04 مايو 2008

متعة الخيال في عالم الطفل التلفزيوني


إن موازنة الأمور وسيلة نحتاجها لتدبير ظروف حياتنا المتشابكة، لذلك فإطلاق أحكام نهائية قاطعة، تصرفٌ يجافي الصواب ويناقض تماماً قانون النسبية.
فما الذي يعنيه هذا الكلام في موضوع يطرح علاقة الطفل بالتلفزيون..؟
إنها دعوة للاعتدال بين نظريتين إحداهما تجد أن التلفزيون يعتبر عاملاً ايجابياً في تنشئة الأطفال، والآخر يؤكد على أن التلفزيون شر مطلق لابد من اجتنابه..
يقول سارج تيسرون:
"إن الصورة مهمة ليربط الطفل بين تجربته الوجدانية والحسية الحركية وبين الكلمات ودلالتها والمقصود بها.."
مما يجعل للتلفزيون ولأفلام الكرتون ولبرامج الأطفال عامة فائدتها الضرورية التي تشبع حاجاتهم الخاصة وتساعد على نموهم السلوكي والحسي والنفسي .. وهذا يلقي بالمسؤولية على الآباء والمربين كي يوجهوا عادات الطفل ويستفيدوا من القنوات المخصصة للصغار باعتبارها أداة ثقافة معرفية، ضمن ضوابط البرنامج المناسب في الوقت المناسب وبالكم المناسب والكافي للمشاهدة.
مابين أن يرفع الرضيع رأسه قليلاً في شهوره الأولى ومن ثم يستدير لسماعه صوت ما يميز صاحبه، ومابين أن يطلق أصواتاً مختلفة وحتى يستطيع استخدم بعض المفردات ثم يستخدمها في جملة بسيطة
مراحل تعني أن الطفل ينمو في تطور حركي وحسي واجتماعي وعقلي..
أما حين يرد الصغير على الابتسامة بمثلها والتكشيرة بمثلها، فتلك أول بوادر المحاكاة التي تعبر عن نضج الطفل وبداية مرحلة تواصله الاجتماعي..
يحدث ذلك في سن ما قبل المدرسة أي ما بين الشهور الأولى والخمس سنوات والتي تعتبر المرحلة الأغنى والأهم في قابلية الطفل على الاكتساب، كما أن 50% من الذكاء يتم تحصيله في هذه المرحلة، حيث يتلقى جل معلوماته وتتطور قدراته من خلال الأسرة المحيطة وحتما مما يوفره ذلك الصندوق العجيب الذي يسمى التلفزيون..! والذي يخرج من داخله صوراً متحركة لقط يلاحق فأراً.. أو لعروس البحر التي بادلت صوتها بقدمين لتتخلص من ذيل السمكة الذي يعيقها عن رؤية الأمير.
إنها أبواب سحرية تفتح مجالاً واسعاً للتخيل ليس للأطفال فقط بل للكبار أيضاً فمازالت بعض تلك البرامج تجذبني، لأجد نفسي أتابعها بانسجام تام..
وأرجوكم أن تعترفوا، فمن منكم لم يقع في غرام نقار الخشب، أو لم يتابع حتى الهوس المسلسل الكرتوني الذئب الأبيض، ومن منكم لم يحب ميكي ماوس وباقي عائلته الكريمة.. أو لم يتأثر بعيني ريمي الدامعة..! سأذكركم أيضاً بالبحار باباي وبأليس في بلاد العجائب، وبمسلسل " من قصص الشعوب " في حلقاته المتتابعة وأغنية مقدمته ..!
لا أظن أن طفلاً نجا من متابعة بعض تلك الصور بدهشة وتعلق، ابنتي كانت تصالب قدميها متربعة في جلسة ملكية لتركز على ما تراه وتحفظ أغنيات الشارة وتردد ما يقال من كلمات وكم كان ييدو هذا مضحكاً حين تتحدث باللغة الفصيحة كما كانت تنطق أحد تلك المسلسلات، وكم كانت تبدو سعيدة وهي تتابع هايدي الجميلة التي ترعى جدها العجوز وتركض بين المراعي الخضراء، فتضحك وتصفق وتحرك يديها لتقلد ما تراه..
ولكن وكما أشرت سابقاً هناك من لا يقر هذه المتع، ويعتبرها مواضيع تشوش ذهنية الأطفال لأنها لا تشبه واقعنا ولأنها تبعدهم عن القراءة وتلبد مداركهم وهناك الكثير من المقالات كتبت بهذا الخصوص لكنها غير مقنعة،
إلا إذا كان المقصود أن الطفل: طفلي أو طفلك سيستغني عن كل نشاطاته ويتسمر أمام الشاشة الصغيرة 24 ساعة ليتابع كل ما يبث من صور ومسلسلات ونشرات إخبارية..!
من تجربتي الشخصية وممن حولي من أمهات أعرف أن الجيل الجديد أكثر وعياً من سابقه وأيضاً أكثر شقاوة، وهذا ليس بالطبع بسبب طفرة جينية محسنة، لكنه يتعلق بفضل المستقبل على الماضي، وما يتيحه من تنوع في الإمكانيات، وتطور في أساليب التلقي لاكتساب خبرات أكثر، فقد تعددت أنماط اللعب وأدواته وأساليبه، كما تزايد المتاح في منتجات الأطفال بما يلبي حاجاتهم، وأي زيارة بسيطة لمتجر أطفال سيدهشك بما يحتويه من مستلزمات جديدة لا تعرفها لأنها لم تكن موجودة قبل ثلاثة أعوام مثلاً، ترافق هذا مع الاهتمام بنشاطات الصغار من مسرح يقدم عروضاً خاصة، ودور سينما تعلن عن أفلام ذات دقة عالية في إنتاج صورة مبهرة، كما ازدادت دور النشر التي تهتم بطباعة الكتب والمجلات المختصة من قصص مصورة وكتب تسالي وأوراق ملونة للقص وللصق والأشغال اليدوية، وعلى سبيل المثال ففي زمن أقدم قليلاً لم يكن هناك قصة لا يستطيع الطفل تمزيقها أو لوكها في فمه لأنها من البلاستيك..!
كل هذا إضافة إلى ما صارت تقدمه رياض الأطفال من برامج حديثة تهييء الطفل وتهتم بتنمية قابليته للإبداع..
فالإبداع يحتاج إلى المخيلة خصبة وإلى التشجيع على الاختلاف والتفرد لتطوير الجوانب المتميزة، لذلك فإن إفساح المجال للطفل عبر أكثر من قناة للتلقي يصبح أداة ايجابية .. سيما وأن الطفل في مجتمعاتنا يتعرض إما لضوابط الأمر والنهي ، والحشو والتلقين الكافية تماماً لقتل روح المبادرة والبحث والثقة .. أو يتعرض إلى الإهمال حيث توكل للخدم مهمة رعايته والعناية به، فيكبر في حالة استرخاء ودلال وكسل وانفصال عن محيطه والاهتمام بذاته.!
في المحصلة يمكننا القول أن علاقة الطفل بالتلفزيون لا يمكن اختصارها بصيغة مفيد أو غير مفيد فقط.. فمن غير المنطقي القبول بها دون ضوابط ، كذلك رفضها بالمطلق، بل إن طفلاً دون الخامسة سيكون سعيداً حين يتابع برنامجاً يحبه من دون أن يلغي ذلك وقت قراءة قصة ما قبل النوم، ومن دون أن يؤثر أيضاً على فرصته في اللعب في الهواء الطلق والركض ومشاركة أقرانه فوضى الصراخ والوقوع واتساخ ملابسه والبكاء أيضاً.
مقال نشر في مجلة التلفزيون

ليست هناك تعليقات: