مدخل:
لا يمكننا الولوج إلى النص الأدبي وفهمه عبر نظامه اللغوي فحسب، حيث لابد لكل نص أن يحتوي موقفاً فكرياً جمالياً، يظهر عفوياً أو عنوة، بحسب مهارة الكاتب، وذلك من خلال البيئة والأسلوب والموضوع بحد ذاته. وقد اهتم جورج لوكاتش من خلال النقد السوسيولوجي بالعلاقة بين النص الأدبي والخلفية الفكرية الاجتماعية السائدة ضمن السياق التاريخي للأحداث.
ولاحظنا في الفترة الأخيرة ما سمي ظاهرة الرواية السعودية واستقطابها لاهتمام الوسط الأدبي والإعلامي، بعد أن ظهرت عشرات الأعمال الروائية بأسماء مستعارة وأخرى حقيقية، احتفى بها القارئ العربي، وإن تباينت سويتها. هذا الاحتفاء له مبرراته، إذا ماأخذنا بعين الاعتبار خصوصية المجتمع السعودي وانغلاقه، على مدى زمن طويل. فقد تميزت الكثير من هذه الروايات، بجرأة الخوض في القضايا الشائكة، ناقدة الأوضاع الاجتماعية ذات الزوايا الحادة، متطرقة إلى أزمة الحريات، معبرة عن القضايا المسكوت عنها، مبدية انشغالاً حقيقياً بالكشف المباشر أو غير المباشر، ليصبح النص الأدبي أداة فاعلة تبدو محرضة على تبني مواقف فكرية إلى جانب وظيفتها الجمالية المعتادة.. هذه المضامين تؤدي في فحواها ونتائجها إلى اختراق الحجب، وإلى فهم معرفي، وكشف خلاق للواقع والمتخيل..
في المتن:
ضمن هذا التصور، نستطيع تناول رواية [ الرواقي] للناقد والشاعر السعودي حامد بن عقيل، والتي صدرت أخيراً عن دار جدار للثقافة والنشر، بـ 115 ص من القطع المتوسط. و[الرواقي] هي الرواية الأولى للكاتب، وإن كانت إصداره العاشر، وفيها تظهر ملكات ابن عقيل بعيداً عن كتاباته في النقد، وقريباً من ميله الفلسفي الذي لم يستغن عنه، فيستخدم في روايته استنطاقاً مزاوجاً بين الرمز والواقع، يبتعد فيه عن طرق السرد الكلاسيكية، فيختار ثلاث مسارات سردية، لثلاث شخصيات (روائي- عازف- معلم) تتقاطع حيوات اثنتين منها "الروائي والعازف" فيما تنفصل شخصية "المعلم" تماماً لتتبنى طروحاتها الخاصة وزمانها الخاص وعالمها الخاص. "الروائي والعازف والمعلم" ثلاث شخصيات تراجيدية تواجه مصائر مأزقية تتصاعد في توترها، ويمسك كل منهم خط السرد وأسلوبيته على حدة، فيبدو" الروائي" غارقاً في عزلة اختيارية في مدينته جدة، يتحدث عن حبيبة هجرته وكتب عنها في مخطوط روايته الجديدة، ويرتبط بعلاقة صداقة مع الناشر والعازف. أما شخصية "العازف" فنتابع تنقلاتها في الأماكن خلال خط زمني يعود إلى ما قبل الستينيات منذ طفولته قادماً من اليمن ليقيم في الطائف، ثم ينتقل إلى جدة، ومعه تنتقل أقداره في الإصرار على أن يكون عازفاً عبر ظروف تبدو مصيرية ومتوائمة مع رغبته وعلاقته مع الموسيقى في حدها الأقصى، وبالفعل ينتهي عازفا مرموقاً ضمن فرقة الإذاعة والتلفزيون السعودي. وتأتي شخصية "المعلم" في خط منفصل زمانياً ومكانياً، عن باقي الرواية، لكنها شخصية مثقلة بالتأملات والفلسفة والأفكار النهائية ضمن مقولات تناولت جوانب الحياة، وتصورات للحاكم والحكمة.
تتماهى شخصية "الروائي" في الرواية مع شخصية حامد بن عقيل ذاته، ليس بفعل تصوراتنا للامر، لكن بحسب إرادة الكاتب التي فرضها علينا من خلال ماجاء في الفصل الأخير من الرواية، وماجاء فيه عن الأصداء التي خلفها نشر روايته الرواقي والانتقادات التي تعرض لها، والتساؤلات عن هذا وذاك من أحداثها، ليخلق نوعاً من التماهي بينه وبين الشخصية الأساسية [ بعد أسابيع من صدور الرواقي ، جاءتني بعض تعليقات القراء] ص11.
ضمن الخطين السرديين اللذين عرضنا لهما، يعرض الكاتب مجموعة من الخيبات مع الواقع ومع العلاقة بالآخر، مصوراً البيئة الاجتماعية، وتقاليدها وعاداتها، إضافة إلى المواقف الفكرية معتمداً طريقة القطع والوصل، فلا تنفصل الشخصيات إلى فصول كما المعتاد، بل تأتي ضمن الفصل الواحد مع تغيير فونط الكتابة، فنشعر كأننا أمام كاميرا تنتقل بين عوالم تلك الشخصيات لتنقل تصاعد الأحداث وتوترها وصراعها مع النفس والاحتجاج على الواقع والرغبة المحمومة في الانعتاق.
الزمان والمكان
طبيعة الشخصيات تلازمت مع تنويع في الزمن، ففي حين يأتي الزمن السارد لشخصية الروائي في الآن الحاضر في مدينة جدة متنقلا عبر شوارعها ومقاهيها ومبانيها كمسرح لتنامي الأحداث، يمتد الزمن بين الحاضر والماضي في شخصية العازف بين اليمن حيث ترجع أصوله وبين الطائف ومن ثم جدة ، متناولاً عالم الموسيقى ورموزه. في حين تعود بنا شخصية المعلم بين مريديه في أروقة ومدرسة الفلسفة الرواقية، إلى ما قبل الميلاد فالمعلم زينون الرواقي، والتي تحمل الرواية اسمه، وبحسب موسوعة " الويكيبيديا":
[زينون الرواقي (المشاء) من سيتيوم 333 ق.م-264 ق.م، كان فيلسوفا هيلينياً من مدينة سيتيوم في قبرص وكان ابناً لتاجر وتلميذاً لقراطيس الطيبي. وكان أشهر الشكاكين في عصره باليونان. وعمل زينون نفسه بالتجارة حتى بلغ 42 عاماً، عندما بدأ مدرسته الرواقية للفلسفة. سمي على اسم مكان تدريسه وهو الرواق المطلي وتعني في اليونانية الرواق أو الشرفة، إلا أن الكتب الفلسفية العربية تستعمل "الرواق" وكان تدريسه بداية للفلسفة الرواقية. لم يصلنا أي من أعمال زينون، إلا أنه يُعتقد أنه علّم أن أفضل طريق للوصول إلى السكينة يكون عبر تجاهل المتعة والألم. وكان زينون أيضاً أول طوباوي فوضوي في الغرب، وبالتالي ممهد هام للفوضوية المعاصرة].
الرواقي أو "المعلم" الذي جاء مساره منفصلا في سياق الرواية بطريقة لا تعطي القارئ أي اداة للربط بينه وبين المسار الآخر في الرواية، بل أن غياب أحدهما لا يؤثر لا من قريب ولا من بعيد على الآخر، ولم يترك لنا الكاتب التقاطات او إشارات لعلاقة ذلك الماضي السحيق بالحاضر الآن.
والملفت للنظر، أنه على رغم الدقة المتواخاة في تحديد جغرافيا المكان، والحرص على تنوع الزمان، بقيت الشخصيات الأساسية دون أسماء، حتى الرواقي لم يرد سوى كاسم للرواية لكنه ضمنها هو المعلم فحسب، كما لو جاء ذلك بتعمد دلالي يقصد بها أنه شخصية عامة من الممكن أن تكون أنا أو أنت أو الآخرين، أو حتى العازف، أو الروائي.!.
لا بد من قصة الحب!
جاءت قصة الحب ضمن شخصية الحبيبة بشكلها العام مشابهة لعلاقات الحب التي تقام في مجتمع السعودية وتتناول في جدليتها العلاقات الأسرية المشتتة، وتحفظ المجتمع أمام علاقات الحب التي تبدو مسروقة وغير مكتملة، لكن "مريم" تبدو أيضا شخصية إشكالية، وغير تقليدية فهي تندفع نحو الحب بإفراط، ثم تفاجئنا بخشيتها من فكرة الارتباط، ماجعلها أمام عرض الزواج تختار الرحيل، والانفصال عن حبيبها للتزوج بآخر، قد لايبدو هذا الموقف متسقاً بشكله الظاهري مع رد الفعل الشائع لامرأة عاشقة في ظرف مماثل، لكنه مفهوم ضمن فلسفة جاءت على لسان المعلم [ الأشياء المثمرة هي الأشياء المهاجرة، لاشيء يبقى قاراً دون أن يحمل صفة الماء الآسن ] ص31 ووفق هذا التفسير لايبدو موقفها مختلفاً كثيراً عن قرار الحبيب فيما بعد، حين يرفض إقامة علاقة معها و لقائها بعد زواجها، [ كان من السهل ان انقاد إلى ما تقترحه، إلا إنني خشيت أن تتهشم مريم في ذاكرتي] ص 115، وفي تبرير آخر يأتي من سياق الرواية [ الحب جزء من الحرية، لا يمكن أن تحب إلا إذا كنت حراً] ص 114، أي أن علاقات الحب ضمن جو تنعدم فيه الحرية لا يمكن أن تتوج بنهايات سعيدة معتادة أيّاً يكن شكل هذه السعادة، وقد لا تقود أيضاً إلى الزغاريد والأفراح، كما يحصل في الأفلام.
في الختام:
من خلال إشارات كثيرة في الرواية ينثرها المعلم "الرواقي"، سنكتشف أنه لم يكن سوى معادلاً موضوعياً للروائي ليقول لنا رؤيته لشكل العلاقة بين الحاكم والناس، أو بين الحاكم وبطانته، ولم يكن زينون الرواقي [الذي لم يرد اسمه في المتن بل جاء من خلال الحديث عن غلاف الرواية]، هو المقصود بذاته وإلا فإن ذلك يجعل هنا أخطاء معرفية ضمن العمل. في فقرة جاءت في ص 24 [فالوردة لا تعني لهم أكثر من باقة يلفها البلاستيك لتجوب أروقة المستشفيات ومثل ذلك الشموع ... وكذا علب الهدايا الناعمة المدهشة] إذ من المفترض أن فترة (ق م) لم تكن لتعرف بعد مفهوم البلاستيك والمستشفيات وعلب الهدايا الناعم وربما الشموع أيضاً.. فـ "الرواقي" ماهو إلا نموذج آني يتحدث عن الدولة الحالية وأنظمتها مشيراً إلى المساجد والقيم الإسلامية، ما يجعل الرواقي إعادة صياغة للفيلسوف اليوناني في قالب جديد وناقد، فيُطلقه كرمز لا يمكن كشفه إلا بمزيد من القراءة والتأويل لرواية الرواقي.
كانت [الرواقي] وجبة ذهنية ممتعة، وعلى الدوام أؤيد الروايات التي تتحاشى الإسهاب، وعدد الصفحات الكثيرة، التي تثقل على القارئ وتنافي عصر السرعة الذي نعيشه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق