23 سبتمبر 2008

بطاقات حب مسبقة الدفع/ نص الدلالة.

قراءة في قصة " شخص مسبق الدفع" لحامد بن عقيل


بقدر ما أمتعني (شخص مسبق الدفع) بقدر ما أتعبتني الكتابة عنه.. شخص مسبق الدفع نص اعتمد إلى حد كبير على التأويل.. هكذا يغيم الحدث بتعمد واضح بين تفاصيل كثيرة بثها الكاتب بطريقة القطع والوصل مثل كاميرا اختارت لقطات بعينها لنستشف من ورائها ما يراد لنا أن نستشف.
في قصة تعتمد الحوار ثيمة أساسية .. و أظن أن صفة الحوار التي هي بالمعنى " حاور : جاوب وراجعه الكلام" ليست مناسبة تماماً لتوصيف ما جاء في النص من مقتطف كلامي وجمل لحديث دون استمرارية يتبعثر عبر خط زمني متحرك وغير ثابت متقطعاً ..متنقلاً مابين لقاء في مطار الملك خالد ومابين عودة من القسطنطينية "عاصمة الشرق" ومابين رجوع مهزوم من بيروت ..
اختلاف الزمن رافقه بالضرورة اختلاف المكان .. وقد اخترق -ذلك الحوار- القليل من الجمل الوصفية التي وُظِّفت لتنير الموقف ككل.
الحوار الغائم والمتقطع كما أشرنا، يعتمد تقريباً على صوت واحد، أما الموضوع – موضوع الحديث - فمفتوح الدلالات ..
الاحتمالات بحد ذاتها جمالية من نوع خاص، بمذاق لاسع، فالنص الذي لا يبدو مبنياً على حيثيات بعينها يمكن أن يفقد خيط التواصل مع القارئ أو يشده حتى السطر الأخير في لعبة فضول مثيرة. فهل استثمر الكاتب طريقة زرع شفراته المرمزة بنجاح..؟ نعم أعتقد أنه فعل .
لنعد إلى شخصيتي النص اليتيمتين، واللتين تكشفان لنا بقدر كاف من المعلومات بأننا أمام رجلين:
الشخصية الثانية منهما مجرد( أبو خالد) الذي يستمع ويعلق بأقل القليل، رغم أنه وحده العارف بكل شيء.. لكنه يشاء أن يتركنا بصمته الملغوم لنكتشف الآخر من خلال تعليقاته وآرائه التي تنقل لنا بلسانه ومنطوقه الشخصي.
البطل هو الشخصية الأولى،التي ندرك أنها لشاعر يعمل في المجال الثقافي، تجتاحه هموم وفجائع وفضائل تلك الفئة.. وبشكل حثيث ومتتابع ندرك معاناته في لحظات مكثفة من قلق وحزن وهزيمة ..
ففي الجملة الأولى من النص يعبر بغضب "عن متسع الحزن حين نصدم بمن نريد أن نصدم فيه..
وقد كان مستهلها : ليس تماماً : لنعلم أننا دخلنا فجأة على حوار قائم من قبل نقل إلينا من هذه النقطة بالذات
وهو استقطاب ذكي لقارئ يريد أن يعرف " عن ماذا يتحدثان"؟.
الصدمة بالآخر، " هذا يحدث فقط حين نقرر ألا نبرر وألا نتجاوز إلى الغفران.. والعتبة الأولى من التفهم.


نتابع صوت الشخصية الأولى الذي يُصدِّر لنا قلقه المفرط، هو المرتحل بين الأماكن المغترب عن نفسه وعن أرضه وعن الآخرين، يخلع عن ذاته قدسيته الشعرية، يتعرى، ليبقى أمامنا بصورته الإنسانية، فهو المنساق وراء انفعالاته دون ضوابط.. المشحون بمشاعر سلبية.. والمحاط بفوضاه.. بذيء اللسان.. "بذاءة لا تضر أحداً غيره"، يمرر لنا معاناته حين تخذله الكتابة فلا يستطيع تخليد لحظة بيضاء، معترفاً بأنه ليس مبدعاً على مر الوقت..
ففي حالة الحب (ويختلط علينا الأمر هنا هل الحديث يخص الحبيبة أم الوطن أم الشعر؟) يفر منه الحبر ويعجز عن وصفه، وحين تمتلكه أداته الإبداعية فهو ينقلب إلى كائن آخر "فلا يعود هو أبداً"
يكتب فيفسد ذاك البياض لأن" القصيدة وحل المفتونين باللغة وليس طُهر المهووسين بالأنبياء.."
وفي استكمال لهوية الشاعر وصورته يبدو لنا متقلباً في مشاعره حد الانقلاب بين بكاء يصل حد النشيج إلى ضحك محموم يلفت نظر من في صالة المطار، هو الكائن المأسور إلى مزاجه. والذي لا يمكن التكهن بدواخله إذ له " وجه بارد يتشكل حسب الأجواء.....أما عيناه فأبعد ما تكونان عن ملامحه، تثرثران طيلة الوقت"


ومن خلال عملية القطع والوصل بين المقاطع


"- لا تنس الليلة . أريدك لشيء هام...


مر أسبوع / أسبوعان وهو غائب. حقائبه عندي وكتبه و ..."


فنعرف أنه لا يلتزم بمواعيده فهو يختفي أو يغيب دون أن يترك خبراً، ثم يعود فجأة، ليقرأ "مزامير الشيطان" شيئاً من الشعر نشر له في جريدة النهار.


" هل كان نهارك إنسياً


هل كنت تطيل السير إلى ألق الأشياء وهي معلقة في اللاجدوى.. "


ويبدو في حالة حنين مقدسة حين يحكي عن - أمل – حبيبته التي خذلته ولم تشاركه مصير الاغتراب.. لكن لماذا اسم الحبيبة ( أمل ) بالذات؟، هل يعني ذلك أن نضع المزيد من الاحتمالات في نص الدلالات هذا؟.
هذه الشخصية المعجونة بآلامها، لا تتراجع :


"- لماذا؟ هل تتوقع مني أن أعتقد أنك ممن يتراجعون عن قناعاتهم؟


- لا أيها الشرير "


وهو متشبث برأيه، لا يتخلى عن قناعاته، " يزداد قناعة أن لا قداسة ولا مقدس على هذه الأرض.."
ينزع إلى عدم الثقة، لأن خيبة الظن واردة دائماً حين يفاجئك من لا يستحق.
إنها الخيبة عامة، والتي يمكن تداركها بأننا لا نصدم إلا فيمن نريد مادامت مساحة الحب موجودة والتي هي بطاقة مسبقة الدفع فإننا نستطيع التفهم دون ضغينة ..
الكائن الممزق بأفكاره وآرائه يعبر النص إلينا من خلال دقائق جميلة، أدت معناها في "نتر" لغوي يقفز بنا من مكان إلى آخر.. ومن زمن إلى ثان.. ومن حالة إلى حالة..
هذا القلق أدى بنا إلى التعاطف مع مثقف ضائع" ربما هي حال معظم مثقفينا".
يتخبط في البحث عن جدوى ويضيع.. ربما! وقد يجد نفسه أو لا..! تتقاذفه علاقات يضطر إليها وأخرى تتخلى عنه.. لكنه في النهاية يبدو وحيداً غارقاً في ذاتيته، فالنص لم يتطرق إلى عائلة أو ارتباط دافئ .. مما يزيد من انكسار الشخصية واحتوائها لمتناقضاتها ، كأن )أي البطل) يحارب طواحين الهواء تلك التي إما أن تقتله فينساق معها كأجواء فاسدة وأقلام مأجورة .. أو يقتلها ويبقى معزولاً مغيباً غارقاً في عوالمه الداخلية وغريباً وحانقاً ..
(شخص مسبق الدفع) النص الذي يحاول ألا يميل وألا يملي علينا شعوراً محدداً نجح في ذلك إلى حد بعيد فنحن لم نقو على اتهام ذاك الشاعر الكاتب ولم نضعه أيضاً في مصاف الأنبياء..
هكذا هو؛ مجرد إنسانٍ تعس.
و لأن النص يعتمد على صيغة الحوار- الحكي – فيبدو من الطبيعي الاهتمام بجانبه اللغوي والإشارة إلى طبيعة المفردات التي استخدمت لبناء هيكل النص، والتي اتخذت بعداً نفسياً اعتمد بكليته على تعابير مختصرة تحمل عمق المعنى وفي الوقت نفسه عبارات ذات طاقة شعورية عميقة ناسبت الشخصية " الشاعر":
"هناك متسع للحزن- له صهيل – كانت تصطخب في حلمي – كانت ترقص بعدي بحقلين من الذرة- وضعت رأسي على فخذها- القصيدة وحل المفتونين باللغة – ما يختلج في دمي – أتوحد بذراعيها – دُفنتُ فيها – لن يخذلني وحدي- لا يخيب ظننا إلا فيمن نحب -أزداد قناعة".
إضافة إلى مفردات انفعالية تعبر عن المشاعر : "الغضب – الحزن – البكاء – الهزيمة – الضحك – الدهشة – السخرية – الانكسار- الصمت – الحيرة".
ورغم أن النص عبر التقاطاته التي بثتها لنا ملاحظات الشخصية الثانية – أبو خالد- وبحسب ما وصلنا من منطوقه ككائن، فالبطل يظل حتى الخاتمة دون اسم محدد.. كأنها إشارة ذكية من الكاتب أن هذا البطل يمكن أن يكون : أيا منا!



كيف تكتب نصاً مؤثراً عن قبلة ( خلف علي الخلف)

لاشك إنك مثل كل الكتاب تريد لنصك أن يكون مؤثراً، ولا بد لك من التفكير جدياً كيف تجعله هكذا.. سيقودك ‏تفكيرك إلى أن قراءة بعض التنظيرات النقدية التي تتحدث عن هذا، أمرٌ مجدٍ. الصدفة وحدها قد تجعل كتاب ‏ديل كارينجي ‏‎»‎كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس‎‎«‎‎‏ في مرمى نظرك، تتناوله، لأنك قررت أن يكون نصك ‏مؤثراً، وربما سيفيدك أن تعيد قراءة بعض القواعد التي لخصها كارينجي في هذا الكتاب. تجد ضالتك في ‏القاعدة الثالثة عشر من الكتاب: إذ أردت أن يصغي لك محدثك تحدث بصدق. سيكون الحديث حاراً وحاداً... ‏



تتابع بحثك فتجد أن امبرتو إيكو في أحد كتبه يقول: ‏‎»‎ليكن خطابك متماسكاً ومختصراًً‎«‎، ويردف: ‏‎»‎إن ‏الاختصار لا يعني طول النص أو قصره بل عدم وجود فائض الكلام‏‎«‎‏. تتذكر حينها مقولة هيروديت: ‏‎»‎يا ‏أوفيد أوصيك بالدقة لا بالوضوح‎«‎‏. تتابع البحث عم يفيدك لكتابة النص المؤثر. تتناول ألف ليلة وليلة ‏لتستوحي منها أسلوبا سردياً يجعل القارئ يتابعك بشغف، فهذه الحكايات ما زالت معيناً لا ينضب للكُتاب. تجد ‏أن شهرزاد قالت -وهي تجترح حلاً لمعضلة الموت-: ‏‎»‎عليّ ألا أدعه يشرد كي لا يفكر بقتلي‎«‎‏. وقد كانت ‏تعني (القارئ) الوحيد يومها شهريار، فالشرود في هذه الحالة ثمنه الحياة وليس إغلاق الكتاب كما يفعل أي ‏قارئ. تستمر في البحث.. تقرأ في أحد الكتب المختصة في علم التسويق والإعلان: ‏‎»‎‏عنوان الرسالة الإعلانية ‏مهم جداً يجب أن تغري المستهلك بقراءة الإعلان أولاً‏‎«‎‏. تدون كل هذه الملاحظات على ورقة خارجية وتبدأ ‏التفكير من الملاحظة الأخيرة، العنوان إذاً هو الذي سيقود القارئ إلى النص ويفتح شهيته على القراءة أو ‏يغلقها. يقودك تفكيرك إلى عناوين كثيرة، تستحسن عنوان ‏‎»‎‏قتلتها أخيراً‏‎«‎‏ العنوان جذاب - تقول لنفسك..- ‏لكن كيف سيكون محتوى النص؟ عم سيتحدث؟ لا بد من مضمون، فالعنوان وحده لن يكفي، ومن هي التي ‏قتلتها أخيراً؟ فحسب كارينجي عليك أن تكون صادقاً، وأنت لم تقتل حتى دجاجة لتتحدث عن قتلها مستخدما ‏بعض الحيل اللغوية موهما القارئ أنها ربما تكون امرأة !!. تستبعد هذا العنوان وتقرر أن تختار عنوانا ‏صاخباً فتصيغ ‏‎»‎‏الرجل الذي أكل كلباً حياً‏‎«‎‏ العنوان مغرٍ، وسيدفع فضول الكثير من القراء كي يعرفوا كيف ‏أكل الرجل الكلب. لالا.. لقد استخدم كثيرون قبلك هذه الصيغة المعكوسة، وعليك أن تخلق نصاً جديداً أو ‏تصمت، فلا مبرر لإعادة ثرثرات الآخرين. لم لا يكون العنوان ‏‎»‎‏آخر موت لبائعة المكسرات‏‎«‎‏ فعنوان مخاتل ‏كهذا، تنسف عبره فكرة أن الموت يأتي مرة واحدة دائماً.. لكن -تقول لنفسك- من سيهتم بموت بائعة ‏المكسرات سواء كان موتا أولاًً أو موتاً أخيراً.. لم لا تفكر بمضمون نصك أولاً، ومن ثم تختار العنوان.. لكنك ‏لستَ مدفوعاً إلى الكتابة تحت وطأة فكرة محددة، فأنت تريد أن تكتب نصاً مؤثراً دون أن تقرر مضمونه بعد، ‏في هذه الحالة من الأفضل أن يقودك العنوان.. لكن قد يكون مفيداً أن تقرر المحتوى العام له. تقّلب مواضيع ‏عديدة في ذهنك: اكتب نصاً عن المعاناة الداخلية لك..لا لا، لن يكون مختصراً ولا دقيقاً فأنت عندما تكتب ‏عن دواخلك تميل للاستطراد. أنا على ثقةٍ أن القارئ سيترك النص في منتصفه لأنك ستميل إلى تهويمات ‏شعرية غامضة، ويوصي ‏‎»‎‏رولان بارت‏‎«‎‏ حول أساليب السرد القصصي: ‏‎»‎‏الوضوح متعدد الدلالات علامة ‏فارقة لأي نص يتوخى إحداث التأثير‏‎«‎‏!!. اكتب عن الحب فهو موضوع شيق وجذاب ويلفت نظر الصغار ‏والكبار، النساء والرجال، وغير مرتبط بزمان محدد، تستطيع أن تُركب الأحداث كما تشاء... أنت تفكر بحدث ‏إذن.. إنها نقطة مهمة كانت غائبة عن ذهنك، النص الذي تفكر فيه قصة إذن! لكنك لا تحب كتابة القصص.. ‏ليكن، لمَ لا تجرب، الناس تحب القصص والحكايا، وأن تكون عن الحب سيعطيها ميزة إضافية، وهو موضوع ‏خالد إذ ما يدريك ربما تُخلّد ‏‎»‎‏قصتك‏‎«‎‏ فأنت تريد نصاً مؤثراً وسيكون الحب ثيمة محببة للقارئ، سيتهادى ‏العشاق هذا النص أو يقتبسون منه أو يشيرون إليه كلما أحبوا. نعم عن الحب، لكن الحب موضوع متشعب فمن ‏أين تبدأ؟.. لتكتب عن حبيبتك.. ألم تحب؟ .. لكن ماذا ستكتب عنها؟ تفكر.. تعيد شريط ذاكرتك.. تنغمس فيه.. ‏تنسرب إلى داخلك.. تنسى لـلحظات أنك دخلت إلى هذا الاسترجاع أساساً لكتابة نص مؤثر. سأكتب عنها، لكني ‏بحاجة إلى خيط البداية.. لم لا تكتب عن قبلتك الأولى لها فهذه لحظة فارقة مر بها كل من أحب، هكذا ‏سيستعيد قبلته هو عندما يقرأ نصك، وسيحب هذا النص لأنك ذكرته بها وسيغرق مثلك الآن في قبلته، ويتجاهل ‏بعض عثرات النص. القبلة الأولى يحلم بها كل من يحب ولم يذقها، بالتأكيد سيكون شغوفاً وهو يتابع كيف ‏كانت القبلة الأولى لشخص عاش الحب وذاق طعمها. أما من لم يحب فسيتألم لأن هذه اللحظة لم تأت بعد، ‏وستقوده إلى الأمل إذا نجح نصك أن يكون مؤثراً. بكل الأحوال ستكون قد دخلت منطقة شعورية مؤثرة. إذن: ‏لكي تخلق تأثيرا طاغياً وأنت تكتب عليك أن تستعيد التفاصيل الحميمية لتلك القبلة.‏


‏ تتذكر أنك كتبت تاريخها على حائط غرفتك، حتى أنك لكثر ما كنت تقف أمام هذا التاريخ حفظته ولتموه الأمر ‏يومها على صديقك الفضولي الذي يشاركك السكن كتبت ‏‎»‎‏14-12-1990 بدء الحياة‏‎«‎‏. تركت تلك الغرفة ‏فيما بعد، وظل هذا التاريخ عالقاً في ذهنك. ربما، ليس ربما بل بكل تأكيد، سيكون صاحب الغرفة قد أعاد طلاء ‏الجدران وطمس ذلك التاريخ. الآن وأنت تستعيد تلك القبلة تبدو لك أنها حدثت قبل قليل فقط، فهي ما زالت ‏حارة، طعمها ما زال عالقاً... لكن المعضلة كيف ستخلق هذا الإيحاء للقارئ لتجعله يحس أنها كانت كذلك. لتبدأ ‏نصك بـ (حينما احتضنتها لأول مرة أحسست بجسدي يرتعش، وعندما شعرت بحلمتيها تلامسان صدري بدأ ‏تنفسي يتسارع ويقترب من اللهاث..) تحار كيف ستتقدم (كتابةًً) باتجاه القبلة فهي التفصيل الأساسي من ‏علاقتك بحبيبتك الذي اخترت أن تكتبه. هل عليك أن تذكر المكان مثلاً؟ هل سيضيف ذكر المكان للنص شيئا، ‏أم انه سيكون ثرثرة فائضة؟ وهناك أمر آخر.. فأنت ذكرت أنك يجب أن تكون صادقاً، وعليه كيف لك أن تذكر ‏أنك قبلتها في الشارع، في مساءٍ هدّه التعب، بعد مسير طويل في شوارع حول المدينة !! فكرة ذكر الشارع ‏تبدو لي مهمة، فقبلة أولى في شارع ستثير الانتباه، إذ سيفكر القارئ كيف لهذا المخبول أن تجرأ وقبلها في ‏الشارع وكيف استسلمت له؟ ستكون الجملة هكذا إذا:ً (بعد أن جاءت على الموعد الذي حدَدته لك خلال ‏اتصالك الهاتفي، سرنا، منطلقين من حديقة الجامعة - مكان الموعد - إلى المحلق الغربي للمدينة، حيث لا يمر ‏هناك أحد..)!. تبدو جملتك هذه مفككة وغير مشوقة وقد تغير الضمير فيها من المخاطب إلى المتكلم وهذا يمكن ‏إصلاحه، لكن جاءت على الموعد!! ستبدد لهفة الانتظار هكذا. تلك اللحظات سيكون وصفها مهما وتمكنك من ‏سرد بعض الهواجس التي انتابتك وأنت تتساءل لمَ تأخرت؟! كأن تذكر كيف ركضتَ باتجاه تجمع بعض الناس ‏حول سيارة دهست شخصاً. إنها هي. كما تخيلت لـلحظات... ستجعل الانتظار مشوقاً وستوتر القارئ معك.. ‏وهذا أمر مهم لنص مؤثر. كما أنك وقد حددت المكان بدقة عليك أن تذكر المدينة. إذاً.. لتربط هذه التفاصيل أو ‏تتخلى عنها. كيف ستمرر ذكر المدينة دون أن تقحمه في سردك؟ يمكن أن تقول: (إنها سنتي الأولى في ‏جامعة حلب، وقد كنت شاباً ريفياً منطوياً لم تربطني علاقات مع الفتيات ولا أدري عن عالمهن شيئاً، وكنت ‏أكتفي بممارسة العادة..) لا..لا، إضافة إلى أن هذه الجملة سمجة، سيكتشف القارئ الذي يتابعك أنك تكذب، ‏أو أنك تبني قصة متخيلة فقد ذكرت مرة في لقاء صحفي أنك بدأت الكتابة لأنك أحببت زميلتك في المدرسة. ‏لكن ما الذي سيدري ذلك القارئ أنك لم تقبّل زميلتك تلك وإنه كان حباً مكتوماً من الطرفين وأن ما كتبته لم ‏يصل إليها؟.. قبلة في شارع، في مدينة محافظة سيكون أمراً غير متوقع، لكن عليك أن تشير أيضاً إلى أن حبيبتك فتاة محافظة كي تخلق التأثير المطلوب، إذ إن قبلة لفتاة مستهترة سيكون أمراً عادياً عليك أن تمرر ‏جملة، مثل: ‏‎»‎‏كانت تتهجى خطوتها الأولى في عالم الحب‏‎«‎‏ وتدمجها في بداية مقنعة أكثر. لم لا تبدأ هكذا:‏


‏(بعد حبٍ من طرف واحد استمر عدة سنين لم أجرؤ أن أبوح به لزميلتي التي أحببتها، فقد كنت أتلعثم بحضور ‏أي فتاة وأرتبك، كنت أتحايل على هذا بالصمت إلى أن تعرفت على..). هل ستذكر اسمها؟! هل هذا مهماً؟ ‏حينما ستقول تعرفت إلى (هدى) سيعلم من يعرفك انك تتحدث عن زوجتك، وسيعرفون حينها تفصيلا مهما عن ‏حياتك، وقد اعتاد الكتاب أن يموهوا هذا حتى وهم ينهلون من تجاربهم الذاتية، على الأقل قم بتغيير الأسماء ‏والأماكن... ما الذي تريده؟ كنت تبحث عن نص مؤثر ماذا سيعني إن كان اسمها هدى أم سارة..‏


‏لا.. الاسم مهم للتدفق العاطفي أثناء الكتابة، سيجعلك الاسم الحقيقي حاداً وحاراً وأنت تكتب.. وهذا سيخلق ‏تأثيراً عاطفياً؟ يبدو أنك تريد ممن يقرأ أن يتعاطف معك ولستَ عابئاً بغير هذا.. أرى أنك بدأت تغرق في ‏تفاصيل غير مهمة. عد إلى القبلة. اكتب: (في شارعٍ منزوٍ ومظلم، في مساءٍ هدّه التعب، بعد مسيرٍ طويل ‏استمر من منتصف النهار حتى بداية العتمة. قالت بهدوء: لقد تأخرت وعلي أن اذهب. استبدت بك الخيبة ‏واشتعل بك الشوق حتى قبل أن تذهب فوقفت. يدها كانت في يدك، وقوفك المفاجئ أجبرها أن تقف، التفتت إليك ‏فجذبتها نحوك، ودون أن تترك لها فرصة للتفكير حضنتها، كانت المرة الأولى التي تحضنها فيها؛ جسدك بدأ ‏يرتعش عندما شعرت بحلمتيها تلامسان صدرك. تنفسك بدأ يتسارع ويقترب من اللهاث. نظرت إلى عينيها، ‏نظرت هي كذلك، أدركتْ نواياك، فأشاحت بوجهها عنك، وضعت يدك خلف رأسها وجذبته نحوك بممانعة خفيفة ‏منها و... أطبقت بشفتيك على شفتيها المطبقتين..). الأمر ليس سهلاً كما تتوقع فما كتبته هو قبلة عامة لا ‏خصوصية لها، يمكن أن تجدها عند أغلب الكتاب إضافة إلى بعض الجمل الفائضة والمكررة، فذكر المساء يغني ‏عن ذكر بداية العتمة وأنت كنت تفكر بالاختصار والتأثير.. ترتخي أصابعك على الكيبورد، لكن هذا ما حدث.. ‏تتنهد وتنسرب إلى داخلك.. فهي القبلة التي أسفرت عن طفلين وعمرٍ من الخيبة والألم. عد إلى النص، ليس ‏وقت دواخلك الآن، عليك أن تكتب عن قبلتك أنت. لا يهم الوصف الخارجي لها، فهو ما يمكن اختزاله إلى جملة ‏واحدة. اكتب: (لا زالت تلك القبلة ممتزجة بريقي، تحت لساني.. لم تغادرني تلك القبلة رغم أنها أسفرت عن ‏خيبة وطفلين. ما زلت أذكر إن جسدي كان يرتعش كمن بلله المطر وتسرب من خلال ثيابه إلى جسده ودخل إلى ‏غرفة باردة في شتاء قارس، حينما أتذكرها أتذوق طعمتها فقد كانت كطعم الكستناء..) هذا جيد وخاص، لكن ‏تأثيره العاطفي سيعتمد على ماسيليه لأنه لم يشكل سوى حدث قصير. يمكنك أن تربط القبلة الأولى بالقبلة ‏الأخيرة لها.. لكن كيف لك أن تذكر القبلة الأخيرة دون أن تفجر سراً كنت تخبئه عمن يعرفك ولا يعرفها؟ السر ‏الذي ما زلت تداريه حتى عن أطفالك.‏


‏ في تلك الفترة تذرعت للجميع بأن من تحبك غادرتك، ولم تضف شيئاً!!. قلتَ هذا لحامد بن عقيل حين سألك: ‏‎»‎‏ما بك؟‏‎«‎، وأصبح لازمة تكررها للجميع. وقلت هذا لدلع المفتي حينما قالت لك: ‏‎»‎‏أنت لستَ طبيعي‏‎«‎، ‏فتركتْ الماسنجر واتصلت بك. فكرتَ يومها أن الصوت سيفضحك، فكررت لها لازمتك التي حفظتها جيدا، وأنك ‏تحتاج وقتاً كي تخرج من هذه الحالة. الآن بعد مرور ما يقارب السنة ليس مهماً أن يعرف الجميع.. التفاصيل ‏الحقيقية ستكون لاذعة وستنفجر من مناطقك الشعورية الأكثر حميمية، فهمّك الأساسي ألا يعرف أطفالك أنها ‏رحلت، لقد فكرت يومها وما زلت تعتقد أن (نينوى) ستذبل، وأنت تدرك مدى تعلقها بأمها. مازلت هلعاً من ‏فكرة فقدان آخرين، وخصوصاً ‏‎»‎‏ننو‏‎«‎‏ كما تدلعها.. لم تذهب إلى العزاء يومها، وكان هذا قرارك النهائي ‏الذي لم يفهمه أو يقدره أحد.‏


‏ ظللت بجانبها إلى أن.. خرجتَ من المشفى، وقلت للحضور الذين لم يتكاثروا سأذهب إلى الأولاد، وقد كانوا ‏لوحدهم في المنزل ونبهت الجميع ألا يخبرهم أحد. حينما فتحت الباب لم يتراكضوا كعادتهم عندما تكون أمهم ‏في المنزل، مرض أمهم وغيابها عنهم كسرهم وخذل أصواتهم وخطاهم، افتعلت الضجيج يومها وقلت لهم: ‏‎»‎‏‏لنعقد اجتماعاً عائلياً‏‎«‎، وهي فكرة كانت تبهجهم، وتظل تؤجله أياماً عديدة، تطلب منهم أحيانا أن يكتبوا ‏مطالبهم وشكاويهم للنظر فيها، في آخر اجتماع قرّعتكَ ‏‎»‎‏ننو‏‎«‎‏ لأنك لم تعد تحبها، وقال لك ‏‎»‎‏غالي‏‎«‎‏ ‏مضيفاً: ‏‎»‎‏لم تعد تلعب معنا..‏‎ «‎وأضاف وكأنه يتذكر: ‏‎»‎‏من زمااااان لم تلعب معنا‏‎«‎‏. حين قالت لك نينوى ‏إنها ‏‎»‎‏ستبطل تحبك‏‎«‎‏ ظللت صامتاً لكن لون سحنتك بدأ يميل للشحوب. قالت لها أمها: خلص ننووو.. يكفي ‏‏(ترندحي)، وقد أحست من ملامحك أن أوجاعا كثيرة بدأت تستيقظ في داخلك، يومها ردت نينوى: ‏‎»‎‏ما بدي ‏اسكت خليه يسمع..‏‎«. حينها نزلت دمعتك.. بهت الجميع. غاليـ/ ك نظر إلى نينوى كمذنبة، وقد تنقلت ‏نظراتها بشكلٍ خاطف بينك وبين أمها.. ركضت إليك تحضنك، ملصقة خدها فوق دمعتك قبل أن تتدحرج: ‏‎»‎بابايتو عم امزح.. بحبك والله.. لا تزعل‎«‎‏. قلت لها مبتسماً: ‏‎»‎ماني زعلان والله‎«‎‏. ضحكتْ.. قرصتك من ‏خديك بيديها الطرية قائلة: ‏‎»‎ما تتحملي مزح ياقطة‎«‎‏ أخذتها بحضنك صائحا بصوت مخنوق: دخيل القطاط ‏أنا...‏


‏ لقد فلت منك النص كما يبدو ولن يكون ما تكتبه سوى ثرثرة شخصية لن تشكل قصة، فقد نسيت أنك تريد أن ‏تكتب نصاً مؤثراً عبر قبلة، وانسربت إلى دواخلك في تداعيات هامشية. هل تريد أن تسرد كل حياتك الشخصية ‏من خلال نص عن قبلة؟ لا..لا، عليك أن تدخل الأطفال إلى هذا النص كشخوص مهمين، إذ إن الوضع الذي آلت ‏إليه الأمور بعد رحيل أمهم سيكون تفصيلا رئيسياً. اكتب بعد ما كتبتَ عن القبلة الأولى: (تلك القبلة التي ‏أثمرت عشر سنوات من الزواج وطفلا في السنة الأولى لزواجنا لحقت به طفلة بعد اقل من سنتين وأنجبت ‏انفصالا هادئاً...) ليس في ما كتبت هنا أي عبارة مؤثرة لكنك تحتاجه لربط الأحداث وإدخال عنصر الزمن، ‏وسيكون مهما أن تذكر هذا قبل أن تذكر قبلتك الأخيرة لها... ‏


رغم أنك بدأت تتفكك، ولم تعد تعي أين النص، وأين تداعياتك التي خارجه، إلا أنك يجب أن تشير إلى وضع ‏أطفالكما بعد رحيلها. ‏


قلت لصديقتها هيفاء حين اتصلت بك معزية: أريدك أن تمري. فقد هداك تفكيرك أنها الحل الملائم لما أنتما ‏فيه.. ويمكنك أن تدخلها إلى نصك وتكتب: (قبل رحيلها بيوم كنت امسك بيدها وأمازحها: سنتبهدل إذا متِِ، لا ‏تموتي، ليس من أجلك فقط بل من أجلنا جميعاً... ضحكت قائلة: ‏‎»‎‏موت المرأة عند الرجل متل طرقة الكسع‏‎«‎‏ ‏فما بالك وأنا لستُ امرأتك. كانت تذكر هذا للمرة الأولى أمام هيفاء التي لم تستوعب الجملة.. أكملت بعد أن ‏أدارت وجهها إلى هيفاء: بالنسبة للأولاد هيفاء تسكن معهم، أنت طافش من الأصل، لن يتغير عليك شي. ‏سالت دمعتها.. مسحتها بيدك قائلاًً: بعيد الشر عنك.. إن شاء لله عدوينك، وأضفت ضاحكاً:لا تخافي والله ‏لتهري عظامي وأنت لا زلت تشمي هواء الدنيا.. أنت بسبع أرواح. فردت ضاحكة: إن شاء لله. لم يستفزك هذا ‏داخلياً إلا أنك افتعلت التأثر: ‏‎»‎‏أيوة.. أيوة اظهر وبان... بدك تخلصي مني مو؟‏‎«‎‏...) ألا ترى أنك تبتعد عن ‏النص وأنك خلطت ما بين النص الذي تنوي كتابته وبين هذه الذكريات. كان الاقتراح أن تربط القبلة الأولى ‏بالقبلة الأخيرة هل من الضروري أن يعلم الجميع أنكما كنتما منفصلين حينما قبلتها القبلة الأخيرة، حتى لو ‏أردت إعلان هذا يمكنك أن تمرره عبر جملة قصيرة (لم أعد أذكر من قبلاتي لها إلا ثلاث.. كانت القبلة الثانية ‏بعد أن قررنا الانفصال، فحياتنا أضحت خالية من القبل...) جملتك الأخيرة موفقة جداً، فـ ‏‎»‎‏خالية من القبل‏‎«‎‏ ‏كافية ليعرف القارئ ما اعترى حياتكما الزوجية دون ثرثرة فائضة، ولمزيد من التأثير عليك أن تصف القبلة ‏الثانية هذه: (تناولت حقيبتي التي أدمنتني وأدمنتها، قبلتُ ننو وغيلو وهما يدركان تماما ما حصل، لكنهما ‏دائما يتظاهران بعكس ذلك.. خرجت منسلاً كلص، قالت لك: ‏‎»‎مافي خاطرك‎«‎‏. التفت إليها لم يكن هناك ‏دموع، فقد بدوتما قويين بما يكفي لتحمل هذا. اقتربت منك.. تركتَ يد الحقيبة، الطفلان كانا يقفان خلفها.. ‏قبلتها على خدها هذه المرة مطيلاً احتضان رأسها، كان لشعرها رائحة بساتين في أول الربيع، وكان لجيدها ‏رائحة ياسمين يذبل، ولم يكن هناك طعم للقبلة لأن شفاهكم ظلت مطبقة.. ربتت على رأسها: ‏‎»‎خاطرك‎«‎‏...) لم ‏يبق لك شيء كي تصل إلى القبلة الأخيرة، عليك أن تقول جملة واحدة قبلها فقط تذكر فيها للقارئ أن حياتكما ‏بعد أن انفصلتما قد شابها الود والهدوء كأن تكتب: (كنت أفكر دائماً لمَ ينتج الغياب كل هذا الهدوء؟ لمَ بعد ‏أن سرنا في دروب منفصلة لم يعد لحضور كل منا في حياة الآخر طعم الأذى..) نعم هذا حقيقي، فقد أصبحتما ‏تتبادلان أحاديث مطولة، وكلما اقتربتما من مناطق وعرة تقرران إغلاق الموضوع.. كنت تماحكها بأنك تحب ‏الآن وأنك ستتزوج عمّ قريب، كان هذا كافياً لجعلها تتوتر إلا إنها تضحك وهي تقول: ‏‎»‎إن شاء لله من ‏الصبح.. إذا بدك أخطب لك والله.. يا شايل الهم عن قلب صاحبه‎«‎‏. تفتعل الانزعاج مردداً: اي.. اي صرت هم ‏طبعاً... تحاول مراضاتك: لا والله عـ سلامتك مافي منك...‏


‏ لم لا تكتب هذا داخل النص يمكنك تشذيبه وإدخاله في النص... لا..لا، إنها جمل فائضة يمكن اختزالها بجملة ‏وحيدة موحية ومؤثرة وأنت تكتب عن قبلتك الأخيرة: (في المشفى حين قال لك الطبيب ‎»‎‏البقية بحياتك‏‎«‎‏ لم ‏ترد، كان نظرك مسمراً على وجهها الأسمر الذي احتفظ بنضارته رغم المرض.. كنت تعرف أنها فارقت الحياة، ‏لكنك تعلقت بوهم عساه ينطقه. حينما ذهب شقيقك الأصغر لإحضاره كنت ممسكاً بيدها التي بدأت تتسلل إليها ‏البرودة.. قلت لهم اتركونا لوحدنا. نظر إليك أخوك بممانعة. اقترب منك.. امسك يدك محاولاً أن يسحبك إلى... ‏كررت بحزم دون أن تتحرك: اتركنا لوحدنا.. بدأت تتحسس وجهها وتداعب شعرها الأسود الكثيف، كان ثغرها ‏ينفرج عن ابتسامة هادئة، حضنتها فسرت في جسدك قشعريرة رطبة، تسارعت أنفاسك، كان لابد لك أن ‏تقبلها، لا قبلة وداع كما يقبل الآخرون الراحلين بل قبلة عاشق، كان لقبلتها طعم الكستناء نفسه... وانفجرت ‏ببكاءٍ شرسٍ وحاد وهي في حضنك...)‏


22 سبتمبر 2008

21 سبتمبر 2008

أمي ليست مجرد مساحة حنان

في عالم يدعو المرأة أن تكون جميلة وتصمت، مثمناً قيمتها بشكلها، محتفلاً بصورتها الجسدية، وماتبدو عليه، تدير الأم ظهرها لأنوثتها، فلا تبالي بالبالون المنتفخ في بطنها، ولا بجنون هرموناتها الذي يسبب لها الغثيان، ولا بهجمات الكآبة، ولا بتقوس عمودها الفقري ، ولابانتفاخ قدميها، وتشقق جلدها، ولا بأسنانها التي ينخرها السوس بالجملة، لأجل كائن بحجم الكف، يشاركها دمها وغذاءها وأنفاسها تسعة أشهر، وتحتمل عبأه ما بقي لها من عمر، بل وتحتمل ألم الولادة، وتعيد التجربة كلما طولبت بواجبها على استمرارية النسل العائلي، في الوقت الذي أثبت فيه العلم أن الرجل بعضلاته وقوته لا يستطيع احتمال مثل ذلك الألم..!
تتحول المرأة إلى أم من دون تعليم أو تدريب، إنها تنام وتصحو لتجد نفسها متورطة بأمومتها، ويرتبط الأمر بهرمون معين تفرزه أثناء الرضاعة ، ويحولها إلى صنف استثنائي من البشر، فهي لاتشبه إلا نفسها، بوجوه متعددة كموشور من المرايا، فتستطيع أن تكون أكثر من شخص في آن، وبوحي من فطرتها تقود سفينة أولادها مهما كان الموج عالياً، منتقلة بهم من مراحل الطفولة إلى عتبات الشباب، وهي تمتلك مجسات تلهمها تجنب الخطر، فتراها قادرة على ترقيع الفراغات، وتجاوز الصعوبات لتحقق الأمان والحماية، مستمدة تلك الطاقة من ثقافة المجتمع الأمومي الذي كان سائداً في العصور البدائية قبل أن يفككه المجتمع الذكوري الجديد..
لكن الأم ليست مجرد مساحة شاسعة من حنان وعطاء ، كما يصر على توصيفها العرف الاجتماعي الجمعي، فالصفتان، وإن تكن مبررتين وصادقتين، ولكنهما غير كافيتين، ومن الغبن بحق حصر قدرات الأم وطاقتها ضمن ذلك النطاق وحسب..!
ومن الظلم أيضاً اختصار المرأة بأمومتها، وقدرتها على الحمل والولادة، ورفضها إن لم تكن كذلك، فهي ليست مجرد آلة تناسلية وطاقة حنان مطلق، إنها تثور وتهدأ، تعطي وتمنع، تقسو وترضى، تتوعد وتنسى، تحب ولا تكره.. مثل كائن خرافي القدرات، أمي مثلا لم تكن هي نفسها على الدوام، فالمرأة التي أميز رائحتها حين تلمني في حضنها وتنقذني من أشباح الظلام، غير المرأة التي تركض خلفي لتدغدغني، أو تغير ملامح وجهها لتضحكني ، والمرأة التي تجبرني على كتابة واجباتي المدرسية بخط جميل رغم تعبي وارهاقي، غير المرأة التي تقرص أذني دون شفقة لأني أخطأت، والمرأة التي ترسلني في رحلات مدرسية وتبقى مع هواجس شياطينها حتى أعود، غير تلك التي مازالت تتصل بي بصوت ملهوف، فعلى رغم غربتي الطويلة لم تتعود غيابي عنها، ولم تتعلم كيف تغالب شوقها وتغلبه.
أضحك.. وأتذكر أني لم أكن خارقة الذكاء لأكتشف أن كل تلك الوجوه هن أمي.
ومثلي، مثل غيري، ارتبطت علاقتي مع أمي بمقدار حاجتي لها، واعتمادي عليها، الذي يأخذ بالتناقص تدريجياً، قارضاً معه مقدار التعلق ورغبة الالتصاق الجنينية الأولى، فيما تنمو الحاجة إلى التفرد والابتعاد، وإثبات الشخصية بالحرية والتمرد، وأمي مثلها مثل كل الأمهات بقيت في موقعها الأزلي تترصدني بتعليماتها ، بل لاأظنها لاحظت أني كبرت، وأني أستطيع تدبر أموري دون نصيحتها التي أصغي إليها بنصف أذن، وأتصرف بمشاكسة ( لا ) العجيبة، كنت مراهقة بامتياز، وأسوء المراهقين الواثقون بأنفسهم..
شتان بين ذلك الوقت واليوم، والمسافة ليست إلا ( فركة كعب)، الفرق بين هنا الآن وهناك البارحة غمضة عين، أو رفة جفن لذاكرة ماكرة، فلي اليوم وجه أمي الغاضب وصوتها وحكمتها ، ولي مثلها لحظات قسوتها، و لحظات هدوئها ، بل أني أضبط نفسي وأنا أعيد حكاياتها لأمرر عبرة خفية، ولي قلقها غير المبرر،ولي أيضاً تسامحها وغفرانها رغم الأخطاء التي تتكرر المرة تلو المرة، فأصدق بسذاجة تشبه سذاجتها الوعود والتوبة، ولي مثلها ابنة مشاكسة، تحمل جينات مراهقتها، فتشاكس وتعاند وتثق بأنها كبيرة بما يكفي لتعرف مصلحتها، أنها لم تعد بحاجتي لتتعلم شيئاً، إن فزع الأم من هجران أولادها لايخصنا فقط، ويكاد يكون هماً واحدا في مختلف الثقافات، ففي الصين تزرع الأم زنابق بيضاء في حديقة منزلها تعبيرا عن حزنها لفراق أولادها لمغادرة الأولاد الذين كبروا وشبوا عن الطوق، والحقيقة لاأعرف أي طوق يقصدون، لأحرسه، فلا تقفز عنه ابنتي ولا تتجاوزه.. هل في هذا نزعة للتملك و السيطرة، أم فرط حماية، أم حبل مشيمة لا ينقطع..!؟

17 سبتمبر 2008

ياسوزان قولي عاش بابا

يتسع المعنى حين يكون الأب معنياً.. أغمض عيني وأبحث عن وجهه تحديداً، أراه ممتداً مثل حقل شاسع من الخضرة، لم أسمع أبي يصرخ، كان يكفي أن يقطب جبينه حتى ننكسر جميعاً.. هكذا تصبح معادلة القوة مرادفة تماماً لحضور حنون..
"يا سوزان قولي عاش بابا"
جملة تبعها إصبعي الصغير حين كنت طفلة أتهجى أول كتب القراءة في مناهج التعليم آنذاك.. ومازالت تدور في رأسي حتى اليوم..
تلك فكرتي عن أبي، والذي لم يرد بعد في الشخصيات التي أكتبها.
في الروايات والسير التي تناولت الأب في طقس حضوره الخاص، ونسجت واقعاً متخيلاً يستمد صورته الأساسية مما هو " واقعي " يختلف مزاج الأب في حدته، وفيما يتركه من أثر، فهو ليس واحداً، خاصة عبر تأريخ مجتمعاتنا التي تعرضت وتتعرض لتغيرات في بنيتها الاجتماعية والثقافية والنفسية أيضاً..
الحقائق التاريخية تقول بأن " النظام الأبوي " جاء لاحقا للمجتمع الأمومي، وقد ساد بعد أن تآكلت مكانة المرأة مقابل تنامي مكانة الرجل وسيطرته، في هذا النظام يسيطر الرجل على مقدرات العائلة؛ بذرة المجتمع الأولى، هذا التحول بدأ في مجتمع بلاد مابين الرافدين، هناك حيث ظهرت أسطورة "جلجامش" التي تعتبر أول نص ذكوري بامتياز.
كذلك ما دون في شريعة حمورابي التي حددت:
" إذا ضرب الابن والده يجب أن تقطع يده.. وإذا توفي الأب وترك أطفالاً غير متزوجين فالأكبر سناً يصبح رئيساً للعائلة، أما إذا كان الأطفال صغاراً فيمكن أن تعطى لوالدتهم صلاحية الأبوة "
وقد جاء " الموروث الديني " لاحقا ليعزز هذه السلطة، ويكرّسها عبر جعل " الرجال قوامون على النساء ".. من خلال كل ذلك ساد العرف الاجتماعي الذي يطالب الرجل بصفات القوة والهيمنة والسيطرة والتفرد، كي يحافظ الأب على هذه الصورة كان عليه أن يرسخ الخوف، وأن يقيم حواجز بينه وبين أفراد أسرته لخلق أجواء الهيبة.. تماماً كما( سي السيد )فمن خلال الأدب المعاصر أول مايتبادر إلى الذهن " أحمد عبد الجواد " في ثلاثية نجيب محفوظ، الذي استطاع عبر هذه الثلاثية أن " يخلق " شخصية تمثل روح المجتمع في تلك الفترة ، ناقلاً لنا أدق تفاصيلها الجسدية، وتناقضاتها النفسية، عبر وجهين متناقضين يبدو الأول صارماً شديداً بين أفراد أسرته، والثاني ضاجاً شرهاً للحياة والضحك مع أصدقائه وفي جلسات صفوته خارج إطار عائلته، و رغم كل ما أظهره السيد أحمد من جبروت في تلك الرواية، إلا أن موت ابنه كمال، أعلن حقيقته الكامنة كأب، وجعله ينعزل تدريجياً عن العالم الذي أحبه..
من المؤكد أن الرجل كائن يحمل مسؤولية ذكورته في مجتمع يطالبه أولاً وأخيراً أن يكون مختلفاً في أفعاله وردودها، فأحد أهم صفاته التكوينية أن لا يبكي.. و لكم أن تتخيلوا السخرية، والنبذ الاجتماعي الذي يتعرض له الرجل، فيما لو أبدى تخليه عن أحد شروط رجولته.. هذا المجتمع لايبدو عادلاً، بل إنه يضغط على جنس الرجال كي يلقوا حتفهم سريعاً، فمتوسط عمر الرجل على سبيل المثال يقل عن عمر المرأة نتيجة الضغط النفسي الانفعالي الذي عليه أن يخفيه، شاء ذلك أم أبى.. لذلك على الرجال ممن يهمهم ممارسة الحياة أن يطلقوا العنان لدموعهم، وهي نصيحة لوجه الله تعالى، إذ أن الدموع شأن إنساني وليس نسوي، صدق ذلك أيها القارئ أو لاتصدق..
ولنرجع إلى الروايات العربية التي تستلهم أحداثها وشخصياتها مما حولها ثم تعيد صياغتها، لترد شخصية الأب، في الكثير من الروايات ، على أنه كائن مسيطر، فمن رواية لرجاء عالم (الكاتبة السعودية)تقول بطلة الرواية:
" كلمة طائشة..كلمة تبلغ أبي كفيلة بإطلاق المفارق صوبي لتمزقني. كفيلة بقفل الأبواب وتركي خارج العود, خارج الحميم, خارج جسدي هذا الكلي, كلمة واحدة كفيلة بشطري نصفين... أهذا ما أسعى إليه ويرعبني هذه الكلمة السكين؟ في الثامنة عشرة، في العشرين، في الثلاثين، في غمضة عين سيتحتم على أبي الاختيار لي بين جسدين"
الأب يفرض رأيه، وكل من يخرج عن عباءة الوصاية هذه، يدفع الثمن، وعلى المستقبل وحده أن يكشف صواب هذا الرأي أو خطأه..
في الإبداع السردي تأتي السيرة الذاتية كأحد أهم وأصدق هذه الفنون، يكشف الكاتب عن حياته ويعريها، يعبر عن تجربته الذاتية في سرد كثيف وحميمي، ولابد من أن يكون للأب حصته في تلك المرويات..
يكتب سعد الله ونوس عن تفاصيل مرضه بالسرطان في كتاب " عن الذاكرة والموت" :
(
لحظة خلوت فيها مع أبي .. أذكر وجهه هادئاً وربما محايداً.. أذكر صوته تقريرياً وحاسماً، استغرقتني الحيرة، وأصغيت إليه كالمأخوذ، قال: هذا المرض أصاب زوج عمتك رشيد، وفي بلعومه، فعولج في دمشق وشفي منه، ولكنه بعد أن طبق السنتين عاوده المرض، وأودى به،ثم صمت..
كان يحكي مثل عراف يطلق نبوءة، أو عالم يقرر حقيقة علمية، لم تعكر وجهه أية انفعالات، ولم يخفف الاحتمالات السيئة، التي ينطوي عليها الخبر، بكلمات التعوذ والعبارات التي تبعد الشر، وتتوسل منع الأذى واقصاء المشابهة، هي لحظة غريبة، لاأعرف ماذا كان أبي خلالها، هل كان ملهماً هل كان عرّافاً هل كان نذيراً هل فاضت معرفة قديمة ومتخمرة في دواخله وانسكبت غصباً عنه، ودون أن يود انسكابها.
طبعاً.. بعد قليل عاد أبي يتهالك عاطفة وحناناً، ويحيطني بكل مايملك من الرعاية والحب، ولكن .. ظلت تلك اللحظة تعاودني مثل الهاجس، فأجفل استغراباً ودهشة
.)
لنتخيل الحالة الشعورية لمثل هذا الأب، الذي يرافق نهاية ابنه حتى الموت، لكن المطلوب منه أن يكون واقعياً وأن يكون صلباً ومتماسكاً وعارفاً.. إنه عبء من العسير تقييمه بسهولة، وهو ميراث طويل من العادات والتقاليد والممارسة والتعليم الشفوي..
وفي نموذج آخر لصورة الأب، أستحضرها هنا عبر ذاكرة الكاتب المغربي محمد شكري والتي يرويها في سيرته الذاتية " الخبز الحافي "
(
أبي يعود كل مساء خائباً نسكن في حجرة واحدة.. أحياناً أنام في نفس المكان الذي اتقرفص فيه ، إن أبي وحش.. عندما يدخل لاحركة، لاكلمة إلا بإذنه كما هو كل شيء لايحدث إلا بإذن الله كما سمعت الناس يقولون . يضرب أمي بدون سبب أعرفه .. )
(اذا كان من تمنيت له أن يموت قبل الأوان فهو ابي. أكره ايضاً الذين يشبهون أبي. في الخيال لا أذكر كم مرة قتلته! لم يبق لي الا ان اقتله في الواقع.)
( تذكرت كيف لوى أبي عنق اخي..كدت أصرخ : أبي لم يكن يحبه هو الذي قتله نعم قتله قتله رأيته يقتله لوى عنقه تدفق الدم من فمه
)
يكتب محمد شكري تعرضه المباشر لاضطهاد الأب وقسوته في بيئة فقيرة وطفولة مشردة وظروف قاسية.. إذ يقتل أباه أخاه الرضيع..
الكاتب السوري حنا مينه في روايته " بقايا صور" لايبدو حاداً في محاسبة أبيه، بل يبدو أنه يلتمس الأعذار لأبيه الغارق في سكره والتابع لملذاته، العاجز عن تحمل مسؤوليته نحو أسرته، إذ يتركهم فجأة ثم يعود فجأة
" أنا لا أزعم أن سفينة عائلتنا وحدها التي عرفت هذا التخبط في لجة بحر الفقر الكبير، ولكنها، بسبب من لا مبالاة ربانها، كانت أشدها اضطرابا في مصطرع النوء وأسرعها إلى الضياع في اللجة، وقد ضاعت فعلاً، وحين سيكتب لها أن تعود إلى الشاطىء، ستكون قد فقدت بعض أفرادها برغم انها كانت لا تزال في الصفحات الأولى من سفر التيه الذي عاشته"
إنها روايات تسبب الصداع، الحياة ليست وردية بالضرورة، والكثير من الكتابات يأتي حاداً، يرسم شخصية الأب بقسوتها الجارحة..
كتب الصحفي سمير عطا الله مقالاً بعنوان " 2002 عام الثأر من الأب" ذكر فيها تلازم الأب مع ذاكرة الألم عند عدد لابأس به من الكتاب مثل: سهيل ادريس، جبران خليل جبران،الكاتب الروسي تورغنيف، والشاعر الفرنسي جاك بريفير، المسرحي الفرنسي انطونان ارتو.. إنهم كتاب
"أمسكوا مسدس الحبر وأفرغوه على الجدار الابيض".
سوى أن مكانة الأب تتبدل بين الماضي والحاضر، فالوضع التقليدي للأب طالته التغيرات نتيجة استدعاء حالة نموذج عصري، بحيث لم يعد الخوف هو مفتاح العلاقة بين الأب وأبنائه، مما أدى بالتالي إلى تغير نموذج الأب في السرد الروائي ..
فالأبوة الجيدة أساسية وداعمة لنشأة الأطفال، ولاكتسابهم المهارات الاجتماعية، وفي حال غياب الأب بالموت أو بالهجرة، فإن الكثير من الاضطهاد النفسي يمس الطفل.
يقول شارل بوكوفسكي:
"الأب سيدك دائماً حتى حين يرحل"
الأب كلّي التأثير، سواء كان نموذجاً إيجابياً أو سلبياً، يقول فرويد: " كل شيء يتم كما لو كان الأساسي في النجاح يتمثل في الذهاب أبعد من الأب، كما لو أن تجاوز الأب أمر ممنوع" ..
هكذا أو لهذا يقع الأبناء في مطب التردد ما بين المطلوب منهم في إثبات الذات والمضي في اختياراتهم الخاصة، وما بين الحفاظ على مكانة الأب واحترامها وعدم تجاوزها..
كذلك يقع الآباء في مأزق الاختيار مابين الحفاظ على مكتسبات السيطرة أو ممارسة الأبوة الجيدة.. وغالباً ماتختلط الأمور.. لنطالب هذه الأيام بالشيء وعكسه.. إذ يزعق الأب الديمقراطي فجأة بأن الديمقراطية انتهت عند هذه النقطة ..
ويبدو أن الشعر أكثر وجدانية من الرواية، فالشاعر نزار قباني لم يخجل من دموعه، ولم يدارها حين نعى ابنه توفيق:


