لاشك إنك مثل كل الكتاب تريد لنصك أن يكون مؤثراً، ولا بد لك من التفكير جدياً كيف تجعله هكذا.. سيقودك تفكيرك إلى أن قراءة بعض التنظيرات النقدية التي تتحدث عن هذا، أمرٌ مجدٍ. الصدفة وحدها قد تجعل كتاب ديل كارينجي »كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس« في مرمى نظرك، تتناوله، لأنك قررت أن يكون نصك مؤثراً، وربما سيفيدك أن تعيد قراءة بعض القواعد التي لخصها كارينجي في هذا الكتاب. تجد ضالتك في القاعدة الثالثة عشر من الكتاب: إذ أردت أن يصغي لك محدثك تحدث بصدق. سيكون الحديث حاراً وحاداً...
تتابع بحثك فتجد أن امبرتو إيكو في أحد كتبه يقول: »ليكن خطابك متماسكاً ومختصراًً«، ويردف: »إن الاختصار لا يعني طول النص أو قصره بل عدم وجود فائض الكلام«. تتذكر حينها مقولة هيروديت: »يا أوفيد أوصيك بالدقة لا بالوضوح«. تتابع البحث عم يفيدك لكتابة النص المؤثر. تتناول ألف ليلة وليلة لتستوحي منها أسلوبا سردياً يجعل القارئ يتابعك بشغف، فهذه الحكايات ما زالت معيناً لا ينضب للكُتاب. تجد أن شهرزاد قالت -وهي تجترح حلاً لمعضلة الموت-: »عليّ ألا أدعه يشرد كي لا يفكر بقتلي«. وقد كانت تعني (القارئ) الوحيد يومها شهريار، فالشرود في هذه الحالة ثمنه الحياة وليس إغلاق الكتاب كما يفعل أي قارئ. تستمر في البحث.. تقرأ في أحد الكتب المختصة في علم التسويق والإعلان: »عنوان الرسالة الإعلانية مهم جداً يجب أن تغري المستهلك بقراءة الإعلان أولاً«. تدون كل هذه الملاحظات على ورقة خارجية وتبدأ التفكير من الملاحظة الأخيرة، العنوان إذاً هو الذي سيقود القارئ إلى النص ويفتح شهيته على القراءة أو يغلقها. يقودك تفكيرك إلى عناوين كثيرة، تستحسن عنوان »قتلتها أخيراً« العنوان جذاب - تقول لنفسك..- لكن كيف سيكون محتوى النص؟ عم سيتحدث؟ لا بد من مضمون، فالعنوان وحده لن يكفي، ومن هي التي قتلتها أخيراً؟ فحسب كارينجي عليك أن تكون صادقاً، وأنت لم تقتل حتى دجاجة لتتحدث عن قتلها مستخدما بعض الحيل اللغوية موهما القارئ أنها ربما تكون امرأة !!. تستبعد هذا العنوان وتقرر أن تختار عنوانا صاخباً فتصيغ »الرجل الذي أكل كلباً حياً« العنوان مغرٍ، وسيدفع فضول الكثير من القراء كي يعرفوا كيف أكل الرجل الكلب. لالا.. لقد استخدم كثيرون قبلك هذه الصيغة المعكوسة، وعليك أن تخلق نصاً جديداً أو تصمت، فلا مبرر لإعادة ثرثرات الآخرين. لم لا يكون العنوان »آخر موت لبائعة المكسرات« فعنوان مخاتل كهذا، تنسف عبره فكرة أن الموت يأتي مرة واحدة دائماً.. لكن -تقول لنفسك- من سيهتم بموت بائعة المكسرات سواء كان موتا أولاًً أو موتاً أخيراً.. لم لا تفكر بمضمون نصك أولاً، ومن ثم تختار العنوان.. لكنك لستَ مدفوعاً إلى الكتابة تحت وطأة فكرة محددة، فأنت تريد أن تكتب نصاً مؤثراً دون أن تقرر مضمونه بعد، في هذه الحالة من الأفضل أن يقودك العنوان.. لكن قد يكون مفيداً أن تقرر المحتوى العام له. تقّلب مواضيع عديدة في ذهنك: اكتب نصاً عن المعاناة الداخلية لك..لا لا، لن يكون مختصراً ولا دقيقاً فأنت عندما تكتب عن دواخلك تميل للاستطراد. أنا على ثقةٍ أن القارئ سيترك النص في منتصفه لأنك ستميل إلى تهويمات شعرية غامضة، ويوصي »رولان بارت« حول أساليب السرد القصصي: »الوضوح متعدد الدلالات علامة فارقة لأي نص يتوخى إحداث التأثير«!!. اكتب عن الحب فهو موضوع شيق وجذاب ويلفت نظر الصغار والكبار، النساء والرجال، وغير مرتبط بزمان محدد، تستطيع أن تُركب الأحداث كما تشاء... أنت تفكر بحدث إذن.. إنها نقطة مهمة كانت غائبة عن ذهنك، النص الذي تفكر فيه قصة إذن! لكنك لا تحب كتابة القصص.. ليكن، لمَ لا تجرب، الناس تحب القصص والحكايا، وأن تكون عن الحب سيعطيها ميزة إضافية، وهو موضوع خالد إذ ما يدريك ربما تُخلّد »قصتك« فأنت تريد نصاً مؤثراً وسيكون الحب ثيمة محببة للقارئ، سيتهادى العشاق هذا النص أو يقتبسون منه أو يشيرون إليه كلما أحبوا. نعم عن الحب، لكن الحب موضوع متشعب فمن أين تبدأ؟.. لتكتب عن حبيبتك.. ألم تحب؟ .. لكن ماذا ستكتب عنها؟ تفكر.. تعيد شريط ذاكرتك.. تنغمس فيه.. تنسرب إلى داخلك.. تنسى لـلحظات أنك دخلت إلى هذا الاسترجاع أساساً لكتابة نص مؤثر. سأكتب عنها، لكني بحاجة إلى خيط البداية.. لم لا تكتب عن قبلتك الأولى لها فهذه لحظة فارقة مر بها كل من أحب، هكذا سيستعيد قبلته هو عندما يقرأ نصك، وسيحب هذا النص لأنك ذكرته بها وسيغرق مثلك الآن في قبلته، ويتجاهل بعض عثرات النص. القبلة الأولى يحلم بها كل من يحب ولم يذقها، بالتأكيد سيكون شغوفاً وهو يتابع كيف كانت القبلة الأولى لشخص عاش الحب وذاق طعمها. أما من لم يحب فسيتألم لأن هذه اللحظة لم تأت بعد، وستقوده إلى الأمل إذا نجح نصك أن يكون مؤثراً. بكل الأحوال ستكون قد دخلت منطقة شعورية مؤثرة. إذن: لكي تخلق تأثيرا طاغياً وأنت تكتب عليك أن تستعيد التفاصيل الحميمية لتلك القبلة.
تتذكر أنك كتبت تاريخها على حائط غرفتك، حتى أنك لكثر ما كنت تقف أمام هذا التاريخ حفظته ولتموه الأمر يومها على صديقك الفضولي الذي يشاركك السكن كتبت »14-12-1990 بدء الحياة«. تركت تلك الغرفة فيما بعد، وظل هذا التاريخ عالقاً في ذهنك. ربما، ليس ربما بل بكل تأكيد، سيكون صاحب الغرفة قد أعاد طلاء الجدران وطمس ذلك التاريخ. الآن وأنت تستعيد تلك القبلة تبدو لك أنها حدثت قبل قليل فقط، فهي ما زالت حارة، طعمها ما زال عالقاً... لكن المعضلة كيف ستخلق هذا الإيحاء للقارئ لتجعله يحس أنها كانت كذلك. لتبدأ نصك بـ (حينما احتضنتها لأول مرة أحسست بجسدي يرتعش، وعندما شعرت بحلمتيها تلامسان صدري بدأ تنفسي يتسارع ويقترب من اللهاث..) تحار كيف ستتقدم (كتابةًً) باتجاه القبلة فهي التفصيل الأساسي من علاقتك بحبيبتك الذي اخترت أن تكتبه. هل عليك أن تذكر المكان مثلاً؟ هل سيضيف ذكر المكان للنص شيئا، أم انه سيكون ثرثرة فائضة؟ وهناك أمر آخر.. فأنت ذكرت أنك يجب أن تكون صادقاً، وعليه كيف لك أن تذكر أنك قبلتها في الشارع، في مساءٍ هدّه التعب، بعد مسير طويل في شوارع حول المدينة !! فكرة ذكر الشارع تبدو لي مهمة، فقبلة أولى في شارع ستثير الانتباه، إذ سيفكر القارئ كيف لهذا المخبول أن تجرأ وقبلها في الشارع وكيف استسلمت له؟ ستكون الجملة هكذا إذا:ً (بعد أن جاءت على الموعد الذي حدَدته لك خلال اتصالك الهاتفي، سرنا، منطلقين من حديقة الجامعة - مكان الموعد - إلى المحلق الغربي للمدينة، حيث لا يمر هناك أحد..)!. تبدو جملتك هذه مفككة وغير مشوقة وقد تغير الضمير فيها من المخاطب إلى المتكلم وهذا يمكن إصلاحه، لكن جاءت على الموعد!! ستبدد لهفة الانتظار هكذا. تلك اللحظات سيكون وصفها مهما وتمكنك من سرد بعض الهواجس التي انتابتك وأنت تتساءل لمَ تأخرت؟! كأن تذكر كيف ركضتَ باتجاه تجمع بعض الناس حول سيارة دهست شخصاً. إنها هي. كما تخيلت لـلحظات... ستجعل الانتظار مشوقاً وستوتر القارئ معك.. وهذا أمر مهم لنص مؤثر. كما أنك وقد حددت المكان بدقة عليك أن تذكر المدينة. إذاً.. لتربط هذه التفاصيل أو تتخلى عنها. كيف ستمرر ذكر المدينة دون أن تقحمه في سردك؟ يمكن أن تقول: (إنها سنتي الأولى في جامعة حلب، وقد كنت شاباً ريفياً منطوياً لم تربطني علاقات مع الفتيات ولا أدري عن عالمهن شيئاً، وكنت أكتفي بممارسة العادة..) لا..لا، إضافة إلى أن هذه الجملة سمجة، سيكتشف القارئ الذي يتابعك أنك تكذب، أو أنك تبني قصة متخيلة فقد ذكرت مرة في لقاء صحفي أنك بدأت الكتابة لأنك أحببت زميلتك في المدرسة. لكن ما الذي سيدري ذلك القارئ أنك لم تقبّل زميلتك تلك وإنه كان حباً مكتوماً من الطرفين وأن ما كتبته لم يصل إليها؟.. قبلة في شارع، في مدينة محافظة سيكون أمراً غير متوقع، لكن عليك أن تشير أيضاً إلى أن حبيبتك فتاة محافظة كي تخلق التأثير المطلوب، إذ إن قبلة لفتاة مستهترة سيكون أمراً عادياً عليك أن تمرر جملة، مثل: »كانت تتهجى خطوتها الأولى في عالم الحب« وتدمجها في بداية مقنعة أكثر. لم لا تبدأ هكذا:
(بعد حبٍ من طرف واحد استمر عدة سنين لم أجرؤ أن أبوح به لزميلتي التي أحببتها، فقد كنت أتلعثم بحضور أي فتاة وأرتبك، كنت أتحايل على هذا بالصمت إلى أن تعرفت على..). هل ستذكر اسمها؟! هل هذا مهماً؟ حينما ستقول تعرفت إلى (هدى) سيعلم من يعرفك انك تتحدث عن زوجتك، وسيعرفون حينها تفصيلا مهما عن حياتك، وقد اعتاد الكتاب أن يموهوا هذا حتى وهم ينهلون من تجاربهم الذاتية، على الأقل قم بتغيير الأسماء والأماكن... ما الذي تريده؟ كنت تبحث عن نص مؤثر ماذا سيعني إن كان اسمها هدى أم سارة..
لا.. الاسم مهم للتدفق العاطفي أثناء الكتابة، سيجعلك الاسم الحقيقي حاداً وحاراً وأنت تكتب.. وهذا سيخلق تأثيراً عاطفياً؟ يبدو أنك تريد ممن يقرأ أن يتعاطف معك ولستَ عابئاً بغير هذا.. أرى أنك بدأت تغرق في تفاصيل غير مهمة. عد إلى القبلة. اكتب: (في شارعٍ منزوٍ ومظلم، في مساءٍ هدّه التعب، بعد مسيرٍ طويل استمر من منتصف النهار حتى بداية العتمة. قالت بهدوء: لقد تأخرت وعلي أن اذهب. استبدت بك الخيبة واشتعل بك الشوق حتى قبل أن تذهب فوقفت. يدها كانت في يدك، وقوفك المفاجئ أجبرها أن تقف، التفتت إليك فجذبتها نحوك، ودون أن تترك لها فرصة للتفكير حضنتها، كانت المرة الأولى التي تحضنها فيها؛ جسدك بدأ يرتعش عندما شعرت بحلمتيها تلامسان صدرك. تنفسك بدأ يتسارع ويقترب من اللهاث. نظرت إلى عينيها، نظرت هي كذلك، أدركتْ نواياك، فأشاحت بوجهها عنك، وضعت يدك خلف رأسها وجذبته نحوك بممانعة خفيفة منها و... أطبقت بشفتيك على شفتيها المطبقتين..). الأمر ليس سهلاً كما تتوقع فما كتبته هو قبلة عامة لا خصوصية لها، يمكن أن تجدها عند أغلب الكتاب إضافة إلى بعض الجمل الفائضة والمكررة، فذكر المساء يغني عن ذكر بداية العتمة وأنت كنت تفكر بالاختصار والتأثير.. ترتخي أصابعك على الكيبورد، لكن هذا ما حدث.. تتنهد وتنسرب إلى داخلك.. فهي القبلة التي أسفرت عن طفلين وعمرٍ من الخيبة والألم. عد إلى النص، ليس وقت دواخلك الآن، عليك أن تكتب عن قبلتك أنت. لا يهم الوصف الخارجي لها، فهو ما يمكن اختزاله إلى جملة واحدة. اكتب: (لا زالت تلك القبلة ممتزجة بريقي، تحت لساني.. لم تغادرني تلك القبلة رغم أنها أسفرت عن خيبة وطفلين. ما زلت أذكر إن جسدي كان يرتعش كمن بلله المطر وتسرب من خلال ثيابه إلى جسده ودخل إلى غرفة باردة في شتاء قارس، حينما أتذكرها أتذوق طعمتها فقد كانت كطعم الكستناء..) هذا جيد وخاص، لكن تأثيره العاطفي سيعتمد على ماسيليه لأنه لم يشكل سوى حدث قصير. يمكنك أن تربط القبلة الأولى بالقبلة الأخيرة لها.. لكن كيف لك أن تذكر القبلة الأخيرة دون أن تفجر سراً كنت تخبئه عمن يعرفك ولا يعرفها؟ السر الذي ما زلت تداريه حتى عن أطفالك.
في تلك الفترة تذرعت للجميع بأن من تحبك غادرتك، ولم تضف شيئاً!!. قلتَ هذا لحامد بن عقيل حين سألك: »ما بك؟«، وأصبح لازمة تكررها للجميع. وقلت هذا لدلع المفتي حينما قالت لك: »أنت لستَ طبيعي«، فتركتْ الماسنجر واتصلت بك. فكرتَ يومها أن الصوت سيفضحك، فكررت لها لازمتك التي حفظتها جيدا، وأنك تحتاج وقتاً كي تخرج من هذه الحالة. الآن بعد مرور ما يقارب السنة ليس مهماً أن يعرف الجميع.. التفاصيل الحقيقية ستكون لاذعة وستنفجر من مناطقك الشعورية الأكثر حميمية، فهمّك الأساسي ألا يعرف أطفالك أنها رحلت، لقد فكرت يومها وما زلت تعتقد أن (نينوى) ستذبل، وأنت تدرك مدى تعلقها بأمها. مازلت هلعاً من فكرة فقدان آخرين، وخصوصاً »ننو« كما تدلعها.. لم تذهب إلى العزاء يومها، وكان هذا قرارك النهائي الذي لم يفهمه أو يقدره أحد.
ظللت بجانبها إلى أن.. خرجتَ من المشفى، وقلت للحضور الذين لم يتكاثروا سأذهب إلى الأولاد، وقد كانوا لوحدهم في المنزل ونبهت الجميع ألا يخبرهم أحد. حينما فتحت الباب لم يتراكضوا كعادتهم عندما تكون أمهم في المنزل، مرض أمهم وغيابها عنهم كسرهم وخذل أصواتهم وخطاهم، افتعلت الضجيج يومها وقلت لهم: »لنعقد اجتماعاً عائلياً«، وهي فكرة كانت تبهجهم، وتظل تؤجله أياماً عديدة، تطلب منهم أحيانا أن يكتبوا مطالبهم وشكاويهم للنظر فيها، في آخر اجتماع قرّعتكَ »ننو« لأنك لم تعد تحبها، وقال لك »غالي« مضيفاً: »لم تعد تلعب معنا.. «وأضاف وكأنه يتذكر: »من زمااااان لم تلعب معنا«. حين قالت لك نينوى إنها »ستبطل تحبك« ظللت صامتاً لكن لون سحنتك بدأ يميل للشحوب. قالت لها أمها: خلص ننووو.. يكفي (ترندحي)، وقد أحست من ملامحك أن أوجاعا كثيرة بدأت تستيقظ في داخلك، يومها ردت نينوى: »ما بدي اسكت خليه يسمع..«. حينها نزلت دمعتك.. بهت الجميع. غاليـ/ ك نظر إلى نينوى كمذنبة، وقد تنقلت نظراتها بشكلٍ خاطف بينك وبين أمها.. ركضت إليك تحضنك، ملصقة خدها فوق دمعتك قبل أن تتدحرج: »بابايتو عم امزح.. بحبك والله.. لا تزعل«. قلت لها مبتسماً: »ماني زعلان والله«. ضحكتْ.. قرصتك من خديك بيديها الطرية قائلة: »ما تتحملي مزح ياقطة« أخذتها بحضنك صائحا بصوت مخنوق: دخيل القطاط أنا...
لقد فلت منك النص كما يبدو ولن يكون ما تكتبه سوى ثرثرة شخصية لن تشكل قصة، فقد نسيت أنك تريد أن تكتب نصاً مؤثراً عبر قبلة، وانسربت إلى دواخلك في تداعيات هامشية. هل تريد أن تسرد كل حياتك الشخصية من خلال نص عن قبلة؟ لا..لا، عليك أن تدخل الأطفال إلى هذا النص كشخوص مهمين، إذ إن الوضع الذي آلت إليه الأمور بعد رحيل أمهم سيكون تفصيلا رئيسياً. اكتب بعد ما كتبتَ عن القبلة الأولى: (تلك القبلة التي أثمرت عشر سنوات من الزواج وطفلا في السنة الأولى لزواجنا لحقت به طفلة بعد اقل من سنتين وأنجبت انفصالا هادئاً...) ليس في ما كتبت هنا أي عبارة مؤثرة لكنك تحتاجه لربط الأحداث وإدخال عنصر الزمن، وسيكون مهما أن تذكر هذا قبل أن تذكر قبلتك الأخيرة لها...
رغم أنك بدأت تتفكك، ولم تعد تعي أين النص، وأين تداعياتك التي خارجه، إلا أنك يجب أن تشير إلى وضع أطفالكما بعد رحيلها.
قلت لصديقتها هيفاء حين اتصلت بك معزية: أريدك أن تمري. فقد هداك تفكيرك أنها الحل الملائم لما أنتما فيه.. ويمكنك أن تدخلها إلى نصك وتكتب: (قبل رحيلها بيوم كنت امسك بيدها وأمازحها: سنتبهدل إذا متِِ، لا تموتي، ليس من أجلك فقط بل من أجلنا جميعاً... ضحكت قائلة: »موت المرأة عند الرجل متل طرقة الكسع« فما بالك وأنا لستُ امرأتك. كانت تذكر هذا للمرة الأولى أمام هيفاء التي لم تستوعب الجملة.. أكملت بعد أن أدارت وجهها إلى هيفاء: بالنسبة للأولاد هيفاء تسكن معهم، أنت طافش من الأصل، لن يتغير عليك شي. سالت دمعتها.. مسحتها بيدك قائلاًً: بعيد الشر عنك.. إن شاء لله عدوينك، وأضفت ضاحكاً:لا تخافي والله لتهري عظامي وأنت لا زلت تشمي هواء الدنيا.. أنت بسبع أرواح. فردت ضاحكة: إن شاء لله. لم يستفزك هذا داخلياً إلا أنك افتعلت التأثر: »أيوة.. أيوة اظهر وبان... بدك تخلصي مني مو؟«...) ألا ترى أنك تبتعد عن النص وأنك خلطت ما بين النص الذي تنوي كتابته وبين هذه الذكريات. كان الاقتراح أن تربط القبلة الأولى بالقبلة الأخيرة هل من الضروري أن يعلم الجميع أنكما كنتما منفصلين حينما قبلتها القبلة الأخيرة، حتى لو أردت إعلان هذا يمكنك أن تمرره عبر جملة قصيرة (لم أعد أذكر من قبلاتي لها إلا ثلاث.. كانت القبلة الثانية بعد أن قررنا الانفصال، فحياتنا أضحت خالية من القبل...) جملتك الأخيرة موفقة جداً، فـ »خالية من القبل« كافية ليعرف القارئ ما اعترى حياتكما الزوجية دون ثرثرة فائضة، ولمزيد من التأثير عليك أن تصف القبلة الثانية هذه: (تناولت حقيبتي التي أدمنتني وأدمنتها، قبلتُ ننو وغيلو وهما يدركان تماما ما حصل، لكنهما دائما يتظاهران بعكس ذلك.. خرجت منسلاً كلص، قالت لك: »مافي خاطرك«. التفت إليها لم يكن هناك دموع، فقد بدوتما قويين بما يكفي لتحمل هذا. اقتربت منك.. تركتَ يد الحقيبة، الطفلان كانا يقفان خلفها.. قبلتها على خدها هذه المرة مطيلاً احتضان رأسها، كان لشعرها رائحة بساتين في أول الربيع، وكان لجيدها رائحة ياسمين يذبل، ولم يكن هناك طعم للقبلة لأن شفاهكم ظلت مطبقة.. ربتت على رأسها: »خاطرك«...) لم يبق لك شيء كي تصل إلى القبلة الأخيرة، عليك أن تقول جملة واحدة قبلها فقط تذكر فيها للقارئ أن حياتكما بعد أن انفصلتما قد شابها الود والهدوء كأن تكتب: (كنت أفكر دائماً لمَ ينتج الغياب كل هذا الهدوء؟ لمَ بعد أن سرنا في دروب منفصلة لم يعد لحضور كل منا في حياة الآخر طعم الأذى..) نعم هذا حقيقي، فقد أصبحتما تتبادلان أحاديث مطولة، وكلما اقتربتما من مناطق وعرة تقرران إغلاق الموضوع.. كنت تماحكها بأنك تحب الآن وأنك ستتزوج عمّ قريب، كان هذا كافياً لجعلها تتوتر إلا إنها تضحك وهي تقول: »إن شاء لله من الصبح.. إذا بدك أخطب لك والله.. يا شايل الهم عن قلب صاحبه«. تفتعل الانزعاج مردداً: اي.. اي صرت هم طبعاً... تحاول مراضاتك: لا والله عـ سلامتك مافي منك...
لم لا تكتب هذا داخل النص يمكنك تشذيبه وإدخاله في النص... لا..لا، إنها جمل فائضة يمكن اختزالها بجملة وحيدة موحية ومؤثرة وأنت تكتب عن قبلتك الأخيرة: (في المشفى حين قال لك الطبيب »البقية بحياتك« لم ترد، كان نظرك مسمراً على وجهها الأسمر الذي احتفظ بنضارته رغم المرض.. كنت تعرف أنها فارقت الحياة، لكنك تعلقت بوهم عساه ينطقه. حينما ذهب شقيقك الأصغر لإحضاره كنت ممسكاً بيدها التي بدأت تتسلل إليها البرودة.. قلت لهم اتركونا لوحدنا. نظر إليك أخوك بممانعة. اقترب منك.. امسك يدك محاولاً أن يسحبك إلى... كررت بحزم دون أن تتحرك: اتركنا لوحدنا.. بدأت تتحسس وجهها وتداعب شعرها الأسود الكثيف، كان ثغرها ينفرج عن ابتسامة هادئة، حضنتها فسرت في جسدك قشعريرة رطبة، تسارعت أنفاسك، كان لابد لك أن تقبلها، لا قبلة وداع كما يقبل الآخرون الراحلين بل قبلة عاشق، كان لقبلتها طعم الكستناء نفسه... وانفجرت ببكاءٍ شرسٍ وحاد وهي في حضنك...)
تتابع بحثك فتجد أن امبرتو إيكو في أحد كتبه يقول: »ليكن خطابك متماسكاً ومختصراًً«، ويردف: »إن الاختصار لا يعني طول النص أو قصره بل عدم وجود فائض الكلام«. تتذكر حينها مقولة هيروديت: »يا أوفيد أوصيك بالدقة لا بالوضوح«. تتابع البحث عم يفيدك لكتابة النص المؤثر. تتناول ألف ليلة وليلة لتستوحي منها أسلوبا سردياً يجعل القارئ يتابعك بشغف، فهذه الحكايات ما زالت معيناً لا ينضب للكُتاب. تجد أن شهرزاد قالت -وهي تجترح حلاً لمعضلة الموت-: »عليّ ألا أدعه يشرد كي لا يفكر بقتلي«. وقد كانت تعني (القارئ) الوحيد يومها شهريار، فالشرود في هذه الحالة ثمنه الحياة وليس إغلاق الكتاب كما يفعل أي قارئ. تستمر في البحث.. تقرأ في أحد الكتب المختصة في علم التسويق والإعلان: »عنوان الرسالة الإعلانية مهم جداً يجب أن تغري المستهلك بقراءة الإعلان أولاً«. تدون كل هذه الملاحظات على ورقة خارجية وتبدأ التفكير من الملاحظة الأخيرة، العنوان إذاً هو الذي سيقود القارئ إلى النص ويفتح شهيته على القراءة أو يغلقها. يقودك تفكيرك إلى عناوين كثيرة، تستحسن عنوان »قتلتها أخيراً« العنوان جذاب - تقول لنفسك..- لكن كيف سيكون محتوى النص؟ عم سيتحدث؟ لا بد من مضمون، فالعنوان وحده لن يكفي، ومن هي التي قتلتها أخيراً؟ فحسب كارينجي عليك أن تكون صادقاً، وأنت لم تقتل حتى دجاجة لتتحدث عن قتلها مستخدما بعض الحيل اللغوية موهما القارئ أنها ربما تكون امرأة !!. تستبعد هذا العنوان وتقرر أن تختار عنوانا صاخباً فتصيغ »الرجل الذي أكل كلباً حياً« العنوان مغرٍ، وسيدفع فضول الكثير من القراء كي يعرفوا كيف أكل الرجل الكلب. لالا.. لقد استخدم كثيرون قبلك هذه الصيغة المعكوسة، وعليك أن تخلق نصاً جديداً أو تصمت، فلا مبرر لإعادة ثرثرات الآخرين. لم لا يكون العنوان »آخر موت لبائعة المكسرات« فعنوان مخاتل كهذا، تنسف عبره فكرة أن الموت يأتي مرة واحدة دائماً.. لكن -تقول لنفسك- من سيهتم بموت بائعة المكسرات سواء كان موتا أولاًً أو موتاً أخيراً.. لم لا تفكر بمضمون نصك أولاً، ومن ثم تختار العنوان.. لكنك لستَ مدفوعاً إلى الكتابة تحت وطأة فكرة محددة، فأنت تريد أن تكتب نصاً مؤثراً دون أن تقرر مضمونه بعد، في هذه الحالة من الأفضل أن يقودك العنوان.. لكن قد يكون مفيداً أن تقرر المحتوى العام له. تقّلب مواضيع عديدة في ذهنك: اكتب نصاً عن المعاناة الداخلية لك..لا لا، لن يكون مختصراً ولا دقيقاً فأنت عندما تكتب عن دواخلك تميل للاستطراد. أنا على ثقةٍ أن القارئ سيترك النص في منتصفه لأنك ستميل إلى تهويمات شعرية غامضة، ويوصي »رولان بارت« حول أساليب السرد القصصي: »الوضوح متعدد الدلالات علامة فارقة لأي نص يتوخى إحداث التأثير«!!. اكتب عن الحب فهو موضوع شيق وجذاب ويلفت نظر الصغار والكبار، النساء والرجال، وغير مرتبط بزمان محدد، تستطيع أن تُركب الأحداث كما تشاء... أنت تفكر بحدث إذن.. إنها نقطة مهمة كانت غائبة عن ذهنك، النص الذي تفكر فيه قصة إذن! لكنك لا تحب كتابة القصص.. ليكن، لمَ لا تجرب، الناس تحب القصص والحكايا، وأن تكون عن الحب سيعطيها ميزة إضافية، وهو موضوع خالد إذ ما يدريك ربما تُخلّد »قصتك« فأنت تريد نصاً مؤثراً وسيكون الحب ثيمة محببة للقارئ، سيتهادى العشاق هذا النص أو يقتبسون منه أو يشيرون إليه كلما أحبوا. نعم عن الحب، لكن الحب موضوع متشعب فمن أين تبدأ؟.. لتكتب عن حبيبتك.. ألم تحب؟ .. لكن ماذا ستكتب عنها؟ تفكر.. تعيد شريط ذاكرتك.. تنغمس فيه.. تنسرب إلى داخلك.. تنسى لـلحظات أنك دخلت إلى هذا الاسترجاع أساساً لكتابة نص مؤثر. سأكتب عنها، لكني بحاجة إلى خيط البداية.. لم لا تكتب عن قبلتك الأولى لها فهذه لحظة فارقة مر بها كل من أحب، هكذا سيستعيد قبلته هو عندما يقرأ نصك، وسيحب هذا النص لأنك ذكرته بها وسيغرق مثلك الآن في قبلته، ويتجاهل بعض عثرات النص. القبلة الأولى يحلم بها كل من يحب ولم يذقها، بالتأكيد سيكون شغوفاً وهو يتابع كيف كانت القبلة الأولى لشخص عاش الحب وذاق طعمها. أما من لم يحب فسيتألم لأن هذه اللحظة لم تأت بعد، وستقوده إلى الأمل إذا نجح نصك أن يكون مؤثراً. بكل الأحوال ستكون قد دخلت منطقة شعورية مؤثرة. إذن: لكي تخلق تأثيرا طاغياً وأنت تكتب عليك أن تستعيد التفاصيل الحميمية لتلك القبلة.
تتذكر أنك كتبت تاريخها على حائط غرفتك، حتى أنك لكثر ما كنت تقف أمام هذا التاريخ حفظته ولتموه الأمر يومها على صديقك الفضولي الذي يشاركك السكن كتبت »14-12-1990 بدء الحياة«. تركت تلك الغرفة فيما بعد، وظل هذا التاريخ عالقاً في ذهنك. ربما، ليس ربما بل بكل تأكيد، سيكون صاحب الغرفة قد أعاد طلاء الجدران وطمس ذلك التاريخ. الآن وأنت تستعيد تلك القبلة تبدو لك أنها حدثت قبل قليل فقط، فهي ما زالت حارة، طعمها ما زال عالقاً... لكن المعضلة كيف ستخلق هذا الإيحاء للقارئ لتجعله يحس أنها كانت كذلك. لتبدأ نصك بـ (حينما احتضنتها لأول مرة أحسست بجسدي يرتعش، وعندما شعرت بحلمتيها تلامسان صدري بدأ تنفسي يتسارع ويقترب من اللهاث..) تحار كيف ستتقدم (كتابةًً) باتجاه القبلة فهي التفصيل الأساسي من علاقتك بحبيبتك الذي اخترت أن تكتبه. هل عليك أن تذكر المكان مثلاً؟ هل سيضيف ذكر المكان للنص شيئا، أم انه سيكون ثرثرة فائضة؟ وهناك أمر آخر.. فأنت ذكرت أنك يجب أن تكون صادقاً، وعليه كيف لك أن تذكر أنك قبلتها في الشارع، في مساءٍ هدّه التعب، بعد مسير طويل في شوارع حول المدينة !! فكرة ذكر الشارع تبدو لي مهمة، فقبلة أولى في شارع ستثير الانتباه، إذ سيفكر القارئ كيف لهذا المخبول أن تجرأ وقبلها في الشارع وكيف استسلمت له؟ ستكون الجملة هكذا إذا:ً (بعد أن جاءت على الموعد الذي حدَدته لك خلال اتصالك الهاتفي، سرنا، منطلقين من حديقة الجامعة - مكان الموعد - إلى المحلق الغربي للمدينة، حيث لا يمر هناك أحد..)!. تبدو جملتك هذه مفككة وغير مشوقة وقد تغير الضمير فيها من المخاطب إلى المتكلم وهذا يمكن إصلاحه، لكن جاءت على الموعد!! ستبدد لهفة الانتظار هكذا. تلك اللحظات سيكون وصفها مهما وتمكنك من سرد بعض الهواجس التي انتابتك وأنت تتساءل لمَ تأخرت؟! كأن تذكر كيف ركضتَ باتجاه تجمع بعض الناس حول سيارة دهست شخصاً. إنها هي. كما تخيلت لـلحظات... ستجعل الانتظار مشوقاً وستوتر القارئ معك.. وهذا أمر مهم لنص مؤثر. كما أنك وقد حددت المكان بدقة عليك أن تذكر المدينة. إذاً.. لتربط هذه التفاصيل أو تتخلى عنها. كيف ستمرر ذكر المدينة دون أن تقحمه في سردك؟ يمكن أن تقول: (إنها سنتي الأولى في جامعة حلب، وقد كنت شاباً ريفياً منطوياً لم تربطني علاقات مع الفتيات ولا أدري عن عالمهن شيئاً، وكنت أكتفي بممارسة العادة..) لا..لا، إضافة إلى أن هذه الجملة سمجة، سيكتشف القارئ الذي يتابعك أنك تكذب، أو أنك تبني قصة متخيلة فقد ذكرت مرة في لقاء صحفي أنك بدأت الكتابة لأنك أحببت زميلتك في المدرسة. لكن ما الذي سيدري ذلك القارئ أنك لم تقبّل زميلتك تلك وإنه كان حباً مكتوماً من الطرفين وأن ما كتبته لم يصل إليها؟.. قبلة في شارع، في مدينة محافظة سيكون أمراً غير متوقع، لكن عليك أن تشير أيضاً إلى أن حبيبتك فتاة محافظة كي تخلق التأثير المطلوب، إذ إن قبلة لفتاة مستهترة سيكون أمراً عادياً عليك أن تمرر جملة، مثل: »كانت تتهجى خطوتها الأولى في عالم الحب« وتدمجها في بداية مقنعة أكثر. لم لا تبدأ هكذا:
(بعد حبٍ من طرف واحد استمر عدة سنين لم أجرؤ أن أبوح به لزميلتي التي أحببتها، فقد كنت أتلعثم بحضور أي فتاة وأرتبك، كنت أتحايل على هذا بالصمت إلى أن تعرفت على..). هل ستذكر اسمها؟! هل هذا مهماً؟ حينما ستقول تعرفت إلى (هدى) سيعلم من يعرفك انك تتحدث عن زوجتك، وسيعرفون حينها تفصيلا مهما عن حياتك، وقد اعتاد الكتاب أن يموهوا هذا حتى وهم ينهلون من تجاربهم الذاتية، على الأقل قم بتغيير الأسماء والأماكن... ما الذي تريده؟ كنت تبحث عن نص مؤثر ماذا سيعني إن كان اسمها هدى أم سارة..
لا.. الاسم مهم للتدفق العاطفي أثناء الكتابة، سيجعلك الاسم الحقيقي حاداً وحاراً وأنت تكتب.. وهذا سيخلق تأثيراً عاطفياً؟ يبدو أنك تريد ممن يقرأ أن يتعاطف معك ولستَ عابئاً بغير هذا.. أرى أنك بدأت تغرق في تفاصيل غير مهمة. عد إلى القبلة. اكتب: (في شارعٍ منزوٍ ومظلم، في مساءٍ هدّه التعب، بعد مسيرٍ طويل استمر من منتصف النهار حتى بداية العتمة. قالت بهدوء: لقد تأخرت وعلي أن اذهب. استبدت بك الخيبة واشتعل بك الشوق حتى قبل أن تذهب فوقفت. يدها كانت في يدك، وقوفك المفاجئ أجبرها أن تقف، التفتت إليك فجذبتها نحوك، ودون أن تترك لها فرصة للتفكير حضنتها، كانت المرة الأولى التي تحضنها فيها؛ جسدك بدأ يرتعش عندما شعرت بحلمتيها تلامسان صدرك. تنفسك بدأ يتسارع ويقترب من اللهاث. نظرت إلى عينيها، نظرت هي كذلك، أدركتْ نواياك، فأشاحت بوجهها عنك، وضعت يدك خلف رأسها وجذبته نحوك بممانعة خفيفة منها و... أطبقت بشفتيك على شفتيها المطبقتين..). الأمر ليس سهلاً كما تتوقع فما كتبته هو قبلة عامة لا خصوصية لها، يمكن أن تجدها عند أغلب الكتاب إضافة إلى بعض الجمل الفائضة والمكررة، فذكر المساء يغني عن ذكر بداية العتمة وأنت كنت تفكر بالاختصار والتأثير.. ترتخي أصابعك على الكيبورد، لكن هذا ما حدث.. تتنهد وتنسرب إلى داخلك.. فهي القبلة التي أسفرت عن طفلين وعمرٍ من الخيبة والألم. عد إلى النص، ليس وقت دواخلك الآن، عليك أن تكتب عن قبلتك أنت. لا يهم الوصف الخارجي لها، فهو ما يمكن اختزاله إلى جملة واحدة. اكتب: (لا زالت تلك القبلة ممتزجة بريقي، تحت لساني.. لم تغادرني تلك القبلة رغم أنها أسفرت عن خيبة وطفلين. ما زلت أذكر إن جسدي كان يرتعش كمن بلله المطر وتسرب من خلال ثيابه إلى جسده ودخل إلى غرفة باردة في شتاء قارس، حينما أتذكرها أتذوق طعمتها فقد كانت كطعم الكستناء..) هذا جيد وخاص، لكن تأثيره العاطفي سيعتمد على ماسيليه لأنه لم يشكل سوى حدث قصير. يمكنك أن تربط القبلة الأولى بالقبلة الأخيرة لها.. لكن كيف لك أن تذكر القبلة الأخيرة دون أن تفجر سراً كنت تخبئه عمن يعرفك ولا يعرفها؟ السر الذي ما زلت تداريه حتى عن أطفالك.
في تلك الفترة تذرعت للجميع بأن من تحبك غادرتك، ولم تضف شيئاً!!. قلتَ هذا لحامد بن عقيل حين سألك: »ما بك؟«، وأصبح لازمة تكررها للجميع. وقلت هذا لدلع المفتي حينما قالت لك: »أنت لستَ طبيعي«، فتركتْ الماسنجر واتصلت بك. فكرتَ يومها أن الصوت سيفضحك، فكررت لها لازمتك التي حفظتها جيدا، وأنك تحتاج وقتاً كي تخرج من هذه الحالة. الآن بعد مرور ما يقارب السنة ليس مهماً أن يعرف الجميع.. التفاصيل الحقيقية ستكون لاذعة وستنفجر من مناطقك الشعورية الأكثر حميمية، فهمّك الأساسي ألا يعرف أطفالك أنها رحلت، لقد فكرت يومها وما زلت تعتقد أن (نينوى) ستذبل، وأنت تدرك مدى تعلقها بأمها. مازلت هلعاً من فكرة فقدان آخرين، وخصوصاً »ننو« كما تدلعها.. لم تذهب إلى العزاء يومها، وكان هذا قرارك النهائي الذي لم يفهمه أو يقدره أحد.
ظللت بجانبها إلى أن.. خرجتَ من المشفى، وقلت للحضور الذين لم يتكاثروا سأذهب إلى الأولاد، وقد كانوا لوحدهم في المنزل ونبهت الجميع ألا يخبرهم أحد. حينما فتحت الباب لم يتراكضوا كعادتهم عندما تكون أمهم في المنزل، مرض أمهم وغيابها عنهم كسرهم وخذل أصواتهم وخطاهم، افتعلت الضجيج يومها وقلت لهم: »لنعقد اجتماعاً عائلياً«، وهي فكرة كانت تبهجهم، وتظل تؤجله أياماً عديدة، تطلب منهم أحيانا أن يكتبوا مطالبهم وشكاويهم للنظر فيها، في آخر اجتماع قرّعتكَ »ننو« لأنك لم تعد تحبها، وقال لك »غالي« مضيفاً: »لم تعد تلعب معنا.. «وأضاف وكأنه يتذكر: »من زمااااان لم تلعب معنا«. حين قالت لك نينوى إنها »ستبطل تحبك« ظللت صامتاً لكن لون سحنتك بدأ يميل للشحوب. قالت لها أمها: خلص ننووو.. يكفي (ترندحي)، وقد أحست من ملامحك أن أوجاعا كثيرة بدأت تستيقظ في داخلك، يومها ردت نينوى: »ما بدي اسكت خليه يسمع..«. حينها نزلت دمعتك.. بهت الجميع. غاليـ/ ك نظر إلى نينوى كمذنبة، وقد تنقلت نظراتها بشكلٍ خاطف بينك وبين أمها.. ركضت إليك تحضنك، ملصقة خدها فوق دمعتك قبل أن تتدحرج: »بابايتو عم امزح.. بحبك والله.. لا تزعل«. قلت لها مبتسماً: »ماني زعلان والله«. ضحكتْ.. قرصتك من خديك بيديها الطرية قائلة: »ما تتحملي مزح ياقطة« أخذتها بحضنك صائحا بصوت مخنوق: دخيل القطاط أنا...
لقد فلت منك النص كما يبدو ولن يكون ما تكتبه سوى ثرثرة شخصية لن تشكل قصة، فقد نسيت أنك تريد أن تكتب نصاً مؤثراً عبر قبلة، وانسربت إلى دواخلك في تداعيات هامشية. هل تريد أن تسرد كل حياتك الشخصية من خلال نص عن قبلة؟ لا..لا، عليك أن تدخل الأطفال إلى هذا النص كشخوص مهمين، إذ إن الوضع الذي آلت إليه الأمور بعد رحيل أمهم سيكون تفصيلا رئيسياً. اكتب بعد ما كتبتَ عن القبلة الأولى: (تلك القبلة التي أثمرت عشر سنوات من الزواج وطفلا في السنة الأولى لزواجنا لحقت به طفلة بعد اقل من سنتين وأنجبت انفصالا هادئاً...) ليس في ما كتبت هنا أي عبارة مؤثرة لكنك تحتاجه لربط الأحداث وإدخال عنصر الزمن، وسيكون مهما أن تذكر هذا قبل أن تذكر قبلتك الأخيرة لها...
رغم أنك بدأت تتفكك، ولم تعد تعي أين النص، وأين تداعياتك التي خارجه، إلا أنك يجب أن تشير إلى وضع أطفالكما بعد رحيلها.
قلت لصديقتها هيفاء حين اتصلت بك معزية: أريدك أن تمري. فقد هداك تفكيرك أنها الحل الملائم لما أنتما فيه.. ويمكنك أن تدخلها إلى نصك وتكتب: (قبل رحيلها بيوم كنت امسك بيدها وأمازحها: سنتبهدل إذا متِِ، لا تموتي، ليس من أجلك فقط بل من أجلنا جميعاً... ضحكت قائلة: »موت المرأة عند الرجل متل طرقة الكسع« فما بالك وأنا لستُ امرأتك. كانت تذكر هذا للمرة الأولى أمام هيفاء التي لم تستوعب الجملة.. أكملت بعد أن أدارت وجهها إلى هيفاء: بالنسبة للأولاد هيفاء تسكن معهم، أنت طافش من الأصل، لن يتغير عليك شي. سالت دمعتها.. مسحتها بيدك قائلاًً: بعيد الشر عنك.. إن شاء لله عدوينك، وأضفت ضاحكاً:لا تخافي والله لتهري عظامي وأنت لا زلت تشمي هواء الدنيا.. أنت بسبع أرواح. فردت ضاحكة: إن شاء لله. لم يستفزك هذا داخلياً إلا أنك افتعلت التأثر: »أيوة.. أيوة اظهر وبان... بدك تخلصي مني مو؟«...) ألا ترى أنك تبتعد عن النص وأنك خلطت ما بين النص الذي تنوي كتابته وبين هذه الذكريات. كان الاقتراح أن تربط القبلة الأولى بالقبلة الأخيرة هل من الضروري أن يعلم الجميع أنكما كنتما منفصلين حينما قبلتها القبلة الأخيرة، حتى لو أردت إعلان هذا يمكنك أن تمرره عبر جملة قصيرة (لم أعد أذكر من قبلاتي لها إلا ثلاث.. كانت القبلة الثانية بعد أن قررنا الانفصال، فحياتنا أضحت خالية من القبل...) جملتك الأخيرة موفقة جداً، فـ »خالية من القبل« كافية ليعرف القارئ ما اعترى حياتكما الزوجية دون ثرثرة فائضة، ولمزيد من التأثير عليك أن تصف القبلة الثانية هذه: (تناولت حقيبتي التي أدمنتني وأدمنتها، قبلتُ ننو وغيلو وهما يدركان تماما ما حصل، لكنهما دائما يتظاهران بعكس ذلك.. خرجت منسلاً كلص، قالت لك: »مافي خاطرك«. التفت إليها لم يكن هناك دموع، فقد بدوتما قويين بما يكفي لتحمل هذا. اقتربت منك.. تركتَ يد الحقيبة، الطفلان كانا يقفان خلفها.. قبلتها على خدها هذه المرة مطيلاً احتضان رأسها، كان لشعرها رائحة بساتين في أول الربيع، وكان لجيدها رائحة ياسمين يذبل، ولم يكن هناك طعم للقبلة لأن شفاهكم ظلت مطبقة.. ربتت على رأسها: »خاطرك«...) لم يبق لك شيء كي تصل إلى القبلة الأخيرة، عليك أن تقول جملة واحدة قبلها فقط تذكر فيها للقارئ أن حياتكما بعد أن انفصلتما قد شابها الود والهدوء كأن تكتب: (كنت أفكر دائماً لمَ ينتج الغياب كل هذا الهدوء؟ لمَ بعد أن سرنا في دروب منفصلة لم يعد لحضور كل منا في حياة الآخر طعم الأذى..) نعم هذا حقيقي، فقد أصبحتما تتبادلان أحاديث مطولة، وكلما اقتربتما من مناطق وعرة تقرران إغلاق الموضوع.. كنت تماحكها بأنك تحب الآن وأنك ستتزوج عمّ قريب، كان هذا كافياً لجعلها تتوتر إلا إنها تضحك وهي تقول: »إن شاء لله من الصبح.. إذا بدك أخطب لك والله.. يا شايل الهم عن قلب صاحبه«. تفتعل الانزعاج مردداً: اي.. اي صرت هم طبعاً... تحاول مراضاتك: لا والله عـ سلامتك مافي منك...
لم لا تكتب هذا داخل النص يمكنك تشذيبه وإدخاله في النص... لا..لا، إنها جمل فائضة يمكن اختزالها بجملة وحيدة موحية ومؤثرة وأنت تكتب عن قبلتك الأخيرة: (في المشفى حين قال لك الطبيب »البقية بحياتك« لم ترد، كان نظرك مسمراً على وجهها الأسمر الذي احتفظ بنضارته رغم المرض.. كنت تعرف أنها فارقت الحياة، لكنك تعلقت بوهم عساه ينطقه. حينما ذهب شقيقك الأصغر لإحضاره كنت ممسكاً بيدها التي بدأت تتسلل إليها البرودة.. قلت لهم اتركونا لوحدنا. نظر إليك أخوك بممانعة. اقترب منك.. امسك يدك محاولاً أن يسحبك إلى... كررت بحزم دون أن تتحرك: اتركنا لوحدنا.. بدأت تتحسس وجهها وتداعب شعرها الأسود الكثيف، كان ثغرها ينفرج عن ابتسامة هادئة، حضنتها فسرت في جسدك قشعريرة رطبة، تسارعت أنفاسك، كان لابد لك أن تقبلها، لا قبلة وداع كما يقبل الآخرون الراحلين بل قبلة عاشق، كان لقبلتها طعم الكستناء نفسه... وانفجرت ببكاءٍ شرسٍ وحاد وهي في حضنك...)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق