23 سبتمبر 2008

بطاقات حب مسبقة الدفع/ نص الدلالة.

قراءة في قصة " شخص مسبق الدفع" لحامد بن عقيل


بقدر ما أمتعني (شخص مسبق الدفع) بقدر ما أتعبتني الكتابة عنه.. شخص مسبق الدفع نص اعتمد إلى حد كبير على التأويل.. هكذا يغيم الحدث بتعمد واضح بين تفاصيل كثيرة بثها الكاتب بطريقة القطع والوصل مثل كاميرا اختارت لقطات بعينها لنستشف من ورائها ما يراد لنا أن نستشف.
في قصة تعتمد الحوار ثيمة أساسية .. و أظن أن صفة الحوار التي هي بالمعنى " حاور : جاوب وراجعه الكلام" ليست مناسبة تماماً لتوصيف ما جاء في النص من مقتطف كلامي وجمل لحديث دون استمرارية يتبعثر عبر خط زمني متحرك وغير ثابت متقطعاً ..متنقلاً مابين لقاء في مطار الملك خالد ومابين عودة من القسطنطينية "عاصمة الشرق" ومابين رجوع مهزوم من بيروت ..
اختلاف الزمن رافقه بالضرورة اختلاف المكان .. وقد اخترق -ذلك الحوار- القليل من الجمل الوصفية التي وُظِّفت لتنير الموقف ككل.
الحوار الغائم والمتقطع كما أشرنا، يعتمد تقريباً على صوت واحد، أما الموضوع – موضوع الحديث - فمفتوح الدلالات ..
الاحتمالات بحد ذاتها جمالية من نوع خاص، بمذاق لاسع، فالنص الذي لا يبدو مبنياً على حيثيات بعينها يمكن أن يفقد خيط التواصل مع القارئ أو يشده حتى السطر الأخير في لعبة فضول مثيرة. فهل استثمر الكاتب طريقة زرع شفراته المرمزة بنجاح..؟ نعم أعتقد أنه فعل .
لنعد إلى شخصيتي النص اليتيمتين، واللتين تكشفان لنا بقدر كاف من المعلومات بأننا أمام رجلين:
الشخصية الثانية منهما مجرد( أبو خالد) الذي يستمع ويعلق بأقل القليل، رغم أنه وحده العارف بكل شيء.. لكنه يشاء أن يتركنا بصمته الملغوم لنكتشف الآخر من خلال تعليقاته وآرائه التي تنقل لنا بلسانه ومنطوقه الشخصي.
البطل هو الشخصية الأولى،التي ندرك أنها لشاعر يعمل في المجال الثقافي، تجتاحه هموم وفجائع وفضائل تلك الفئة.. وبشكل حثيث ومتتابع ندرك معاناته في لحظات مكثفة من قلق وحزن وهزيمة ..
ففي الجملة الأولى من النص يعبر بغضب "عن متسع الحزن حين نصدم بمن نريد أن نصدم فيه..
وقد كان مستهلها : ليس تماماً : لنعلم أننا دخلنا فجأة على حوار قائم من قبل نقل إلينا من هذه النقطة بالذات
وهو استقطاب ذكي لقارئ يريد أن يعرف " عن ماذا يتحدثان"؟.
الصدمة بالآخر، " هذا يحدث فقط حين نقرر ألا نبرر وألا نتجاوز إلى الغفران.. والعتبة الأولى من التفهم.


نتابع صوت الشخصية الأولى الذي يُصدِّر لنا قلقه المفرط، هو المرتحل بين الأماكن المغترب عن نفسه وعن أرضه وعن الآخرين، يخلع عن ذاته قدسيته الشعرية، يتعرى، ليبقى أمامنا بصورته الإنسانية، فهو المنساق وراء انفعالاته دون ضوابط.. المشحون بمشاعر سلبية.. والمحاط بفوضاه.. بذيء اللسان.. "بذاءة لا تضر أحداً غيره"، يمرر لنا معاناته حين تخذله الكتابة فلا يستطيع تخليد لحظة بيضاء، معترفاً بأنه ليس مبدعاً على مر الوقت..
ففي حالة الحب (ويختلط علينا الأمر هنا هل الحديث يخص الحبيبة أم الوطن أم الشعر؟) يفر منه الحبر ويعجز عن وصفه، وحين تمتلكه أداته الإبداعية فهو ينقلب إلى كائن آخر "فلا يعود هو أبداً"
يكتب فيفسد ذاك البياض لأن" القصيدة وحل المفتونين باللغة وليس طُهر المهووسين بالأنبياء.."
وفي استكمال لهوية الشاعر وصورته يبدو لنا متقلباً في مشاعره حد الانقلاب بين بكاء يصل حد النشيج إلى ضحك محموم يلفت نظر من في صالة المطار، هو الكائن المأسور إلى مزاجه. والذي لا يمكن التكهن بدواخله إذ له " وجه بارد يتشكل حسب الأجواء.....أما عيناه فأبعد ما تكونان عن ملامحه، تثرثران طيلة الوقت"


ومن خلال عملية القطع والوصل بين المقاطع


"- لا تنس الليلة . أريدك لشيء هام...


مر أسبوع / أسبوعان وهو غائب. حقائبه عندي وكتبه و ..."


فنعرف أنه لا يلتزم بمواعيده فهو يختفي أو يغيب دون أن يترك خبراً، ثم يعود فجأة، ليقرأ "مزامير الشيطان" شيئاً من الشعر نشر له في جريدة النهار.


" هل كان نهارك إنسياً


هل كنت تطيل السير إلى ألق الأشياء وهي معلقة في اللاجدوى.. "


ويبدو في حالة حنين مقدسة حين يحكي عن - أمل – حبيبته التي خذلته ولم تشاركه مصير الاغتراب.. لكن لماذا اسم الحبيبة ( أمل ) بالذات؟، هل يعني ذلك أن نضع المزيد من الاحتمالات في نص الدلالات هذا؟.
هذه الشخصية المعجونة بآلامها، لا تتراجع :


"- لماذا؟ هل تتوقع مني أن أعتقد أنك ممن يتراجعون عن قناعاتهم؟


- لا أيها الشرير "


وهو متشبث برأيه، لا يتخلى عن قناعاته، " يزداد قناعة أن لا قداسة ولا مقدس على هذه الأرض.."
ينزع إلى عدم الثقة، لأن خيبة الظن واردة دائماً حين يفاجئك من لا يستحق.
إنها الخيبة عامة، والتي يمكن تداركها بأننا لا نصدم إلا فيمن نريد مادامت مساحة الحب موجودة والتي هي بطاقة مسبقة الدفع فإننا نستطيع التفهم دون ضغينة ..
الكائن الممزق بأفكاره وآرائه يعبر النص إلينا من خلال دقائق جميلة، أدت معناها في "نتر" لغوي يقفز بنا من مكان إلى آخر.. ومن زمن إلى ثان.. ومن حالة إلى حالة..
هذا القلق أدى بنا إلى التعاطف مع مثقف ضائع" ربما هي حال معظم مثقفينا".
يتخبط في البحث عن جدوى ويضيع.. ربما! وقد يجد نفسه أو لا..! تتقاذفه علاقات يضطر إليها وأخرى تتخلى عنه.. لكنه في النهاية يبدو وحيداً غارقاً في ذاتيته، فالنص لم يتطرق إلى عائلة أو ارتباط دافئ .. مما يزيد من انكسار الشخصية واحتوائها لمتناقضاتها ، كأن )أي البطل) يحارب طواحين الهواء تلك التي إما أن تقتله فينساق معها كأجواء فاسدة وأقلام مأجورة .. أو يقتلها ويبقى معزولاً مغيباً غارقاً في عوالمه الداخلية وغريباً وحانقاً ..
(شخص مسبق الدفع) النص الذي يحاول ألا يميل وألا يملي علينا شعوراً محدداً نجح في ذلك إلى حد بعيد فنحن لم نقو على اتهام ذاك الشاعر الكاتب ولم نضعه أيضاً في مصاف الأنبياء..
هكذا هو؛ مجرد إنسانٍ تعس.
و لأن النص يعتمد على صيغة الحوار- الحكي – فيبدو من الطبيعي الاهتمام بجانبه اللغوي والإشارة إلى طبيعة المفردات التي استخدمت لبناء هيكل النص، والتي اتخذت بعداً نفسياً اعتمد بكليته على تعابير مختصرة تحمل عمق المعنى وفي الوقت نفسه عبارات ذات طاقة شعورية عميقة ناسبت الشخصية " الشاعر":
"هناك متسع للحزن- له صهيل – كانت تصطخب في حلمي – كانت ترقص بعدي بحقلين من الذرة- وضعت رأسي على فخذها- القصيدة وحل المفتونين باللغة – ما يختلج في دمي – أتوحد بذراعيها – دُفنتُ فيها – لن يخذلني وحدي- لا يخيب ظننا إلا فيمن نحب -أزداد قناعة".
إضافة إلى مفردات انفعالية تعبر عن المشاعر : "الغضب – الحزن – البكاء – الهزيمة – الضحك – الدهشة – السخرية – الانكسار- الصمت – الحيرة".
ورغم أن النص عبر التقاطاته التي بثتها لنا ملاحظات الشخصية الثانية – أبو خالد- وبحسب ما وصلنا من منطوقه ككائن، فالبطل يظل حتى الخاتمة دون اسم محدد.. كأنها إشارة ذكية من الكاتب أن هذا البطل يمكن أن يكون : أيا منا!



ليست هناك تعليقات: