29 سبتمبر 2009

ناس وأماكن: ضيوف الذاكرة على شاطئ المتوسط ( خلف علي الخلف)

[حين نعتاد الرحيل مرة تصبح كل الأمكنة زبدا نطفو عليه ونميل كلما مالت بنا الريح...]


بالأمس شب حريق في ذاكرتي، أحرق كل الذكريات القريبة، بعد أن هدأت النار. تلمستُ رماد الذكريات الجديدة، قال صوت بعيد للذكريات القديمة اقتربي! رأيتها. قلت للاصدقاء [الريامي، الافندي، خالد] أراها عند خط الأفق لا شكل لها، ولا استطيع أن أشم رائحتها، ولست قادرا على لمسها. هناك.. مثل سفن بعيدة تطلب إذناً بالرسو، وليس لديّ ميناء.. كان علينا أمام الهجرات الكثيرة والمتجددة والتي تشكل ذكريات جديدة أن نحذف من «هارد الذاكرة» بعض الذكريات القديمة التي انمحت ملامحها من الشمس المعلقة عليها منذ سنين..


في نوبات بهجة، ومع ذكريات جديدة؛ قلنا ما نفع هذه الذكريات التي لم يعد لها ملامح، فحذفناها.. منها من كان عنيداً، لم يقبل المحو! هذه هي التي كنت احس أنها على بابي ككلب باسط ذراعيه ويهز ذيله بهدوء، يطلب شيئا، أو بقايا شيء لم أعرف ماهو! لم يكن يطلب خبزاً ! كان ذلك واضحا من نظراته.. لو كان كذلك لرميت له رغيفاً يابساً هو ما بقي من الروح أو العمر.. لكنها ما كانت تطلب خبزاً. الخبز الساخن هو غذاء الأحلام، وليس الذكريات، كما يرى ريتسوس.

الأماكن وجوه. الأماكن بشر.. الذكريات انتابتني كموجات حمى [هكذا وصف مهند الحالة فيما بعد] بدأت اشعر بوخز في خاصرتي، هذا دائما يحدث عندما تقف على بابي الذكريات العصية على المحو، ليس وخزاً متوهماً؛ بل حقيقياً. ألمٌ حقيقيٌ.. حينما اتجاهله طويلاً ترافقه شهقة! شهقة مزعجة، أُصبِح أشهق بشكل متواتر.. تنتابني هذه الشهقة عادة في آخر الليل عندما اجلس وحيدا..

- أي المدن تريد أن تعود اليها؛ قلت لخالد ؟.


قال أو قلت لم أعد اذكر.. أن هناك مدنا تشعر أنك لم تنته منها، تشعر أنك يجب أن تعود لها.. لكنه بالتأكيد هو من قال: كاليفورنيا.. له فيها بقايا روح من حبيبة غادرت الدنيا... بالتأكيد أنا من قال: لم يعد لدي مدينة أريد العودة لها.. أقف على شاطئ الاسكندرية انتظر سفنا غامضة ينزل منها اناس أعرفهم، هذا حلم يقظة متجدد يداهمني كلما مشيت بمحاذاة شاطئها وحيدا..لذلك لم أعد أحب المشي على شاطئها. قلت في نوبة غامضة: ربما الكويت.. لم اشبع منها.. صمتُ طويلا مفكرأ بالمدن التي مررت بها؛ أحب المنامة، لكن ليس بما يكفي لكي تلح عليّ بالعودة اليها.. ولم أذكر غرفتي في الرياض التي قضيت فيها عشر سنوات، لأن صديقي غيرّ ملامحها بعد أن رحلتْ. عندما زرتها لاحقا لم اتعرف إليها، ولم تعنيني أبداً، تذكرتها فقط، حينما اعتقلوا رأفت غانم.. بحثت عن صورة له.. فوجدتها، كان في غرفتي. يجلس على كرسي خيزران، وخلفه بلوزة برتقالية لي، شابكاً يديه فوق رأسه..


الرياض تبتعد رويداً.. رويداً تخفتُ من الذاكرة، بقيّ أصدقاء قليلون، لكني أتذكرهم في المقهى فقط.. ولم تأت حلب أبداً.. أبداً. قلت: إن حلب تخبو، أحس أني افتقدتها الى الابد، وأزعم أني لو عدت لها ما عرفتني أو عرفتها. المدن أيضا تكبر. وتهرم. وتنسى.. ولم أتذكر أثينا لم تستطع أن تزاحم الأطياف الأخرى لتطل برأسها


بالامس سردت سريعا هجراتي لخالد كي يعرف عم أتحدث؛ قلت له: نشأتُ غريباً، وانا الآن هنا غريبٌ معي ابني الذي أصبح شاباً يكرر سيرتي. هنا في الاسكندرية، أحس أني أعيش في مدينة ليست مدينتي الاصلية، لكني سكنتها منذ زمن بعيد .. لكن كل اصدقائي واهلي و... غادروها وبقيت وحيداً. وكي أوصل الفكرة له قلت: مثل يوناني مسن مازال في هذه المدينة..هل قرأت «مئة عام من العزلة»؟ أحس أني في تلك المدينة بعد أن أقفرت.


قرأت له مقطعاً لنيرودا أيضا [ترى أحزن الذي ينتظر دائماً؛ أكبر من حزن الذي ما انتظر أحداً؟]
نام خالد في الثالثة والنصف، أو أكثر، لم أعد أذكر، أنا أيضا آويت الى فراشي بينما كانت الذكريات تهوم في داخلي، أو فوقي، لم اعد اذكر مكانها بالضبط، لم تكن حشوداً، كانت متفرقة كأني الزجاج في حوض اسماك والذكريات الاسماك السابحة، بعد كل هنيهة تنقرني ذكرى بأنفها..


على المسنجر قالت جاكي بعد أن شرحت لها الحالة التي أنا فيها: أي من هذه الذكريات تريد؟ قلت لها: ذكريات الطفولة.
قالت: يالله!.. أعرف تماما عم تتحدث، لو استطيع أن اضمك. غفوت على جملة جاكي هذه. في الصباح لم يكن الحنينُ قد غادرني تماما، لكن مهند نبشه بطلب «حين نعتاد الرحيل مرة» قال انه يريد تعديل الجملة الى «زمنا نطفوا عليه»..
كانت ايضا جاكي، لذلك تذكرت أن أشكرها على تعاطفها مع حالتي بالأمس. اعطتني رابطاً لما كتبته عن «بيتي الصغير الذي في كندا..» بعد أن قرأتها وجدت شيئا يشبه حالتي، الاماكن نفسها الحكايات نفسها، اللعب نفسها، والضباب نفسه.. قلتُ لها تماماً.. تماماً ذلك ما أحسه.


الاشياء تبتعد والرؤية لم تعد تساعدنا على أن نبصرها بوضوح، نركب مشاهد متقطعة متداخلة، من أزمنة متفرقة وأمكنة كذلك، برهافة نركبها لتشكل حنيناً غامضاً فاقداً للزمن، فاقدا للمكان.. أحس منذ الأمس أن شريطاً سينمائياً صامتاً يمر بسرعة كبيرة مستعرضاً صوراً من حياتي. هناك وجوه بلا ملامح، يريد الحنين أن يلامسها. لم يعد هناك من الوجوه العتيقة أحد واضح؛ هل هرمت الذاكرة باكراً، ولم تعد تتذكر إلا الوجوه القريبة؟ أظن ذلك، والدليل أن وجه «السيدة البيضاء» التي أحبها واضحاً.. هو الشيء الوحيد الذي ما زال واضحاً، وهي تصر على الغياب، رغم معاناتها مع الحنين مثلي، أعرف هذا لأني كنت اسندها عندما تميل بنا الريح.. الزمن ليس بعداً واحداً في ذاكرتنا، فهناك ذكريات قريبة تغيب بينما يحضر أبعد منها في خيط الزمن الذي تشده الذاكرة، كأنها تنتشل به غرقى.. قلت لخالد هذا. مهند يوافق على مقولة «الحنين إلى لا أحد» ويعتبر أن ذلك صورة واضحة لا تحتاج لشرح!! يضيف: المكان والزمان والرفقة هي من تجعل للذكرى معنى! لم تعد تجتمع هذه في الذاكرة فأصبح الأمر نوبات حمى.

مهند الذي في دبي؛ المدينة التي يقول عنها إنه لم يستطع بناء ذاكرة فيها سرد لي حكاية: منذ اسبوع توفي زوج خالتي، وهذا الرجل كان بمثابة خالي، اعرفه اكثر مما اعرف خالي. ذكرياتنا معا كثيرة، وكلها مزيج من السياسة والعرق.. تصور حين وصلني الخبر؛ لم استطع تذكر جلسة واحدة بتفاصيلها، أريد فقط تذكر تلك التفاصيل الصغيرة والحميمية.. أنا غير قادر.. أنت تحس بألم في الخاصرة، أنا أعاني من نوبات حمى.. منذ شهر لم أنم كما يجب.. في الليل تصبح الأمكنة والأزمنة مزيجاً من الخيالات، كان في بدايته ممتعاً.. الآن صار مرهقاً ومزعجاً.
جاكي قالت لي: أنت تهاجر الى الآخرين، وهذا سبب الحالة التي أنت فيها، هاجر الى داخلك، انظر له جيداً.
- لكن داخلي فارغ يا جاكي
- ليس صحيحا؛ نحن فقط لم نتعلم أن نراه جيدا. انشغلنا بمحيطنا ونسينا داخلنا. عندما تنظر إليه بروية، ستهدأ روحك، ستقودك الى هدوء تتسرب منه اشياء لم تكن تتخيلها.
كان وجه «السيدة البيضاء» يحضرُ يكنس الذكريات من أمام بابي، وينهر البعيدة منها «يلا روحو بعيد.. ماذا تريدون منه.. حرام عليكم.. اتركوه..». بالامس كانت تجلس على كرسي بعيد، تبكي، لم تصلها يدي لأمسح دمعها. ولا أدري لماذا كانت تذكّر الذكريات مع أنها مؤنثة، ربما لأن ذكريات الأنثى مذكّر!
الافندي غادر في منتصف الليل فجأة! قال انه سيذهب للسعودية الآن.. دهشنا! قلت له محاولا تبديد الدهشة: أحد يروح ع السعودية الآن.. يا رجل اجلس.. لكنه اصر.. وتركناه. لا ادري ما الذي جعله يفعل ذلك. بعد أن غادرنا الريامي بقينا أنا وخالد فدخلت الذكريات من الباب الذي غادروا منه، كان حضورهم يسد الباب بوجهها..
هل ترغب في مغادرة هذه المدينة؟ أظن مهند من سألني:
قلت لا.. لا.. اعتقد، ان احساسنا هذا سيكون في اي مدينة اخرى. هذا الرحيل الذي حوّلنا الى متلقين غير متفاعلين مع اي شيء، الغى كوننا جزء من السيرورة وحولنا الى لحظات غير مدونة..
قال: قاسي هيك كتير!!
رددت بيقين نبي: لا.. هذا ما أصبحنا عليه.. أي محاولة لتغير المشهد ستكون فقط نوع من الماكياج. التغيير الحقيقي هو تغيير السيناريو ولكن هذا غير وارد في حالة ذواتنا المبددة، وفي حالة أرواح موهنة لم تعد تقوى على المشي.

من الذكريات التي داهمتني مشهد غير مكتمل لروحي، وهي حافية تعبر جسراً! بالكاد تعرفت عليها.. تغيرت كثيراً، تلبس أشياء غريبة، لم اتبين من ملامح وجهها سوى التجاعيد وعينين غائرتين بعيدتين ليست لهما نظرة محددة.
منذ الساعة الثالثة فجر أمس، حتى الآن السادسة عصراً، وفيروز تعيد أغنية واحدة «يا مرسال المراسيل» كلما أردت تغييرها «قلبي لا يطاوعني».
بعد أن غادر الأفندي والريامي ونام خالد بقيت وحيداً مع الذكريات التي اقتربت؛ رغم ذلك لم تتضح ملامحها. تعاركت مع أحدها، وأثناء عراكنا بدأ أنفها ينزف. أجلستها مكاني على الكرسي، ورششت على وجهها الذي بلا ملامح الماء، ونظفت آثار الدم بمنديل «مطرز شوي على الداير» ومحاك عليه اسم لم استطع قراءته. كنت أشعر بالذنب لما فعلت، فالذكريات ضيوف يجب أن نغفر لها اخطاءها لأنها في بيتنا. قبل أن اعتذر لها، كانت الذكرى قد اختفت، وما تبقى بقع دم على ارض الغرفة!


23 سبتمبر 2009

شهرزاد الحكاية الجديدة: عمارة كلامية أساسها الإيجاز والمحو..( الناقد عزت عمر)


سوزان التي نعرفها؛ تعرّفنا إليها في (الكشكول)*، هذا الحيّز الذي فتح لنا نافذة حميمة على أبناء الوطن وعلى من سكن هذا الوطن في قلوبهم.. نحن الذين كنا كالأيتام على مأدبة الإعلام الثقافي الرسميّ، توزّعنا في المغتربات الجسدية والروحية، وراح كلّ واحد يحفر في حيّزه الذي انوجد فيه؛ هكذا كمياه عذبة نقية أو كواحة ظليلة اكتفت بعابيرها، على أمل أن يتذكّر هؤلاء العابرون في الهجير عذوبة الماء الأولى فيعودوا ليستأنسوا بالمكان وظلّه وثمره ومائه..


هكذا هي سوزان التي ولدت ذات يوم في مدينة حلب الشهباء شمال سوريا كما، تعرف نفسها، سافرت إلى الكويت لتكون هناك واحة وظلاً ونبعاً فائضاً بالخير والخيرات، كالأم السورية الأولى؛ أو كنسخة إضافية من آلهة الينبوع؛ دأبها أن ينهمر الماء من تلك الجرة التي تمسكها بإحكام بكلتا يديها، ليشرب الظامئون، وليقولوا فيما بعد، مررنا هنا ذات يوم..


ولسوزان كما نعلم مجموعتان قصصيتان ضمّت إحداهنّ فيما أظنّ 35 قصة وهي بصدد نشر الثالثة بالإضافة إلى نشاطها الثقافي المتنوّع وحياتها العائلية والاجتماعية في الكويت والمنتديات الأدبية. وإن عنى هذا بشيء، فإنما يعني أنها ذلك النبع المتفجّر الدلالات الذي حكينا عنه للتوّ..


ليست تتوفر لديّ كتب سوزان، ولذلك فإنني قمت بعجالة بانتقاء 9 قصص مما نشرته في الكشكول أو في موقعها، وأنا لا أعرف إن كانت هذه القصص تعبّر على هذا النحو أو ذاك عن تجربتها القصصية أم أنها سوف تنظلم نقدياً بهذا الانتقاء شبه العبثي، ولكنها التجربة وما تحمله من صدق في النوايا، وكلنا نخطئ ونصيب، بتعبير رومان رولان، فعذراً.


القصص المختارة هي: "1 الموت الأخير، 2 الفالس الوردي، 3 أحدنا كان يرتعش، 4 ما زالوا يغادرون، 5 كلّ شيء عن الحبّ، 6 كادت خطواتنا أن تلتقي، 7 فسيفساء امرأة، 8 تمارين رياضية، 9 يحدث دائماً."


من خلال قراءة هذه القصص التسع للقاصة سوزان خواتمي، يمكننا تلمّس معالمها الفكرية الأولى كشخصية شهرزادية، تسعى عبر يوتوبيا السرد الجميل لإزاحة الليل الذي استوطن النفس الإنسانية، والمقاربة هنا بينها وبين شهرزاد مهمّة جداً من ناحيتي عالم السرد ككتابة في فضاء متخيّل، والتوجّه الفائض بإنسانيته عبر هذه الكتابة النابعة من ذات شاعرية شفّافة تدرك جيداً معنى أن تغشى الظلمة النفوس. وبذلك فإن هذه القصص، ربّما تبصّرنا بأنوات سوزان المضمرة، سواء في كلّ قصّة على حدة، أو في أناها كأنثى تنتمي إلى هذا الحيز الفني الكاشف لمضمرها، بالرغم من اقتصادها وسعيها دائماً إلى المحو؛ مكتفية بما يمكن لدلالاتها واستعاراتها وتناصاتها أن تتفاعل في ذات قارئها. وهذا الكلام فيما إذا أردنا تأكيده فنياً، فإنه بإمكاننا القول أن قصص سوزان ربّما تنتهك البنية الفنية للحكاية الشهرزداية، بأن تحذف استهلالاتها وفائضها العجائبي، لتبدأ من لحظة الفعل الواقعي لشخوص من لحم ودم، ربّما تعرّفنا إليهم ذات يوم، بحيث يشعر القارئ بأن ثمة كلاماً قيل سابقاً، وعليه أن يتمثّله أو يتخيّله منذ لحظة دخوله المشهد المتحرّك كما في هذا الاستهلال: "المسافة التي قطعتها طويلة ومتعبة، ولكنها وصلت أخيراً، تنهدت بارتياح. لا زال المكان على حاله، كما تركته بالضبط، رغم كلّ الوقت الذي مضى. ثلاث سنوات، وليست فترة طويلة جداً ولا قصيرة تماماً.." فهذا الاستهلال المشهدي كما نلحظ يقتضي استكمالاً واستفهاماً عن الغياب، وبالتالي سيكون بمثابة المحفّز السردي الذي سيمكّن الساردة من فتح الأطر الحكائية لهذه الكينونة المتعبة.


ومن اقتصاديات سوزان في الاستهلال أيضاً هي أن تضع نقطاً (....) في بداية الكلام كإشارة أن ثمة محواً مقصوداً تمّ، وهذا بدوره يستوجب من الساردة إضاءة جانب منه عبر السفر إلى ماض قريب، أو بعيد نسبياً. " .... تستعد الأرض لابتلاع شمسها ، فتمتد الظلال ، ترسم فوق رخام الأرضية النظيفة خيالاً شاحباً ، لامرأة ينحني ظهرها قليلاً فوق شغلها الصوفي ، تحرك ذراعيها النشطتين المطويتين إلى جانبيها بانتظام متواتر . إنها " أم أيمن " أمي في مثل هذا الوقت ما بين العصر والمغرب ، تكون قد أنجزت كل أعمالها ، وعليها أن تستريح ، لكن قيلولة الظهيرة ما عادت تناسبها منذ أن ارتبك النوم فوق جفنها العاصي ."(كل شيء عن الحبّ).


وهكذا ما بين السفر والإياب في زمن تجريدي توجّه الساردة أحداث حكايتها، ولتبني متنها السرديّ بعمارة كلامية أساسها الإيجاز، بالرغم من كثير من التفاصيل التي يلتمسها القارئ في قراءته، وهي تفاصيل محببة وسنتعرض لها في حينه. وما اصطلحنا عليه ب "الإيجاز" هو في الحقيقة أسلوب وطريقة متّبعة في سرد القصة سواء من خلال التهيئة بالحوافز، أو بالوصف، أو بالتفاصيل، لأننا بتنا ندرك جميعاً أن القصة لا تتحدد بمضمونها، وإنما بالشكل والطريقة التي تقدّم، وبما يجترحه السارد من وسائل وحيل تقنية لكي يوصل هذه القصّة إلى متلقّيها، بتعبير حميد لحمداني في كتابه المهم "بنية النصّ السردي".


ومن هنا فإننا قد لا نقع في قصص سوزان خواتمي على مضامين كبيرة، وممارسات نفسية معقدة، ولا على أفعال عجائبية، بمقدار ما نقع على لقطات فيديو إنسانية وغنية، أجادت في تلوينها بأسلوبية حديثة أساسها الاقتصاد الكلامي أو الإيجاز كما أسلفنا، وإلى ذلك فإن هذه اللقطات غالباً ما تستعرض وضعاً إنسانياً محدداً، لنتعاطف مع أطروحته أو لنتأمل دلالاته كما في هذا المشهد البسيط الذي تمّ بين الأم وابنتها:


"ما بك؟ ألم تعرفيني؟ أنا أمك.. أمك.


فتردّ ابنتها ببرود: أأنت هي؟ حسبتك مت.


تقول المرأة وقد آلمها وقع الكلمة: صحيح.. لكني حاولت المستحيل حتى أعود.. ذلك اليوم، أقصد يوم متّ، كنت شاحبة ومتألمة بكيت فوقي كثيراً، بللتني دموعك، لم تمر علي لحظة هناء واحدة، كان صراخك في أذني يقضّ مضجعي.."


فهذا الحوار بين الأمّ، وبين ابنتها الوحيدة التي ظلّت برعاية الأب، يعكس جانباً من معاناة المرأة المطلّقة في بلادنا، حيث تحرم من مشاهدة أبنائها كعقاب متفّق عليه اجتماعياً، وعلى نحو من العنف اللاإنساني تجاه الأمومة. ونحن في القصة لن نلتمس حتى ولو تعليقاً واحداً يخصّ هذا التحليل من قبل الساردة، حيث إن الحوار بين الفتاة والأم كان في دلالاته يدفع نحو هذه الوجّهة، هذا فيما إذا استثنينا عنوان القصّة "الموت الأخير" وعبارة "يوم متّ" العابرة الناضحة بدلالتها إلى أن الطلاق = الموت في مجتمع دخل طور المدنية منذ ألفي عام. وتأكيداً على ذلك سيقول لها زوجها عندما رآها قادمة من "الموت" لتطمئن على ابنة تركتها: لقد كبرت! وبما أن الغياب كان لمدة سنوات ثلاث فقط، فعلى القارئ أن يتخيل معاناة هذا النموذج الإنساني في مجتمع ظالم، لم يتمكّن حتى الآن من التفكير بحلّ هذه المشكلة كما يجب. ولن نذهب بعيداً في السوسويولوجيا، فمقامها ليس هنا، ولكن قصص سوزان تتوغّل عميقاً في الذات المظلمة، لتنقل إلينا كلّ حين حالة من تلك الحالات، حتى ولو كان الأمر على حساب الفنيات بانحيازها إلى الأنوثة والأسرة أحياناً، أو بالتدخل على حساب الفنيات لتدفع بأناها الساردة نحو وجّهة غير محايدة كما في "الفالس الورديّ" التي انبنت على لحظة سردية منحازة سلفاً للطرف الأنثوي، بدليل استخدام الساردة لضمير الخطاب "ك" المؤسس على تعال مقصود لإدانة الزوج قبل محاكمته، وكأن الساردة هنا تماهت مع الزوجة وباتا واحداً، الأمر الذي أدى إلى إلغاء حضور الزوجة كشخصية فالساردة تتكلم بلسانها، وجلّ ما عرفناه عنها كان عن طريق هذه الساردة المتعاطفة معها. وهذا الأمر برأينا يعبّر عن خلل يقع فيه الكثير من القصاصين نظراً لتعاطفهم مع شخصياتهم ليتأثر البناء بدوره بهذا الاختيار السردي: " آخر مرة رأيت غمازتيها منذ مالا تذكر .. وكان ثالثكما حديث مقطوع .. وأنفاس نرجيلة تعدها لك ثم تنسحب ..تبرعم شوقٌ صغير مدغدغاً مَوات حواسك ، تشرب فنجان شايك .تتقلب قليلاً فوق فراشك ، غداً في المحكمة ينتهي كل شيء .. تنام على الجنب الذي يريحك."


ومن جانب ثان فإن القصّة ذاتها تحتفي بالتفاصيل الصغيرة، وهذه التفاصيل هي أجمل ما في قصص سوزان، سواء كانت تفاصيل ترقيشية بلاغية، أو كمحفّزات تشويقية، وهي في عمومها تعبّر عن أسلوب بارع في التقاط المدهش والجميل والمفارق والتعبير عنها بلغة لها خصوصيتها السوزانية بكلّ تأكيد، والمتتبع لحكاية الساردة التي سافرت بنا إلى البدايات الوردية للمشترك الزوجي، سوف يلتمس عبر هذا السفر الكثير من التفاصيل التي يمكن تصنيفها في حساب الشعرية وإضافة جمالية تتوخّى التناغم مع العناصر الفنية الأخرى لاستكمال القصّة على النحو الذي من شأنه أن يمنح هذه القصّة مشروعية أن تكون قصّة فنية وحديثة: "غاصت غمازةٌ ضاحكة في خدها، وقفز قلبك عالياً، التفت البائع وابتسم في وجهيكما، كانت أسنانه سوداء. كان فعل ماض، عند زاوية الانكسار شفة مقلوبة. تهجسُ بالفكرة. نهضتَ فجأة، و قررتَ أن تنام وبين كتفيكما مسافة سنوات من الانكسار، لتنتصب في الحلم حقولٌ عطشى وأشجارٌ ظمآنة. منذ أن تحول شأنكما الخاص إلى شأن عام واللغط والتساؤلات تحشرك في أضيق المواقع."


وإذا كانت القصتان السابقتان قد تناولتا موضوعة الطلاق أو الافتراق من زاوية رؤية مختلفة سردياً، فإن قصّة "كادت خطواتنا أن تلتقي" ربّما تعاين جانباً نموذجياً نمطياً ينهض على الصدفة لبناء الحكاية، صدفة اللقاء، تجاوب البطلين، وسعيهما للزواج، تدخّل الأم ليحصل الافتراق، ولكن ما بين نقطة اللقاء والافتراق أفقياً، ثمة مساحة من الرومانسية الجميلة تستغلها الساردة بأسلوبها العذب وعلى نحو ذكي لإضاءة لحظة الحبّ التي ينبغي أن تعاش كما يجب بين حبيبين.


أما عمودياً فإنه إذا كان تاريخ الذكورة حافلاً بقصص وأد الحبّ، فإن الأمومة هنا ستسعى على نحو غامض إلى وأد الحبّ من خلال تمثيلها لدور الذكورة الغائبة. وربّما هي ذات الأم التي تعرّفنا إليها في قصّة "كلّ شيء عن الحبّ" أو "أحدنا كان يرتعش" وأعتقد أن هذا الجانب يحتاج إلى وقفة إضافية منا، لتبيّن سبب تمثّل الأنوثة دور الذكورة التقليدي عندما يكون غائباً، وهل لذلك علاقة بما يمكن تسميته بالحرص على "مؤسسة الأسرة" ونظام التوريث الذي ظلّ متماسكاً منذ ذلك اليوم الذي رفض فيه جلجامش نداء عشتار لممارسة اللذة على حساب النظام الطبيعي[1]، بل ربّما هو مسعى من قبل القاصة لمواجهة ما يسمى بالقيم النسوية الجديدة التي لها من يسوّقها في الوسط الأدبي والثقافي، بالدعوة إلى التحرر الجنسي وممارسة اللذة وغير. والراصد لشخصية أم أيمن في القصّة سيتلمّس ذلك:


" أمي قارة حنان جفت، تقرح جفناها، وتساقطت مع الأيام التي مرت أهدابها، فيما مضى لم تكن كذلك كانت مليحة هدباء، وكانت قوية البنية، لطالما حملت السجاد الثقيل، ونقلت قطع الأثاث دون أن تطلب المساعدة، وكانت متينة أقرب في قوامها إلى السمنة. كم تغيرت! نحل عودها، واختفت ابتسامتها، وصمتت شفتاها، إلا بما يجعل الحياة تسير. مرت بها عواصف كثيرة لم تكسرها، استطاعت أن تجعل قاماتنا تنمو نحن أولادها الثلاثة، في زمن حوى كل شيء إلا الطمأنينة، لم أجدها يوماً تشكو، لم يهدها موت أبي، ولا هجرة "أختي" وحيدتها إلى كندا ، كما هدها غياب صالح " أخي الصغير ".


ولا أظنّ أن ثمة غموضاً يستدعي التحليل في هذا المجتزأ، لأن أم أيمن في هذه القصّة تشبه كلّ الشبه الجدة "وهّوب" في رواية وليد إخلاصي "زهرة الصندل" وكلتاهما تدركان أهمية مؤسسة الأسرة والحرص على سلامة أفرادها وسلامة المجتمع، سيما أن الذي غاب كان قد التحى وغاب في مجهول خياراته محدودة جداً بالعودة سالماً.


وربّما قصّتها "فسيفساء امرأة" ستتناول الموضوعة ذاتها ولكن من وجهة سردية معاكسة، لامرأة نسيت نفسها في أحد المستوصفات كممرضة حتى دخلت الستين، لتكتشف فيما بعد أنها صارت ستينية وأن العمر سرقها، فتعمل القاصة على تفتيت كثافة هذه اللحظة بفتح عدة أطر سردية، فسافرت بنا إلى ماضي الشخصية وأيام الطفولة، إلى الحبّ وأيامه، ثمّ الزواج والإنجاب ووفاة الزوج مبكّراً، والعودة من جديد إلى تذكّر ذاتها المنسية من خلال استهلال يعبّر عن ذلك:


"جاء وقت الحب ..


إنها صفقة جديدة مع الحياة ..


كل ما مضى كان لأخرى وعلي أن أحاول من جديد .."


ونحن في هذه العجالة إذا كنا تجاوزنا بعض القصص أو بعض الأفكار التي يمكن مناقشتها، فإنه ربّما نعمل على استكمالها فيما بعد، ولكننا إلى ذلك بودنا أن نقف ختاماً عند قصّتها المعبّرة "يحدث دائماً" التي كانت نشرتها في الكشكول منذ مدة، وهي تؤرّخ لحياة كرسي اكتشف فضائله الآخرون فالتصقوا به، والتي يمكن تصنيفها في حيّز الأدب الساخر المفعم باحتجاج نبيل على ما تؤول عليه علاقة الإنسان بالكرسي، والمفارق في هذه القصّة أن الكرسي ذاته سيكون الراوي المتماهي بمرويّه، وسيحكي عن هذه تجربته مع أولئك الجالسين عليه:


قبل أن يكتشف فضائلي الآخرون ، كنت مجرد نكرة ، كان وجودي كعدمه، لا يزيد ولا ينقص، بل أكثر، أشيع ذات وقت أن الزهد بي فضيلة، خشي القوم بعض إثمي فعفوا عني .


تغيرت المفاهيم وتغير حظي مع إحدى دورات الزمن التي لا تبقي وضعاً على حاله، انقلب -باسماً لي- وجه المجن ، فطن بي بعضهم فسوقوني كإحدى الضرورات صوراً وألواناً وشعارات. صرت طموح هذا العصر، أي ذهول !!


كفرقعة الوسطى مع الإبهام .. هكذا .. تغيرت الأحوال


صرت بين ليلة وضحاها اختراعا إنسانيا مدهشا ،


...


وكما الناس نختلف " نحن الكراسي " بأصولنا وفروعنا ، بأنواعنا وأحجامنا


، وبالأماكن الشتى التي نتوضع فيها، إلا أننا جميعاً على السواء ، ذوو راحة وعميم إفادة .


والعلاقة بيننا وبين الجالس علينا .. علاقة تبادلية ، أخذ وعطاء ، نُمنح فنعطي المزيد ، فحين تضيف إلى قاعدتنا حشوة طرية من قطن أو ريش النعام تقي بها عجيزتك من صلابة قد تزعجك ..


ستنسى دون أدنى ريب – واعذر يقيني - منذ متى وأنت مسمر في مكانك ؟.






عزت عمر


________________________________________


[1] مروراً بعصرنا الحديث وتبوّأ جملة من النساء مراكز قيادية كمارجريت تاتشر، وتانسو تشيللر وأرويو وغيرهنّ، اللاتي بحكم مناصبهنّ الخطيرة واظبن على ممارسة النظام المؤسسي نفسه، وربّما بحرص أكثر من الذكور أنفسهم، وهو أمر يدفعنا للاستنتاج بأن هذا الحرص على مؤسسة الأسرة ووحدة المجتمع، إنما هو حرص حضاري قديم قدم الوعي البشري ذاته، آثر على الدوام الحفاظ على التفوّق الثقافي المدني على الطبيعة المتّسمة بالفوضى واللاعقلانية، إنه باختصار حرص متجذّر في اللاوعي الجمعي، وإمكانية اختراقه والعودة إلى زمن الطبيعة الأولى باتت مستحيلة.


* كشكول: ملتقى أدبي، اجتماعي لمجموعة بريدية ضمت العديد من الاصدقاء السوريين  










21 سبتمبر 2009

سوزان خواتمي وكهف الانوثة.. عن مجموعة فسيفساء امرأة ( صبري رسول)

مقدمة صامتة



الهم النسوي من أبرز ملامح قصص " فسيفساء امرأة " تجلى ذلك في طول القصص وعرضها متمثلاًَ في اهتمام المرأة في شؤنها اليومية والتفاصيل الحياتية الدقيقة (.جمالها ورشاقتها ،علاقاتها مع ألأخرين :أب .أخ . زوج. ألخ ).....


إضافة ألى هموم المرأة في حياتها العامة ككائن اجتماعي وركن من أركان المجتمع العام ، فالأنوثة كهف مغلق لاتتعرض جوانبه لضرب الشمس ، وهموم الكتابة تبقى أسيرة هذا الكهف اللطيف على امتداد 145 صفحة من القطع المتوسط من إصدارات اتحاد الكتاب العرب .ففي قصة (فسيفساء امرأة ) التي تحمل المجموعة تصوغ سوزان حياة كاملة في قصة قصيرة :ميلاد ،زواج ،أرملة ،كهل .لاأظن أن تقسيم القصة إلى عناوين فرعية مثل مســرحية ذات فصول متعددة قد أضافت فنية جديدة : (سرد الطفولة ؛محاولة حب ؛شهية حياة ؛ ميلاد طارىء )وتسرد بمرارة وألم فشل ألحصول على حياة " بنفسجية " . أكاد أبكي .فلا نحن عثرنا على مغارة علي بابا ..ولا نحن اكتشفنا كلمة السر ،ولا نحن في بال الأربعين حرامي "ص105 .






في مستهل القصة تواجه هذه الجمل " وفي خاتمة القصة يتساءل " أختي حنان :في الزمن الجهنمي ..ما الذي تفعله هنا ؟ص122 .عبارةالاستهلال و الخاتمة تختصران الزمن السردي وتربطان حكايتين متشابهتين على سطح يتخطيان المستحيل بحثا عن لذة الحب . لكن الزمن كعنصر سردي أوضح ما يكون في تجلياته المتماهية مع المكان في قصة "حين ضحكت أخيراً " ، فعبارة واحدة تتكرر في مستهل القصة وخاتمتها لكن القارئ لايفهم ما تعنيه العبارة ألأولى إلابعد قراءة النص والوصول الى خاتمة القصة فيختزل الزمن بين تكرارة العبارة في المرة ألأولى و الثانية .






حداثة الخطاب القصصي






نصوص (فسيفساء امرأة ) تندرج تحت مفهوم "الخطاب القصصي الجديد من حيث التقنيات السردية المستخدمة في فضاء متواتر يتصالح فيه المتلقي والنص والكاتبة . ثمة تماسك سردي على المستوى الدلالي والنصي ، مما يجعل بنية النص غير قابلة للتجزئة والتبعثر ففي قصة (كاني أعرفها ) في وقت غير مناسب من حر ألخليج الصيفي ,يحاول الراوي في القصة الوصول الى موعده الغرامي مع حبيبته لأنهما متورطان (بلهفة الحب يتبادلان سراًبعيدا عن أصحاء الحالة ) ص 188 .


في هذه النص يتحدث الراوي عن علاقته بها وعن حلمه بتبادل القبل وعن دلالها وتمنعها وعن قوانين المرور و الذين يقطعون الشارع لكن يبقى الخيط السردي لامعاً في أجزاء النص وتبقى مفاجأة النهاية


ذات دلالة قوية حيث يرى أخته تدخل المقهى في ذات الوقت الجهنمي .فتقنية السرد تنجح باستغلال العامل الزمني هنا.






علاقة المرأة بزوجها من الأفكار الطاغية في النصوص ، تكون أحياناً الفكرة الرئيسية في النص مثل قصة (حين ضحكت أخيراً ، فانتازيا الحب ،فسيفساء الحب ، كأني أعرفها ) . وتكون أحياناً ، فكرة تمر كغمامة على سبيل التذكير ، مثل : ( جدران ونافذة ، أحدنا كان يرتعش . ) . ففي قصة ( حين ضحكت أخيرا ) نجد سوزان تختزل سوء العلاقة بين الزوجين في جملة عبثية متمردة ( غياب الأجساد أكثر قسوة من حضورها الكاذب ) ص55. ويأتي الطلاق (بيسر شديد ، الكلمة جاهزة على طرف السان سرعان ما نطقها كمن يتخلص من زفرة . ) ص54 .


سوزان خواتمي تجيد سرد الوقائع اليومية , بسخرية لاذعة فهي لا ترحم النص بـ( بهارات ) لاذعة وهي سمة تتكرر في نصوص المجموعة كما في قصة (ربطة العنق ) .(أخته مازالت في الرحم تتقرب المجيئ..وطلبات البيت كقبعة الحاوي دائما هنالك جديد )ص58 .


على طول شاطئ السرد يبقى هم ألأنوثة طاغياً يترك ارتعاشا بالخوف لدى المتلقي لان الأ نثى في النصوص تمد ضفافا ًألى حيث ألاخر دون أن تحصد توافقا على ثمرة البردي المتمايلة .



جماليات العنوان






أغلب العناوين في المجموعة يتألف من كلمتين (مضاف ومضاف إليه ) استخدمت اثني عشرعنواناً وهذا الرقم يشكل نصف قصصص المجموعة وبدلالات مختلفة زمانية ومكانية وبالصيغة النحوية (مضاف ومضاف إليه )وكأنها تبحث عن مسند قوي تستند إليه تحاول ان تبدأ بقوة العنوان مثل (طرق الدهشة , عصفور الغفلة , فانتازيا الحب , ..........الخ ) .


ومعروف نحيوياً إن المضاف اسم نكرة يستمد معرفته بإضافته إلى اسم معرف . ففي عنوان (طرق الدهشة ) جاءت الكلمة الأولى بصيغة الجمع لتطلق عقال الدلالة الى أقصى المدى ، وكأن هذه العبارة تفتح أفقاً كبيراً للتنفس بعد لحظة انحباس قاسية . وفي العنوان الثاني (عصفور الغفلة )تم اسناد المحسوس إلى المجرد ، الكائن الملموس إلى المعنوي المجرد , الطائر الجميل الى المعنى الذي يفقد فيه المرء صوابه ,والعنوان ذاته تركيب يمنح للقارئ الفرصة الأخيرة للتنفس تركيب (مذكر , مؤنث . جامد ، مشتق . خاص ، عام . كائن نابض بالحياة .اسم ذو معنى . ) .


أماا لعنوان الأخير الذي يمكن الوقوف عنده هو عنوان المجموعة (فسيفساء امرأة ) جاءت العبارة باسناد نكرة (فسيفساء )إلى اسم نكرة (امرأة ) والتركيب يقوي المجاز الدلالي ذات السلطة الواسعة لغوياً ، وكلمة (فسيفساء ) تشكل فضاء لامتناهياً من التنوع اللوني والجمالي ، تتكثف فيه حياة الأنثى بكل تنوعها وحالاتها ومراحلها . فالمرأة ما هي طيف مدهش , غنى هذا الطيف في غنى السخصيات التي تقدمه لأن هذا الطيف مزيج جمالي هائل ومتنوع , تقابله حياة متعددة الألوان وكثيرة الخيبات والآلام , وهذه الأفكار هي المعادل الموضوعي – فنياً – لرؤية إشكالية تشكل جزءاً اساسياً لحياة يعالجها الكاتبة , وبالتالي فهذا العنوان هو المحور ((اللولبي )) لمجمل موضوعات المجموعة التي لم تستطع سوزان التحرر من طغيانها ( كهف الأنوثة ) ، و كأن الحياة ليس فيها مواضيع أخرى غير هذا الحيز الضيق من الهم الإنساني .


(أحلى حكايات الحب , تلك التي تبدأ مباغتة )ص116 . هذه العبارة هي التي تفرض الفكرة التي يجب معالجتها فنياً. أخيرا يمكن القول أن جمالية العنوان وبروز اللغة المجازية فيها ,والتركيب ذات الدلالات المتعددة جاءت من الانزياح اللغوي ذات البعد الفكري . وتلك من تقنيات القصة الفنية الحديثة .


20 سبتمبر 2009

مرات ( خلف علي الخلف )

وجهك عصافير الصبح

عيونك ندى هربان من ليل..
ومن اسمعك
أحس الفجر شباك.. ينطرني
مدري منو
أنطر خيوط الشمس وانسى:
عجب صليت الفجر ؟!
تليت سورة ضحكتك!
ولّا جمعت العمر
سجدة وحدة
وسجادتي وجهك
خلص الفجر
والشمس عليت بالسما
ونسيت روحي عـ الفجر
تنطر عصافيرك
وتسألني:
عجب ليش ما مر الصبح ؟!


2
مرة شفت الليل مايل
ومرة شفتو يضحك وبيّن سن الذهب
ومرة شفتو يلعب بروحو
والدنيا عتمة
ومرة خذاني لاول الصبح
شربنا سوالف.. وغنينا سوا:
وِلَكْ ياضو
ياطفل غافي بجوف الليل
تعال.. وهات الزمن وياك
شكَد نطرتك أنا والليل
وانت تتحجج
مرة تقول امي الشمس
لسا ما صحيت
ومسكرة علي الباب
ومرة تقول البرد واكَف على بابي
ومرة تقول أخاف من المشي بالليل
وكل مرة تتركنا أنا والليل
ننطر لتالي الليل
ويطفينا السُكر
وما نشوفك
مدري دلال
مدري تحس عيوني من تشوف الضو تبچي
وانت ما تحب الدمع
مدري ما تعرف الوكَت
اشلون يمضي وانت تنطر
مدري لانك عمرك ما نطرت احد
ولك ياضو
لو تدري شـكَد يـبچـي الليل
امن اغنيلك


3
مرة
والمطر يهذي إعلى وجهي
شفتك تلعب ببالي
حسيتك طفل ضايع
كَتلك: زغيرون.. روحي من عمرك
العب وياها لمن تجي امك
ضحكت
كَتلي آنة مو تايه
آنة لمسة تركها الحب
إعلى وجهك
مرات تحسبني مطر
مرات تحسبني عطر
مرات تحسبني طفل يلعب ضيع طريـكَ البيت
مرات تحسبني عمر تايه
بس من اضحك
تعرفني: ابن عينك


4


ياحلم
تاخذني لبساتين الشمس
ومرات اعطش
ويا كثر ميّكْ ياحلم
مرات اجوع
ترضعني فجر أبيض
مرات ابكي
احسك تنهر دموعي
وتقلي:
ترى دمعك يجفلني
ومرات... اصحى من نومي
و.. تضيع!
وِلَكْ يانوم: ظل جنبي
شيفيد الصحو
غير اضيع ها الحلم


5


مرة.. بين الصحو والنوم
كنت أحاول أستلف
لو من خيالي.. وجه حبي
اندكَ بابي
بين الكسل والشوكَ فتحت الباب
ولّا البرد يرجف
ويطكَ سن بسن
يكَلي:
أمي تسلم عليك وتقلك
يلتقى عدكم شوية دِفَا؟

07 سبتمبر 2009

نوافذ مخبأة في جيبي


لاشيء يتبادر إلى الذهنِ إذا ما توقف المصعدُ بي، أو إذا ما استعصت الرغبات، أو إذا ما نمتُ، ولم أحلمْ بشيء.. غير أني امرأةٌ رماديةٌ، تعصِبُ قلبَها بالضمادات، وتقلّبُ احتمالاتِ الحزنِ على وجوهه.. فلا تتعثر إلا برحيل السفن. مازالت الأرواحُ الأبعد تسكنُ طرفَ الحكاية.. ومازالت الأيامُ مهددةً بلا غد.. وكنتُ قد أقسمتُ عليكَ أن تتذكرَ حدائقي المعطوبة.. وما بذلتُ من قلقٍ كي أرسمَ في السماء شمساً لا تغيب.. كم مرةً عانيتُ من اكتئابِ الغروبِ، من لطخ اللونِ، من طعم الشحوبِ..؟ كم مرةً خذلتني المرافئُ، ولمْ تكتملْ فوق جسدي دائرة ..؟ بلا مشهد تسهرُ المدنُ، وخُطانا خَطايانا الثقيلة، غرقنا وخاننا الاتجاه، وما رحمتنا من شتاتِها الجهات.. كنتَ هناك .. وكنتُ هناك، حيث الكلامُ خجولاً نام في النسيان، وحيث اللغةُ باليةً سكنتْ دمي .. نغلق هواتفنا، نصم آذاننا، فلا نسمع ولا نحكي .. نملأ شرفاتِ المساءِ بالغائبين.. والندمُ سيرتُنا الأولى.. حكينا أو صمتنا سواء. مالحة جروحنا.. مقاعدنا.. ظلالنا... عتبنا أيضا يسيلُ.. البردُ شاسعٌ، لكن.. هناك متسعٌ كافٍ من الوقتِ لأذكركَ بفداحتي، وعناوينِ الريحِ، والشاماتِ الأزلية فوق جلدي، وصررِ الصبرِ، ومواعيد مهشمةٍ، وأنخابِ العمرِ في أعقاب الكؤوس، وجدران لم تحفظْنا، والعناق منسياً في المرايا.. وحيدةٌ اليومَ، وحيدةٌ غداً، وظلي ينسَّل مني كأبخرةِ آخرِ الحبِ، يتبعُكَ يمضي.. قد أغادرُ.. وقد تغادرُ، ولن يتذكرَ العابرُ منازلَ السقوفِ العاليةِ، وحنيناً يطقطقُ في المدفئةِ. خذلتْنا السلالمُ، والأبوابُ المقفلةُ في وجهِ الصباحاتِ، وشرفاتِ الوقتِ المؤجلِ. وأنا ماعدتُ أعرفُ ماذا سأفعلُ بالنوافذِ التي خبأتُها في جيبي..؟ ياعتب المحبةِ.. لأوقاتٍ لاتتذكر الفرحَ الطارئَ، والوخزَ اللذيذَ، وضحكتي الخضراءَ مثلَ حقول.. يلزمُني أن يصغرَ الكونُ بعضَ الشيء، أن يدنو الضوء من المساء بعضَ الشيء ، أن ألكزَ ساعدَك كي يضمني.. يلزمني أن أثرثرك حتى آخر الشوق، أن أحبك منذ ملايين السنين، أن أتحججَ بأن اسمك لاينسى، كي نبدأ الدائرةَ من جديد؛ حيلة ذهابٍ يعود، وخطى تعرفُ تماماً كيف يكون انتظار مطر الفصول.‏