أشيلك يا ولدي فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين
وشعرك حقل من القمح تحت المطر
ورأسك في راحتي .. وردة دمشقيه .. وبقايا قمر
أواجه موتك وحدي .. واجمع كل ثيابك وحدي
لو كان للموت طفل .. لأدرك ما هو موت البنين .
ولو كان للموت عقل ... سألناه كيف يفسر موت البلابل والياسمين
ولو كان للموت قلب ... تردد في ذبح اولادنا الطيبين
أتوفيق ...
إني جبان أمام رثاءك ... فأرحم أباك.
هكذا يتعرى الشعر من الصورة المسبقة للأب ويمشي حافياً ملتاعاً مبللاً بالضعف والأسى، كما في كلمات نزار السابقة ..
بينما " يرسم " لقمان الديركي صورة أب مثقف في قصيدته " الأب الضال" ناقلاً بحياد واقعاً معاشاً ، دون إدانته أو رفضه، فيقول:
على رصيف
يلمِّع الأحذية
وخلف زجاج المقهى
يقرأ جريدة البارحة
في الزحام
سيرتطم بكتفكِ
وستأخذين معكِ
رائحة الخمر
وعينيه المليئتين بالدمع..

كأنني، وكأنكم معي بحاجة لنقف أكثر أمام بوابة الشعر، وحميميته، لنتصور عمق عاطفة الأبوة في تجليات الحنان والعطاء إذ يقول الشاعر عمر بهاء الدين :
شغفاً، إذا أكلوا وإن شربوا
يتزاحمون على مجالستي
والقرب مني حيثما انقلبوا
يتجهون بسوق فطرتهم
نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا
فنشيدهم " بابا" إذا فرحوا
ووعيدهم" بابا " إذا غضبوا

هذه القصيدة التي تذكر الأب كأفضل ما نودي به:بابا .. بابا
تظهر أرق المشاعر الإنسانية في بساطة وعفوية، في محاولة ناجحة لتعديل الميزان، فقد اعتاد العالم على تخليد عطاء الأم، بحيث تهمش دور الأب على نحو ما، وارتبط في أحسن حالاته بالعطاء المادي، أكثر مما ارتبط بمفردات العاطفة الجياشة..
إن إي محاولة لإيراد نماذج ايجابية عن الأب أكثر تنوعا وغنى، وأكثر شمولاً سترتطم لا شك بحائط قلة التدوين السردي الروائي لنموذج " الأب الإيجابي "، ربما لأن التجارب عن الأب الحداثي المتفهم والمتعاون مازالت في بوتقة الاختمار، وستظهر لاحقاً في الكتابات الأحدث..
فمجتمعاتنا ذات النظام الذكوري والتقاليد البطركية، المتباهي بفحولته، والقائم على الفصل بين مهمات الأب والأم وبين المطلوب منهما لا يرضخ بسهولة لمتغيرات الحياة، ومطالبات علم النفس الحديث..
ولعل من الطريف أن نعلم أن تبادل الأدوار بين الأنثى والذكر يبدو ممكناً في الطبيعة والتاريخ، ففي غينيا هناك قبائل (الأرابيش) ويبدو أن رجالها لهم سمات الأمومة، فغاية الحياة في نظر الرجال والنساء على السواء هي الحمل وتنشئة الأولاد، والفعل " يحمل طفلاً" يعني الأب أو الأم، وهم – أي قبائل الأرابيش ) يعتقدون أن الرجل يعاني آلام المخاض سواء بسواء كالمرأة، فإذا كان الولد يخلق من نطفة الرجل وعلقة الأم فإن " نسمة الحياة " تأتي من أحد الوالدين..!
أما قبيلة (مندوجومور) وهي أيضاً في غينيا، فالتماثل بين شخصيات الرجال والنساء، يكمن في نشأة القسوة وتناقص جوانب الأمومة ومظاهرها في كلا الجنسين، فكلاهما الأب والأم ملول ويتضايق من تربية الأطفال..!
أما عند قبائل (تشامبولي) فالمرأة هي الطرف السائد المتجرد من العاطفة، وهي الآمرة الناهية، أما الرجل فهو الأقل إحساسا بالمسؤولية، وهو الذي يعتمد على غيره من الناحية العاطفية، وعندهم في تلك الأقاصي تخرج النساء لصيد السمك وجمع الطعام، فيما يختص الذكور بصنع الأقنعة وفنون الرقص والحفر..
وتلك مسألة أخرى..