[حين نعتاد الرحيل مرة تصبح كل الأمكنة زبدا نطفو عليه ونميل كلما مالت بنا الريح...]
بالأمس شب حريق في ذاكرتي، أحرق كل الذكريات القريبة، بعد أن هدأت النار. تلمستُ رماد الذكريات الجديدة، قال صوت بعيد للذكريات القديمة اقتربي! رأيتها. قلت للاصدقاء [الريامي، الافندي، خالد] أراها عند خط الأفق لا شكل لها، ولا استطيع أن أشم رائحتها، ولست قادرا على لمسها. هناك.. مثل سفن بعيدة تطلب إذناً بالرسو، وليس لديّ ميناء.. كان علينا أمام الهجرات الكثيرة والمتجددة والتي تشكل ذكريات جديدة أن نحذف من «هارد الذاكرة» بعض الذكريات القديمة التي انمحت ملامحها من الشمس المعلقة عليها منذ سنين..
في نوبات بهجة، ومع ذكريات جديدة؛ قلنا ما نفع هذه الذكريات التي لم يعد لها ملامح، فحذفناها.. منها من كان عنيداً، لم يقبل المحو! هذه هي التي كنت احس أنها على بابي ككلب باسط ذراعيه ويهز ذيله بهدوء، يطلب شيئا، أو بقايا شيء لم أعرف ماهو! لم يكن يطلب خبزاً ! كان ذلك واضحا من نظراته.. لو كان كذلك لرميت له رغيفاً يابساً هو ما بقي من الروح أو العمر.. لكنها ما كانت تطلب خبزاً. الخبز الساخن هو غذاء الأحلام، وليس الذكريات، كما يرى ريتسوس.
الأماكن وجوه. الأماكن بشر.. الذكريات انتابتني كموجات حمى [هكذا وصف مهند الحالة فيما بعد] بدأت اشعر بوخز في خاصرتي، هذا دائما يحدث عندما تقف على بابي الذكريات العصية على المحو، ليس وخزاً متوهماً؛ بل حقيقياً. ألمٌ حقيقيٌ.. حينما اتجاهله طويلاً ترافقه شهقة! شهقة مزعجة، أُصبِح أشهق بشكل متواتر.. تنتابني هذه الشهقة عادة في آخر الليل عندما اجلس وحيدا..
- أي المدن تريد أن تعود اليها؛ قلت لخالد ؟.
قال أو قلت لم أعد اذكر.. أن هناك مدنا تشعر أنك لم تنته منها، تشعر أنك يجب أن تعود لها.. لكنه بالتأكيد هو من قال: كاليفورنيا.. له فيها بقايا روح من حبيبة غادرت الدنيا... بالتأكيد أنا من قال: لم يعد لدي مدينة أريد العودة لها.. أقف على شاطئ الاسكندرية انتظر سفنا غامضة ينزل منها اناس أعرفهم، هذا حلم يقظة متجدد يداهمني كلما مشيت بمحاذاة شاطئها وحيدا..لذلك لم أعد أحب المشي على شاطئها. قلت في نوبة غامضة: ربما الكويت.. لم اشبع منها.. صمتُ طويلا مفكرأ بالمدن التي مررت بها؛ أحب المنامة، لكن ليس بما يكفي لكي تلح عليّ بالعودة اليها.. ولم أذكر غرفتي في الرياض التي قضيت فيها عشر سنوات، لأن صديقي غيرّ ملامحها بعد أن رحلتْ. عندما زرتها لاحقا لم اتعرف إليها، ولم تعنيني أبداً، تذكرتها فقط، حينما اعتقلوا رأفت غانم.. بحثت عن صورة له.. فوجدتها، كان في غرفتي. يجلس على كرسي خيزران، وخلفه بلوزة برتقالية لي، شابكاً يديه فوق رأسه..
الرياض تبتعد رويداً.. رويداً تخفتُ من الذاكرة، بقيّ أصدقاء قليلون، لكني أتذكرهم في المقهى فقط.. ولم تأت حلب أبداً.. أبداً. قلت: إن حلب تخبو، أحس أني افتقدتها الى الابد، وأزعم أني لو عدت لها ما عرفتني أو عرفتها. المدن أيضا تكبر. وتهرم. وتنسى.. ولم أتذكر أثينا لم تستطع أن تزاحم الأطياف الأخرى لتطل برأسها
بالامس سردت سريعا هجراتي لخالد كي يعرف عم أتحدث؛ قلت له: نشأتُ غريباً، وانا الآن هنا غريبٌ معي ابني الذي أصبح شاباً يكرر سيرتي. هنا في الاسكندرية، أحس أني أعيش في مدينة ليست مدينتي الاصلية، لكني سكنتها منذ زمن بعيد .. لكن كل اصدقائي واهلي و... غادروها وبقيت وحيداً. وكي أوصل الفكرة له قلت: مثل يوناني مسن مازال في هذه المدينة..هل قرأت «مئة عام من العزلة»؟ أحس أني في تلك المدينة بعد أن أقفرت.
قرأت له مقطعاً لنيرودا أيضا [ترى أحزن الذي ينتظر دائماً؛ أكبر من حزن الذي ما انتظر أحداً؟]
نام خالد في الثالثة والنصف، أو أكثر، لم أعد أذكر، أنا أيضا آويت الى فراشي بينما كانت الذكريات تهوم في داخلي، أو فوقي، لم اعد اذكر مكانها بالضبط، لم تكن حشوداً، كانت متفرقة كأني الزجاج في حوض اسماك والذكريات الاسماك السابحة، بعد كل هنيهة تنقرني ذكرى بأنفها..
على المسنجر قالت جاكي بعد أن شرحت لها الحالة التي أنا فيها: أي من هذه الذكريات تريد؟ قلت لها: ذكريات الطفولة.
قالت: يالله!.. أعرف تماما عم تتحدث، لو استطيع أن اضمك. غفوت على جملة جاكي هذه. في الصباح لم يكن الحنينُ قد غادرني تماما، لكن مهند نبشه بطلب «حين نعتاد الرحيل مرة» قال انه يريد تعديل الجملة الى «زمنا نطفوا عليه»..
كانت ايضا جاكي، لذلك تذكرت أن أشكرها على تعاطفها مع حالتي بالأمس. اعطتني رابطاً لما كتبته عن «بيتي الصغير الذي في كندا..» بعد أن قرأتها وجدت شيئا يشبه حالتي، الاماكن نفسها الحكايات نفسها، اللعب نفسها، والضباب نفسه.. قلتُ لها تماماً.. تماماً ذلك ما أحسه.
الاشياء تبتعد والرؤية لم تعد تساعدنا على أن نبصرها بوضوح، نركب مشاهد متقطعة متداخلة، من أزمنة متفرقة وأمكنة كذلك، برهافة نركبها لتشكل حنيناً غامضاً فاقداً للزمن، فاقدا للمكان.. أحس منذ الأمس أن شريطاً سينمائياً صامتاً يمر بسرعة كبيرة مستعرضاً صوراً من حياتي. هناك وجوه بلا ملامح، يريد الحنين أن يلامسها. لم يعد هناك من الوجوه العتيقة أحد واضح؛ هل هرمت الذاكرة باكراً، ولم تعد تتذكر إلا الوجوه القريبة؟ أظن ذلك، والدليل أن وجه «السيدة البيضاء» التي أحبها واضحاً.. هو الشيء الوحيد الذي ما زال واضحاً، وهي تصر على الغياب، رغم معاناتها مع الحنين مثلي، أعرف هذا لأني كنت اسندها عندما تميل بنا الريح.. الزمن ليس بعداً واحداً في ذاكرتنا، فهناك ذكريات قريبة تغيب بينما يحضر أبعد منها في خيط الزمن الذي تشده الذاكرة، كأنها تنتشل به غرقى.. قلت لخالد هذا. مهند يوافق على مقولة «الحنين إلى لا أحد» ويعتبر أن ذلك صورة واضحة لا تحتاج لشرح!! يضيف: المكان والزمان والرفقة هي من تجعل للذكرى معنى! لم تعد تجتمع هذه في الذاكرة فأصبح الأمر نوبات حمى.
مهند الذي في دبي؛ المدينة التي يقول عنها إنه لم يستطع بناء ذاكرة فيها سرد لي حكاية: منذ اسبوع توفي زوج خالتي، وهذا الرجل كان بمثابة خالي، اعرفه اكثر مما اعرف خالي. ذكرياتنا معا كثيرة، وكلها مزيج من السياسة والعرق.. تصور حين وصلني الخبر؛ لم استطع تذكر جلسة واحدة بتفاصيلها، أريد فقط تذكر تلك التفاصيل الصغيرة والحميمية.. أنا غير قادر.. أنت تحس بألم في الخاصرة، أنا أعاني من نوبات حمى.. منذ شهر لم أنم كما يجب.. في الليل تصبح الأمكنة والأزمنة مزيجاً من الخيالات، كان في بدايته ممتعاً.. الآن صار مرهقاً ومزعجاً.
جاكي قالت لي: أنت تهاجر الى الآخرين، وهذا سبب الحالة التي أنت فيها، هاجر الى داخلك، انظر له جيداً.
- لكن داخلي فارغ يا جاكي
- ليس صحيحا؛ نحن فقط لم نتعلم أن نراه جيدا. انشغلنا بمحيطنا ونسينا داخلنا. عندما تنظر إليه بروية، ستهدأ روحك، ستقودك الى هدوء تتسرب منه اشياء لم تكن تتخيلها.
كان وجه «السيدة البيضاء» يحضرُ يكنس الذكريات من أمام بابي، وينهر البعيدة منها «يلا روحو بعيد.. ماذا تريدون منه.. حرام عليكم.. اتركوه..». بالامس كانت تجلس على كرسي بعيد، تبكي، لم تصلها يدي لأمسح دمعها. ولا أدري لماذا كانت تذكّر الذكريات مع أنها مؤنثة، ربما لأن ذكريات الأنثى مذكّر!
الافندي غادر في منتصف الليل فجأة! قال انه سيذهب للسعودية الآن.. دهشنا! قلت له محاولا تبديد الدهشة: أحد يروح ع السعودية الآن.. يا رجل اجلس.. لكنه اصر.. وتركناه. لا ادري ما الذي جعله يفعل ذلك. بعد أن غادرنا الريامي بقينا أنا وخالد فدخلت الذكريات من الباب الذي غادروا منه، كان حضورهم يسد الباب بوجهها..
هل ترغب في مغادرة هذه المدينة؟ أظن مهند من سألني:
قلت لا.. لا.. اعتقد، ان احساسنا هذا سيكون في اي مدينة اخرى. هذا الرحيل الذي حوّلنا الى متلقين غير متفاعلين مع اي شيء، الغى كوننا جزء من السيرورة وحولنا الى لحظات غير مدونة..
قال: قاسي هيك كتير!!
رددت بيقين نبي: لا.. هذا ما أصبحنا عليه.. أي محاولة لتغير المشهد ستكون فقط نوع من الماكياج. التغيير الحقيقي هو تغيير السيناريو ولكن هذا غير وارد في حالة ذواتنا المبددة، وفي حالة أرواح موهنة لم تعد تقوى على المشي.
من الذكريات التي داهمتني مشهد غير مكتمل لروحي، وهي حافية تعبر جسراً! بالكاد تعرفت عليها.. تغيرت كثيراً، تلبس أشياء غريبة، لم اتبين من ملامح وجهها سوى التجاعيد وعينين غائرتين بعيدتين ليست لهما نظرة محددة.
منذ الساعة الثالثة فجر أمس، حتى الآن السادسة عصراً، وفيروز تعيد أغنية واحدة «يا مرسال المراسيل» كلما أردت تغييرها «قلبي لا يطاوعني».
بعد أن غادر الأفندي والريامي ونام خالد بقيت وحيداً مع الذكريات التي اقتربت؛ رغم ذلك لم تتضح ملامحها. تعاركت مع أحدها، وأثناء عراكنا بدأ أنفها ينزف. أجلستها مكاني على الكرسي، ورششت على وجهها الذي بلا ملامح الماء، ونظفت آثار الدم بمنديل «مطرز شوي على الداير» ومحاك عليه اسم لم استطع قراءته. كنت أشعر بالذنب لما فعلت، فالذكريات ضيوف يجب أن نغفر لها اخطاءها لأنها في بيتنا. قبل أن اعتذر لها، كانت الذكرى قد اختفت، وما تبقى بقع دم على ارض الغرفة!
بالأمس شب حريق في ذاكرتي، أحرق كل الذكريات القريبة، بعد أن هدأت النار. تلمستُ رماد الذكريات الجديدة، قال صوت بعيد للذكريات القديمة اقتربي! رأيتها. قلت للاصدقاء [الريامي، الافندي، خالد] أراها عند خط الأفق لا شكل لها، ولا استطيع أن أشم رائحتها، ولست قادرا على لمسها. هناك.. مثل سفن بعيدة تطلب إذناً بالرسو، وليس لديّ ميناء.. كان علينا أمام الهجرات الكثيرة والمتجددة والتي تشكل ذكريات جديدة أن نحذف من «هارد الذاكرة» بعض الذكريات القديمة التي انمحت ملامحها من الشمس المعلقة عليها منذ سنين..
في نوبات بهجة، ومع ذكريات جديدة؛ قلنا ما نفع هذه الذكريات التي لم يعد لها ملامح، فحذفناها.. منها من كان عنيداً، لم يقبل المحو! هذه هي التي كنت احس أنها على بابي ككلب باسط ذراعيه ويهز ذيله بهدوء، يطلب شيئا، أو بقايا شيء لم أعرف ماهو! لم يكن يطلب خبزاً ! كان ذلك واضحا من نظراته.. لو كان كذلك لرميت له رغيفاً يابساً هو ما بقي من الروح أو العمر.. لكنها ما كانت تطلب خبزاً. الخبز الساخن هو غذاء الأحلام، وليس الذكريات، كما يرى ريتسوس.
الأماكن وجوه. الأماكن بشر.. الذكريات انتابتني كموجات حمى [هكذا وصف مهند الحالة فيما بعد] بدأت اشعر بوخز في خاصرتي، هذا دائما يحدث عندما تقف على بابي الذكريات العصية على المحو، ليس وخزاً متوهماً؛ بل حقيقياً. ألمٌ حقيقيٌ.. حينما اتجاهله طويلاً ترافقه شهقة! شهقة مزعجة، أُصبِح أشهق بشكل متواتر.. تنتابني هذه الشهقة عادة في آخر الليل عندما اجلس وحيدا..
- أي المدن تريد أن تعود اليها؛ قلت لخالد ؟.
قال أو قلت لم أعد اذكر.. أن هناك مدنا تشعر أنك لم تنته منها، تشعر أنك يجب أن تعود لها.. لكنه بالتأكيد هو من قال: كاليفورنيا.. له فيها بقايا روح من حبيبة غادرت الدنيا... بالتأكيد أنا من قال: لم يعد لدي مدينة أريد العودة لها.. أقف على شاطئ الاسكندرية انتظر سفنا غامضة ينزل منها اناس أعرفهم، هذا حلم يقظة متجدد يداهمني كلما مشيت بمحاذاة شاطئها وحيدا..لذلك لم أعد أحب المشي على شاطئها. قلت في نوبة غامضة: ربما الكويت.. لم اشبع منها.. صمتُ طويلا مفكرأ بالمدن التي مررت بها؛ أحب المنامة، لكن ليس بما يكفي لكي تلح عليّ بالعودة اليها.. ولم أذكر غرفتي في الرياض التي قضيت فيها عشر سنوات، لأن صديقي غيرّ ملامحها بعد أن رحلتْ. عندما زرتها لاحقا لم اتعرف إليها، ولم تعنيني أبداً، تذكرتها فقط، حينما اعتقلوا رأفت غانم.. بحثت عن صورة له.. فوجدتها، كان في غرفتي. يجلس على كرسي خيزران، وخلفه بلوزة برتقالية لي، شابكاً يديه فوق رأسه..
الرياض تبتعد رويداً.. رويداً تخفتُ من الذاكرة، بقيّ أصدقاء قليلون، لكني أتذكرهم في المقهى فقط.. ولم تأت حلب أبداً.. أبداً. قلت: إن حلب تخبو، أحس أني افتقدتها الى الابد، وأزعم أني لو عدت لها ما عرفتني أو عرفتها. المدن أيضا تكبر. وتهرم. وتنسى.. ولم أتذكر أثينا لم تستطع أن تزاحم الأطياف الأخرى لتطل برأسها
بالامس سردت سريعا هجراتي لخالد كي يعرف عم أتحدث؛ قلت له: نشأتُ غريباً، وانا الآن هنا غريبٌ معي ابني الذي أصبح شاباً يكرر سيرتي. هنا في الاسكندرية، أحس أني أعيش في مدينة ليست مدينتي الاصلية، لكني سكنتها منذ زمن بعيد .. لكن كل اصدقائي واهلي و... غادروها وبقيت وحيداً. وكي أوصل الفكرة له قلت: مثل يوناني مسن مازال في هذه المدينة..هل قرأت «مئة عام من العزلة»؟ أحس أني في تلك المدينة بعد أن أقفرت.
قرأت له مقطعاً لنيرودا أيضا [ترى أحزن الذي ينتظر دائماً؛ أكبر من حزن الذي ما انتظر أحداً؟]
نام خالد في الثالثة والنصف، أو أكثر، لم أعد أذكر، أنا أيضا آويت الى فراشي بينما كانت الذكريات تهوم في داخلي، أو فوقي، لم اعد اذكر مكانها بالضبط، لم تكن حشوداً، كانت متفرقة كأني الزجاج في حوض اسماك والذكريات الاسماك السابحة، بعد كل هنيهة تنقرني ذكرى بأنفها..
على المسنجر قالت جاكي بعد أن شرحت لها الحالة التي أنا فيها: أي من هذه الذكريات تريد؟ قلت لها: ذكريات الطفولة.
قالت: يالله!.. أعرف تماما عم تتحدث، لو استطيع أن اضمك. غفوت على جملة جاكي هذه. في الصباح لم يكن الحنينُ قد غادرني تماما، لكن مهند نبشه بطلب «حين نعتاد الرحيل مرة» قال انه يريد تعديل الجملة الى «زمنا نطفوا عليه»..
كانت ايضا جاكي، لذلك تذكرت أن أشكرها على تعاطفها مع حالتي بالأمس. اعطتني رابطاً لما كتبته عن «بيتي الصغير الذي في كندا..» بعد أن قرأتها وجدت شيئا يشبه حالتي، الاماكن نفسها الحكايات نفسها، اللعب نفسها، والضباب نفسه.. قلتُ لها تماماً.. تماماً ذلك ما أحسه.
الاشياء تبتعد والرؤية لم تعد تساعدنا على أن نبصرها بوضوح، نركب مشاهد متقطعة متداخلة، من أزمنة متفرقة وأمكنة كذلك، برهافة نركبها لتشكل حنيناً غامضاً فاقداً للزمن، فاقدا للمكان.. أحس منذ الأمس أن شريطاً سينمائياً صامتاً يمر بسرعة كبيرة مستعرضاً صوراً من حياتي. هناك وجوه بلا ملامح، يريد الحنين أن يلامسها. لم يعد هناك من الوجوه العتيقة أحد واضح؛ هل هرمت الذاكرة باكراً، ولم تعد تتذكر إلا الوجوه القريبة؟ أظن ذلك، والدليل أن وجه «السيدة البيضاء» التي أحبها واضحاً.. هو الشيء الوحيد الذي ما زال واضحاً، وهي تصر على الغياب، رغم معاناتها مع الحنين مثلي، أعرف هذا لأني كنت اسندها عندما تميل بنا الريح.. الزمن ليس بعداً واحداً في ذاكرتنا، فهناك ذكريات قريبة تغيب بينما يحضر أبعد منها في خيط الزمن الذي تشده الذاكرة، كأنها تنتشل به غرقى.. قلت لخالد هذا. مهند يوافق على مقولة «الحنين إلى لا أحد» ويعتبر أن ذلك صورة واضحة لا تحتاج لشرح!! يضيف: المكان والزمان والرفقة هي من تجعل للذكرى معنى! لم تعد تجتمع هذه في الذاكرة فأصبح الأمر نوبات حمى.
مهند الذي في دبي؛ المدينة التي يقول عنها إنه لم يستطع بناء ذاكرة فيها سرد لي حكاية: منذ اسبوع توفي زوج خالتي، وهذا الرجل كان بمثابة خالي، اعرفه اكثر مما اعرف خالي. ذكرياتنا معا كثيرة، وكلها مزيج من السياسة والعرق.. تصور حين وصلني الخبر؛ لم استطع تذكر جلسة واحدة بتفاصيلها، أريد فقط تذكر تلك التفاصيل الصغيرة والحميمية.. أنا غير قادر.. أنت تحس بألم في الخاصرة، أنا أعاني من نوبات حمى.. منذ شهر لم أنم كما يجب.. في الليل تصبح الأمكنة والأزمنة مزيجاً من الخيالات، كان في بدايته ممتعاً.. الآن صار مرهقاً ومزعجاً.
جاكي قالت لي: أنت تهاجر الى الآخرين، وهذا سبب الحالة التي أنت فيها، هاجر الى داخلك، انظر له جيداً.
- لكن داخلي فارغ يا جاكي
- ليس صحيحا؛ نحن فقط لم نتعلم أن نراه جيدا. انشغلنا بمحيطنا ونسينا داخلنا. عندما تنظر إليه بروية، ستهدأ روحك، ستقودك الى هدوء تتسرب منه اشياء لم تكن تتخيلها.
كان وجه «السيدة البيضاء» يحضرُ يكنس الذكريات من أمام بابي، وينهر البعيدة منها «يلا روحو بعيد.. ماذا تريدون منه.. حرام عليكم.. اتركوه..». بالامس كانت تجلس على كرسي بعيد، تبكي، لم تصلها يدي لأمسح دمعها. ولا أدري لماذا كانت تذكّر الذكريات مع أنها مؤنثة، ربما لأن ذكريات الأنثى مذكّر!
الافندي غادر في منتصف الليل فجأة! قال انه سيذهب للسعودية الآن.. دهشنا! قلت له محاولا تبديد الدهشة: أحد يروح ع السعودية الآن.. يا رجل اجلس.. لكنه اصر.. وتركناه. لا ادري ما الذي جعله يفعل ذلك. بعد أن غادرنا الريامي بقينا أنا وخالد فدخلت الذكريات من الباب الذي غادروا منه، كان حضورهم يسد الباب بوجهها..
هل ترغب في مغادرة هذه المدينة؟ أظن مهند من سألني:
قلت لا.. لا.. اعتقد، ان احساسنا هذا سيكون في اي مدينة اخرى. هذا الرحيل الذي حوّلنا الى متلقين غير متفاعلين مع اي شيء، الغى كوننا جزء من السيرورة وحولنا الى لحظات غير مدونة..
قال: قاسي هيك كتير!!
رددت بيقين نبي: لا.. هذا ما أصبحنا عليه.. أي محاولة لتغير المشهد ستكون فقط نوع من الماكياج. التغيير الحقيقي هو تغيير السيناريو ولكن هذا غير وارد في حالة ذواتنا المبددة، وفي حالة أرواح موهنة لم تعد تقوى على المشي.
من الذكريات التي داهمتني مشهد غير مكتمل لروحي، وهي حافية تعبر جسراً! بالكاد تعرفت عليها.. تغيرت كثيراً، تلبس أشياء غريبة، لم اتبين من ملامح وجهها سوى التجاعيد وعينين غائرتين بعيدتين ليست لهما نظرة محددة.
منذ الساعة الثالثة فجر أمس، حتى الآن السادسة عصراً، وفيروز تعيد أغنية واحدة «يا مرسال المراسيل» كلما أردت تغييرها «قلبي لا يطاوعني».
بعد أن غادر الأفندي والريامي ونام خالد بقيت وحيداً مع الذكريات التي اقتربت؛ رغم ذلك لم تتضح ملامحها. تعاركت مع أحدها، وأثناء عراكنا بدأ أنفها ينزف. أجلستها مكاني على الكرسي، ورششت على وجهها الذي بلا ملامح الماء، ونظفت آثار الدم بمنديل «مطرز شوي على الداير» ومحاك عليه اسم لم استطع قراءته. كنت أشعر بالذنب لما فعلت، فالذكريات ضيوف يجب أن نغفر لها اخطاءها لأنها في بيتنا. قبل أن اعتذر لها، كانت الذكرى قد اختفت، وما تبقى بقع دم على ارض الغرفة!