08 يونيو 2008

عصفور الغفلة: قصة من مجموعة فسيفساء امرأة



ليست كثيرةٌ تلك الأشياء التي يمكنها أن تقطع رتابة الأيام المتشابهة . لكن الذي حدث تفصيلاً ، أنها كانت طفلة تلعب مع ظلها في الحديقة القريبة ، حين داهمها ملل مفاجئ جعلها تتثاءب ، فكآبة غامرة حاصرت ظلها الأثير حتى اختفى .
تنهدت بعمق ثم توارت خلف شجرة صفصاف عملاقة ، لتخبئ في صدرها برتقالتين صغيرتين .
اعتقدت الصغيرة التي سكبت عيناها شقاوتهما ، وتقاطرت قسماتها بحلاوة الدلع أن أحداً لم يرها .
لكن الفتى الصياد الذي يقبع بين أغصان شجرة الصفصاف .. رآها ، وراح يختلس النظر إليها ، ويراقبها بعين واحدة فيما يراقب بالأخرى العصافير التي تحط فوق حبوب الذرة ، فتطبق عليها شبكته المخادعة ، بعضها : المحظوظ فقط كان يفلت من فخ الغفلة ، فيصفق بجناحيه ، ويرفرف بعيداً عن الوليمه الشهية .
لم يشأ ذاك الصياد إخفاء رغبته في اللعب ، ناداها وقد اختلطت بحة صوته بهديل التوسل ، معترفاً لها دون خجل ، بأنه كان يتمنى اللعب معها منذ أن تسلق الشجرة أول مرة .
رفعت رأسها إليه . باغتها صحو وجهه ، فقد غمرته أشعة الشمس بتلألئها الفريد .
بجسارة لم تخف تأثرها بجلسته الرشيقة المتوازنة كفارس يمتطي غصناً .
اقترحت عليه أن يهبط إليها ليلعبا الكرة . وافقها . صارا يضربان الكرة بالأرض لترتفع كالأحلام عالياً نحو السماء ساعةٌ من الوقت انقضت وهما في هناء غامر .
بدأ يغني .. لم يكن صوته رخيماً ، لكن أغنيته العاطفية أطربتها .
" لاشيء أمتع من الغناء بصوت عال " قال لها .
كادت تنطلق معه ، لولا تذكرت : أنها تخجل .
فجأة ثبت قدميه في الأرض و صالب ذراعيه فوق صدره ، معلناً بصوت أجش أن دوره في اختيار لعبة جديدة تسليهما قد حان . أومأت إليه موافقة وصدرها يخفق بسعادة لم تعرفها حتى في تلك الأيام التي كانت تلعب بها مع ظلها .
اقترح عليها أن يتسابقا ، مؤكداً أن كل ما عليها فعله محاولة الإمساك به ، وهو أمر في غاية المتعة مثل اختلاس قبلة تحت شجرة صفصاف ..أوالغناء بصوت عال .. أوصيد العصافير .
" إنها لعبتي المفضلة " صاح بها قبل أن يركض خارج سور الحديقة .
لحقت به ، كانت تريد أن تمسكه ، لكن سيقانه الطويلة كأعواد القصب أتاحت له خطوات أوسع .. سبقها كثيراً فلم تعد تميز منه إلا قميصاً أبيض ممتلئاً بالهواء ، يكاد يغيب عن عينيها .
لم تدرك أنها ابتعدت عما كان مسموح لها به إلا بعد أن ابتلعت المسافة نداءات أمها الهلعة .
أوغلت بعيداً خارج سور المدينة ، فنبهها الحارس العجوز محذراً ومشفقاً عليها من لهاث يكاد يقتل عصفور صدرها الخافق .. منحته أذناً صماء فيما تابعت جريها بتصميم قاطع .
كانت رغبتها في ملامسته تسيطر على حواسها كاملة .
تمنت وقد نال منها التعب لو ينتهي السباق ، ويعودا معاً ، إلى قذف الكرة والإمساك بها .
ابتعد هو أكثر فأكثر ، دون أن يلتفت ولو مرة واحدة إلى الوراء ، ثم لم يعد في متناول نظرها الحسير .
ذهلت بالطريق الموحش أمامها ، وحين تأكدت أنه اختفى تماماً ، وأنها فقدت بوصلة اتجاهها ، كادت تبكي ، تبدى لها أن احتمال الضياع ممكنٌ ، وأن الرجوعَ إلى الوراء كما التقدمَ إلى الأمام : مغامرةٌ غير مضمونة النتائج .
رغبةً بشيء قد لا يحدث ، أغمضت عينيها واتبعت حدس قلبها ، تابعت في جري عابث بقدمين متورمتين فقدتا الحافز .
لخوفها المتزايد توسلت إلى الله كي لا يأتي الليل أبداً ، وهكذا راوحت الشمس الطيبة في مكانها ، مما أفقد الأرض اتزانها وجعل الناس في الجهة الأخرى من العالم يستسلمون لسبات طال أكثر من المعتاد ، أما العشاق منهم فقد ساورتهم الشكوك .
حين وصلت إلى نهاية المنحدر، قفز من صدرها نزق عابث ، وبالكاد استطاعت ابتلاع شهقتها ، واستعادة هدوء أنفاسها ، فقد ظهر أمامها .
كان يمارس طقوس الصيد نفسها ، مسنداً ظهره إلى صخرة كبيرة ، وقد فرش على بعد مناسب شبكته ، فيما لمعت فوقها حبوب الذرة الصفراء .
كان مبتسماً ، وكانت متعبة . حاولت أن تفرد تقطيب حاجبيها ، وتكشف له لمعان أسنانها .. لكنها فشلت .
بدا لها غريباً وبعيداً كأنها تراه لأول مرة ، فهي لم تميز في ذاك المتبجح أمامها فارسها الرشيق .
لتتأكد من أهميته جست قلبها .. خذلها بنبض بطيء متكتم .
لما مد إليها يداً متلهفة ، شعرت بأنها فقدت رغبتها الطفولية في الإمساك به .
وحدها ألقت ساقيها إلى الريح متابعة ، وقد استولى عليها حمى السباق .

سوزان خواتمي 4/9/2001

ليست هناك تعليقات: