17 سبتمبر 2008

ياسوزان قولي عاش بابا

يتسع المعنى حين يكون الأب معنياً.. أغمض عيني وأبحث عن وجهه تحديداً، أراه ممتداً مثل حقل شاسع من الخضرة، لم أسمع أبي يصرخ، كان يكفي أن يقطب جبينه حتى ننكسر جميعاً.. هكذا تصبح معادلة القوة مرادفة تماماً لحضور حنون..
"يا سوزان قولي عاش بابا"
جملة تبعها إصبعي الصغير حين كنت طفلة أتهجى أول كتب القراءة في مناهج التعليم آنذاك.. ومازالت تدور في رأسي حتى اليوم..
تلك فكرتي عن أبي، والذي لم يرد بعد في الشخصيات التي أكتبها.
في الروايات والسير التي تناولت الأب في طقس حضوره الخاص، ونسجت واقعاً متخيلاً يستمد صورته الأساسية مما هو " واقعي " يختلف مزاج الأب في حدته، وفيما يتركه من أثر، فهو ليس واحداً، خاصة عبر تأريخ مجتمعاتنا التي تعرضت وتتعرض لتغيرات في بنيتها الاجتماعية والثقافية والنفسية أيضاً..
الحقائق التاريخية تقول بأن " النظام الأبوي " جاء لاحقا للمجتمع الأمومي، وقد ساد بعد أن تآكلت مكانة المرأة مقابل تنامي مكانة الرجل وسيطرته، في هذا النظام يسيطر الرجل على مقدرات العائلة؛ بذرة المجتمع الأولى، هذا التحول بدأ في مجتمع بلاد مابين الرافدين، هناك حيث ظهرت أسطورة "جلجامش" التي تعتبر أول نص ذكوري بامتياز.
كذلك ما دون في شريعة حمورابي التي حددت:
" إذا ضرب الابن والده يجب أن تقطع يده.. وإذا توفي الأب وترك أطفالاً غير متزوجين فالأكبر سناً يصبح رئيساً للعائلة، أما إذا كان الأطفال صغاراً فيمكن أن تعطى لوالدتهم صلاحية الأبوة "
وقد جاء " الموروث الديني " لاحقا ليعزز هذه السلطة، ويكرّسها عبر جعل " الرجال قوامون على النساء ".. من خلال كل ذلك ساد العرف الاجتماعي الذي يطالب الرجل بصفات القوة والهيمنة والسيطرة والتفرد، كي يحافظ الأب على هذه الصورة كان عليه أن يرسخ الخوف، وأن يقيم حواجز بينه وبين أفراد أسرته لخلق أجواء الهيبة.. تماماً كما( سي السيد )فمن خلال الأدب المعاصر أول مايتبادر إلى الذهن " أحمد عبد الجواد " في ثلاثية نجيب محفوظ، الذي استطاع عبر هذه الثلاثية أن " يخلق " شخصية تمثل روح المجتمع في تلك الفترة ، ناقلاً لنا أدق تفاصيلها الجسدية، وتناقضاتها النفسية، عبر وجهين متناقضين يبدو الأول صارماً شديداً بين أفراد أسرته، والثاني ضاجاً شرهاً للحياة والضحك مع أصدقائه وفي جلسات صفوته خارج إطار عائلته، و رغم كل ما أظهره السيد أحمد من جبروت في تلك الرواية، إلا أن موت ابنه كمال، أعلن حقيقته الكامنة كأب، وجعله ينعزل تدريجياً عن العالم الذي أحبه..
من المؤكد أن الرجل كائن يحمل مسؤولية ذكورته في مجتمع يطالبه أولاً وأخيراً أن يكون مختلفاً في أفعاله وردودها، فأحد أهم صفاته التكوينية أن لا يبكي.. و لكم أن تتخيلوا السخرية، والنبذ الاجتماعي الذي يتعرض له الرجل، فيما لو أبدى تخليه عن أحد شروط رجولته.. هذا المجتمع لايبدو عادلاً، بل إنه يضغط على جنس الرجال كي يلقوا حتفهم سريعاً، فمتوسط عمر الرجل على سبيل المثال يقل عن عمر المرأة نتيجة الضغط النفسي الانفعالي الذي عليه أن يخفيه، شاء ذلك أم أبى.. لذلك على الرجال ممن يهمهم ممارسة الحياة أن يطلقوا العنان لدموعهم، وهي نصيحة لوجه الله تعالى، إذ أن الدموع شأن إنساني وليس نسوي، صدق ذلك أيها القارئ أو لاتصدق..
ولنرجع إلى الروايات العربية التي تستلهم أحداثها وشخصياتها مما حولها ثم تعيد صياغتها، لترد شخصية الأب، في الكثير من الروايات ، على أنه كائن مسيطر، فمن رواية لرجاء عالم (الكاتبة السعودية)تقول بطلة الرواية:
" كلمة طائشة..كلمة تبلغ أبي كفيلة بإطلاق المفارق صوبي لتمزقني. كفيلة بقفل الأبواب وتركي خارج العود, خارج الحميم, خارج جسدي هذا الكلي, كلمة واحدة كفيلة بشطري نصفين... أهذا ما أسعى إليه ويرعبني هذه الكلمة السكين؟ في الثامنة عشرة، في العشرين، في الثلاثين، في غمضة عين سيتحتم على أبي الاختيار لي بين جسدين"
الأب يفرض رأيه، وكل من يخرج عن عباءة الوصاية هذه، يدفع الثمن، وعلى المستقبل وحده أن يكشف صواب هذا الرأي أو خطأه..
في الإبداع السردي تأتي السيرة الذاتية كأحد أهم وأصدق هذه الفنون، يكشف الكاتب عن حياته ويعريها، يعبر عن تجربته الذاتية في سرد كثيف وحميمي، ولابد من أن يكون للأب حصته في تلك المرويات..
يكتب سعد الله ونوس عن تفاصيل مرضه بالسرطان في كتاب " عن الذاكرة والموت" :
(
لحظة خلوت فيها مع أبي .. أذكر وجهه هادئاً وربما محايداً.. أذكر صوته تقريرياً وحاسماً، استغرقتني الحيرة، وأصغيت إليه كالمأخوذ، قال: هذا المرض أصاب زوج عمتك رشيد، وفي بلعومه، فعولج في دمشق وشفي منه، ولكنه بعد أن طبق السنتين عاوده المرض، وأودى به،ثم صمت..
كان يحكي مثل عراف يطلق نبوءة، أو عالم يقرر حقيقة علمية، لم تعكر وجهه أية انفعالات، ولم يخفف الاحتمالات السيئة، التي ينطوي عليها الخبر، بكلمات التعوذ والعبارات التي تبعد الشر، وتتوسل منع الأذى واقصاء المشابهة، هي لحظة غريبة، لاأعرف ماذا كان أبي خلالها، هل كان ملهماً هل كان عرّافاً هل كان نذيراً هل فاضت معرفة قديمة ومتخمرة في دواخله وانسكبت غصباً عنه، ودون أن يود انسكابها.
طبعاً.. بعد قليل عاد أبي يتهالك عاطفة وحناناً، ويحيطني بكل مايملك من الرعاية والحب، ولكن .. ظلت تلك اللحظة تعاودني مثل الهاجس، فأجفل استغراباً ودهشة
.)
لنتخيل الحالة الشعورية لمثل هذا الأب، الذي يرافق نهاية ابنه حتى الموت، لكن المطلوب منه أن يكون واقعياً وأن يكون صلباً ومتماسكاً وعارفاً.. إنه عبء من العسير تقييمه بسهولة، وهو ميراث طويل من العادات والتقاليد والممارسة والتعليم الشفوي..
وفي نموذج آخر لصورة الأب، أستحضرها هنا عبر ذاكرة الكاتب المغربي محمد شكري والتي يرويها في سيرته الذاتية " الخبز الحافي "
(
أبي يعود كل مساء خائباً نسكن في حجرة واحدة.. أحياناً أنام في نفس المكان الذي اتقرفص فيه ، إن أبي وحش.. عندما يدخل لاحركة، لاكلمة إلا بإذنه كما هو كل شيء لايحدث إلا بإذن الله كما سمعت الناس يقولون . يضرب أمي بدون سبب أعرفه .. )
(اذا كان من تمنيت له أن يموت قبل الأوان فهو ابي. أكره ايضاً الذين يشبهون أبي. في الخيال لا أذكر كم مرة قتلته! لم يبق لي الا ان اقتله في الواقع.)
( تذكرت كيف لوى أبي عنق اخي..كدت أصرخ : أبي لم يكن يحبه هو الذي قتله نعم قتله قتله رأيته يقتله لوى عنقه تدفق الدم من فمه
)
يكتب محمد شكري تعرضه المباشر لاضطهاد الأب وقسوته في بيئة فقيرة وطفولة مشردة وظروف قاسية.. إذ يقتل أباه أخاه الرضيع..
الكاتب السوري حنا مينه في روايته " بقايا صور" لايبدو حاداً في محاسبة أبيه، بل يبدو أنه يلتمس الأعذار لأبيه الغارق في سكره والتابع لملذاته، العاجز عن تحمل مسؤوليته نحو أسرته، إذ يتركهم فجأة ثم يعود فجأة
" أنا لا أزعم أن سفينة عائلتنا وحدها التي عرفت هذا التخبط في لجة بحر الفقر الكبير، ولكنها، بسبب من لا مبالاة ربانها، كانت أشدها اضطرابا في مصطرع النوء وأسرعها إلى الضياع في اللجة، وقد ضاعت فعلاً، وحين سيكتب لها أن تعود إلى الشاطىء، ستكون قد فقدت بعض أفرادها برغم انها كانت لا تزال في الصفحات الأولى من سفر التيه الذي عاشته"
إنها روايات تسبب الصداع، الحياة ليست وردية بالضرورة، والكثير من الكتابات يأتي حاداً، يرسم شخصية الأب بقسوتها الجارحة..
كتب الصحفي سمير عطا الله مقالاً بعنوان " 2002 عام الثأر من الأب" ذكر فيها تلازم الأب مع ذاكرة الألم عند عدد لابأس به من الكتاب مثل: سهيل ادريس، جبران خليل جبران،الكاتب الروسي تورغنيف، والشاعر الفرنسي جاك بريفير، المسرحي الفرنسي انطونان ارتو.. إنهم كتاب
"أمسكوا مسدس الحبر وأفرغوه على الجدار الابيض".
سوى أن مكانة الأب تتبدل بين الماضي والحاضر، فالوضع التقليدي للأب طالته التغيرات نتيجة استدعاء حالة نموذج عصري، بحيث لم يعد الخوف هو مفتاح العلاقة بين الأب وأبنائه، مما أدى بالتالي إلى تغير نموذج الأب في السرد الروائي ..
فالأبوة الجيدة أساسية وداعمة لنشأة الأطفال، ولاكتسابهم المهارات الاجتماعية، وفي حال غياب الأب بالموت أو بالهجرة، فإن الكثير من الاضطهاد النفسي يمس الطفل.
يقول شارل بوكوفسكي:
"الأب سيدك دائماً حتى حين يرحل"
الأب كلّي التأثير، سواء كان نموذجاً إيجابياً أو سلبياً، يقول فرويد: " كل شيء يتم كما لو كان الأساسي في النجاح يتمثل في الذهاب أبعد من الأب، كما لو أن تجاوز الأب أمر ممنوع" ..
هكذا أو لهذا يقع الأبناء في مطب التردد ما بين المطلوب منهم في إثبات الذات والمضي في اختياراتهم الخاصة، وما بين الحفاظ على مكانة الأب واحترامها وعدم تجاوزها..
كذلك يقع الآباء في مأزق الاختيار مابين الحفاظ على مكتسبات السيطرة أو ممارسة الأبوة الجيدة.. وغالباً ماتختلط الأمور.. لنطالب هذه الأيام بالشيء وعكسه.. إذ يزعق الأب الديمقراطي فجأة بأن الديمقراطية انتهت عند هذه النقطة ..
ويبدو أن الشعر أكثر وجدانية من الرواية، فالشاعر نزار قباني لم يخجل من دموعه، ولم يدارها حين نعى ابنه توفيق:


أشيلك يا ولدي فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين
وشعرك حقل من القمح تحت المطر
ورأسك في راحتي .. وردة دمشقيه .. وبقايا قمر
أواجه موتك وحدي .. واجمع كل ثيابك وحدي
لو كان للموت طفل .. لأدرك ما هو موت البنين .
ولو كان للموت عقل ... سألناه كيف يفسر موت البلابل والياسمين
ولو كان للموت قلب ... تردد في ذبح اولادنا الطيبين
أتوفيق ...
إني جبان أمام رثاءك ... فأرحم أباك.
هكذا يتعرى الشعر من الصورة المسبقة للأب ويمشي حافياً ملتاعاً مبللاً بالضعف والأسى، كما في كلمات نزار السابقة ..
بينما " يرسم " لقمان الديركي صورة أب مثقف في قصيدته " الأب الضال" ناقلاً بحياد واقعاً معاشاً ، دون إدانته أو رفضه، فيقول:
على رصيف
يلمِّع الأحذية
وخلف زجاج المقهى
يقرأ جريدة البارحة
في الزحام
سيرتطم بكتفكِ
وستأخذين معكِ
رائحة الخمر
وعينيه المليئتين بالدمع..

كأنني، وكأنكم معي بحاجة لنقف أكثر أمام بوابة الشعر، وحميميته، لنتصور عمق عاطفة الأبوة في تجليات الحنان والعطاء إذ يقول الشاعر عمر بهاء الدين :
شغفاً، إذا أكلوا وإن شربوا
يتزاحمون على مجالستي
والقرب مني حيثما انقلبوا
يتجهون بسوق فطرتهم
نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا
فنشيدهم " بابا" إذا فرحوا
ووعيدهم" بابا " إذا غضبوا

هذه القصيدة التي تذكر الأب كأفضل ما نودي به:بابا .. بابا
تظهر أرق المشاعر الإنسانية في بساطة وعفوية، في محاولة ناجحة لتعديل الميزان، فقد اعتاد العالم على تخليد عطاء الأم، بحيث تهمش دور الأب على نحو ما، وارتبط في أحسن حالاته بالعطاء المادي، أكثر مما ارتبط بمفردات العاطفة الجياشة..
إن إي محاولة لإيراد نماذج ايجابية عن الأب أكثر تنوعا وغنى، وأكثر شمولاً سترتطم لا شك بحائط قلة التدوين السردي الروائي لنموذج " الأب الإيجابي "، ربما لأن التجارب عن الأب الحداثي المتفهم والمتعاون مازالت في بوتقة الاختمار، وستظهر لاحقاً في الكتابات الأحدث..
فمجتمعاتنا ذات النظام الذكوري والتقاليد البطركية، المتباهي بفحولته، والقائم على الفصل بين مهمات الأب والأم وبين المطلوب منهما لا يرضخ بسهولة لمتغيرات الحياة، ومطالبات علم النفس الحديث..
ولعل من الطريف أن نعلم أن تبادل الأدوار بين الأنثى والذكر يبدو ممكناً في الطبيعة والتاريخ، ففي غينيا هناك قبائل (الأرابيش) ويبدو أن رجالها لهم سمات الأمومة، فغاية الحياة في نظر الرجال والنساء على السواء هي الحمل وتنشئة الأولاد، والفعل " يحمل طفلاً" يعني الأب أو الأم، وهم – أي قبائل الأرابيش ) يعتقدون أن الرجل يعاني آلام المخاض سواء بسواء كالمرأة، فإذا كان الولد يخلق من نطفة الرجل وعلقة الأم فإن " نسمة الحياة " تأتي من أحد الوالدين..!
أما قبيلة (مندوجومور) وهي أيضاً في غينيا، فالتماثل بين شخصيات الرجال والنساء، يكمن في نشأة القسوة وتناقص جوانب الأمومة ومظاهرها في كلا الجنسين، فكلاهما الأب والأم ملول ويتضايق من تربية الأطفال..!
أما عند قبائل (تشامبولي) فالمرأة هي الطرف السائد المتجرد من العاطفة، وهي الآمرة الناهية، أما الرجل فهو الأقل إحساسا بالمسؤولية، وهو الذي يعتمد على غيره من الناحية العاطفية، وعندهم في تلك الأقاصي تخرج النساء لصيد السمك وجمع الطعام، فيما يختص الذكور بصنع الأقنعة وفنون الرقص والحفر..
وتلك مسألة أخرى..

هناك 4 تعليقات:

غير معرف يقول...

تصحيح يا ست سوزان.. ابن السيد أحمد عبدالجواد الذي توفي هو (فهمي) و ليس كمال..

تمام تلاوي يقول...

يا أبي شكراً
لقد دفَّأتَنا هذا الشتاءْ
قطَّعتَ غاباتٍ بكاملِها إلى أنْ ذابتِ
العَضلاتُ في زِنديكَ، وارتفعتْ تلالٌ من حطبْ
. . لكنَّ فأسَكَ قد أصابتْ وردتي
وذِراعَ بأسِكَ أسقطَتْ أعشاشَ طيري
يا أبـي..

سوزان خواتمي يقول...

تمام سيادتك، ابن السيد احمد هو فهمي، لكنه الأزهايمر ، والحمد لله مازلت اذكر اسم الرواية ، ايضا ميرسي على التصويب

غير معرف يقول...

الصديق تمام
مرورك مفاجأة، خاصة وأن المدونات محجوبة في سوريا
كل عام وأنت بخير
سوزان خواتمي