03 مارس 2017

عصير الكتب : سوزان خواتمي


أثبتُ على مرور الأيام إخلاصاً فريداً للكتب، وإن اختلفت تبعاً لمراحل العمر نوعية ما أقرأ وما أقتني.  وهو أمرٌ جيد، فلولا حرية الاختيار ومن ثم التدرج والتنوع في القراءة، لكنت ربما خريجة علوم طبيعية أقشر الضفادع وأشرح الصراصير!

بحسب خبرتي كقارئة، لا تختلف ظروف الوقوع في غرام كتاب عن مثيلاتها مما يحدث في وقعات الحب الأخرى. كل شيء يبدأ بنظرة، فنوعية الورق وحجم الخط وجودة الطباعة ومن ثم أناقة الغلاف، وأهمية اسم الكاتب وعنوان الكتاب الجاذب. وكثيراً ما ضبطت نفسي كما العشاق أمرر أصابعي على الكتب  في لحظة افتتان.
لا أذكر يوماً لم أكن فيه شغوفة بالقراءة، ومازالت رفوف المكتبات، وغبارها- الذي أظن أن أصحابها يتركونه عمداً - تشكل بالنسبة لي نقطة ضعف خاصة،  ولعل حب الكتب هو الحب الوحيد  الذي لم يوجعني، ولم أحاسب عليه، ولم تثر طبيعة علاقتي الوطيدة بها غيرة أو ضغينة أو اعتراضاً من أحد. على العكس كان استلقائي – يوم كنت طفلة - لساعات طويلة، مشغولة بتقليب صفحات مجلة أو كتاب مصور، يثير مشاعر الحبور عند أمي ويريح بالها. ويمنح أبي بعض الزهو، فيقول: (طالعة إلي). فللقراءة حتى وهي في طريقها الى الانقراض، سمعتها الطيبة، على الأقل تشغل الصغار عن الشيطنة. وقتها استطاع ( تان تان ) بخصلة شعره المزروعة أول جبهته والتي استُلهمت منها تسريحة ( البانكي ) أن يفتنني كفتى جسور دمه خفيف (هل توهمت ذلك!) يركب الأخطار ويحل الألغاز. فيما كانت مغامرات " ميكي وعمه الجشع ذهب" العجيبة سبباً في سيل من مباهج تثير ضحكي. كما نال المغامرون الخمسة إعجابي كاملاً، هل يمكن تخيل قدرتهم الخارقة للإيقاع باللصوص وكشفهم قبل المباحث والشرطة وعناصر الأمن.!  صحيح أن تلك المغامرات لم تنم لدي دقة الملاحظة، إذ ما زلت أعاني من انخفاض مستوى الفضول، وضعف لا علاج له في تتبع أي أثر، حتى إن كان واضحاً وضوح الشمس. لكن من جهة أخرى استطاع خيالي من أن ينصبني زعيمة لمجموعة من الأصدقاء الأذكياء نشرب العصير البارد في المعادي، ونعصر أذهاننا لنتوصل إلى حلول مقنعة لألغاز صعبة..! تلصصي على حكايات تلك الشخصيات (لوزة نوسة ومحب وعاطف وتختخ والعسكري فرقع) علمني أسماء أحياء مصرية، وكوّن بذرة خيالي الأولى.

الكتابة لحظة انتباه، يقابلها، بكيفية أقل انضباطاً، قارئ يستثمر تجارب الآخرين لتتوالد دون توقف، علاقات تبادلية بين الكتاب وقارئه.
وما من سبب واحد ومحدد للولع بالقراءة، بل هي أسباب كثيرة، منها تجاوز حدود الواقع نحو فضاء الخيال، تفكيك المجازات، واستشراف المستقبل، والترويح عن النفس أمام أطنان من ملل لا يحتمل، والرغبة في معرفة العالم، والاستفادة من الخبرات، وفضول المعرفة، ومتعة اكتشاف الحياة ومقالبها فيما أنت ممدد في سريرك... هل من أسباب أخرى!  

وبالمقابل لا تملك كل الكتب حتى أكثرها فائدة، قوة جذبك من السطر الأول وحتى الكلمة الأخيرة، إذ يتحكم في هذا درجتا الاقناع والابداع عند المؤلف
بوسع القراءة أن تصيب مدمني الكتب بحالات تماه حادة، ما يجعل بعض الشخصيات والمقولات وأبيات الشعر حاضرة في الذهن مهما مرت السنين. ابنتي على سبيل المثال لا تستطيع كبح فضولها، فلا تهنأ إلا إذا ذهبت الى آخر صفحة من الرواية لتعرف الخاتمة، ثم تعود باطمئنان لمتابعة الحبكة وقراءة السطور..!
مثل هذه التأثيرات تستطيع تغيير أفكارنا، وعصارة أذهاننا، ومواقفنا التي كنا نظنها ثابتة إلى الأبد..

و تبعاً للذائقة أو للمزاج أو للحاجة تختلف عناوين الكتب التي ترافق رحلاتنا، و تنام تحت وسائدنا، و تستقر هانئة فوق رفوف مكتباتنا، لذلك أستطيع معرفة الشخص إلى حد ما حين ألقي نظرة على ما يقتنيه من كتب.
إن مجموع ما قرأه كل منا يشكل تاريخ القراءة الخاص به، وإن كان أحدكم يملك الوقت لمعاودة قراءة كتاب فبالتأكيد سيصل إلى فهم جديد، لم يدركه من قبل. 

