04 يونيو 2008

الإهداءات نوايا مستترة

"الكتاب يقرأ من عنوانه" أجدها عبارة ناقصة، فغواية الكتاب تتعدى كلمات عنوانه إلى متعة تصفحه، والاهتمام بتفاصيله، ألوان غلافه، حجم حروفه، عدد الطبعات التي لن تتجاوز الثلاث في أحسن الأحوال، قبل الانغماس في قراءته..

وصفحة الإهداء لا تقل عن كل ذلك أهمية، والتي تذكر شخصاً أو فكرة ما، بطريقة مؤثرة وملاحظة..

ولأني فضولية مثلي مثل غيري، فقد وجدت أن أعم تلك الإهداءات تخص أحد الأبوين أو كليهما، وفي هذا السياق اتجهت مجموعة استبرق أحمد «عتمة الضوء»، ومجموعة خالد الحربي « نساء خلف الشمس».. وأيضاً رواية «هن لسن أنتِ لدلع» المفتي التي قالت في إهدائها: إلى أبي . كم أفتقدك.. والإهداء ليس عائلياً بحتاً، إذ يميل أحياناً جهة الوطن، خاصة في حالة الغربة والبعد القسري. كتب سعد الياسري في مقدمة ديوانه الشعري «منسأتي»: إلى قيامة مؤجلة.. ونبي بلا أتباع.. وأدلاء شرعوا التيه.. ووطن.. ومثله فعل زيد الشهيد في «حكايات عن الغرف المغلقة» التي جاء إهداؤها: إلى السماوة مدينة.. إلى الفرات ذاكرة .. إلى أمي غياباً أبدياً.. إلى الهناء المعلب في قفص الأحزان.

وتحتفظ الإهداءات بحصة الزوج – وهي كلمة تطلق على كلا الزوجين- كاملة غير منقوصة، فتظهر جلية بالاسم الصريح مقترناًً بعبارة كلاسيكية عن فضل رفقة الدرب، بينما يختفي هذا الوضوح مع حالة الحبيب الذي يشار إليه بإبهام شعري مقصود، فمازال طقس الحب غير شائع، وسرّيا في الغالب.. يهدي الروائي فواز حداد روايته «الضغينة والهوى» فيكتب: إليكِ، كتابي، لولاك لما كان، وأعترف أو أطمح إلى أن يكون كتابنا معاً، فلاتنكريه، إن لك نصيباً فيه. تمنيت عندما حلت ساعة الحقيقة أن تشاطريني إياها، لكنكِ اخترت الرحيل بمصيرك بعيداً عني..

ورواية «سيدة المقام» لواسيني الأعرج فهي مهداة:

في البدء كنت، وكانت الزرقة، إليك أيها البحر المنسي.. يا سيد الأشواق والخيبة. إليك مريم يا زهرة الأوركيدا، والخراب العظيم .. يا سيدة المقام والمستحيلات كلها.. وعلى رغم شاعرية الحب، فالإهداء يخص الأصدقاء بنصيبهم المحفوظ، خالد قطمة الصحافي والكاتب خص آخر إصدار له «هارب من الأعراب» بإهداء إلى سعيد تقي الدين الرفيق الصديق وشيخ الكلمات»، وقد سبق له أن خص زوجه نور بديوان سابق.

لعل مايلفت النظر، ويشغل الحواس الكلمات التي تحمل فكاهة أو تغوص في المعنى..

تهدي جاكلين سلام الشاعرة المقيمة في كندا نصوصها إلى: مخترع المحبرة ، أعتقد أنه كان يحبني..

أما عالية شعيب فيأتي إهداؤها: إلى المجنونة الساكنة دمي والتي حين يغمرني لهاثها فجأة يتصاعد الدخان من مساماتي فأدرك وأكتب.. فتهدأ. وتبقى لإهداءات غادة السمان نكهة الغرابة أو الجنون، فهي تكتب مرة إهداء لا يُقرأ إلا معكوساً من خلال مرآة، وتكتب بطريقة دائرية، بينما تستعيض في «نصوص اعتقال لحظة هاربة» عن الإهداء بسحبه: لا أستطيع إهداء هذه اللحظات الهاربة وإلا فسأكون كمن يهدي أسماك المتوسط لمحتضرة على الشاطئ.

وتظهر النزعة النرجسية حين يختار الكاتب نفسه، فالمازني أهدى كتابه لنفسه: إلى التي لها أحيا، وفي سبيلها أسعى، وبها وحدها أعنى طائعاً أو كارهاً... إلى نفسي.

كذلك فعلت الروائية ميرال الطحاوي في «الخباء» فكتبت: إلى جسدي .. وتدُ خيمة مصلوبة في العراء.. ولعل من الجميل واللطيف وربما الغريب أن يهدي الشاعر محمد هاشم المغربي كتابه إلى طفله الذي لم يولد بعد: إليك أيها القادم هشام تعرف آباءك وأجدادك، وتستقرئ جفن الليل الصريم ، إليك علَّ القادم ينصفنا .. أبوك.

يشغل الإهداء اهتمام الأدباء، فيما لايأبه آخرون للمسألة، وسواء كانت تلك الكلمات قليلة أو طويلة، مباشرة أو مواربة، لماحة أو سمجة، إلا أنها ليست عبثية، بل تدل على شخصية الكاتب ونوازعها، حتى حين يمتنع عن الإهداء كما سبق أن أشرت.

مقال نشر في جريدة النهار

http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=20557

ليست هناك تعليقات: