تحمل قلوب أهالي المغيبات والمغيبين قسراً جرحاً غائراً، يعيشون عند طرف الهاوية بين الأمل واليأس… بين الوهم والحقيقة… يقفون عند منطقة الانتظار العبثي. قد يعود، قد يدق الباب، قد يصلنا عنه خبراً، وكلما أشرقت شمس يوم جديد حسبوه في روزنامة الغياب.
مرت ست سنوات على محاولات سمر.ع المستحيلة واليائسة في البحث، خلالها كانت ومازالت موافقة على دفع أي مبلغ لأية جهة تستطيع مدها بمعلومة عن أخ لم يشهد ولادة زوجته، ولا يعرف شيئاً عن ابنه الذي سيدخل المدرسة قريباً. تقول سمر: “كأنه فص ملح وذاب”.
فريزة. ج امرأة في الخمسينات من عمرها مازالت ومنذ الشهور الأولى من الثورة تنتظر خبراً يثلج قلبها، تتواصل مع المُفرج عنهم لتسألهم عن زوجها إن كان حياً يرزق، ولكن ما من أحد ينفي أو يؤكد مصيره.
أما علي.م فقد عرف بوفاة أبيه المعتقل صدفة من السجل المدني عندما أراد استكمال اجراءات بيع بيت العائلة، حيث أرسل النظام إلى دوائر السجلات المدنية قوائم بأسماء ضحايا قضوا تحت التعذيب دون إخبار ذويهم.
القبضة الحديدية لحكم الديكتاتور
أظهرت صور قيصر التي سربها مصور عسكري منشق مجهول الهوية جثثاً مشوهة داخل السجون والمعتقلات وأقبية التعذيب، لتضيف فاجعة جديدة إلى فجائع كثيرة مازال الشعب السوري يعيشها منذ تسعة سنوات، فالأهالي الملهوفين لمعرفة مصير أبنائهم وأزواجهم وأقربائهم اضطروا للبحث والتدقيق في ملامح وتفاصيل الجثامين في محاولة لمعرفة مصير المغيبات والمغيبين اللواتي/اللذين فقدوا أثرهم منذ سنوات.
مارس النظام جريمة الاختفاء القسري ومازال يمارسها كتكتيك ممنهج لإرهاب أي شكل من أشكال المعارضة، ففي أحداث الاخوان المسلمين في ثمانينات القرن الماضي تم اعتقال المئات من الشابات والشبان، وصار من المتعذر معرفة مصيرهن/م أو مكان احتجازهن/م، وقتها توسلت أم من معارفنا اعتقل ابنها الشاب الصغير الذي لا يتجاوز السابعة عشر من عمره لأحد أقربائها من الضباط الكبار والمتنفذين لتعرف مصيره، فكان جوابه مباشراً وصادقاً: لو كان ابني لما تجرأت على السؤال عنه!.
إن الآلية الوحشية التي أسس لها حكم حافظ الأسد في تلك الفترة استمرت مع وريثه بشار، وجعلت سوريا بأكملها تحت القبضة الحديدية، حيث اتسعت صلاحيات الأجهزة الأمنية والعسكرية وفروع المخابرات لتصبح الركيزة الأساس لاستمرار حكم دكتاتوري بكامل معاييره، إذ يحق لهم كمؤسسات ارهابية ممارسة الاعتقالات التعسفية وتجاوز كل الحقوق الدستورية والقانونية للمواطن، الأمر الذي يجعل أهالي المفقودات والمفقودين يخشون اللجوء إلى المنظمات الحقوقية والدولية، فالانتقام حاضر وشديد، وقد يتعدى المعتقل نفسه ليطال العائلة بأكملها بمن فيهم النساء والأطفال. الأسلوب الذي يعتمده النظام السوري كوسيلة ضغط وتخويف، تُصّعب مهمة توثيق شهادات الناجيات والناجين وعائلات الضحايا التي يعمل عليها النشطاء ومراكز حقوق الإنسان ولجان التحقيق الدولية والمنظات الحقوقية.
احصائيات ومؤشرات
يعرف الاختفاء القسري بأنه “القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغماً عنهم أو حرمانهم من حريتهم على أي نحو آخر على أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتها أو على أيدي مجموعة منظمة، أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو برضاها أو بقبولها، ثم رفض الكشف عن مصير الأشخاص المعنيين أو عن أماكن وجودهم أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، مما يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون“.
يحظر القانون الدولي استخدام الإخفاء القسري تحت أي ظرف من الظروف، وفق المادة السابعة من نظام روما الأساسي، ويصفها بجريمة ضد الإنسانية، ورغم ذلك فهناك ما نسبته 5 أشخاص من كل 1000 مواطن سوري جرى اخفائهم قسرياً.
وفق بيانات تقرير الشبكة السورية لحقوق الانسان منذ بداية الثورة وحتى آب 2019، هناك 98279 شخصاً مازالوا قيد الاختفاء القسري على يد الأطراف الرئيسة الفاعلة في سوريا، يتحمل النظام مسؤوليته عن 83574 حالة أي ما يعادل 85،4%.
إن التركيز على ضحايا الاختفاء القسري لدى أجهزة النظام السوري لا يعود إلى عددهم الأكبر فقط، بل لأن الاتفاقية الدولية للحماية تضع الدولة والأطراف الموالية كمرتكب وحيد لهذه الجريمة، فيما تُعرف الجرائم التي ترتبكها المنظمات الارهابية والفصائل المسلحة خارج إطار الدولة بتعريفات خاصة بها.
بانتظار اليوم العالمي لمحاسبة المجرمين !
يعود 30 آب وهو اليوم العالمي للمختفين قسرًا وسط غياب أي تقدم ملموس في ملف المختفيات/ين والمعتقلات/ين السوريات/ين من جهة، وتكتم أطراف النزاع وعدم اعترافهم بوجود مختفيات/ين لديهم من جهة ثانية، فيما يستمر ارتفاع معدل ارتكاب جريمة الإخفاء القسري رغم اعتماد مجلس الأمن الدولي القرار 2474 الذي قدمت الكويت مشروعه حول المفقودين نتيجة النزاعات المسلحة العام الماضي 2019، واستماع المجلس لشهادتي الناشطتين “آمنة الخولاني” و”هالة الغاوي” اللتين تحدثتا باسم أسر المفقودات/ين والمختفيات/ين قسريًا، إلا أن الملف مازال ورقة تفاوضية قابلة للأخذ والرد، في الوقت الذي صار من الواضح أنه لا يمكن الوصول إلى نتيجة إلا بقرار أممي نافذ بإطلاق سراح جميع المعتقلات/ين، وتوضيح مصير المختفيات/ين، ومحاسبة المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم.
*استند المقال في معلوماته على احصائيات الشبكة السورية لحقوق الانسان، وكتاب “الاختفاء القسري في سوريا” الصادر عن مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية TJCG
موقع الحركة السياسية النسوية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق