في عالم يدعو المرأة أن تكون جميلة وتصمت، مثمناً قيمتها بشكلها، محتفلاً بصورتها الجسدية، وماتبدو عليه، تدير الأم ظهرها لأنوثتها، فلا تبالي بالبالون المنتفخ في بطنها، ولا بجنون هرموناتها الذي يسبب لها الغثيان، ولا بهجمات الكآبة، ولا بتقوس عمودها الفقري ، ولابانتفاخ قدميها، وتشقق جلدها، ولا بأسنانها التي ينخرها السوس بالجملة، لأجل كائن بحجم الكف، يشاركها دمها وغذاءها وأنفاسها تسعة أشهر، وتحتمل عبأه ما بقي لها من عمر، بل وتحتمل ألم الولادة، وتعيد التجربة كلما طولبت بواجبها على استمرارية النسل العائلي، في الوقت الذي أثبت فيه العلم أن الرجل بعضلاته وقوته لا يستطيع احتمال مثل ذلك الألم..!
تتحول المرأة إلى أم من دون تعليم أو تدريب، إنها تنام وتصحو لتجد نفسها متورطة بأمومتها، ويرتبط الأمر بهرمون معين تفرزه أثناء الرضاعة ، ويحولها إلى صنف استثنائي من البشر، فهي لاتشبه إلا نفسها، بوجوه متعددة كموشور من المرايا، فتستطيع أن تكون أكثر من شخص في آن، وبوحي من فطرتها تقود سفينة أولادها مهما كان الموج عالياً، منتقلة بهم من مراحل الطفولة إلى عتبات الشباب، وهي تمتلك مجسات تلهمها تجنب الخطر، فتراها قادرة على ترقيع الفراغات، وتجاوز الصعوبات لتحقق الأمان والحماية، مستمدة تلك الطاقة من ثقافة المجتمع الأمومي الذي كان سائداً في العصور البدائية قبل أن يفككه المجتمع الذكوري الجديد..
لكن الأم ليست مجرد مساحة شاسعة من حنان وعطاء ، كما يصر على توصيفها العرف الاجتماعي الجمعي، فالصفتان، وإن تكن مبررتين وصادقتين، ولكنهما غير كافيتين، ومن الغبن بحق حصر قدرات الأم وطاقتها ضمن ذلك النطاق وحسب..!
ومن الظلم أيضاً اختصار المرأة بأمومتها، وقدرتها على الحمل والولادة، ورفضها إن لم تكن كذلك، فهي ليست مجرد آلة تناسلية وطاقة حنان مطلق، إنها تثور وتهدأ، تعطي وتمنع، تقسو وترضى، تتوعد وتنسى، تحب ولا تكره.. مثل كائن خرافي القدرات، أمي مثلا لم تكن هي نفسها على الدوام، فالمرأة التي أميز رائحتها حين تلمني في حضنها وتنقذني من أشباح الظلام، غير المرأة التي تركض خلفي لتدغدغني، أو تغير ملامح وجهها لتضحكني ، والمرأة التي تجبرني على كتابة واجباتي المدرسية بخط جميل رغم تعبي وارهاقي، غير المرأة التي تقرص أذني دون شفقة لأني أخطأت، والمرأة التي ترسلني في رحلات مدرسية وتبقى مع هواجس شياطينها حتى أعود، غير تلك التي مازالت تتصل بي بصوت ملهوف، فعلى رغم غربتي الطويلة لم تتعود غيابي عنها، ولم تتعلم كيف تغالب شوقها وتغلبه.
أضحك.. وأتذكر أني لم أكن خارقة الذكاء لأكتشف أن كل تلك الوجوه هن أمي.
ومثلي، مثل غيري، ارتبطت علاقتي مع أمي بمقدار حاجتي لها، واعتمادي عليها، الذي يأخذ بالتناقص تدريجياً، قارضاً معه مقدار التعلق ورغبة الالتصاق الجنينية الأولى، فيما تنمو الحاجة إلى التفرد والابتعاد، وإثبات الشخصية بالحرية والتمرد، وأمي مثلها مثل كل الأمهات بقيت في موقعها الأزلي تترصدني بتعليماتها ، بل لاأظنها لاحظت أني كبرت، وأني أستطيع تدبر أموري دون نصيحتها التي أصغي إليها بنصف أذن، وأتصرف بمشاكسة ( لا ) العجيبة، كنت مراهقة بامتياز، وأسوء المراهقين الواثقون بأنفسهم..
شتان بين ذلك الوقت واليوم، والمسافة ليست إلا ( فركة كعب)، الفرق بين هنا الآن وهناك البارحة غمضة عين، أو رفة جفن لذاكرة ماكرة، فلي اليوم وجه أمي الغاضب وصوتها وحكمتها ، ولي مثلها لحظات قسوتها، و لحظات هدوئها ، بل أني أضبط نفسي وأنا أعيد حكاياتها لأمرر عبرة خفية، ولي قلقها غير المبرر،ولي أيضاً تسامحها وغفرانها رغم الأخطاء التي تتكرر المرة تلو المرة، فأصدق بسذاجة تشبه سذاجتها الوعود والتوبة، ولي مثلها ابنة مشاكسة، تحمل جينات مراهقتها، فتشاكس وتعاند وتثق بأنها كبيرة بما يكفي لتعرف مصلحتها، أنها لم تعد بحاجتي لتتعلم شيئاً، إن فزع الأم من هجران أولادها لايخصنا فقط، ويكاد يكون هماً واحدا في مختلف الثقافات، ففي الصين تزرع الأم زنابق بيضاء في حديقة منزلها تعبيرا عن حزنها لفراق أولادها لمغادرة الأولاد الذين كبروا وشبوا عن الطوق، والحقيقة لاأعرف أي طوق يقصدون، لأحرسه، فلا تقفز عنه ابنتي ولا تتجاوزه.. هل في هذا نزعة للتملك و السيطرة، أم فرط حماية، أم حبل مشيمة لا ينقطع..!؟
تتحول المرأة إلى أم من دون تعليم أو تدريب، إنها تنام وتصحو لتجد نفسها متورطة بأمومتها، ويرتبط الأمر بهرمون معين تفرزه أثناء الرضاعة ، ويحولها إلى صنف استثنائي من البشر، فهي لاتشبه إلا نفسها، بوجوه متعددة كموشور من المرايا، فتستطيع أن تكون أكثر من شخص في آن، وبوحي من فطرتها تقود سفينة أولادها مهما كان الموج عالياً، منتقلة بهم من مراحل الطفولة إلى عتبات الشباب، وهي تمتلك مجسات تلهمها تجنب الخطر، فتراها قادرة على ترقيع الفراغات، وتجاوز الصعوبات لتحقق الأمان والحماية، مستمدة تلك الطاقة من ثقافة المجتمع الأمومي الذي كان سائداً في العصور البدائية قبل أن يفككه المجتمع الذكوري الجديد..
لكن الأم ليست مجرد مساحة شاسعة من حنان وعطاء ، كما يصر على توصيفها العرف الاجتماعي الجمعي، فالصفتان، وإن تكن مبررتين وصادقتين، ولكنهما غير كافيتين، ومن الغبن بحق حصر قدرات الأم وطاقتها ضمن ذلك النطاق وحسب..!
ومن الظلم أيضاً اختصار المرأة بأمومتها، وقدرتها على الحمل والولادة، ورفضها إن لم تكن كذلك، فهي ليست مجرد آلة تناسلية وطاقة حنان مطلق، إنها تثور وتهدأ، تعطي وتمنع، تقسو وترضى، تتوعد وتنسى، تحب ولا تكره.. مثل كائن خرافي القدرات، أمي مثلا لم تكن هي نفسها على الدوام، فالمرأة التي أميز رائحتها حين تلمني في حضنها وتنقذني من أشباح الظلام، غير المرأة التي تركض خلفي لتدغدغني، أو تغير ملامح وجهها لتضحكني ، والمرأة التي تجبرني على كتابة واجباتي المدرسية بخط جميل رغم تعبي وارهاقي، غير المرأة التي تقرص أذني دون شفقة لأني أخطأت، والمرأة التي ترسلني في رحلات مدرسية وتبقى مع هواجس شياطينها حتى أعود، غير تلك التي مازالت تتصل بي بصوت ملهوف، فعلى رغم غربتي الطويلة لم تتعود غيابي عنها، ولم تتعلم كيف تغالب شوقها وتغلبه.
أضحك.. وأتذكر أني لم أكن خارقة الذكاء لأكتشف أن كل تلك الوجوه هن أمي.
ومثلي، مثل غيري، ارتبطت علاقتي مع أمي بمقدار حاجتي لها، واعتمادي عليها، الذي يأخذ بالتناقص تدريجياً، قارضاً معه مقدار التعلق ورغبة الالتصاق الجنينية الأولى، فيما تنمو الحاجة إلى التفرد والابتعاد، وإثبات الشخصية بالحرية والتمرد، وأمي مثلها مثل كل الأمهات بقيت في موقعها الأزلي تترصدني بتعليماتها ، بل لاأظنها لاحظت أني كبرت، وأني أستطيع تدبر أموري دون نصيحتها التي أصغي إليها بنصف أذن، وأتصرف بمشاكسة ( لا ) العجيبة، كنت مراهقة بامتياز، وأسوء المراهقين الواثقون بأنفسهم..
شتان بين ذلك الوقت واليوم، والمسافة ليست إلا ( فركة كعب)، الفرق بين هنا الآن وهناك البارحة غمضة عين، أو رفة جفن لذاكرة ماكرة، فلي اليوم وجه أمي الغاضب وصوتها وحكمتها ، ولي مثلها لحظات قسوتها، و لحظات هدوئها ، بل أني أضبط نفسي وأنا أعيد حكاياتها لأمرر عبرة خفية، ولي قلقها غير المبرر،ولي أيضاً تسامحها وغفرانها رغم الأخطاء التي تتكرر المرة تلو المرة، فأصدق بسذاجة تشبه سذاجتها الوعود والتوبة، ولي مثلها ابنة مشاكسة، تحمل جينات مراهقتها، فتشاكس وتعاند وتثق بأنها كبيرة بما يكفي لتعرف مصلحتها، أنها لم تعد بحاجتي لتتعلم شيئاً، إن فزع الأم من هجران أولادها لايخصنا فقط، ويكاد يكون هماً واحدا في مختلف الثقافات، ففي الصين تزرع الأم زنابق بيضاء في حديقة منزلها تعبيرا عن حزنها لفراق أولادها لمغادرة الأولاد الذين كبروا وشبوا عن الطوق، والحقيقة لاأعرف أي طوق يقصدون، لأحرسه، فلا تقفز عنه ابنتي ولا تتجاوزه.. هل في هذا نزعة للتملك و السيطرة، أم فرط حماية، أم حبل مشيمة لا ينقطع..!؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق