منذ زمن وأنا شغوفة بالسيّر واليوميات، فقد أسرتني منذ زمن طويل "منازل الخطوة الأولى" لـ سيف الرحبي، وتابعت بروح متلصصة جدا، ومندهشة روح السيرة الذاتية في "ليلميات" عبدالله حبيب، و"تشظياتــ"ــه وفي معظم كتابات سماء عيسى السردية، كما شكّل كتاب "عين وجناح" لمحمد الحارثي لدي مفترق وعي في الكتابة الذاتية، من حيث اللغة ودقة التسجيل والملاحظة، ولازلت أشرق برواية "بين الماء والصحراء" لـ محمد عيد العريمي والتي وقعت بين يدي مؤخرا، والتي تحمل روح السيرة الذاتية، وكنت قد قرأت له سابقا بتمعن "مذاق الصبر"، كما أبهرتني العديد من السير العربية القديمة والجديدة التي قرأتها ككتب أو مقالات، وأهمها "لست ضيفا على أحد" لقاسم حداد، وزاد هذا الولع لدي مؤخرا متابعة برنامج يعده ويقدمه "صالح العامري" للإذاعة عن السير الذاتية واليوميات، ويسرد فيه سير ذاتية ويوميات رائعة لبعض الكتاب العرب والغرب.
وحين شاركت في تحقيق أعدته "بدرية الوهيبي" عن السيرة الذاتية في "الزمن" لمّحت للروح السيرية المتناثرة في الأدب العماني الحديث، وبالطبع وجودها الراسخ في التدوينات القديمة، وقرأت ما كتبه الكتاب عن قلّة وجود السيرة الذاتية في الأدب العماني، وتبريراتهم. وكنت أنوى أن أكتب شيئا عن السيرة الذاتية في الأدب .
وحين بدأت فكرة كتابة اليوميات في شرفات، شعرت بالفرح وكانت المادة الأولى التي أخصها بالقراءة يوميا، وحين قرأت يوميات بشرى خلفان "امرأة صالحة للحياة تشد شعرها" والمنشورة في شرفات يوم الاثنين, 14 يونيو 2010 سعدت لأنه تم فتح الباب لآخرين خارج أسرة تحرير شرفات (عاصم / أحمد/ هدى) لكتابة يومياتهم، مما سيتيح لنا كقراء فكرة التلصص والاستمتاع بيوميات جديدة بشكل أكبر.
وعلّقت عليها في صفحة "سليمان المعري" على "الفيس بوك"، "أحب اليوميات لأنها حالة تلصص على الكاتب" وكان "أحمد شافعي" يتلصص على تعليقي، ليبعث لي برسالة ويطلب مني أن أكتب يومياتي، كنت مترددة، فــ"بشرى" كتبت عن ذكرياتها مع الإعصار، فماذا يمكنني أن أقول عن ذكرياتي معه؟ وأنا التي في الإعصارين كنت في "صحم" حيث الأمان النفسي في حضن الوالدين ورائحة البيت، وحيث لا إلا المطر الجميل، والقليل من الرياح الطيبة لولا فكرة الخوف، وكنت مستمتعة بالأمطار حد أنني رفعت صوت فيروز صادحا "شتى يا دنيا تا يزيد موسمنا ويحلى، وتدفق مي وزرع جديد بحقلتنا يعلا"، و " ثلج ثلج عم بتشتي الدنيا ثلج"، وكان "حسام" ، "ودارين" مستمتعين معي تحت المطر، لولا صوت أمي الذي قطع المشهد بالخوف " الشيمة بنديه عن الله يخسف بنا" وفعلا أغلقت الموسيقى، واستسلمت لرهبة الموقف، وخشوع الأدعية ليرفع الله الكرب عن البلد الطيب أهله.
وامتد التساؤل؛ ماذا يمكنني أن أدفع لهذا القارئ المتابع لملحق رصين كـ"شرفات" من يوميات متراتبة، وأيام لا فرق بينها لفرط تشابها كحياة كل الموظفين في الدنيا؟! ولأنني أحب اليوميات؛ قررت أن أكتب صفحة متكررة من الحياة، ولكن من خارجي تماما. وكأن "هي ليست أنا"..
1.
امرأة تستيقظ متأخرة لأنها تنام متأخرة، ولأنها كذلك فهي غالبا تستيقظ نكدة، فتضطر أن تتعامل مع نفسها ومع الحالة ببطء تام وشديد "كأنك في فيلم بالحركة البطيئة" كي تبدد ذلك النكد في الفترة ما بينها وبين العمل، أو حتى بينها وبين كوب القهوة الكبير جدا، الذي تعد نفسها به؛ لكي تقاوم إغراء النوم، الذي لا تستعذب شيء في الدنيا في ذلك الوقت مثله؛ حتى لتتمنى أن يحترق العالم كله وتنام.
2
ما أن تتحرك من الفردوس الوثير باتجاه الماء بعد أن يتم إغلاق المحرك الأساس للعملية الإغرائية للنوم وهو المكيف، حتى تتلألأ صورة كوب القهوة برائحتها التي تتشربها الروح والحواس حتى آخر مسامها، طبعا بعد أكواب الماء الزلال الثلاثة غالبا، والتي لا تقل أهمية لبدء اليوم من القهوة.
عملية تحضير كوب قهوة سريعة ليست مرهقة، بل هي في غاية الترف، فما عليك إلا أن تضع (ملعقتين كبيرتين من القهوة، وملعقة من السكر، وثلاث ملعقات من الحليب أو الكوفي ميت) ثم تحرك المزيح، وتبدأ برشف قطرات القهوة ببطء واستشعار للذّتها، (كأنك في دعاية لمنتج ما). وقد يكون الأمر مشوقا أكثر مع وجود موسيقى راقية كمعزوفة بحيرة البجع لـ "تشايكوفسكي" مثلا، أو موسيقى الماء لـ "هاندل" أو حتى "تعا ولاتجي" لـ فيروز، ولكن هذا لا يحدث غالبا، لأنها تحديدا أول ما تفعله مع تحضير كوب القهوة، هو أن تفتح الإذاعة لتسمع آخر الأخبار التي ليست سارة دائما، ولكنه طقسها اليومي الذي يستمر أحيانا للسيارة وأحيانا تقطعه بإذاعة صوت الخليج.
للقهوة ذكرياتها الكثيرة والممتدة في حياتها (التي تظنها الآن طويلة)، حيث أغرتها فناجين القهوة باكرا جدا، بين يدي الجد والجدة والأب (المدمن لها بالتعبير الحديث) والذي يشرب القهوة حتى قبل أن ينام.
عشقت شرب القهوة منذ الطفولة، تماما كما عشقت القطط، فكانت تشرب فناجين كثيرة، كما لا تستطيع النوم إلا والقطة تنام معها تحت الغطاء، وهي تستمتع بكريرها ودفئها الخاص، في المراهقة استبدلت الفناجين بالأكواب، وكي تقنع الأم الحريصة على صحتها (تقول لها بعيارة تامة، أشربها عشان أركز في المذاكرة) ولأن الأم كانت حريصة على الدراسة أكثر من حرصها على الصحة، كانت تذعن للأمر بتسليم مطلق، بل وتعد لها بنفسها دلة قهوة كاملة، ولكنها لم تستطع للأسف أن تقنعها بمحبة القطط أبدا، ربما لأن القطط لا علاقة لها بالنفعية التي يتحرك وفقها الآباء.
ومنذ الجامعة وحتى ما شاء الله يرافقها إبريق القهوة ومعداتها في كل حقيبة سفر أو تنقل، في "فرانكفورت" كانت تحمل معدات القهوة في حقيبة الملابس، لذا كانت "زوينة" تضحك عليها حين تعد قهوتها الصباحية في الغرفة، وكذلك في "الجزائر والبحرين"، ربما لأن صباحاتها تبدأ متأخرة غالبا، فهي ضرورات الوضع، ولكنها في الحقيقة تعشق شرب القهوة في المقاهي المفتوحة على الأرصفة، ويا حبذا لو كان الجو ممطرا وثمة موسيقى منبعثة بدفء من المقهى، كما حدث كثيرا في ماليزيا والأردن، وقليلا في ستار بكس الشاطئ.
الصديقة البحرينية التي استغربت طلبها (قهوة اسبريسو).
قالت لها فيه حرمة تشرب اسبريسو؟
قالت" لها ليش لا؟
قالت لها بكل غنج: مُرّة!
وبعد غياب ليس مصطنعا، وحزن طفا كما تطفو رغوة الكابتشينو (شرابها المفضل من القهوة) قالت لها بغصة ممزوجة بطعم القهوة: الحياة أمر يا عزيزتي.
في "الأردن" كان المقهى القريب من السكن والجامعة معا، والمنفتح على الشارع قد حفظ خطواتها إليه، وطلبها المتكرر "قهوة مع دونت" صباحا، و "قهوة مع فواكه مشكلة بالآيسكريم" مساء. وكذلك البائع الجوال القريب من شارع جامعة اليرموك والذي يفصحن الكلمة "قهوة" ، وكذلك "آلاء" التي شاركتها صداقة الحياة هناك، كما شاركتها حب القهوة.
في عمان، في مسقط عرفت مع "عائشة"، و"عهود"، و"أزهار" و"أميرة " و"سميرة" كيف يغمسن الكلام بالقهوة بدل البسكويت وخبز الرقاق مع الشاي، وفي صحار؛ تعودت مع آمنة ومريم وعهود ونادية طعم القهوة الجاهزة من مكائن المقاهي البسيطة، كما لم ينس بعد عامل المقهى القريب من البيتزا، امرأتين يحملان نفس الاسم ونفس الروح ونفس الحزن، كانتا كثيرا ما تمران بشكل متقارب جدا كل فترة في سيارة من اثنتين "زرقاء" أو "بيضاء" ليطلبن كوبين من النسكافيه التي يحضرها بشكل مميز، وهو لا يعرف أنهن في طريقهن للبحر غالبا.
3.
وإذ تنتهي حكاية القهوة تبدأ حكاية السيارة، فالسيارة هي الصديقة الأقرب لها، ولن يصدق أحد أنها كل صباح تركب السيارة فيه، تصبّح عليها، وتمسح المقود، وتصافحها بحرارة "صباحو" كيفك حبي اليوم؟ وحشتيني!، وليس بعيدا عن هذا أنها قد تتأخر في الدوام، لأنها كثيرا ما يعتصرها قلبها حين تشعر بسياط الحرارة تلسع صديقتها الأقرب، وحين غيّرت سيارتها "الخضراء" القديمة ذات شتاء، اشتعل في صدرها الحزن، فكتمت بكاءها حتى وصلت للبيت، وتمكنت من إغلاق الباب، والتوحد مع ذكرياتها معها، لتبكيها كما تستحق، بكت بانهمار خاص بها فقط، كما تبكي كل شيء يغادرها بلا مبررات كافية، "ومنذ متى تعطينا الحياة مبررات للفقد؟"
السيارة حاضنة الروح والذكريات والفرح والحزن، ألا تحتضن أحلامها وأفكارها وهذيانها الطويل والممتد بطول المسافة بين السيب وصحم، وبين السيب وروي؟
يالا شجن المسافات والدروب! خاصة لامرأة تكتب في رأسها أكثر مما تكتب في الأوراق، أو على جهاز الحاسوب، امرأة كل حياتها مسودات غير قابلة للتنقيح والتبييض.
كما أن للموسيقى في السيارة طعم الشجن، فأغنية ومسافة وطريق قادرة على كسرك تماما، خاصة لفيروز أو خالد الشيخ، أو إذاعة صوت الخليج باختياراتها الفنية المميزة (غالبا وليس دائما طبعا) طلال مداح، ومحمد عبده، وفضل شاكر، وبرنامج طربيات الذي كثيرا مالا يتوافق مع وقتها في السيارة.
تشهد السيارة اكتئاباتها المتواترة، وأفراحها القصيرة، وأفكارها النيئة والناتئة كرؤوس الشياطين، تشهد ترتيب أحلامها وأمنياتها، كما تشهد كثيرا دموعها الطيبة وغير الطيبة.
تشهد المسافة بين النادي الثقافي والحيل مثلا جيئة وذهابا تبني أو تبديل قرار مصيري بمنتهى السهولة، وكأنه حدث بعد نقاش وحوار طويل مع صديقة واعية، وهل أقرب للذات منها؟ خاصة لكائن أتقن العزلة، ويقترب منها كلما تقدم العمر، بتهيّب الآخر .
في الشتاء يكون الطريق رحلة مميزة من الهذيان والموسيقى، ولكنه في الحر الذي تكاد تصرخ منه، تحاول أن ترفع درجة المكيف كل فترة لتتأكد من صلاحيته، في حالة من عدم القدرة على التصالح مع هذا الحر الذي اختاره القدرة لها، واختارها له من أول مضغة حتى آخر شهقة للرحيل، الحر الذي نتمناه حين نبعد قليلا في برد الآخر الموجع من قسوته.
هي القليلة الخروج للتعالق المباشر مع الحر، ولكنها فقط في المسافة بين السيارة والبيت، أو بين السيارة والعمل، ما تفتأ تشعر أنها ستنصهر وتتحول لسائل بشري فتصرخ متذمرة "أف إيش هالحر؟ كأننا عايشين في فرن" مرددة مقولة أمها بإيمان مطلق " الله يرحم الي صنع لنا هالمكيفات والثلاجات، والله عظمه ما بيطيح النار "
4.
تدلف للعمل الجميل بالخصوصية التي أتاحها لها منذ كانت معلمة، تقبع في المكتبة خارج حصص الدرس، ثم في مكتب مع صديقة واحدة في منتهى الروحانية والرقي، ثم في مكتب خاص في الدور الثالث في الركن البعيد الهادئ في عمارة لن تقدم لك أي إغراء لدخولها، لولا أنك مضطر لذلك، لا يقطع خلوتها سوى رنين الابتسامات الصباحية العذبة التي تقدمها بضع قلوب طيبة أثناء عبورها الممرات، أو تواصل مقتضب للعمل- لأنها لا تفضل أن تعمل بشكل جماعي-، ثم تقضي المتبقي من يومها بصمت وخصوصية، منسربة لداخلها تماما، ولداخل المكان.
5.
العالم الرقمي أصبح جزءا من عالمنا، ولكن علاقتها به أيضا تذهب نحو التلاشي التدريجي، خاصة فيما يتعلق بماهرات الاتصال، حيث أصبحت لا تستسيغ التواصلات الجاهزة إلا من تواصل عملي، أو مسج من صديقة حنونة، أو أخت أغراها الشوق بها.
والأمر ذاته مع الشبكة العنكبوتية المهمة لنا لنبقى على قيد الحياة والاتصال والتواصل، والتي لا تزال بجدية تجاهر الجميع وذاتها بأهميتها كلما عُرض الحديث عنها، إلا أنها لا تتجاوز فتح الإيميل والرد على العاجل منها، وإعادة توجيه الرسائل المدهشة التي قلّت كثيرا أيضا، لأن كل شيء أصبح أقل من فكرة الدهشة، ولكن هذه الدهشة يحدث أن تحدث بعض الوقت، أو تصطنع، لتحريك عجلة الوقت والروح، فتعيد توجيه إيملات بسيطة عن الأزياء أو الشامبوهات المضرة والأطعمة الجاهزة مثلا..
كما يحدث أن تشتاق أن تقرأ جديدا فتدلف لـ" كيكا" فتقرأ فيها قليلا، أو تتصفح جهة الشعر، فتشعر أنها دخلت مقهى ثقافيا، أو ناديا فاستمعت للكثيرين، وحين تجد نصا جميلا يغريها الفضول فتبحث عن صاحبه في "جوجل" وتقرأ قليلا له، وأحيانا قد يدفعها الحنين أن تجلس في حضرة بعض من تحب كتاباتهم كـ "قاسم حداد" أو " فوزية السندي" أو "سعدية مفرح" أو سوزان عليوان" أو "سوزان خواتمي" مباشرة، فتدخل بيوتهم وأعشاشهم الضوئية على رؤوس أصابعها، كقطة بأظافر قطنية لا تحدث صوتا، وتجلس في بهو البيت، وتفتح الكتب الضوئية النظيفة من غبار المسافات، وتقرأ لهم بنهم حتى تشبع فتخرج من البيت، وقد تجد الصديق الضوئي فيحكي لها ماذا قرأ، وأين سافر، وماذا كتب من جديد النصوص، أو يشرح لها مبررات كتابة ذلك النص، بل قد يقول لها قرأته في حضرة فلان، أو قرأه فلان فكتب عنه، وحتى الراحلين منهم، والغائبين، والمكتفين بلذة العزلة وروعة الكتابة قد يفعلون ذلك، فتعرف الكثير من أخبارهم، وهذا ما يوفره لنا قليلا "الفيس بوك" الذي هو أشبه بامرأة ثرثارة تجوب الحارة (من الطرة للطرة) لتنقل للجميع كل ما حدث في كل بيت بالتفصيل الممل والمزعج أحيانا كثيرة، لتحقق البيت الشعري الشهير "وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت .. أتاح لها لسان حسود"، هذه الدهشة التي تتصيد روحها في بيوت الضوء وعوالمه الرقمية تجعلها تشعر بالغيظ على البعض من الكتاب العمانيين الذين يعيشون خارجه اليوم! مع إن إنشاء مدونة (مثلا) يعرفك الآخرين من خلالها، ويطلعون على أعمالك ويستمتعون بما تكتب (وهل إلا هذا غرض الكاتب والكتابة؟!) لا تتطلب أكثر من بريد الكتروني .
6.
.يمر النهار بين عمل وتصفح رقمي، لتأتي القيلولة العظيمة التي ينتهي العالم كله أمامها بـ "نقطة" فتختصر النهار لليل مباشرة، الليل الذي قد يمر شطره الأول في كسل مدعوم بكوب من الشاي والبسكويت مع موسيقى فيروزية كحالة ترف مصطنعة للروح الكثيرة الشكوى والوهن، أو بكتابة/تعديل نص، أو قد يجهز مشوار للنادي الثقافي، أو محاضرة في الجامعة على حد الملل القائم فيه كنصل قاطع، فكل منهما يجعل الروح تستعيد بعض دهشتها، ويجعل العقل يرتبك أمام فكرة جديدة أو سؤال معرفي، وقد تكون الرواية المستلقية بدلال عند السرير، والتي هي شرك مناسب لاصطياد النوم، الذي ستغازله بكل المغريات، ولكنه لن يأتي إلا متأخرا كالعادة؛ ليبدأ يوم آخر نكد وغير مكتفٍ من النوم
وحين شاركت في تحقيق أعدته "بدرية الوهيبي" عن السيرة الذاتية في "الزمن" لمّحت للروح السيرية المتناثرة في الأدب العماني الحديث، وبالطبع وجودها الراسخ في التدوينات القديمة، وقرأت ما كتبه الكتاب عن قلّة وجود السيرة الذاتية في الأدب العماني، وتبريراتهم. وكنت أنوى أن أكتب شيئا عن السيرة الذاتية في الأدب .
وحين بدأت فكرة كتابة اليوميات في شرفات، شعرت بالفرح وكانت المادة الأولى التي أخصها بالقراءة يوميا، وحين قرأت يوميات بشرى خلفان "امرأة صالحة للحياة تشد شعرها" والمنشورة في شرفات يوم الاثنين, 14 يونيو 2010 سعدت لأنه تم فتح الباب لآخرين خارج أسرة تحرير شرفات (عاصم / أحمد/ هدى) لكتابة يومياتهم، مما سيتيح لنا كقراء فكرة التلصص والاستمتاع بيوميات جديدة بشكل أكبر.
وعلّقت عليها في صفحة "سليمان المعري" على "الفيس بوك"، "أحب اليوميات لأنها حالة تلصص على الكاتب" وكان "أحمد شافعي" يتلصص على تعليقي، ليبعث لي برسالة ويطلب مني أن أكتب يومياتي، كنت مترددة، فــ"بشرى" كتبت عن ذكرياتها مع الإعصار، فماذا يمكنني أن أقول عن ذكرياتي معه؟ وأنا التي في الإعصارين كنت في "صحم" حيث الأمان النفسي في حضن الوالدين ورائحة البيت، وحيث لا إلا المطر الجميل، والقليل من الرياح الطيبة لولا فكرة الخوف، وكنت مستمتعة بالأمطار حد أنني رفعت صوت فيروز صادحا "شتى يا دنيا تا يزيد موسمنا ويحلى، وتدفق مي وزرع جديد بحقلتنا يعلا"، و " ثلج ثلج عم بتشتي الدنيا ثلج"، وكان "حسام" ، "ودارين" مستمتعين معي تحت المطر، لولا صوت أمي الذي قطع المشهد بالخوف " الشيمة بنديه عن الله يخسف بنا" وفعلا أغلقت الموسيقى، واستسلمت لرهبة الموقف، وخشوع الأدعية ليرفع الله الكرب عن البلد الطيب أهله.
وامتد التساؤل؛ ماذا يمكنني أن أدفع لهذا القارئ المتابع لملحق رصين كـ"شرفات" من يوميات متراتبة، وأيام لا فرق بينها لفرط تشابها كحياة كل الموظفين في الدنيا؟! ولأنني أحب اليوميات؛ قررت أن أكتب صفحة متكررة من الحياة، ولكن من خارجي تماما. وكأن "هي ليست أنا"..
1.
امرأة تستيقظ متأخرة لأنها تنام متأخرة، ولأنها كذلك فهي غالبا تستيقظ نكدة، فتضطر أن تتعامل مع نفسها ومع الحالة ببطء تام وشديد "كأنك في فيلم بالحركة البطيئة" كي تبدد ذلك النكد في الفترة ما بينها وبين العمل، أو حتى بينها وبين كوب القهوة الكبير جدا، الذي تعد نفسها به؛ لكي تقاوم إغراء النوم، الذي لا تستعذب شيء في الدنيا في ذلك الوقت مثله؛ حتى لتتمنى أن يحترق العالم كله وتنام.
2
ما أن تتحرك من الفردوس الوثير باتجاه الماء بعد أن يتم إغلاق المحرك الأساس للعملية الإغرائية للنوم وهو المكيف، حتى تتلألأ صورة كوب القهوة برائحتها التي تتشربها الروح والحواس حتى آخر مسامها، طبعا بعد أكواب الماء الزلال الثلاثة غالبا، والتي لا تقل أهمية لبدء اليوم من القهوة.
عملية تحضير كوب قهوة سريعة ليست مرهقة، بل هي في غاية الترف، فما عليك إلا أن تضع (ملعقتين كبيرتين من القهوة، وملعقة من السكر، وثلاث ملعقات من الحليب أو الكوفي ميت) ثم تحرك المزيح، وتبدأ برشف قطرات القهوة ببطء واستشعار للذّتها، (كأنك في دعاية لمنتج ما). وقد يكون الأمر مشوقا أكثر مع وجود موسيقى راقية كمعزوفة بحيرة البجع لـ "تشايكوفسكي" مثلا، أو موسيقى الماء لـ "هاندل" أو حتى "تعا ولاتجي" لـ فيروز، ولكن هذا لا يحدث غالبا، لأنها تحديدا أول ما تفعله مع تحضير كوب القهوة، هو أن تفتح الإذاعة لتسمع آخر الأخبار التي ليست سارة دائما، ولكنه طقسها اليومي الذي يستمر أحيانا للسيارة وأحيانا تقطعه بإذاعة صوت الخليج.
للقهوة ذكرياتها الكثيرة والممتدة في حياتها (التي تظنها الآن طويلة)، حيث أغرتها فناجين القهوة باكرا جدا، بين يدي الجد والجدة والأب (المدمن لها بالتعبير الحديث) والذي يشرب القهوة حتى قبل أن ينام.
عشقت شرب القهوة منذ الطفولة، تماما كما عشقت القطط، فكانت تشرب فناجين كثيرة، كما لا تستطيع النوم إلا والقطة تنام معها تحت الغطاء، وهي تستمتع بكريرها ودفئها الخاص، في المراهقة استبدلت الفناجين بالأكواب، وكي تقنع الأم الحريصة على صحتها (تقول لها بعيارة تامة، أشربها عشان أركز في المذاكرة) ولأن الأم كانت حريصة على الدراسة أكثر من حرصها على الصحة، كانت تذعن للأمر بتسليم مطلق، بل وتعد لها بنفسها دلة قهوة كاملة، ولكنها لم تستطع للأسف أن تقنعها بمحبة القطط أبدا، ربما لأن القطط لا علاقة لها بالنفعية التي يتحرك وفقها الآباء.
ومنذ الجامعة وحتى ما شاء الله يرافقها إبريق القهوة ومعداتها في كل حقيبة سفر أو تنقل، في "فرانكفورت" كانت تحمل معدات القهوة في حقيبة الملابس، لذا كانت "زوينة" تضحك عليها حين تعد قهوتها الصباحية في الغرفة، وكذلك في "الجزائر والبحرين"، ربما لأن صباحاتها تبدأ متأخرة غالبا، فهي ضرورات الوضع، ولكنها في الحقيقة تعشق شرب القهوة في المقاهي المفتوحة على الأرصفة، ويا حبذا لو كان الجو ممطرا وثمة موسيقى منبعثة بدفء من المقهى، كما حدث كثيرا في ماليزيا والأردن، وقليلا في ستار بكس الشاطئ.
الصديقة البحرينية التي استغربت طلبها (قهوة اسبريسو).
قالت لها فيه حرمة تشرب اسبريسو؟
قالت" لها ليش لا؟
قالت لها بكل غنج: مُرّة!
وبعد غياب ليس مصطنعا، وحزن طفا كما تطفو رغوة الكابتشينو (شرابها المفضل من القهوة) قالت لها بغصة ممزوجة بطعم القهوة: الحياة أمر يا عزيزتي.
في "الأردن" كان المقهى القريب من السكن والجامعة معا، والمنفتح على الشارع قد حفظ خطواتها إليه، وطلبها المتكرر "قهوة مع دونت" صباحا، و "قهوة مع فواكه مشكلة بالآيسكريم" مساء. وكذلك البائع الجوال القريب من شارع جامعة اليرموك والذي يفصحن الكلمة "قهوة" ، وكذلك "آلاء" التي شاركتها صداقة الحياة هناك، كما شاركتها حب القهوة.
في عمان، في مسقط عرفت مع "عائشة"، و"عهود"، و"أزهار" و"أميرة " و"سميرة" كيف يغمسن الكلام بالقهوة بدل البسكويت وخبز الرقاق مع الشاي، وفي صحار؛ تعودت مع آمنة ومريم وعهود ونادية طعم القهوة الجاهزة من مكائن المقاهي البسيطة، كما لم ينس بعد عامل المقهى القريب من البيتزا، امرأتين يحملان نفس الاسم ونفس الروح ونفس الحزن، كانتا كثيرا ما تمران بشكل متقارب جدا كل فترة في سيارة من اثنتين "زرقاء" أو "بيضاء" ليطلبن كوبين من النسكافيه التي يحضرها بشكل مميز، وهو لا يعرف أنهن في طريقهن للبحر غالبا.
3.
وإذ تنتهي حكاية القهوة تبدأ حكاية السيارة، فالسيارة هي الصديقة الأقرب لها، ولن يصدق أحد أنها كل صباح تركب السيارة فيه، تصبّح عليها، وتمسح المقود، وتصافحها بحرارة "صباحو" كيفك حبي اليوم؟ وحشتيني!، وليس بعيدا عن هذا أنها قد تتأخر في الدوام، لأنها كثيرا ما يعتصرها قلبها حين تشعر بسياط الحرارة تلسع صديقتها الأقرب، وحين غيّرت سيارتها "الخضراء" القديمة ذات شتاء، اشتعل في صدرها الحزن، فكتمت بكاءها حتى وصلت للبيت، وتمكنت من إغلاق الباب، والتوحد مع ذكرياتها معها، لتبكيها كما تستحق، بكت بانهمار خاص بها فقط، كما تبكي كل شيء يغادرها بلا مبررات كافية، "ومنذ متى تعطينا الحياة مبررات للفقد؟"
السيارة حاضنة الروح والذكريات والفرح والحزن، ألا تحتضن أحلامها وأفكارها وهذيانها الطويل والممتد بطول المسافة بين السيب وصحم، وبين السيب وروي؟
يالا شجن المسافات والدروب! خاصة لامرأة تكتب في رأسها أكثر مما تكتب في الأوراق، أو على جهاز الحاسوب، امرأة كل حياتها مسودات غير قابلة للتنقيح والتبييض.
كما أن للموسيقى في السيارة طعم الشجن، فأغنية ومسافة وطريق قادرة على كسرك تماما، خاصة لفيروز أو خالد الشيخ، أو إذاعة صوت الخليج باختياراتها الفنية المميزة (غالبا وليس دائما طبعا) طلال مداح، ومحمد عبده، وفضل شاكر، وبرنامج طربيات الذي كثيرا مالا يتوافق مع وقتها في السيارة.
تشهد السيارة اكتئاباتها المتواترة، وأفراحها القصيرة، وأفكارها النيئة والناتئة كرؤوس الشياطين، تشهد ترتيب أحلامها وأمنياتها، كما تشهد كثيرا دموعها الطيبة وغير الطيبة.
تشهد المسافة بين النادي الثقافي والحيل مثلا جيئة وذهابا تبني أو تبديل قرار مصيري بمنتهى السهولة، وكأنه حدث بعد نقاش وحوار طويل مع صديقة واعية، وهل أقرب للذات منها؟ خاصة لكائن أتقن العزلة، ويقترب منها كلما تقدم العمر، بتهيّب الآخر .
في الشتاء يكون الطريق رحلة مميزة من الهذيان والموسيقى، ولكنه في الحر الذي تكاد تصرخ منه، تحاول أن ترفع درجة المكيف كل فترة لتتأكد من صلاحيته، في حالة من عدم القدرة على التصالح مع هذا الحر الذي اختاره القدرة لها، واختارها له من أول مضغة حتى آخر شهقة للرحيل، الحر الذي نتمناه حين نبعد قليلا في برد الآخر الموجع من قسوته.
هي القليلة الخروج للتعالق المباشر مع الحر، ولكنها فقط في المسافة بين السيارة والبيت، أو بين السيارة والعمل، ما تفتأ تشعر أنها ستنصهر وتتحول لسائل بشري فتصرخ متذمرة "أف إيش هالحر؟ كأننا عايشين في فرن" مرددة مقولة أمها بإيمان مطلق " الله يرحم الي صنع لنا هالمكيفات والثلاجات، والله عظمه ما بيطيح النار "
4.
تدلف للعمل الجميل بالخصوصية التي أتاحها لها منذ كانت معلمة، تقبع في المكتبة خارج حصص الدرس، ثم في مكتب مع صديقة واحدة في منتهى الروحانية والرقي، ثم في مكتب خاص في الدور الثالث في الركن البعيد الهادئ في عمارة لن تقدم لك أي إغراء لدخولها، لولا أنك مضطر لذلك، لا يقطع خلوتها سوى رنين الابتسامات الصباحية العذبة التي تقدمها بضع قلوب طيبة أثناء عبورها الممرات، أو تواصل مقتضب للعمل- لأنها لا تفضل أن تعمل بشكل جماعي-، ثم تقضي المتبقي من يومها بصمت وخصوصية، منسربة لداخلها تماما، ولداخل المكان.
5.
العالم الرقمي أصبح جزءا من عالمنا، ولكن علاقتها به أيضا تذهب نحو التلاشي التدريجي، خاصة فيما يتعلق بماهرات الاتصال، حيث أصبحت لا تستسيغ التواصلات الجاهزة إلا من تواصل عملي، أو مسج من صديقة حنونة، أو أخت أغراها الشوق بها.
والأمر ذاته مع الشبكة العنكبوتية المهمة لنا لنبقى على قيد الحياة والاتصال والتواصل، والتي لا تزال بجدية تجاهر الجميع وذاتها بأهميتها كلما عُرض الحديث عنها، إلا أنها لا تتجاوز فتح الإيميل والرد على العاجل منها، وإعادة توجيه الرسائل المدهشة التي قلّت كثيرا أيضا، لأن كل شيء أصبح أقل من فكرة الدهشة، ولكن هذه الدهشة يحدث أن تحدث بعض الوقت، أو تصطنع، لتحريك عجلة الوقت والروح، فتعيد توجيه إيملات بسيطة عن الأزياء أو الشامبوهات المضرة والأطعمة الجاهزة مثلا..
كما يحدث أن تشتاق أن تقرأ جديدا فتدلف لـ" كيكا" فتقرأ فيها قليلا، أو تتصفح جهة الشعر، فتشعر أنها دخلت مقهى ثقافيا، أو ناديا فاستمعت للكثيرين، وحين تجد نصا جميلا يغريها الفضول فتبحث عن صاحبه في "جوجل" وتقرأ قليلا له، وأحيانا قد يدفعها الحنين أن تجلس في حضرة بعض من تحب كتاباتهم كـ "قاسم حداد" أو " فوزية السندي" أو "سعدية مفرح" أو سوزان عليوان" أو "سوزان خواتمي" مباشرة، فتدخل بيوتهم وأعشاشهم الضوئية على رؤوس أصابعها، كقطة بأظافر قطنية لا تحدث صوتا، وتجلس في بهو البيت، وتفتح الكتب الضوئية النظيفة من غبار المسافات، وتقرأ لهم بنهم حتى تشبع فتخرج من البيت، وقد تجد الصديق الضوئي فيحكي لها ماذا قرأ، وأين سافر، وماذا كتب من جديد النصوص، أو يشرح لها مبررات كتابة ذلك النص، بل قد يقول لها قرأته في حضرة فلان، أو قرأه فلان فكتب عنه، وحتى الراحلين منهم، والغائبين، والمكتفين بلذة العزلة وروعة الكتابة قد يفعلون ذلك، فتعرف الكثير من أخبارهم، وهذا ما يوفره لنا قليلا "الفيس بوك" الذي هو أشبه بامرأة ثرثارة تجوب الحارة (من الطرة للطرة) لتنقل للجميع كل ما حدث في كل بيت بالتفصيل الممل والمزعج أحيانا كثيرة، لتحقق البيت الشعري الشهير "وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت .. أتاح لها لسان حسود"، هذه الدهشة التي تتصيد روحها في بيوت الضوء وعوالمه الرقمية تجعلها تشعر بالغيظ على البعض من الكتاب العمانيين الذين يعيشون خارجه اليوم! مع إن إنشاء مدونة (مثلا) يعرفك الآخرين من خلالها، ويطلعون على أعمالك ويستمتعون بما تكتب (وهل إلا هذا غرض الكاتب والكتابة؟!) لا تتطلب أكثر من بريد الكتروني .
6.
.يمر النهار بين عمل وتصفح رقمي، لتأتي القيلولة العظيمة التي ينتهي العالم كله أمامها بـ "نقطة" فتختصر النهار لليل مباشرة، الليل الذي قد يمر شطره الأول في كسل مدعوم بكوب من الشاي والبسكويت مع موسيقى فيروزية كحالة ترف مصطنعة للروح الكثيرة الشكوى والوهن، أو بكتابة/تعديل نص، أو قد يجهز مشوار للنادي الثقافي، أو محاضرة في الجامعة على حد الملل القائم فيه كنصل قاطع، فكل منهما يجعل الروح تستعيد بعض دهشتها، ويجعل العقل يرتبك أمام فكرة جديدة أو سؤال معرفي، وقد تكون الرواية المستلقية بدلال عند السرير، والتي هي شرك مناسب لاصطياد النوم، الذي ستغازله بكل المغريات، ولكنه لن يأتي إلا متأخرا كالعادة؛ ليبدأ يوم آخر نكد وغير مكتفٍ من النوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق