شمس ساطعة .. لاهبة .. لا توفر شيئاً أو أحداً ، تسكب ذهب ضوئها ليعود مرتداً إليها مع زرقة الخليج ، فيما يسبح السراب طبقة ضبابية شفيفة فوق الإسفلت الذائب ، كأنه بقايا حلم يوشك على التحليق ! الثالثة عصراً : توقيت جهنمي ليوم من منتصف شهر آب وفي بلد تشويه الحرارة مثل الكويت !.. بكل مقاييس المنطق ، لا يبدو وقتاً مثالياً للتسكع خارج البيت ..
لكن اللقاءات العاطفية مستثناة من أي منطق .. صديقتي تصر على أنها الساعة الأنسب ، حيث تفرغ المقاهي إلا من المجانين أمثالنا ، المتورطين بلهفة الحب ، يتبادلانه سراً بعيداً عن أصحاء الحالة .كانت تجاهد بوسائل تبدو لي مضحكة حيناً، ومبالغاً فيها أحياناً، كي تتحاشى عينين تعرفانها ولسان يحصد سمعتها بالنميمة . تقول لي بقلق إن أنسب الأوقات حين يلوذ الآخرون بجدران منازلهم ، قابعين أمام نسيم المكيفات والمراوح متخففين من ملابسهم حتى الحد الأدنى من الحشمة .
كنت أقود سيارتي مقارباً مابين أجفاني ، لأني وفي هوج استعجالي نسيت نظارتي الشمسية متعجلاً أرمي خلف ظهري المسافات الفاصلة ، وقلبي يطرق بانفعال . علاقتنا وصلت إلى مرحلة الانعطاف .
عادة ما تكون لحظتي الحاسمة مفترقاً لما بعدها ، فبعد احتضانها تتسارع مجريات الأمور حتى تنكشف كل الأسرار ، وأنحسر بخط بياني سريع الانحدار ، لأفقد اهتمامي عند نقطة الصفر الحيادي ، فلا عاشق ولا كاره ..
تاركاً لمحاسن المصادفات أو مساوئها تقدير عتبات النهاية .أزيد من السرعة .. أشعر بأنني أحبها .. مابيننا علاقة فاترة أسعى لتضطرم أوارها .
إنها في أوائل العشرينات ، ليست فائقة الحسن ، مقبولة بشكل عام ، وكطالب في كلية طب الأسنان أجد أن أسنانها تحتاج إلى جهاز تقويم ، فكها متقدم ، و الإطباق عندها غير كامل ، أتوجس من القبلة الأولى ، أشعر أن هناك فرشاة أسنان مابيني وبين علاقاتي العاطفية ، نفور بحكم المهنة ربما !. أفكر بقبلة متبادلة ، وأنا بالكاد لامست أصابعها ، ارتعش قلبي للذكرى .
حدث ذلك أثناء لقائنا الأخير ، في زاوية قصية نصف معتمة من المقهى ، و كانت حركة طبيعية أو أنني ادعيت ذلك : مددت يدي متعمداً الاحتكاك بذراعها الغافية فوق المنضدة بيننا ، احمرت خجلاً ، لكنها لم تعترض ، فانتقلت برشاقة إلى الحركة التالية ، قابضاً على كفها .. ضاغطاً بخفة .. ثم بقسوة محتملة كانت أصابعها باردة كقطعة ثلج ، جعلتها أكثر دفئاً .منذ أن غادرت أعتاب الطفولة - بسرعة على ما أعتقد - والنساء هاجسي ، أحب سماع شقشقة ضحكاتِهن ، وشم عبير أنفاسِهن ، وملامسة حرير أجسادِهن ، حتى صرنَّ محور عالمي الذي أتوه في فلكه ، و لم أعتبره أنا - ولا عائلتي لاحقاً - وضعاً خطيراً يحتاج توجيهاً أخلاقياً ، وفي ذات الوقت لم أفلح أبداً في جعل أحلامي المتقطعة معهن مستمرة ، فقد كن يولين الأدبار مع أول إشارات الفجر الطالع . أف للنساء لهنَّ نفس غطاس .. أعرف أنها تتمنع عني وترغب بي ، صِنعة أنثوية باتت مكشوفة ومملة .. تحتاج إلى حلم إبراهيم و صبر أيوب .. مناورات سخيفة لأجل نهايات حتمية وواضحة ،وأنا شاب متعجل وعملي ، فمن جهة وقتي ثمين ، ومن جهة أخرى لا طاقة بي على التودد المتكلف والتمثيل المصطنع والكلمات المتشكلة من بلور .ثم والأهم على أرض الواقع أن تلك اللقاءات تكلفني عبئاً مادياً يدهور ميزانيتي ، وتجعل أبي البخيل حسب رأيي والاقتصادي حسب ما يدعي ، يصرخ شاتماً مستغيثاً :" تظنني أيها الشقي متربعاً فوق تل فلوس ... ضع يدك في جيبك واصرف على كيفك... ارحمني يرحمك الله " أنا في العادة أتصرف كمن ينعم بثروة صغيرة ، متظاهراً بأني حاتم الطائي ، أسخو من منطلق أن المال خلق لصرفه .. كم أحبك يا أبي !.إشارة مرور لعينة تنتقل بسرعة من اللون البرتقالي إلى الأحمر ، أضغط بقدمي فوق الكابح وأقف في اللحظة المناسبة ، ملتصقاً بظهر المقعد . مثل معظم أصدقائي لا أدعي التزامي بقوانين المرور المعرقلة ، لكني تأدبت بعد مخالفتين حررتا لي لتجاوز السرعة والوقوف في الممنوع ، جعلتني أنضبط وفق أحكام المرور المذلة : أربط حزام الأمان ، وأراقب سرعتي .أمامي أشخاص يعبرون ممر المشاة تباعاً مثل سرب البط ،كأنهم خلطة بهارات في أكلة "برياني " ، متعددة الجنسيات ، مختلفة الطعم ، متنوعة السِّحن .تتقدمهم شقراء تدفع أمامها بطنها ، أما مؤخرتها فقد كانت تهتز ما أمكنها تحت ثقل الدهون المتركزة وضغط البنطال الضيق ، خلفها يمشي بخطوات رشيقة زوجان متشابهان تماماً بأجفان متورمة وشعر أملس شديد السواد ، يرتديان نسختين متكررتين لقميص واحد على صدره دعاية لأحد أنواع السجائر ، وعلى مسافة خطوة منهما رجل أربعيني بربطة عنق أنيقة ومحفظة جلدية منتفخة يختفي خلف نظارتين قاتمتين لم أتكهن أصوله ..وفي الجهة المقابلة على الطرف الآخر من الرصيف ، توقف تأملي العشوائي عند بنطال جينز وبلوز أحمر بقبة متسامحة .. أكاد أعرف هذا الزي .. و ذاك القوام الممشوق .. بدا مألوفاً ..أسحب لهاث فضولي .. و نظري .. ومعهما أنفاسي المتقطعة إلى الأعلى قليلاً ، يباغتني وجه صباها وخصلات شعرها المرفوعة كما اعتادت كذيل حصان ،
استبد بي مغص طارئ ، تصبب عرقي ،كانت لمحة خاطفة قبل أن يغيبها باب المقهى ، لكنها كافية كي أعرفها :
أختي جنان ! في الزمن الجهنمي .. ما الذي تفعله هنا ؟!
لكن اللقاءات العاطفية مستثناة من أي منطق .. صديقتي تصر على أنها الساعة الأنسب ، حيث تفرغ المقاهي إلا من المجانين أمثالنا ، المتورطين بلهفة الحب ، يتبادلانه سراً بعيداً عن أصحاء الحالة .كانت تجاهد بوسائل تبدو لي مضحكة حيناً، ومبالغاً فيها أحياناً، كي تتحاشى عينين تعرفانها ولسان يحصد سمعتها بالنميمة . تقول لي بقلق إن أنسب الأوقات حين يلوذ الآخرون بجدران منازلهم ، قابعين أمام نسيم المكيفات والمراوح متخففين من ملابسهم حتى الحد الأدنى من الحشمة .
كنت أقود سيارتي مقارباً مابين أجفاني ، لأني وفي هوج استعجالي نسيت نظارتي الشمسية متعجلاً أرمي خلف ظهري المسافات الفاصلة ، وقلبي يطرق بانفعال . علاقتنا وصلت إلى مرحلة الانعطاف .
عادة ما تكون لحظتي الحاسمة مفترقاً لما بعدها ، فبعد احتضانها تتسارع مجريات الأمور حتى تنكشف كل الأسرار ، وأنحسر بخط بياني سريع الانحدار ، لأفقد اهتمامي عند نقطة الصفر الحيادي ، فلا عاشق ولا كاره ..
تاركاً لمحاسن المصادفات أو مساوئها تقدير عتبات النهاية .أزيد من السرعة .. أشعر بأنني أحبها .. مابيننا علاقة فاترة أسعى لتضطرم أوارها .
إنها في أوائل العشرينات ، ليست فائقة الحسن ، مقبولة بشكل عام ، وكطالب في كلية طب الأسنان أجد أن أسنانها تحتاج إلى جهاز تقويم ، فكها متقدم ، و الإطباق عندها غير كامل ، أتوجس من القبلة الأولى ، أشعر أن هناك فرشاة أسنان مابيني وبين علاقاتي العاطفية ، نفور بحكم المهنة ربما !. أفكر بقبلة متبادلة ، وأنا بالكاد لامست أصابعها ، ارتعش قلبي للذكرى .
حدث ذلك أثناء لقائنا الأخير ، في زاوية قصية نصف معتمة من المقهى ، و كانت حركة طبيعية أو أنني ادعيت ذلك : مددت يدي متعمداً الاحتكاك بذراعها الغافية فوق المنضدة بيننا ، احمرت خجلاً ، لكنها لم تعترض ، فانتقلت برشاقة إلى الحركة التالية ، قابضاً على كفها .. ضاغطاً بخفة .. ثم بقسوة محتملة كانت أصابعها باردة كقطعة ثلج ، جعلتها أكثر دفئاً .منذ أن غادرت أعتاب الطفولة - بسرعة على ما أعتقد - والنساء هاجسي ، أحب سماع شقشقة ضحكاتِهن ، وشم عبير أنفاسِهن ، وملامسة حرير أجسادِهن ، حتى صرنَّ محور عالمي الذي أتوه في فلكه ، و لم أعتبره أنا - ولا عائلتي لاحقاً - وضعاً خطيراً يحتاج توجيهاً أخلاقياً ، وفي ذات الوقت لم أفلح أبداً في جعل أحلامي المتقطعة معهن مستمرة ، فقد كن يولين الأدبار مع أول إشارات الفجر الطالع . أف للنساء لهنَّ نفس غطاس .. أعرف أنها تتمنع عني وترغب بي ، صِنعة أنثوية باتت مكشوفة ومملة .. تحتاج إلى حلم إبراهيم و صبر أيوب .. مناورات سخيفة لأجل نهايات حتمية وواضحة ،وأنا شاب متعجل وعملي ، فمن جهة وقتي ثمين ، ومن جهة أخرى لا طاقة بي على التودد المتكلف والتمثيل المصطنع والكلمات المتشكلة من بلور .ثم والأهم على أرض الواقع أن تلك اللقاءات تكلفني عبئاً مادياً يدهور ميزانيتي ، وتجعل أبي البخيل حسب رأيي والاقتصادي حسب ما يدعي ، يصرخ شاتماً مستغيثاً :" تظنني أيها الشقي متربعاً فوق تل فلوس ... ضع يدك في جيبك واصرف على كيفك... ارحمني يرحمك الله " أنا في العادة أتصرف كمن ينعم بثروة صغيرة ، متظاهراً بأني حاتم الطائي ، أسخو من منطلق أن المال خلق لصرفه .. كم أحبك يا أبي !.إشارة مرور لعينة تنتقل بسرعة من اللون البرتقالي إلى الأحمر ، أضغط بقدمي فوق الكابح وأقف في اللحظة المناسبة ، ملتصقاً بظهر المقعد . مثل معظم أصدقائي لا أدعي التزامي بقوانين المرور المعرقلة ، لكني تأدبت بعد مخالفتين حررتا لي لتجاوز السرعة والوقوف في الممنوع ، جعلتني أنضبط وفق أحكام المرور المذلة : أربط حزام الأمان ، وأراقب سرعتي .أمامي أشخاص يعبرون ممر المشاة تباعاً مثل سرب البط ،كأنهم خلطة بهارات في أكلة "برياني " ، متعددة الجنسيات ، مختلفة الطعم ، متنوعة السِّحن .تتقدمهم شقراء تدفع أمامها بطنها ، أما مؤخرتها فقد كانت تهتز ما أمكنها تحت ثقل الدهون المتركزة وضغط البنطال الضيق ، خلفها يمشي بخطوات رشيقة زوجان متشابهان تماماً بأجفان متورمة وشعر أملس شديد السواد ، يرتديان نسختين متكررتين لقميص واحد على صدره دعاية لأحد أنواع السجائر ، وعلى مسافة خطوة منهما رجل أربعيني بربطة عنق أنيقة ومحفظة جلدية منتفخة يختفي خلف نظارتين قاتمتين لم أتكهن أصوله ..وفي الجهة المقابلة على الطرف الآخر من الرصيف ، توقف تأملي العشوائي عند بنطال جينز وبلوز أحمر بقبة متسامحة .. أكاد أعرف هذا الزي .. و ذاك القوام الممشوق .. بدا مألوفاً ..أسحب لهاث فضولي .. و نظري .. ومعهما أنفاسي المتقطعة إلى الأعلى قليلاً ، يباغتني وجه صباها وخصلات شعرها المرفوعة كما اعتادت كذيل حصان ،
استبد بي مغص طارئ ، تصبب عرقي ،كانت لمحة خاطفة قبل أن يغيبها باب المقهى ، لكنها كافية كي أعرفها :
أختي جنان ! في الزمن الجهنمي .. ما الذي تفعله هنا ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق