أستطيع لوحدي أن أقدر المتعة التي حصلت عليها من قراءة تعتمد أحياناً على الصدفة وحدها
سوزان خواتمي في حوار مع صحيفة الاضواء السودانية
أجرى الحوار: القاص السوداني عصام أبو القاسم
سأبدأ بسؤال تقليدي .. سوزان ما الذي دلك الي القصة تحديدا .. ومتي حدث ذلك، وكيف تستدعين صورته الان ؟
لا أظنني استدليت على القصة وحدي.. فقد بدأت تجربتي مع الكتابة بتهويمات تشبه الشعر كانت عبارة عن وجدانيات، أو لنقل نوع من أنواع محادثة الذات..
الدفتر كان رفيق غربتي، حيث تركت بلدي وعائلتي، والتحقت بزوجي دون أن أعي تماماً ما يمكن أن يفرضه البعد من إشكالات نفسية.
كنت ما أزال شابة صغيرة، أخزن بكائي لأسكبه فوق سطور دفتري..
إحساسي بالاقتلاع من تربتي أرخى علي عباءته، في المساءات التي أتغلب عليها بدمع أذرفه على الورق، كان حبوي الأول مع الكتابة..
قبل فوزي بجائزة سعاد الصباح عن " رسالة إلى شهيد " لم أكن على ثقة بأني أملك ما يمكن أن يلفت الانتباه .. حدث هذا عام 1993.. بعدها تعرفت على أستاذي محمد خالد قطمة، الذي هو شيخ الصحفيين في الكويت- حيث أقيم - و قال لي" نصيحتي لك أن تكتبي قصة.. نصوصك فيها من التفاصيل مالا يحتمله الشعر، فالمفترض بالشعر أن يأتي كضربة ريشة توحي أكثر مما تفصل.. "
ولأني في العادة مطيعة لمن أعتبرهم في حياتي صدوقين، فقد وضعت النصيحة حلقة في أذني وبدأت أكتب القصة .
نشرت أول مجموعاتي عام 1999.. الفترة الزمنية الفاصلة بين أول مطبوعة لي وبين تاريخ حصولي على الجائزة كاف لأن يظل ما أكتبه تحت سقف المراجعة الدائمة ، فلم أستعجل النشر، ربما لأني منذ تلك الأيام اتخذت قراراً بأن تبقى الكتابة محض هواية وليس احترافاً.
هل يمكن اعتبارك اذن قاصة من غير نية مسبقة ، و ان تجربتك القصصية ، علي الاقل في بداياتها لم تؤسس علي علاقات من نوع ما مع هذا الجنس الابداعي ـ قراءات ونحوه ، وان خبرتك او تجربتك في الحياة بما فيها من مشاعر ومواقف يومية هي التي كان لها الدفع القوي في كتابتك القصة اكثر من اطلاعاتك النظرية علي نماذج او تجارب قصصية من ثم محاولتك تقليدها ومحاكاتها اثبات للذات .. والي غير مافي هذا الباب ؟*
يبدو أني نسيت الاشارة إلى أن السبب الرئيس للكتابة إضافة لكونها تلبية لحاجة نفسية بالأساس، فهو أني قرأت الكثير والمتنوع، وخصوصا في مجال الروايات والقصص، إذ مما أتاحته لي الغربة الكثير من سعة الوقت الذي كان يؤانسني فيه الكتاب، وهي عادة لازمتني منذ كنت أصعد إلى سقيفة بيتنا فأنسى نفسي مع كتاب من كتب أبي المخزنة، والتي لم يعد يتسع لها الدار، فقذفتها أمي إلى مستودع فوق المطبخ كان بالنسبة لي مغارة علي بابا .. القراءة التي هي بالأساس رغبة متكررة لما تخلقه من متعة نفسية ولذة اكتشاف عوالم لا يمكن لنا أن نطلع عليها إلا من خلال القراءة، نظراً لمحدودية الحياة أولاً، ومحدودية تجاربنا - مهما اتسعت- ،وهكذا كان يمكن لي لو لم أكن قارئة أن تبقى دموعي دموعاً عادية فلا تتحول إلى حروف.. وربما كنت سأعبر عن ضيقي بالصراخ بمن حولي، أو كنت سأكتفي بالضحك فقط حينما أفرح، فلا أكتب شيئاً، إلا إن مخزون القراءة أمالني لأن أعبر عن عالمي الداخلي عبر الكتابة، بهذا المعنى أقول إذن الكتابة جاءت من باب الصدفة.. صدفة الحياة ذاتها.. وصدفة مصائرنا إلى حد كبير..
بعدها دأبت على الاستزادة من التجارب الكتابية، ومقارنتها بنصوص آخرين، أثرت بي كقارئة، كذلك أصبحت أقرأ بعين فاحصة أكثر، لأكتشف مكامن قوة كتابة الآخرين، وتلمس نقاط الضعف في كتابتي، خصوصاً وأن احتكاكي مع عالم الكُتاب سواء بشكل شخصي أو عبر المهرجانات والأمسيات ظل محدوداً، وهكذا لم يرافق (تجربتي) الكتابية ما يمكن تسميته ثقافة المشافهة، أو أن تعطي نصاً لشخص له اشتغالات نقدية في المجال القصصي، أو له خبرة كتابية تسبقك فتستفيد من ملاحظاته.. باختصار كان عالمي ورقياً بشكل عام في تطور قراءاتي وكتابتي تالياً.
الان ـ بهذه اللحظة ، كيف تقرأ سوزان ماقدمته في مجال القصة .. ماهي الاضافات التي تعتقدين ان قصصك اسهمت بها علي الصعيد الدلالي ـ ماقاربته من موضوعات اجتماعية وثقافية الخ ،وعلي الصعيد الجمالي ـ الاستحاثات التي جاءت بها علي مستوي الشكل ، للقصة السورية ، وهل تراعي سوزان ذلك في العادة ؟
من الصعوبة بمكان أن يتحدث الشخص عن تجربته بهذه الصيغة، لأني اعتقد أن هذا دور الناقد وليس دور الكاتب، لأن كل من يكتب يعتقد أنه قدم إضافة مهمة، وإلا لما كتب أساسا لكني يمكن أن أتلمس الخطوط العامة لمسار تجربتي، إذ تطورت نصوصي من نصوص يغلب عليها الصبغة الذاتية والتي تنهل من تجربتي مع الحياة، حياتي، يومياتي، رؤيتي إلى الأحداث الجارية أمامي والمحيطة بي ومحاولة صياغتها نصصا قصصياً أضيف لها بشكل أساسي التحوير والإزاحة، إلى نصوص أكثر انفتاحاً على التنوع سواء في أساليب السرد أو تقنياته أو في مواضيع ومضامين النص، كما أزعم أني أصبحت أكثر وعيا بالوظائف الدلالية للغة وتراكيبها، وهذا سيبدو واضحاً عندما أقارن مجموعة " ذاكرة من ورق" والمجموعة الأخيرة" قبلة خرساء " التي هي قيد الطبع الآن.. بعد 13 عاماً من بداية خطواتي في عالم الكتابة أجد نفسي أكثر ثقة ويقيناً فيما أقدمه..
كما أني لا أستهين بالقارئ لأنه في النهاية الميزان العادل للقيمة الإبداعية، لذلك أترك نصوصي فترات زمنية طويلة لتختمر، ثم أعود لها مراراً وتكراراً، لأزيد وأنقص حتى أقتنع تماماً أنه بإمكاني نشره وأنا مطمئنة إلى سويته ..
ولأني أحترم ذهنية قارئيي، فإني أتحاشى ما أمكنني أن أملي عليه قراءة محددة مني لنصي
( جاء هذا بعد تراكم خبرة كتابية لا بأس بها ) فأترك له متسعاً ليقرأ بحرية أكبر ويشكل دلالات النص حسب مستوى قراءته وخبرته في القراءة.. وبشكل عام أمرر الحدث عبر منمنات وتفاصيل صغيرة ومبثوثة يتشكل من خلالها الفضاء الدلالي للنص، إضافة لـ اللغة التي تخصني،ويمكن أن استشهد بما ذُكر في أحد القراءات النقدية عن مجموعتي " فسيفساء امرأة " :" أن قصص المجموعة تحتفي باللغة لا بوصفها أداة للسرد بل بوصفها المُشكل الأساسي للجماليات التي يقترحها النص، فهي تصيغ الجملة بعناية تشبه الاشتغال بالإبرة على مساحةٍ للنقش "
قلت ان اهم مايميز قصصك المنمنمات التي تمررين الحدث من خلالها ـ بهذا المناسبة هل تركزين ، بصورة واعية ، في ان تتميز نصوصك بطابع فني محدد ، وهل امكنك القبض علي شكل محدد للقصة بعد مضي نحو عقد ويزيد من التجربة اما انها بعد لم تزل بالنسبة اليك حمالة أوجه كما يقال ؟
الكتابة بطبيعتها تطغى بآلياتها على التفكير المسبق، أو المرتب ضمن قوانين محددة حتى حين نُبيت النية، لكن هذا يحدث في مستهل البداية فقط، إذ أن لحظة الكتابة تمتلك وتخرجك عن سياقاتك في ذهنية مغايرة، فتخرج عما رتبته في ذهنك إلى اتجاهات أخرى لم تكن بالبال.. بل ربما تلغي كل ما فكرت بأنك ستكتبه، لتواجه نصاً آخر لا يشبه ما أعددت (ذهنياً ) لكتابته، هذا ما أدعوه الحرية ضمن الشرط، وهناك شخوص طغاة، يلتهمون منك الكلمة التي أردتها لهم، وينطقون بما يعن على بالهم، لست طاغية لأقمعهم، فأنا أترك كل شيء كما تهيأ له في اللحظة الأخيرة، ستقول أن القصة القصيرة أقل في المساحة من أن تسيطر شخوصها عليها، لكن صدقني هذا يحدث، ليس دائماً.. لكن يحدث
لك انتشار واسع في الفضاء السايبيري الي اي حد في اعتقادك استطاع هذا الفضاء ان يوصل صوتك القصصي الي مناح قصية، وما هو المردود المباشر علي تجربتك من هذا التواصل المغاير وهل امكن لهذا الوسيط الحداثي ان يحدث اية تغييرات في طريقة تلقي الادب برأيك ؟
نعم إلى حد كبير.. أعترف أن الغربة وتشتتي في المكان من حيث المعيشة، كان يشكل صعوبة ما قبل النت وأجوائه، في أن يصل نصي إلى القارئ، فلست معروفة في بلدي، ولست معروفة في الكويت، "غريبة الدارين" لنقل ذلك.. مع النت، ومع انفتاح عالم النشر فيه من المنتديات والمجموعات البريدية والمواقع الثقافية، وما رافقه من انكسار حواجز التواصل وسهولة هذا التواصل، وانخفاض كلفته النسبية أيضاً، خلق رقعة واسعة غير محدودة بجغرافية معينة ولا بجنسيات محددة مما أتاح لي أن تتأهل نصوصي لأن تُقرأ بشكل أكثر اتساعاً مما فعل عالم الورق، كما أتاح للجميع أن يخرجوا من عباءة الوصاية التي يمارسها الناشر الورقي سواء في صحيفة أو مجلة أو حتى كتاب، وكنت أحد ممن استفادوا من هذا..
هكذا أصبح متاحاً لي أن أكون ناشرة لنصي، فأضعه بنفسي أمام القارئ خصوصاً في المجموعات البريدية والمنتديات، وأصبح النص لا يمر تحت رقابة مسبقة حتى لو كانت ذائقة الناشر، بمعنى أن النص أصبح النص بمواجهة مباشرة مع القارئ، فهو الذي يقرأ ويحدد ويتفاعل مع النص سلباً وإيجاباً ..
أظن أن الطيران الحر هو حياة جديدة، حتى وسائل الإعلام التقليدية انخفض تأثيرها، وهي كما تعلم تخدم أشخاصاً بعينهم، وتضيء تجارب بعينها.. وهذا الوضع له اتجاهين، فأنا أيضاً اطلعت على تجارب لكتاب مبدعين، لم يكن ليتسنى لي قراءتهم فيما لو اقتصرت على المكتبات والصحف المحلية والمجلات، حتى المتخصص منها في الشؤون الثقافية، ومازال ممتعاً بالنسبة لي الاستعانة بـ " جوجل" لاكتشاف نفس ما .. قلم ما..
أستطيع لوحدي أن أقدر المتعة التي حصلت عليها من قراءة تعتمد أحياناً على الصدفة وحدها.
ما هي طبيعة القضايا التي تعتقد سوزان أنها استغرقت تجربتها القصصية ؟
الفكرة تتحكم بي، ولا أرفض أي بارقة تراودني لأخوض فيها، وعادة ما تدور حول الإنسان العربي بمجمله، بما فيه من تناقضات، بتركيبته النفسية، بخيره وشره، إضافة إلى تحوله ربما بأكثر مما يحتمله المنطق حين تواجهه مقدرات الحياة فتؤثر على إرادته ومشيئته.. مجتمعاتنا بشكل خاص حافلة بالمتناقضات، والظروف الاستثنائية، مما يجعلها مركبة بتعقيد شديد، فما من حقيقة مطلقة، وما من مستقبل واضح، لكن وبشكل خاص أجد أن المرأة- بوجوهها المختلفة- تطغى في قصصي، فتظهر شئت أم أبيت، ربما لأنها محور هام في الحياة، وربما لأني أوعى بمشاكل المرأة الداخلية وبنيتها النفسية
نشرت في صحفية الأضواء السودانية