ذكرت فضل مغامرات تان تان ومجلة ميكي وأسامة، وأعترف أيضاً بمجلات المراهقة المصورة ريما وفوتوريما ودليلة، التي كانت تصلنا من لبنان. والقصة الشهرية في أعداد مجلة العربي. يبقى هناك كم هائل من الكتب يرسخ في القلب و الذاكرة لسبب أو بدونه يجعلني أواظب على تقليب صفحات ديوان " سرير الغريبة" لمحمود درويش عمراً آخر فوق عمري. وبإمكاني رغم داء النسيان  أن أتذكر دون كيشوت الأخرق مندفعاً فوق حصانه البائس يحارب الطواحين.. أما الرواية التي قضت على ساعات نومي ليلتين كاملتين فكانت ( رد قلبي) ليوسف السباعي. رواية الأقدار الحزينة تلك نهنهت قلبي، لكن أبي قال لي : ماهكذا تقرأ الكتب!..

ولا تخلو ذاكرتي من حارات نجيب محفوظ، وعجينته الخاصة من طحين الشخصيات المرسومة بدقة بدءاً بشكل الحاجب ولون الجلد ونبرة الصوت ووقع الخطوات، لكن لأن أغلب روايات محفوظ تحولت إلى أفلام سينمائية، فقد اختلط علي الأمر، بين ما شاهدته على الشاشة وما قرأته في كتب، وأكاد لا أفرق بين الاثنين..!
ومثلما استهوتني في فترة معينة من مراهقتي كتابات الروائي المصري إحسان عبد القدوس فجعلتني لا أنسى مشهد البطلة تتكئ بكوعيها على حافة الشرفة وتطلق صرختها: أنا حرة، غير آبهة بعيون الشبان التي تأكلها، ولا للتقاليد التي تجعل من خروجها السافر خرقاً صريحاً للأخلاق، فتقرعها أمها على ما أظن قائلة: (حر لما يلهفك قليلة الأدب)، فإن الروايات التي تروي الظلم تترك أثرها، فرواية (السجينة) لمليكة أوفقير التي أحدثت وقت صدورها ضجة واسعة، الكاتبة هربت وتحدثت عن عشرين عاماً من السجن الانفرادي قضتها ثلاث نساء وأربعة أطفال كعقوبة جماعية على جريمة لا علاقة مباشرة لهم بها، إثر محاولة انقلاب فاشل قادها الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية والدفاع " والد الكاتبة"  وأعدم بعدها.

أيضا رواية ( مديح الكراهية) لخالد خليفة ، والتي تحكي عن حقبة من تاريخ سوريا أيام الاخوان المسلمين في ثمانينات القرن الماضي، والصراع بين الاصولية والسلطة وثقافية الكراهية ورفض الآخر والاستبداد والتسلط الديني.
لا يمكن لقارئ أن ينجو من الواقعية السحرية التي تلازم أسلوب الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز، فتنتني رواية ( الحب في زمن الكوليرا) فقد استطاع وبخدعة راو متمكن إقناعي بحب أبدي استطاع الصمود 51 عاماً وتسعة اشهر وأربع أيام،  ما أن سمع اجراس الكنيسة حتى اشتعل أمله بحبيبته، ليقضي معها ما بقي لهما من أيام الحب كأن صدءاً لم يمسه ويقربه. 

وبقدر ما تستهويني الروايات العاطفية المسلحة بأكاذيبها، لم أنه كتاباً فلسفياً واحداً، عدا تلك التي فرضتها المناهج المدرسية، لكن رواية (زوربا ) لكزانتزاكس علمتني فلسفة الحياة، من خلال شخصية بحار بوهيمي، له عينان " ترى الأشياء من حولهما وكأنه يراها لأول مرة"، مفعم بالحيوية ، يملك فطرة أن يعيش، فلا يسمح للحظة أن تمر دون أن يكون لها ايقاعاً راقصاً.

ولا أستطيع حين أفكر بكتب قرأتها وأحببتها دون أن أتذكر( إله الأشياء الصغيرة) للروائية الهندية اروند هاتي  روي التي كتبت بحساسية بصرية شديدة، فنقلت مأساة أسرة غريبة وأسرارها وتعرضت لأوضاع النساء ولنظام الطبقات ولسطوة الأعراف، ضمن مجتمع خاص، مجتمع المسيحيين السوريين الذين استوطنوا الهند. أما قصة تشيخوف القصيرة ( النكتة الصغيرة) فتنقل لنا عبر صفحتين فقط ما تفعله التباسات الوهم، والرغبة بالحب، فالشابة نادينكا تتخطى خوفها وارتعاش أطرافها، من أجل أن تسمع عبارة  "أحبك يانادينكا" مرة بعد مرة مختلطة بصفير الريح وعدم اليقين.
قد أجد وقتاً آخر للحديث عن الكتب التي أهديت إلي من أصحابها وتموضعت في رفوق خاصة لمقامها الرفيع عندي. 

ويبدو لي أني لو واصلت ذكر الكتب التي أثرت بي، فلن أنتهي. لكن أرجوكم لا تنسوا: الخلود/ يوميات القراءة/ لقيطة اسطنبول/ شيطانات الطفلة الخبيثة/ الهويات القاتلة/ الطربوش/سلطانات منسيات/العطر/ البطء/حين تركنا الجسر/صنعة الشعر/الطاعون/عراقي في باريس/المبسترون/ رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان/مغامرات في بلاد العرب/عشت لأروي و.. و.. و.. الخ..


هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

انت من أعاد لي ثقتي بالقراءة وبالكتاب
كل ما قراته لك او بايحاء منك كان ممتعا ومفيدا
شكرا سو

Unknown يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.