيل إليك أن النص ما هو إلا توسيع لمفهوم العنوان ، الذي هو أساس الأمر كله :هذه أنثى انتظرت ، طويلاً ، ما يكاد يأتي إلا ليذهب . ما يكاد يمر بها إلا ليودعها . لكن الأنثى – بما هي أنثى – لا تتفهم هذا ، و لا تفهم لم ينبغي أن يكون الأمر كذلك ؟ ذلك أن الأنثى مناط إقامة و استقرار ، و الرجل مناط سفر .. الأنثى هي الأرض ، و الرجل هو الغيم : ففي حين الأرض باقية ( بطيئة كسلحفاة ..) يكون الغيم إما ذاهباً ، أو ذاهلاً ، أو ذائباً ( مجرد أرنب مذعور هارب ) !فالاتهامات ليست مجرد حديث عن نهاية فاشلة لعملية جنسية ، لكنها خلاف بين متغايرين : بين الثبات و الحركة ، بين الاستقرار و القلقلة ، بين الإقامة و السفر . بين قطبي الحياة .و النص يقول هذا بمجرد " الالتفات " الحاد من حالة انسجام كانت ماضية باتساق تام – الالتفات إلى حالة عدم انسجام ، و هذا الالتفات ، بربطه مع العنوان ، المغاير للنص كذلك ، و المتسق مع الخاتمة ، هذا الالتفات و الربط يظهر لنا المعنى الأخير و المستوى الأعلى من النص لينقلنا مما كنا فيه إلى شئ آخر .و الآن ، و الآن فقط ، يحق لنا استعادة سلبية الأنثى التي ظهرت من قبل في موضعين من النص .لقد كانت الأنثى عاشقة حقاً ، و هي قامت بعملية الكشف كاملة ، و استنفرت كل ما يمكن لفهم عشقها ، و أسست من البداية تأسيساً متصلاً لكل هذا ، لكن هذا كله لا يمكن أن يكون كما ينبغي ما دام بعيداً عن إرادة الثبات لديها ، فهي تدرك أن سلبيتها قسرية لا يد لها فيها ، و لكن جل ما تطلبه ألا يكون الرجل مجرد أرنب مذعور هارب
قراءة للشاعر عدنان المقداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق