14 مارس 2017

الفنادق بيوت العابرين

ثمة تأكيد يعرفه أشاوس المسافرين والرحالة، بأن اختيار فندق تقيم به أمر لا يقل أهمية عن اختيار المكان الذي تتجه إليه. 
الاقامة في غرفة لا تعرفك ولا تعرفها تكسر الروتين، وتربك الملل. 
أغلق باب الغرفة وتأمل الجدران الباردة، الأثاث الذي لم تختره، والنوافذ التي تجهل على أي مشهد تطل. ستفتقد إلفة غرفتك، ولكن أليس هذا بالضبط هو المطلوب؟
إنها مغامرة مدفوعة الثمن. اختيارك المؤقت بديلاً عن المؤبد. لن يعجب كلامي مدمنو البيوت والمصابون بفوبيا السفر.  أما إن كنت مثلي تحلم بمكان يطل على محيط ما لم تزره بعد، تحط  فيه النوارس قرب شرفتك وتتبادل معك ذاكرة مؤقتة، إذن تابع القراءة.

أين غرفتي؟

من أجل قيامك برحلة سياحية عليك متابعة الفيزا والتدقيق على مواعيد الحجوزات.  تحتمل ضجيج المطارات، وساعات الانتظار، والتأخير، والمقاعد غير المريحة، والنداءات الأخيرة، وجرجرة حقائب لا غنى عنها، وتناول فناجين قهوة لها مذاق واحد، وهدف واحد؛ هو البقاء متيقظاً بعينين مفتوحتين، فثمة مناطق عديدة على هذه الأرض تناديك. بلاد مجدولة بالشمس، وأخرى تلتف بالضباب، وتلك التي تبقى على مدى 24 ساعة متأهبة لاستقبالك، وبقعة تشك فيما إذا كانت بخضرتها ومائها وهوائها هي النسخة الأرضية من الجنة الموعودة. تحط في بلاد جديدة تشم الهواء من حولك، وأول ما تفعله التوجه إلى فندقك.
 الفنادق الكبيرة تدللك، تحمل عنك عناء ترتيب سريرك، وتوقظك في الوقت الذي تحدده.  تقدم لك وجباتها على مدار الساعة. علق على الباب "ممنوع الازعاج" ولن يجرؤ أحد على فعل العكس.
إدارة الفنادق فنٌ بحد ذاته، تتكفل بمهمة الترحاب الأولى، فهناك من يتلهف لحمل حقائبك، فيما تتفرغ أنت لإلقاء نظرة فاحصة على ما حولك. الانطباع الأهم يبدأ من البهو. سيطمئن قلبك حين يكون مفعماً وطافحاً بالابتسامات الودودة، والوجوه البشوشة الوسيمة وإلى أن يحين موعد استلام الغرفة تجلس. تتلفت، فهناك فوق المقاعد المجاورة آخرون ينتظرون مثلك تلتقيهم بحكم الصدفة؛ غريباً لغريب .
اترك لأنفك مهمة تحديد مستوى نظافة الفندق. دعه يلتقط الرائحة.  الق نظرة سريعة على الحمام. إياك الاطمئنان لرائحة الديتول حين تكون طاغية. أهم ما تفتخر به الفنادق تصاميم حماماتها، التي تتماشى ببذخ مع المناشف البيضاء المعطرة بأريج الربيع، وكل ما يتبع ذلك من ملحقات وإكسسوارات. على سبيل المثال يمكن تجهيز حمام فندق  "بارك حياة" دبي لتستعمله سريراً، فالحوض يشبه المقلاة الطافية في وسط الحمام، تحيطه المرايا الصقيلة، عدا عن مزايا الجاكوزي والبخار وكل أسباب الاسترخاء. كما أن التصميم الذكي للغرفة سيتيح لك من مكانك في حوض الاستحمام أو من سريرك أن تطل بكلك على الخور.
على عكسه تماماً أذكر فندق " كوزموبوليتان" القاهري، ويبدو أن ميزته الوحيدة عدا ايقاع حروف اسمه المهيب، أنه يقع في منطقة وسط البلد، قريباً جداً من ساحة طلعت حرب. أتذكر أني اضطررت وقتها للاستحمام تيمماً، هكذا استفدت من الغبار، وتجنبت مصيبة الحمام !
نعم إن الاقامة في فندق مغامرة تخل بروتين الحياة ومللها، وهذا ما يجعلها باهظة التكلفة.. أحياناً.

النصيحة بجمل
لأني ابنة حلب المدينة العريقة سابقاً والمنكوبة حالياً، فأنا لا أقيم في فنادقها.  
العديد من بيوتها الأثرية تم تحويلها إلى أوتيلات تسحر اللب، وتوقظ الحواس " فندق زمريا "، و" بيت صلاحية "، و" بيت الوكيل "، و" قصر المنصورية " هذا الأخير ليس قصراً، لكنه بيت عتيق استرد مجده. بني  أواخر القرن السادس عشر، على بعد خطوات من قلعة حلب.  
الفندق صغير وودود، تنبعث منه رائحة الماضي، وتنعكس فوق بلاط مدخله آثار من مروا. يحتوي على تسعة أجنحة فقط زينت بطريقة هي خليط ما بين الفخامة والعراقة. حمامات  " المنصورية" برخامها الأصفر المصقول مزودة بكل ضرورات الاستحمام القديمة من صابون الغار و البيلون و الدريرة وكيس تفريك و الطاسة المفضضة. 
أما المطعم فيقع بكراسيه المطعمة بالصدف تحت سقف مقبب، كان قبواً فيما مضى، يُقدم أطباقاً تقليدية التي تعتبر مزيجاً من المطابخ التركية والعربية والأرمينية واليهودية بالإضافة إلى التأثيرات اليونانية .
أياً تكن فخامة فندق "المنصورية" الذي أجهل مصيره اليوم، فلن يقارب شهرة "فندق بارون" المؤلف من طابقين بني بين عامي 1906-1911وفيما بعد ألحق به طابق ثالث. يحافظ فندق بارون بين جدرانه على تفاصيله لحظة افتتح. بدءاً من البلاط و اللوحات،  وكل قطعة أثاث، ومجموعة الاكسسوارات، وفناجين القهوة ، والشمعدانات، والإضاءات الجانبية.  وإن كان ثمة تعديلات فهي لا تلحظ بالعين المجردة. ولشهرته أطلق على الشارع حيث يقع التسمية نفسها  " شارع بارون " الذي كان في خمسينات القرن الماضي أحد المناطق السكنية الحديثة ، قبل أن يتحول إلى شارع مكتظ بالمحلات ودور السينما.
استضاف فندق بارون أسر العائلات الحاكمة في أوروبا، إضافة إلى الباشاوات، وتجار الحرير والأثرياء والمشاهير. وكان مقراً لقادة جيوش الألمان والأتراك في الحرب العالمية الأولى، كما كان سكناً لجنرالات الحلفاء البريطانيين والفرنسيين في الحرب العالمية الثانية. من أشهر نزلائه الرئيس جمال عبد الناصر، ولورانس العرب، وأغاثا كريستي، ورائدا الفضاء يوري غاغارين، وفالنتينا تيلشكوفا.

مع إن.. إلا أن
رغم كل السحر الذي يرافق الإقامة في الفنادق، إلا أن أحداً منها لم يغرني بالعودة إليه، أغادرها ولا أرجع إليها، فإن صدف وزرت المدينة نفسها فإني أفضل البحث عن مكان جديد أقطف بهجته الأولى. ربما لأن الحنين يخص البيوت وأهلها فحسب، أما علاقة الفنادق بالمسافرين فهي علاقة منسي بمنسيين .

الفنادق كوجوه الغرباء، تحتفظ بفتنتها طالما بقيت بعيدة.

سوزان خواتمي 
نشرت في مجلة الفنون الكويتية

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...

مقال جميل ووصف رائع
ولكن المقارنة بين مصر ودبي ظالمة لان دبي تهتم بإظهار الصورة المشرقة لها بعكس مصر الذي يعشعش الفساد بها

غير معرف يقول...

الفنادق بيوت العابرين
سفر الذكريات
محطات العودة
مخبأ العشاق

Unknown يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.