09 نوفمبر 2010

جدار ونافذة ( من مجموعة فسيفساء امرأة)

لا أحد يعرف.. لكن يبدو أن له نظراً مقلوباً كالحشرات، وإلا فلماذا يرتطم بالزوايا الحادة، متعامياً عن السطح الذي يستدير ببساطة برتقالة؟.



السيد فؤاد يصر على أنه موهوب بالوراثة، كان أبوه أحد أولئك القلة المشهورين في المدينة الصغيرة.


صورة الطفل والعجوز التي تتصدر قاعة مجلس البلدية، كانت آخر أعماله قبل أن يموت. بتلك الثقة المتوارثة أباً عن جد، حمل لوحته الخاصة، وقال بصوت جهوري مشيراً إليها باعتزاز:


" لقطة مميزة لجدار إسمنتي، عينك الخبيرة ستقدر قيمتها "


صاحب المعرض قلب شفته، وهتف ممتعضاً:


" مسيو فؤاد.. من غيرك يضيف إلى جدرانه الأربعة آخر خامساً؟ "


تضاءلت قامته، وانخفض صوته:


" اعرضها في صالتك ، وستغير رأيك. "


" كما ترى بنفسك .. المكان ضيق .. آسف."


لكنه رجل عنيد بضراوة مقاتل، لوحته النادرة بإطارها الخشبي الداكن تصدرت صالة بيته، منحها إنارة مناسبة: ضوء نهاري غامر، وانعكاس كهربائي خافت أثناء الليل.


هرت زوجته بضحكة مكتومة، و أقسمت أنها لا ترى أمامها إلا مسماراً صدئاً، كما وضحت له رغبتها باقتناء نافذة تطير منها، و قبل أن يفلح في تصويب وجهة نظرها، كانت قد انفلتت هاربة مع صديقه تاجر التحف الأبله لتتركه وحيداً مع هرائه.


هكذا وجد السيد فؤاد نفسه مهزوماً دون منطق، رغم أنه يرى بوضوح مذهل عبر عدسة التصوير، لكن موهبته وحدها لم تكفه للنجاح، كأن لعنة ما تلاحقه، كان يعاندها، فيحتد ويقسو.. وتعانده، فتتعنت وتفيض..


لم ينل من حياته ما أراده منها.


غفا بعضاً مريرة من السنين، صار في الخمسين، مجرد عضو مغمور في جمعية المصورين، يعمل في مجلة غير معروفة تجعله يدور بين المجاذيب.. والفقراء.. وقتلى الحوادث ليلتقط ظلالهم، خبراً أسود مطبوعاً فوق الصفحات.


***


صباح شتائي بارد، لكنه مرغم على الخروج في مهمة كُلف بها للبحث عن لقطات خاصة تناسب أفراح العيد.


نهض فؤاد من فراشه على رنين منبه أرقه طوال الليل بصوته الرتيب. كان مثقلاً بنعاسه. نزع رأسه عن الوسادة وتركه تحت رذاذ الماء البارد دون أن يشعر بالتحسن، رئتاه اللتان قرقرتا داخل صدره، أطلقتا بلغماً رغوياً، عالجهما بكأس بابونج ساخن ارتشفه على دفعات، وهو ينفخ أبخرته المتصاعدة .


أكمل استعداداته للخروج بسرعة فوضوي، صافقاً الباب خلفه، تاركاً المومس التي ضمته إلى قائمة زبائنها، واجمة ونصف عارية داخل فراشه البارد.


لم تكن تلك المرأة الأربعينية بضحكتها المقززة، وثناياها المترهلة يقين قلبه المتطلب، إلا أنه لجأ إليها كحبة مسكّنة، فكانت المسكينة التي لم يُرِها الحب إلا وجهه الأسود، تحتمل حدة مزاجه، حين يُفرغ شحنات غضبه شاتماً أباها وجدها، وكل من كان له فضل وجودها أمامه.


بدا فؤاد عابساً كعادته.. مقطباً كما تفرض عليه ملامح وجهه، كأنه مصاب بمغص كلوي مزمن. راح يخب في الشارع شبه الخالي، وقد عقد كفيه خلف ظهره المحني بعض الشيء يحدق بوجوه المارة العابرين به، مما جعلهم يديرون له ظهورهم متأففين من هذيانه الصباحي.


وأي فرق!.. لم تعد الصور تعني له إلا خيبات متصلة يحتمل عناءها.. فمازال ابن عمه الذي يملك حقلاً صغيراً يسخر من محاولاته اليائسة في التقاط صورة لبراعم تتفتح، كاد يفقد صوابه.. لم يهتد إلى اللحظة المثالية، كانت تلك الأزهار الصغيرة تراوغه، فتنغلق على نفسها معلنة موتها السريع، اللقطات الأخرى الأوفر حظاً لم تحتمل الرعب داخل عتمة آلة التصوير، كل ما حصل عليه مجرد صور صفراء وذابلة لحقل أجرد.


تجمدت أطرافه دون فائدة، مازال يبحث عن مصادفات لطيفة لا تأتي، بلغم كريه فوق جوزة الحلق يكتم البهجة، بصقه لاعناً الظروف التي تضطره إلى التسكع في الشوارع ككلب ضال، لكن صبية مندفعة من باب جانبي اصطدمت به وألجمت لسانه.


Pardon" " رطنت بالأجنبية، ومنحته شفتين عريضتين بابتسامة عجلة لها فتنة وميض.


قبل أن ينتزع عينيه عن تفاصيلها، كانت قد اختفت داخل سيارة أجرة أقلعت بها سريعاً.


" مهرة مستوردة.. لو أنها منحته وقتاً ": قال لنفسه متذكراً زوجته.


فؤاد الذي التقى زوجته السابقة وجهاً لعدسة أثناء حفل كبير لاختيار ملكة الجمال، ذُهل بالخال المتعجرف فوق شفتها العليا، صار هدفاً لمجموعة صوره اللاحقة عنها، أما هي فقد فتنتها إضاءة الفلاش، فقررت أن تخون نفسها وتكتفي به.


بعد انقضاء الأيام الأولى السعيدة من زواجهما القصير، واظب على إسماعها سر عبقريته:


" الصور التي ألتقطها لك أجمل منكِ، إنها تخفي شحوب وجهك، وثنايا عنقك "..


كان مخدوعاً بضلالاته، لا فضل لموهبته عليها، فهي جميلة بقدر إلهي، جعل من قوامها الممشوق منافساً خطيراً لعينيها الزمرديتين، ومرادفاً لائقاً لشفتيها الدسمتين..


عثر على شهقات حبها مكتومة في مكان ما من تلافيف ذاكرته، تلمظ بها.


لماذا خنقها بقسوته وأنانيته رغم أنه.. كان يحبها!؟.


من يدري.. ربما بقيت معه لو كان أقل تميزاً وأكثر كذباًً! فالنساء كائنات غريبة بأهواء معوجة!.


ارتطمت الكاميرا بجنبه الأيسر، فأوجعته، تحسر على الفرص الضائعة ، وتنهد بيأس .


أخيراً قرر فؤاد أن يحول مساره، انحرف إلى الشوارع الفرعية، لينحدر منها إلى الساحة العامة؛ حيث مركز المدينة الصاخب.


أعداد غفيرة من الناس، اكتظت بهم الأرصفة في ممارسة جماعية لعيد لم ينس أحداً . كانوا جميعاً يتبخترون بخيلاء يليق بالمواسم السعيدة، فيما طوت الريح إبرها الواخزة، لتسمح بانفلات نسائم عليلة أنعشته.. إنها طقوس العيد. يشق طريقه في الزحام، وينخرط في الخليط البشري، وجوه كثيرة تتحداه.


عدسته الانتهازية لاتوفر أحداً، تلتقط صوراً عديدة لبسطاء ومغرورين.. لعجائز مطمئنين، وشبان حالمين.. ولأطفال استنفدت صبرهم بالوقوف أمامها جامدين.


نفدت خامة أفلامه، فاستدار على عقبيه عائداً من حيث أتى، يتحسس جيبه المليء بالمفاجآت، هواء منعش يتمدد داخل رئتيه، تغشاه تلك الرؤيا، فلا يمانعها: ابتسامة خاطفة لوجه غائب وعينين تبحثان عن نافذة.


ليست هناك تعليقات: