02 مايو 2008

زهر البرتقال/ قصة قصيرة

تنحنح أمجد قليلاً قبل أن يعلن : "سينضم إلينا أحد أصدقائي القدامى . هو مغترب يعيش في ألمانيا . ستكون فرصة لطيفة للتعرف إليه . إنه د.رامز راجي ........... "

ولم أعد أسمع شيئاً ..

ما أضيق هذا العالم ! بعد عشرين عاماً تحكمني الظروف كي ألقاه دون أن أدرب وجهي كي يحتفظ بدهشته ، ودون أن أدرب قلبي كي لا يخفق عالياً ويفضحني .

هاجمتني ذكراه كومضات ضوئية ، الواحدة تلو الأخرى . تلك قصة قديمة ، المفترض أنها بليت تماماً . بعد كل تلك السنين ، ذاك الحب أصبح مستحاثة أو هكذا كان الظن : ظني .

ولكن هاهو الماضي ينبعث من مرقده ليفاجئني كعوارض ذهول طارئ .. كان عقلي قد أصبح عاجزاً عن متابعة ما يقوله صديقنا أمجد ، فقد تفككت الحروف وأصبحت لا تعني أكثر من أصوات تخرج من الحنجرة : حنجرته ، كما تؤكد لي شفتاه المتحركتان .

انفصلت عن مجموعة الأصدقاء ، وحتى عن الكنبة الوثيرة التي كانت تحتويني ، وعدت إلى تلك الأوقات الرائقة تحت أشجار البرتقال ، كان الوقت ربيعاً ، وكنت ما أزال أختال بستة عشر عاماً تجعل قلبي مفرقعة نارية .. اندفعت نحوه دون تحفظ .. لم أقف عند حدي الأمثل كفتاة خجولة بل تحرشت به كقطة عابثة راقتها كرة الصوف . كنت أتجاهل لهفته وأسبقه إلى مبادرة العناق بل لم أخجل حين اختلست منه القبلة الأولى .

جريئة دون تحفظ ‍‍‍‍‍‍، وأي عذر لي سوى أني امتلكت قلباً عارماً بالحياة .. في البداية كان يبتسم سعيداً باندفاعي أو مغروراً برجولته المحفزة .. دون أن يخفي بعض ذهوله ودهشته . لكن إلى حين .. فسرعان ما انكمش على نفسه مذعوراً ، معلناً مخاوفه ، مقسماً أني أبدو أمامه كنصف رجل .

افترقنا و كل جريرتي أني قفزت إليه ، دون أن أخفي افتتاني به .

رحت بعدها أتساءل : " هل كان عليّ أن أكذب ؟ " .

لم أسلم من ألم ودوار وقرصة في القلب الخائب ..

في النهاية قلت لنفسي : "لا يطفئ النار إلا النار "

كنت هشة ومتعجلة وكنت أحاول استعادة ذلك الإحساس الذي أدمنته من خلال تلك الأشياء الصغيرة الجميلة التي كنا نقوم بها خلسة .

المرة تلو المرة .. ألم بعد آخر .. خيبة بعد أخرى .. لأكتشف متأخرة بعض الشيء : أن الحب الأول مغامرة خاصة لا يمكن تكرارها .

حين يئست من العثور على بديل له المقاس نفسه .. قررت الزواج . استذكرت كل المطبات فأعملت جهدي كي أتصرف كطفلة ساذجة تبحث عن الأجوبة . بدوت أمام خطيبي بريئة ومحصنة بوجه آخر لا يشبهني ، تربص بي حتى ارتاح إلى أني لا أفهم إلا ما أفهمني إياه شخصياً .

أنجبت منه شموساً ثلاثة أدور في فلكها . تذكرتهم .. وتذكرت الرجل الذي يجلس إلى جانبي ، ينفخ دخان " البايب " وهو يصالب ساقيه بثقة مازالت تميز كل حركاته . أشفقت عليه .

سيصل د. رامز بعد قليل .. سيجدني مرتبكة .. سأتلعثم .. وسيدرك أني مازلت تلك الحمقاء .. لابد أن أنجو بنفسي

لا بد من الهرب قبل أن يشعر أحد من أصدقائنا بما آلت إليه حالتي .

أمسكت حمالة حقيبتي في وضعية الاستعداد كمتسابق لا ينقصه للانطلاق سوى صافرة البدء ، وكنت أفكر هل يبدو الصداع المفاجئ سبباً مقنعاً للانسحاب السريع . كنت متهيئة كي أنطلق فراراً حين رن الجرس ، معلناً أن الوقت صار متأخراً وأني فوت الفرصة .

دخل ففاحت رائحة زهر البرتقال ، لمحت وجهه ، وتفحصتها ملياً ، كانت زوجته مختلفة عني تماماً . بالتأكيد ‍.. فهو لم يسع إلى بلاد أخرى كي يختار سمراء مثلي ذات قامة ضئيلة وعينين دون تميز لوني .

كانت هي : الأنثى الأخرى ، مشدودة القامة كرمح ، حمراء كجزرة ، تملك بؤبؤين زرقاوين كصفة سائدة بين النساء الأجنبيات ، وكانت أيضاً تمسك كفه ، وفي نفس الوقت تسبقه بنصف خطوة ، لأدرك أنها لم تعتد اللحاق به كما كنت أفعل أنا في ذلك الزمان .

هو أيضاً باغته وجودي .. " مدام شامي " قدمت إليه نفسي بلقبي الجديد ، أم أني نسيت اسمي ؟.

‍‍أسقطتُ يدي في يده وسحبتها بعد دهر.. سريعاً .

كأني به لم يتغير .. بل إنه مازال يمتلك تلك الكف المربعة الدافئة . كان خبثي يتمنى على الله لو أنه صار عجوزاً فقد جاذبيته ورشاقته ، لكن شيئاً من أمنياتي الحاقدة لم يحدث !

خفق قلبي باضطراب وغرابة لا تتناسبان مع ما كنت أطلبه منه هكذا دون توقف بم.. بم .. بم .

لا أدري لماذا التصقت بزوجي أكثر قليلاً مما كنت عليه قبل مجيئه ، بل إني سمحت لكفي الباردة بالرقود فوق ركبته في حركة إلفة ودفء تتناقض مع جليدها .

استلمت سياق الحديث والتعليق بظرف لا يسكنني إلا لماماً .كان يتوجب عليّ أن أقضي على منافستي بالضربة القاضية .. و أحسب أني فعلت .

هو كان ساكناً صامتاً كلغز محير . أملت أن يبدي امتعاضه .. حزنه .. ندمه . تعمدت تجاهله كأي غريب لا أعرفه ، لم تلتق أعيننا إلا خطفاً .

على مائدة العشاء ومن خلال أبخرة الطعام سمحت لفضولي أن يحاصره ، كان جالساً على الكرسي المقابل و شاءت أذناي المتأهبتان أن تلتقطا رغم المسافة تنبيه زوجته كي لا يشره في التهام الطعام ، فكرشه يكبر و يزعجها .

أطاع تعليماتها مكتفياً بالحساء والسلطة ثم أخذ يقضم الخيار والجزر ، حتى صار يشبه الخروف .

مع اقتراب الفجر انتهت تلك السهرة وانتهيت بها .. أرخيت كتفيّ و تنفست الصعداء ..

أخذت مكاني إلى جانب زوجي الذي يقود السيارة بذراع واحدة فيما الأخرى تحيط كتفي ، دون تعمد أبعدت جسدي عنه ، كان ذهني الشارد يبحث عن جملة قالها لي رامز ذات وقت :

" أتخلى عنك كي أحتفظ بك " . لم أفهم يومها .

هل كان من الضروري لأقداري أن تلتقيه هذا المساء ، حتى أعرف ؟ ..

شاب الرأس ـ أكاد أقول ـ ولم يشب القلب ... شيء ما أخذ يضايقني ، تلك المستحاثة نفضت عنها كل ما علق بها تخلت عن تحجرها وتصلبها لتخرج بضّة ، رخوة ، منتفخة بالحياة .

فوق مرآة السيارة أمامي انعكس وجه مراهقة تنضح بالرغبة ، فيما ارتسمت فوق شفتيها ابتسامة ماكرة تعدني بأشياء كثيرة .

ليست هناك تعليقات: