13 مايو 2008

قوسا خصري النحيل: قصة قصيرة

ملابسي المدرسية كارثة في عالم التفصيل والتصميم بلا منازع ، إنه زي أحمق ، يتفرد بخاصية ارتدائه صدراً لظهر و بالعكس من دون أن يشكل ذلك فارقاً يذكر ، يناسب الجسد الشحيم ، كما يناسب جسد أفروديت المنحوت من مرمر ، ليجعل الاثنين في كفة ميزان واحدة : بلا معالم .
لون خامد .. داكن ، كانقباض صباح شتوي يقاوم شمساً غضبى . مصقول بحشمة دثار .
واسع .. عريض .. و مهلهل أتعثر بأمتار قماشه كلما رغبت في الانطلاق ، قفزاً مثل أرنب طروب ، أو جرياً كغزال شارد ، أو تقهقراً إلى الخلف كسنجاب مذنب ..
تشاء لي الأقدار أن أرتديه كل صباح ، لأبدو مع صاحباتي ، كما لو كنا سرب غربان في موسم عزاء !.
الزر العلوي للقميص يضغط على الرغامى . يضايقني . وقبل أن أختنق ، أحرره عن العروة ، وأمط رقبتي بحثاً عن الهواء ، لكن نظرات مدرسة الانضباط تكمن لي بالمرصاد .
كانت السيدة السمينة التي تشد شعرها وتكومه بملقط فوق قمة رأسها ، تنتعل حذاء رياضياً تقطع به باحة المدرسة باحثة عن أي إشارة تقوض لائحة النظم القدسية ، قد عثرت على ضالتها في قميصي المحلول ، وجهت لي نظرة مؤنبة لا ترحم ، وهزت طرف مسطرتها متوعدة ، فيما بدأت تقدمها بنواياها الشريرة .
قبل أن تضيق منطقة الأمان بيننا بما لا تحمد عقباه ، كنت قد اخترت الموت خنقاً : أقفلت قميصي ، وتراجعت بعيداً عن مسار خطرها اللاسع ، مكتفية بزفرة تأفف لا ضرر منها ولا ضرار .
إن الرجوع إلى الخلف لا يعني الهزيمة ، لكنه تكتيك مسالم للالتفاف حول كل ما لا أستطيع اختراقه مباشرة متفادية شر الصدام ، وهي خطة حربية غاية في الذكاء أستعملها في لعبة الشطرنج ، تبتدئ بضبط النفس ، وتنتهي بأن أفعل ما يحلو لي موفرة على نفسي لهاث النقاش و إطراق التوبيخ .
كنت ومازلت لا أطيق ملابس المدرسة الموحدة و الإجبارية ، أجدها تمس حريتي الشخصية بلا منطق ، ولأني مختلفة فقد اجتزت بوابة مدرستي ذات صباح ، وقد طبقت إلهاماً أنيقاً راودني أثناء الليل : منديل ربيعي مبهج عقدته بأناقة حول عنقي .
أين الكارثة ؟
اليد العنيفة التي سحبتني من مكاني بين جموع الطالبات ، لم تعجبها تعديلاتي البريئة ، هذا ما فهمته ، وأنا أتعرض لاتهامات غير منصفة ، وكلمات لا تسر صاحباً ولا عدوا .
اليد العنيفة نفسها انتزعت عن عنقي منديلي الملون ، وأعملت به مقصها ، لأكون عبرة لمن اعتبر .
لم أبك ، رغم أن كرامتي المنتهكة أصرت علي . ابتلعت شوك حلقي ، وأطرقت لأتابع نملة صغيرة كانت تدور حول الحذاء المطاطي .
يا للذكرى ! خسرت منديلاً .. وانتهى بشق النفس يوم دراسي آخر ، أسمع جرس الانصراف ، فتطرب له أذني أهرول نحو الحمام ، أزاحم الأخريات حتى المقدمة أمام المرآة .. فأبلل غرتي .. وأعقصها أثبتها بملاقط مزخرفة .. أقرص خدي فيتوردان .. ثم أعتق عنقي : زران نحو الأسفل حتى منحدر النحر .. أشمر عن مرفقي .. أغرز عدة دبابيس في الخياطات الجانبية للمريول حتى يتضح قوسا خصري النحيل ..
بخمس دقائق وقليل من الجهد أنقذت ما أمكنني إنقاذه ، استبدلت طلة مزرية بظهور لافت ، لم أعد نقطة بين النقاط فمن بين زرافات التلميذات المتشابهات تتلفت الأعناق نحوي ، وتتمهل العيون عندي ، دون أن أمنحها اختياراً آخر . كما لو أنني مركز الجاذبية الأرضية ، أرضى ذلك غروري ، وأسعدني حتماً ، ضربت قدمي بالأرض تيهاً ، مؤرجحة ذراعي ، ناقزة كمن يسبح في الهواء .
كنت أتسكع متمايلة تحت ثقل محفظتي ، حين انتبهت لوقع خطوات .. أبطئ فتبطئ .. أسرع فتسرع .. نظرت من فوق كتفي نحو الخلف ، ثم استدرت دفعة واحدة .
رأيته : وجه نحيل بشارب خفيف ، وعينين مدورتين كعيني قطتي شامة تحدقان بي . ومثلها لم يكن يرمش ، بل أطلق نحوي شعاعاً مغناطيسياً في تحديق وقح .
بدا لي مقبولاً ويكاد يموء ، و لولا عقارب غرته المنفرة ، ولحيته التي لم تتشكل بعد ، لكان الشخص المناسب لشهية الحب المفتوحة عندي . سأضيفه رقماً جديداً إلى طابور المعجبين .
تابعت سيري كملكة تختال بفتنتها ، وعاد المسكين يتعقبني ، وصوت حذائه يطمئن غروري .
حين صار بمحاذاة كتفي . ناولني رسالة ، رقصت في الهواء قليلاً ثم استقرت فوق الرصيف ، محدثة طرقاً منتظماً في دماغي ، وطبلاً مدوياً داخل صدري ..
" اااااااه " صرخة مكتومة أفلتت مني .. يا للجسارة !
باغتني - على قلة هيبته - استندت إلى سور حديقة منزلية .. أنزلت عن كتفي حقيبتي الثقيلة .. جثوت على ركبتي ، و تشاغلت بأنني أفتحها .. كنت مترددة .. وكان عليّ أن أفكر ملياً .
أصابعي الأكثر اندفاعاً من بقية جسمي امتدت بتهور ، لكن ذاكرة الحذر حاصرتني كحزام ضاغط
"حذار .. حذار ، من لا يحسب لا يسلم " تردد أمي تلك المقولة ، فأسترجع يدي في اللحظة المناسبة .
صوت أمي يعذبني وكذلك الفضول ، أريد أن أقرأ رسالته دون أن أتهم بالابتذال؟
كنت مترددة ما بين نداء يدعوني للمجازفة ، وآخر أكثر حشمة يمنعني من أن أكون سهلة المنال كقطط الأرصفة .
حشرت أصابعي المتعرقة بين الكتب ، أبحث عن حل ، فيما اشتعل رأسي بحساباته :
إن كان الإقبال تهوراً وحماقة ، فالتراجع مماطلة لا طاقة لي عليها .
" أحلى حكايات الحب ، تلك التي تبدأ مباغتة " لو صدقت المقولة لانقلبت حياتي المملة رأساً على عقب .
كنت مغرمة بأستاذ الرياضيات ، لكنه مصاب بقصر نظر خطير ، فهو لم يعرني أدنى اهتمام ، بل إن زوايا المثلث ونظرية فيثاغورث ومتاهات جداول اللوغاريتمات كانت أقرب إلى عواطفه مني .
حب من طرف واحد آلمني دون أن يترك ندوباً ، أنا الآن على أحسن ما يرام ، متماسكة وأسيطر بالكامل على أحوال قلبي العاطفية .
" شاب وسيم .. اتركيه يعاني قليلاً " قلت لنفسي.
كان يراقبني .
في اللحظة التي هممت بها في النهوض انحنى فوقي .. يده الجريئة لامست يدي .. انتفضت مذعورة ..
لم يأبه لي .. كان غاضباً .. حاجباه متلاصقان .. وشرر ما يلمع في عينيه ..
نتر المظروف بحركة خاطفة ، ولوح به أمام وجهي ، مكوراً أصابعه المستفهمة ، مشيراً بسبابته المرتجفة إلى العنوان المكتوب بخط واضح وجميل
- شارع الروضة ، بناية الصغير، بجانب ثانوية نابلس للبنات ، طابق ثالث ، منزل .................
من وراء شرودي كنت أسمع حشرجة حروف تطلقها حنجرته العاصية
- بأ بأ بأ يااااااااا ... ؟

ليست هناك تعليقات: