أطرافكِ مقيدة وأضلاعكِ تؤلمك ، كنتِ محشورة بين الغضب والذل دون مساحة إضافية ولو بسيطة للتحرك .
هاأنتِ تصرخين ، وتكزين على أسنانك غيظاً وتعاودين الصراخ بعلو صوتك ، لكن لا حظ لحنجرتك الناشجة .. لن يغيثوك . تصلك ضحكة أمك المجلجلة فتتميزين قهراً ، لماذا لا تشعر بآلامك ؟.. ألا تملك قلب أم ؟ .
لو أنها ربتت على أوجاعك يوماً .. لو سمحت لك بضرب قدميك على الأرض احتجاجاً وصفق الأبواب غضباً ، لهربت من فخ التهذيب المزيف إلى فضاء المشاكسة المغري ، لكنها لم تتقن شيئاً إتقانها للوعظ وإسداء النصح الخرقاء .
لطالما سمعتها تقول : " في مجتمع أصم لا فائدة من لسان بليغ ، إياكِ أن تجعلي من نفسك النعجة السوداء " .
تفوح تلك الرائحة النتنة التي ترافق الموت عادة ، لتثير في رئتيكِ زوبعة لا تستطيعين لها منعاً ..
كنت قد شرعتِ في البكاء حقاً حين هزتك يدها لتوقظكِ . جاهدتِ كي تنفصلي عن ذاك العالم وتستجيبي لتربيتها اللطيف .
زال الاختناق .. إذن كنت تهذين ، لكن مازالت تلك الرائحة الخانقة تنبعث من مكان ما وتحاصرك . تفتحين عينيك ببطء شديد . الغرفة واسعة وبيضاء كغيمة صيفية تعبق بأنفاس الزهور . حولك باقات عديدة موزعة هنا وهناك في مواجهتك أكبرها على الإطلاق تحمل اسم سعد " زوجكِِ " .
في يوم زفافك ، قبل خمس سنوات وأربع أشهر وأسبوع من الآن ، كانت هذه الزهور أو أخرى تشبهها تملأ المكان ، حتى ثوبك كان موشى بزهر الأقحوان .. هاأنت تتذكرين التفاصيل الرقمية دون أدنى خطأ . تستعيدين صوته : " إنني أحب الورود وأنت أجملها "
ذاك ما قاله لك سعد يوم كان يغازلك لوجه الحب وحده .
إلى اليسار الممرضة النحيلة التي تطفلت على كابوسك فأيقظتك .. تتطلعين إليها باستغراب حقيقي .
أيقظتكِ المسكينة ، كما تحتمه عليها أصول المهنة : افتعال حنان لا تخفي برودته .
حين التقت نظراتكما ابتسمت هي ، فانكشفت أسنانها الصفراء المتماشية كثيراً مع بشرتها الشاحبة .
قالت ، وهي تجس بطنك المنتفخ :
" الحمد لله على السلامة ، كانت ليلة البارحة متعبة حقاً ، نزفت كثيراً ، فأنت لم تساعدينا لتخففي عن نفسك آلام المخاض " .
كنت تقولين لها إنك تتألمين حين لمحتِ خلفها سلة مبطنة بقماش لمّاع أزرق ، مزينة بأشرطة ملونة كثيرة تشبه سلال الهدايا التي تنسق فيها حبات الحلوى، وإن كانت أكبر منها قليلاً ..
ساعدتكِ كي تنهضي من استلقائكِ ، ثم حملت إليك لفة قماش كانت مختفية داخل السلة المزركشة ، ووضعتها في حجرك .
رفعت يدك المتكلسة كي تسندي رأساً صغيراً ظهر من فوهة اللفة فأصابتك من ملامسة الجمجمة الصلعاء برودة مفاجئة .
قالت الممرضة وهي تبتعد : " حاولي أن ترضعيه .. هو أيضاً متعب وربما جائع " .
انسلت منسحبة وأغلقت الباب خلفها .
ها أنتما معاً .. في غرفة بالكاد اتسعت لكما وحدكما ، إن له لون اللفت الذي تحتفظ به أمك خلف المدفأة قبل أن يتحول إلى مخلل . كان ضائعاً داخل ثوب طويل كفاه مطبقتان وعيناه كذلك .
لإطعامه ، توجب عليك أن تفكي أربعة أزرار من منامتكِ وتقربيه إلى صدرك ، لكنك لازلت تحدقين في تفاصيل وجهه الآسرة ..
ملامحه تذكرك بوسامة سعد الممضة . تسللت إليه برودتكِ التي ازدادت صقيعاً ، فتح عينيه وشرع في البكاء . أيقنت أنه يشبهه تماماً ، حتى مسام جلده بدأ ينز الرائحة نفسها : رائحة زهور .
تابعتِ حل كل الأزرار التي تبقي ثوب نومك عالقاً بك .. انزلق بسهولة عن كتفيك .. لمعت الفكرة في حمى رأسك ، دون أن تقاوميها .. تخلعين منامتك ، وترتدين ثياب الخروج الواسعة المعلقة فوق المشجب .
استجمعتِ كل ما يلزمك من جبن كي تصمي أذنيك عن صراخ الصغير الذي يزداد ارتفاعاً وحدة ،
يا لتلك الحنجرة ! لعله اكتشف خططك للرحيل . كان ذهنك مشتتاً وأفكارك فالتة ..
أنتِ أيضاً كنت تبكين و تستحين من ذرف دموعكِ أمامهم . لم تطيقي آلامك التي تتعرضين لها ، في كل مرة تتمددين فيها أمام مجموعة الأطباء على اختلاف أسمائهم ، تنكشفين أمامهم والخجل يقتلك ، ودون أي كبرياء تصرحين بأدق أمورك السرية ، يحاولون جهدهم لجعل رحمك اليابس يتقبل زرع البويضات المُخصبة ..
حُشرتِ بين المطرقة والسندان .. أفظع الأوقات حين يرن المنبه ليعلن عن مواعيد الحب .. طفل الأنبوب أشد عناداً من ثور ، ثم لابد من دفع الفواتير الكثيرة كيفما كانت النتيجة .
كانت أمك تهمس في أذنك مواسية :
" لا تكوني حمقاء يا ابنتي ، عليك أن تحاولي ولو مئة مرة ، فالأطفال بالنسبة إلى الرجل أكثر أهمية من الزوجة ، ألا تحبين سعداً ! إنها الطريقة الوحيدة للاحتفاظ به " .
انتظاركِ دون فائدة ، يسيل الزئبق رغماً عنك ، مادامت الصّدفة فارغة إذن لا قيمة لك ، سعد ينأى بوجهه ، تنطفئ عيناه ، ويؤكد لك الإحباط الذي تتصيدينه في ملامحه الواجمة إن ما تقوله أمك وأمه وجارتك هادية وحتى صديقتك رغد صحيح ، هم يمثلون مجتمعك فمن أنت حتى تشذين عن قوانينهم المقررة سلفاً . الرجال في العادة لا يشرحون وجهة نظرهم إنهم فقط يقطبون ، ذاك بالضبط ما واظب سعد عليه كل ليلة وكأنه يحملك ذنب القحط .
إنها الهزيمة التي لن يقبلها أحد .. بمن فيهم أنتِ أيضاً ، كنت تهزين رأسك مؤكدة أنك ستحاولين تكراراً .
يحاصرك الهدف : هدفهم ، لماذا يصير عليك أن تؤكدي رغباتهم دون احتجاج ولو مهذب بأنك تتوجعين ، وبأن الأمومة لا تعني لك أكثر من المعاناة ..
مرغمة تدورين في تلك الدائرة المغلقة ما بين المنزل وتلك العيادة أو أخرى .. لا فرق ، وما بين عناوين ومواعيد الإخصاب المسجلة في دفتر قرب رأسك .
تقطبين .. فما الذي استطعت عمله ؟ وهل كان ثمة حلول بديلة ؟
تجرين قدميك المتعبتين ، لم ينتبه إليكِ أحد ، حتى الممرضة التي كانت تنتزع الصغير الذي سيشبه أباه عن صدرك وتعيده إلى سلته ، كأنك تمشين فوق الهواء وتلبسين طاقية الإخفاء ، وفيما أنت تخلفين باب المستشفى وراءك ، وتشيرين إلى سيارة الأجرة كنت تحصين في ذهنك ما مر بك : المرات الست الأولى خجل .. كل مرة ألم .. و عشر خيبات .
كانت نظرات السائق المتعجل المتصبب نزقاً تتسلط فوق تفاصيلك النائية ، فقد استغرقتِ من الوقت ما لا يطيقه صبره النافد . حبيبك سعد لم يتسع صدره ، فما بالك بالغريب ؟
يسطع النسيان ، تسبحين في عرقك ، كنت تبحثين في ذاكرتك المحمومة عن عنوان لا يسعفك تذكره ، لكنه الطريق الذي لا يضل عنه أحد .
يعود صوت البكاء إلى أذنيك الخدرتين .. يد باردة تتلمس جبينك المشتعل .. ترينها من بين أهدابك المتقاطعة مقطبة وشاحبة .
تقولين لها بأنك لازلت تتألمين .
سوزان خواتمي
25 /5/2001
نشرت في جريدة الرأي العام ليوم الأربعاء10/10/2001
من مجموعة ( فسيفساء امرأة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق